الفصل الحادي والعشرون
سمعت في اليوم السابع بعد خروجي من السجن حركةً في جانبولاد، وكنت ذاهبًا إلى المسجد الذي جعلني تيمور إمامًا له، وكانت ضجة عظيمة حسِبت أنها هيعة حرب أو حدث من الأحداث. كان الناس يتواثبون ويتسابقون في هياجٍ ويقولون: «خرج تيمور.»
خرج تيمور بكل جيشه وكل أمرائه عائدًا إلى سمرقند، فلم يبقَ من جيشه أحدٌ في جانبولاد، وخرج معه كثيرٌ من أصحاب الأعلام وحملوا قُدورهم معهم؛ لأنهم لا يقدرون على مفارقتها أو الحياة من غيرها؛ فهي عندهم أعزُّ من الولد وأحب من الوطن. وخرجت مسرعًا لأنظر إلى الموكب الضخم، ولم أستطِع مغالبة نفسي في رغبتها. فرأيت تيمور وهو خارج، وسلَّمت عليه، ولا أنكر أنني أحسست في قلبي عطفًا عليه. مسكين هو ما كان أفقره إلى السلام! ورأيت السيد القاضي صاحب السيف يسير وراءه في مؤخرة الجيش على بغلةٍ حمراء، وكانت قُدوره الخمسون مُحمَّلة على قافلة من الإبل تسير في آثاره. وكنت قريبًا منه على جانب الطريق، فوقعت عيني عليه وتبسَّمت له وأحسست له رقة. مسكين هو كذلك؛ فقد كان الحزن باديًا عليه، ولما رآني أدار وجهه ولم يردَّ على ابتسامتي. ثمَّ مضى الموكب حتى خرج من المدينة. وهكذا خلت جانبولاد من تيمور بين عشيةٍ وضحاها.
وبعد يوم واحد عاد السلطان علاء الدين إلى مُلكه ونزل في قصره، ورجع الأمر إلى مستقره، وكان لعودته يوم مشهود أخذت فيه المدينة زينتها، ففُرِشَت له الأرض بالطنافس، ورُفِعَت له الأعلامُ فوق البيوت؛ أعلامٌ تنمُّ عما في القلوب من بِشر وليست مما ينمُّ عما في القدور من ذهب. وقد اختار السلطان علاء الدين أن يقيم في جانبولاد، ولعله أراد بذلك أن يزيل أثر تيمور منها. فرفع رايته على قلعتها، وأظهر مجده في مقرِّها وساحتها. فقد طالما شقيت قلعتُها ببنود تيمور، وطالما ضاقت ساحتها بجنده المغرور. وازدحم الناس على جانبي الشارع الأعظم، وخرجتُ فيمن خرج وكأنني عُدت في طربي إلى عهد الصبا. ولما مرَّ موكب السلطان في خيله ورَجْلِه أقبل ركب الحرم في هوادجه وستوره، ومن عجيب الاتفاق أن مرَّ بي هودج باهر في ستور من الحرير والجواهر، فلما صار تلقائي خفقت ستوره خفقة، فماذا رأيت؟ إنها علية بعينها وجبينها وشعرها ونحرها ومعصمها وأناملها. ولكن أي فرق بين ما رأيت منها بعيني عند ذلك وما كنت أراه منها في خيالي من قَبلُ في صباحي ومسائي؟ أأنا الذي تبدَّلتُ وتغيرت، أم هي التي خُلِقَت خَلقًا جديدًا؟ رأيت في نظرة خاطفة عينًا غيرَ العين التي سحرتني، وجبينًا غير الجبين الذي أوحى إليَّ بالمعاني.
أين هي من «نجوى» الصالحة الباسمة ذات العينين الناطقتين الوديعتين؟ أين هي من «نجوى» التي لا أبرح أراها في لمعة الشمس وفي ضوء القمر وفي فم الزهرة وفي قطرات الندى؟
أهي علية التي تغيَّرت أم هو قلبي الذي يحسُّ وعيني التي ترى؟ لقد كنت ما حييت أحبُّ أن أكشف عن قرارتي، وأتعرَّف ما خفيَ من عيوبي. ولست أبرِّئ نفسي ولا أزكيها؛ فأنا كما خلقني الله ضعيف لا أدَّعي قوة، سقيم لا أدَّعي سلامة، ولكني أصفُ ما كان مني — غفر الله لي، وتجاوز عن ضعفي وسقمي.
ولما عُدت إلى بيتي بعد انصراف الموكب عادني وجْدٌ غلب عليَّ لم أستطِع إدراك علَّته، ولم أقوَ على صرفه أو الاحتيال في مغالبته. فإذا بي أحسُّ عزوفًا عن الناس، فكنت لا أكاد أطيق مع أحد حديثًا. وبقيت في الدار لا أخرج إلا إلى صلاتي ثمَّ أعود إليها، فلا أجد ما يفرِّج همي إلا البكاء. وكان كمال الدين يزورني كلَّ يوم ساعة، فأكاد أضيق به وأتحرَّج أن يرى وجومي وبكائي. فإذا دعاني إلى زيارته تعللت له بالعلل حتى ينصرف عني. ولكنه جاءني يومًا وجعل يحملني على الخروج، وكلما تخلصت بعلةٍ حاورني فيها وجادلني حتى قال لي كلمةً هزَّتني وزعزعت عزمي. قال إن أهل جانبولاد يتحدَّثون عني بما يكاد يبعث فيهم فتنة، يقولون إنني أنا أخرجت تيمور من الأرض بكرامتي، وإنني أنا هزمته بمقالتي. وقالوا إن السلطان ما اختار الإقامة في جانبولاد إلا ليكون قريبًا مني فتحصل له بركة صلواتي ودعواتي.
فما سمعت قوله حتى دهشت وحزنت، وسألت الله أن يغفرَ لي ولا يؤاخذني بما قالوا. هكذا الناس لا يرضيهم إلا الإغراق والغلو، ولو علموا الحق لعرفوا أن الله لم يخلق من البشر شياطين مردة ولا ملائكة بررة. إن الله خلقنا بشرًا نقارف الخير والشر، ويمتزج فينا الضعف والقوة. وما أجدرنا أن نفيضَ بالحب والعفو، وأن نعرف أننا أبدًا فقراء إلى الحب والعفو.
وحملني قول صديقي أن أخرج من عزلتي، وأستغفر الله أن أكون قد أثَرتُ في الناس هذه الفتنة بكلمتي أو إشارتي. وخرجت منذ ذلك اليوم إلى المسجد، فعاودت فيه دروسي لعلي أُدخِل إلى قلوب الناس شُعاعًا من الحق يردهم عن هذا البهتان، بل لقد تعمَّدت أن أَظهرَ فيهم ببعض ما أكره، وأُعلن بعض ما أُنكر لعلهم يدركون أنني بشر أزل وأخطئ، فإذا اجتهدت فأنا إنسان ضعيف وإذا علَّمتهم فأنا مثلهم بشر سخيف. ولكنهم كانوا يرون آثامي تجليًا وحماقاتي رموزًا حتى عجزتُ عن صرفهم عن اعتقادهم وهممت بالهجرة خوفًا من تضليلهم. ولكن كمال الدين كان كالصخرة ثابتًا، فنصحني أن أواصلَ دروسي؛ فإن العلم وحده يهدي النفوس ويهذِّبها.
وكنت في داري ذات مساء فسمعت طارقًا يدقُّ الباب، وكنت لم أرَ صديقي كمال الدين في ذلك اليوم، فوقع في نفسي أن يكون هو الطارق، فأسرعت لأفتح له، ولكني دُهشت عندما رأيت رجلًا لا أعرفه، وكان رجلًا حسن الوجه واللحية، عليه هيئة العلماء، وله سمت الصالحين. فرحَّبت به ورجوته أن يدخل، فاعتذر قائلًا: «لعلي قطعت عليك تسبيحك أيها الشيخ الصالح، فأرجو منك عفوًا.» فأعدت عليه الترحيب ودعوته للدخول، فأبى قائلًا: «مولاي السلطان قد بعثني في طلبك.»
ولا حاجة بي إلى إطالة الحديث في وصف ما دار بيني وبينه؛ فقد كان لا بدَّ لي من رؤية السلطان. وكان علاء الدين عندي كريمًا جليل القدْر؛ فهو سلطان وطني، وعرفته الملك الصالح والسلطان البر والعالِم الورع. فلم أتردَّد طويلًا في الذهاب إليه مع كلِّ ما كان في نفسي من العزوف عن غرور الحياة.
ولما بلغت القصر ودخلت في رحابه، وانتهيت إلى مجلس السلطان، رأيته في حلقةٍ من العلماء والحكماء، فانشرح صدري لمنظره؛ إذ لا شيء أجمل من الملوك إذا أحاطت بهم مثل تلك الهالة النبيلة. قيل إن حكيم اليونان سُئل عن الحُكم يومًا، فقال إنه لا ينبغي أن يحكم الناس سوى الفلاسفة. ولو تأمَّل العاقل هذا القول لوجد أنه الحق عينه. ولو أنصف الناس لأجمعوا على تجربته؛ فإن الدول كانت منذ القِدَم لا تدين إلا لأولي القوة، حتى كاد الناس يعتقدون أن الحكم وقفٌ على أصحاب السيف لا يُجمل بأحد غيرهم أن يقبض على صولجانه. بل لقد قالوا في بعض الأمثال إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ولكنهم لم يجرِّبوا مرةً إقامة دولة على حكم الفلاسفة، وأغلب ظني أنهم لو جرَّبوا مثل ذلك الحكم لاستساغوه وأقبلوا عليه، ولم يرضوا به بديلًا؛ فإن الفلاسفة يعرفون ضعف البشرية، وهذا يكفل لحكمهم الرحمة، ويعرفون كرامة الإنسانية وهذا يكفل لهم التطلع والتسامي، ويعرفون معنى الفَناء وهذا يكفل لهم الاعتدال.
وكانت ليلة مباركة تلك الليلة التي قضيتها في مجلس علاء الدين، لم أنصرف عنه بخلعة، ولم أذُق عنده طعامًا، ولكني عُدت من عنده بقلبٍ عامرٍ بالمعاني. ما أجمل الملوك إذا أحاط بهم الحكماء!