الفصل الثاني والعشرون
لم تفارقني وساوسي منذ ليالٍ، وكنت أحس كأنني أضطرب في بحرٍ لجي موج من فوقه موج من فوقه سحاب. كانت صورة علية في تلك الليالي لا تبرح ماثلة أمام عيني ناظرة إليَّ بجبينها العالي وأنفها الأشم وعينها المتكبرة كأنها تسألني: «مَن أنت؟» لقد كانت تلك الصورة من قبلُ تبدو لي عاطفة رحيمة تأخذ بيدي إذا ما اشتدَّت بي الحيرة، وتصعد بي إلى حيث الصفاء والسلام، فما الذي بدَّل نظرتها؟ ولكن ما بالي أتحدَّث عن صورة علية ابنة علاء الدين كأنها شخص له جسد وفكر وروح يحدِّثني، ويتغيَّر في نظرته نحوي؟ أليس هذا من الخبل والتخليط؟ أكانت في عقلي لوثة هي التي خَيَّلت إليَّ ذلك الوهم الذي تسلَّط عليَّ كلَّ هذه المدة الطويلة منذ وقعت عيني عليها في ماهوش؟
كنت سابحًا في هذا الخِضم المائج عندما طرق بابي رسول السلطان ودعاني إلى حضرة مولاه، وكان السلطان على عادته نبيلًا كريمًا، فما زال يكرمني في الحديث ويُقبل عليَّ بالترحيب ويبالغ في التلطف بي — عفا الله عنه — فيسألني الدعاء ويلتمس مني البركة حتى كاد الغرور يدخل إلى قلبي. وأي إنسان لا يتدسس إلى قلبه الغرور؟ لقد أوشكت أن أصدِّق السلطان وأُومن بما يقوله أهل جانبولاد فأظن في نفسي القرب من الله، أعوذ بالله من الغرور، فأنا أعْرَف الخلق بما ينطوي عليه صدري من نوازع ضعف الإنسان ودوافع طباع الحيوان. فلما خلوت إلى نفسي بعد ذلك المجلس تركت العِنان للبكاء لعلي أنال عفو الله عما داخلني من الغرور. وقد فاجأني السلطان في ذلك المجلس بأمرٍ ما كان يخطر لي ببال؛ فقد عرَضَ عليَّ أن أكون له وزيرًا أدير له ملكه وأشير عليه بما ينبغي أن يكون عليه حكمه. وما كدت أسمع ذلك الحديث حتى كاد يغلبني الضحك على الحياء؛ فإنه عندما طلب مني الدعاء دعوت الله له ولا حرج عليَّ إذا اتجهت إلى الله بالدعاء؛ فإن الله يقبل الدعوة من خلقه ولا يقيم حجابًا بينه وبين عباده.
ولكنه عندما سألني أن أُديرَ له المُلْك دار بي رأسي، فأوشكت أن أنفلت من وعيي، ولولا أنه السلطان العظيم في مجلسه الرهيب لانفجرت ضاحكًا ساخرًا. أيكون جحا وزيرًا؟ قد أُحسِن السخرية من الحياة كلما رأيت فيها حماقة أو سخافة، ولكني إذا ضحكت من السخف لم يخفَ عني أنني شريك لهؤلاء الذين أثاروا الضحك في نفسي. أأكون أنا وزير السلطان وأزعم أنني أستطيع أن أبلغ قرار الحكمة والعدالة؟ وهل أحمل على عاتقي أوزار العمال وأثقال المظالم التي تُرتَكب باسمي؟ أكون أنا وزير السلطان لأحملَ الناس على أن يعيشوا معي في عالمي؟
كيف أستطيع أن أدبِّرَ أمور الخلق وأنا أنظر إلى الحياة بهاتين العينين اللتين وهبهما الله لي. إن الحق عندي باطل عند أكثرهم، والعدل عندي جور في مذهبهم، ولست أقدر على أن أخلق نفسي خلقًا جديدًا وأقلب كلَّ معايير القيم عندي حتى أصلح لأن أحكم بين الناس على عُرْفهم الذي يرتضونه. فهل يستطيع السلطان أن يبدِّلَ طبعي؟ أم يستطيع أن يأتي لي بناسٍ آخرين يصلحون لحكمي؟ إن الناس لا يعرفون إلا العنف، ولا يفهمون من الحاكم إلا القوة والقسر، وهم لا يخرجون عن أن يكونوا في إحدى حالتين؛ إمَّا أن يكونوا فرائس تُتَّخَذ طعامًا، أو مفترسين يتَّخِذون من غيرهم طعامًا. ولقد حاولت أن أعلِّمَهم، ولكن التعليم لا يجدي إلا بعد أن يؤتي الثمار ويحرِّك القلوب، ويفتح العقول، ويهذِّب النفوس، وهيهات أن يكون ذلك إلا بعد حينٍ طويل. لقد حاول موسى أن يعلِّمَ قومه احتمال أعباء الحرية فأذاقوه مرارة الحنق والألم حتى فنيَ جيلٌ منهم بعد جيل. ولا سبيل إلى استقامة الحُكم حتى يستعدَّ الناس لتحمُّل أمانة السلام والكرامة والعدل في غير عنف ولا قهر. ولو كان أهل جانبولاد كلُّهم مثل تلميذي كمال الدين أو تلميذتي «نجوى» لهان الأمر، ولكن أنَّى لي أن أجدَ في الناس مثل هذين؟ ما لقلبي يخفق عندما يخطر عليه ذكر «نجوى»؟ ما لي كلما صرفت نفسي عن التفكير فيها لا يلبث أن يعودَ مُكرَهًا إليها.
أأنا أحبها؟ هل هذا الذي أحسُّه هو ما يسمِّيه الناس حُبًّا؟ إنني أطرب كلما مرَّت صورتها في خاطري، فكأن الحياة كلها تبسم، وكأن الأفلاك من فوق تغنِّي. أأخادع نفسي وأوهمها بأن هذا غير ما يسميه الناس حُبًّا؟ وفيمَ هذا الخداع إذا كان هو الحب حقًّا؟ لقد سمعت عن المحبِّين وقرأت عن أخبارهم ما يجعلني أسيء الظن بنفسي. وإن قلبي يرف إذا رأيتها، وأصعد في سماء الملائكة إذا سمعت صوتها، وأجد في حديثها سلامًا مثلما يتحدَّث فيما بينهم أصحاب اليمين. فهل هكذا كان المحبون قبلي؟ وإني لأقنع منها بالنظرة لا أطيلها، وبالكلمة القصيرة لا تعيدها، ويسري فيَّ البِشر إذا أحييتها. فهل كان هكذا المحبُّون قبلي؟ ولكني لست أحسُّ ذلك الشوق المُحرِق ولا ذلك القلق المؤلم الذي يصف الشعراء أثره في سقم أبدانهم. أيكون ما أحسه مع كل ذلك حُبًّا؟
لقد شردت بي الأفكار عمَّا كنت فيه؛ فإن السلطان أرادني على أن أكون وزيرًا، فكدت أضحك لولا أن تماسكت قسرًا، وأطرقت صامتًا حتى أعاد عليَّ قوله، فاشتدَّت حيرتي ولم أجد من الأمر مخرجًا إلا أن استأذنته أن أتريثَ في جوابي. وعُدت إلى داري في أشد الحيرة أقلِّب صورَ الناس في ذهني، وأتصوَّر ما يكون حالي إذا قبلت أن أكون وزيرًا.
أأُقيم الحُجَّاب على بابي، أم آذن للناس ولا أقيم حُجَّابًا؟ وهل أغيِّر لهم صورتي التي ألِفوها فأعبس وأشمخ وأنقبض، أم أفيض عليهم بما في قلبي وأفتح لهم أبواب صدري وأضحك وأخلط أحيانًا في حديثي؟
ولم تطُل بي الحيرة؛ فإني عزمت على أن أرسلَ إلى السلطان معتذرًا.
ولكني ما كدت أخرج من حيرتي حتى طلعت عليَّ حيرةٌ أشدُّ ظلامًا؛ فقد طرق الباب رسول آخر جاء يشتد في أثري. فلما استقرَّ به المجلس همس في أذني: أبشر بالعلا والمجد يا جحا.
فعجبت ماذا يكون هذا المجد الذي جاء يحمله إليَّ، وحسِبت أنه قد جاءني يطلب عملًا منذ سمع أن السلطان يريد أن يتَّخِذَني وزيرًا. فهذا ما تعودتُه من الناس، لا يكادون يسمعون أن سوط الحكم صار إلى يد رجل حتى يسارعوا إليه ليستمدُّوا منه أسواطًا. نعم، فما هي إلا أسواط يستمدُّونها ليُلْهِبوا بها الخلق، أو كما يقولون ليحكموا الناسَ بها.
ونظرت إلى الرجل لحظة، وكِدتُ أصيح ضاحكًا في وجهه لولا أنه كان في بيتي، ولم يُمهِلني الرجل، فأعاد هامسًا: «إن السلطان يريد أن يقرِّبَك.»
فقلت له: بارك الله في مولاي، إنه يبالغ في تقريبي.
فقال باسمًا في خبث: سوف تكون صهر السلطان يا جحا.
ففتحت عيني من الدهشة وحسِبت الرجل يعبث بي أو يسخر مني.
فلما رأى دهشتي قال جادًّا: لقد أرسلني مولاي إليك لأعرضَ عليك الزواج من ابنته.
فصحت ولم أتمالك نفسي: علية!
فقال الرجل عاتبًا: علية! مَن علية؟ فالسلطان لم يسمِّها علية، هي وردخان سليلة السلاطين.
ولم أتذكَّر إلا في تلك اللحظة أنني لم أعرف اسم ابنة علاء الدين، لقد كنت أدعوها علية وأناجيها وأصاحبها في خيالي على أنها علية، وأرتِّل التسبيح على صورتها التي سميتها علية. ولكني لم أسمع حقًّا من قبلُ ماذا كان اسمها. لم أعرف إلا عند ذلك أن علية تلك لم تكن إلا صورة أخرى عرفتها في شبابي وخلطتها بالصورة الأخرى حتى صارتا عندي خيالًا واحدًا. أفٍّ لنفسي وويح لقلبي! لقد عشت ما عشت في عالَمٍ خصصت به نفسي، ولم أفرِّق فيه بين الأشباح والأشياء، ولا عيب على الناس إذا هم رموني بالتخليط.
وسمعت الرجل يعيد قائلًا: أما سمعت بشراي يا جحا؟
وكان ينظر إليَّ متعجِّبًا، ولا لوم عليه إذا تعجَّب مني؛ فقد كنت جديرًا بالعجب لصمتي ووجومي واصفرار وجهي وزيغ بصري. لقد كان الرجل ينتظر أن أثبَ راقصًا أخلع عمامتي فرحًا وأغني مرحًا، ولكني لم أفعل بل بقيت في دهشتي صامتًا.
وبعد لأي استطعت أن أجمع نفسي فقلت مضطرِبًا: هذا شرفٌ لم أكن به جديرًا.
فربَّتَ الرجل على كتفي وقال باسمًا: ليس عليك من بأسٍ في دهشتك؛ فإن السعادة قد تذهل الناس كما تذهلهم النكبات.
وكأنه قد فهم من حالي وقولي أنني قد قبلت، فقام وحيَّاني منحنيًا، ثمَّ قبَّل الأرض عند الباب وتركني قائمًا.
ولم أذُق طعم النوم في تلك الليلة بعد انصراف الرجل، فإني ما كدت أفيق من صدمة الوزارة حتى صُدِمت بخِطبة ابنة السلطان.
عجبًا لنفسي! أما كنت أتحدَّث في ماهوش عن علية؟ فما الذي غيَّر نفسي منذ رأيت وردخان؟ أهو القدَر يسخر مني؟ أم هذا كله خيال أهذي فيه كما يهذي المحموم في بحرانه؟
ولمست وجهي بيدي فوجدته يتَّقد، وعضضت بناني فآلمني حتى كدت أصيح جزعًا. ولكن ذلك كله لم يُزِل عني الشك، وبقيت أحسَب أنني كنت حالمًا. ألا يراجع الإنسان نفسه وهو يحلم فيُخيَّلُ إليه أنه يعضُّ بنانه أو يحرِّك لسانه أو يلمس وجهه حتى إذا طلع الصباح وجد أن ذلك كان كله حُلمًا؟ أين الحد الذي يفرِّق بين الأحلام والحقائق؟
وقلت أخرج إلى الناس أسألهم لعل ذلك يهديني، فخرجت أسير نحو بيت صديقي كمال الدين، فلما طرقت الباب سمعت الصوت الذي يهزُّني. ولما حييت «نجوى» سألت نفسي مرة أخرى: أأنا في يقظة أم لا أزال أهيم مع أشباحي؟ وسمعتها ترحِّب بي، فكِدت أثب إليها وآخذها بين ذراعي لأرى إذا كنت أرى أمامي جسدًا أم كلُّ ما أراه صوَرًا وأوهامًا.
ولكني تماسكت وقلت إن ذلك لا يجديني شيئًا، فلا سبيل إلى برهانٍ قاطع يُذهِب عني شكوكي، وما الذي يدلُّنا — معاشرَ الأحياء — على أن حياتنا هذه كلها ليست سوى صور تمرُّ علينا في حُلم مستمر في أوهامنا.
ولاحظت «نجوى» العزيزة اضطرابي، فنادت أخاها، فأقبل كمال الدين علينا فحيَّا باسمًا ومدَّ يده إليَّ فسألته مبادِرًا: أتستطيع يا صديقي أن تخلو معي ساعة؟
فانصرفت «نجوى»، وقد علت وجهها حمرةٌ زادتها حُسنًا، فلما صِرنا وحيدَين قلت له هامسًا: أأنا أراك حقًّا؟ أنحن في يقظةٍ يا صديقي؟ أسْمِعني صوتك لعله يهديني. ولكن ما جدوى ذلك، فلعل الذي يجيبني ما هو إلا خيال، وما أزال هائمًا في أحلامي.
فظهر على كمال الدين شيءٌ من الارتياع وأجاب متماسِكًا: لا بأس عليك يا سيِّدي.
فقصصت عليه قصة السلطان منذ عرض عليَّ الوزارة إلى أن أرسلَ إليَّ يَعرِض عليَّ زواج ابنته، وقلت آخِرَ الأمر: ولست أجد سبيلًا إلى أن أُومن أنني لست حالمًا. فترفَّق كمال الدين بي وجعل ينصرف بي في شجون الأحاديث، فداخلني ارتياحٌ أعاد إليَّ اطمئناني وبدا لي أنني قد أكون في يقظةٍ حقًّا.
وخطرت لي عند ذلك فكرةٌ كأنها كانت من إلهام الحق، فقلت مسرعًا حتى لا أجد فرصة للتردُّد: أتزوِّجني «نجوى»؟
فنظر كمال الدين إليَّ في دهشة، ثمَّ رفع يده فربَّت على كتفي وقال: لا بأس عليك يا سيِّدي؟ ألا تحب أن تشرب القهوة معي؟
فقلت له جادًّا: إذا كنت تعرف أنني لست في منام، فأجِب عن سؤالي: «أتزوجني «نجوى»؟»
فأطرق كمال الدين مليًّا ثمَّ قال: لو كان الأمر لي لقضيت فيه راضيًا.
فقلت مبادرًا: وهل كنت لأرضى برأيك أنت؟ ألا تسأل «نجوى»؟
فقام كمال الدين ولا يزال في دهشةٍ من المفاجأة، وتركني أدير في نفسي كلَّ ما مرَّ بي.
وعادت إليَّ صوَرٌ شتَّى تساورني حتى أعادت الشكوك إلى نفسي. أأنا في يقظة حقًّا؟ لم تكن علية إلا خيالًا يخادعني به قلبي، ولكن «نجوى»! ألم تكن تحدِّثُني وتناقشني وأراها قطعة من الحياة أمام عيني؟ كانت «نجوى» أمامي فتاة ساذجة ليس حولها بريق ولا زخرف، أحدِّثها فتدرك، وأحس فتستجيب.
أتكون هي الأخرى من صناعة خيالي؟
وأقبل كمال الدين راجعًا يبدو عليه شيءٌ من القلق.
فقلت له مبادِرًا: لا بأس عليك إذا هي لم ترضَ بي، إنها عندي …
ولكنه قاطعني قائلًا: معاذ الله يا سيِّدي أن يخيب ظنك وظني، ولكني أسأل نفسي ألا تكون …
فأدركت أنه يشفق عليَّ أن أكون قد أخطأت في اختياري. لك الله يا صديقي!
فقلت له: «اجلس إلى جانبي، فإني محدِّثُك حديثًا.»
ثمَّ قلت له، وكان صوتي متهدِّجًا: كنت في شبابي أرى قمم الجبال من بعيد تغطِّيها الثلوج الشهباء، وأرى أشعة الشمس تصبغها عند الغروب وعند الشروق فتلوِّنها ألوانًا ساحرةً تخلب النظر والفؤاد. وكم تمثَّلتها وتصورت ما فيها من بهاء، وكنت أحسُّ في نفسي دافعًا لا يُقاوَم يدفعني إلى توقُّل الصخور والصعود إلى تلك القمم الساحرة.
وهكذا قضيت زمنًا أهيمُ في خيالي وأنا ناظر نحوها وقلبي متعلق بالتسامي إليها. ولم أستطِع أن أقاومَ نفسي فخرجت أسعى لأبلغها، وكنت أتصوَّر ما تخبِّئه لي تلك القمم اللامعة من كنوز وصور باهرة ومسارح ساحرة. فسافرت سفرًا مُضنيًا تمزَّقت فيه أعضائي وخارت فيه قواي من نضال الصخور ومحاورة ثنايا الشعاب، وكدت أهلك جوعًا وبردًا، فلم يمسكني إلا الأمل الذي كان يملأ قلبي. وكنت كلما ضجرت وكاد الضعف يغلبني استندت إلى الأماني التي تجيش في صدري فتدفعني وتزيل آلامي. كنت دائمًا أنظر إلى القمة وأمنِّي النفس بما لا يزال أمامي، وأخيرًا بلغت القمة وسقطت من الإعياء وخانتني أنفاسي، ثمَّ كادت الخيبة تقتلني، ماذا رأيت هناك؟ تلفتُّ حولي فلم أرَ إلا صخورًا مثل الصخور، وكهوفًا مثل ما مررت به في صعودي. وكانت القمة جرداء صمَّاء كالحة باردة، فسألت نفسي: أين البهاء والرونق؟ وأين الألوان الزاهية والأضواء الباهرة؟
لقد كادت الخيبة تقتلني، وعُدت أدراجي أجرُّ قدمي وأجادل غروري حتى عدتُ إلى السهل ونظرت إلى القمة وأنا أتهالك على المروج الخضراء، فرأيت القمة لا تزال تلمع وتصبغها الألوان الساحرة كما كانت من قبلُ تصبغها، فصحت في حنق: أيتها القمم الساخرة!
ولقد كان هذا هو شعوري عندما فارقني رسول السلطان وجلست إلى نفسي أراجعها.
ثمَّ قلت في لهفة: أرضيت «نجوى» بزواجي؟
فقال كمال الدين مُطرِقًا: لقد لمحت السعادة عليها.
فقلت: أتكون وكيلها؟
فقال كمال الدين: قد زوجتكها.
ومدَّ إليَّ يده، فخطفتها وقلبي يرفرف كالطائر في قفصه، وقمت مسرعًا لم أتكلم بكلمة حتى بلغت داري لا أتلفت إلى يمين ولا إلى شمال، وقضيت سائر الليلة أصلي وأناجي ربي.
ولما أصبح الصباح ذهبت إلى القصر ودخلت بين عُمُده، فانفرج لي صفُّ الحراس، ودخلت إلى البهو حتى بلغت مجلس السلطان.
وهناك لقيني علاء الدين وقرَّب إليه مكاني وغمرني ببشاشته وحيَّاني. ولما استقرَّ بي المجلس واستأنست وهدأ جأشي وذهب عني حيائي أفضيت إليه بما استقرَّ عليه رأيي، واعتمدت على الله فلم أخفِ عنه كلمة تجيش في صدري.
وقد سمع قولي هادئًا عاطفًا، حتى إذا فرغت من حديثي سألني الدعاء، وقدَّمني لأكون إمامًا في الصلاة.
وها أنا ذا اليوم في جانبولاد وسائر قصتي معروف لا يخفى على أحد؛ فقد صرت إمام السلطان أذهب كل يوم إلى مسجده الذي بناه ليكون لي مدرسة أعلِّمُ فيها الناس مما علَّمني ربي، فلعلهم يومًا يبلغون ما يحبُّ لهم علاء الدين من خيرٍ في الأولى والآخرة، وقد وهب لي السلطان بيتًا أعيش فيه مع «نجوى» بعد أن أعفاني من زواج الأميرة، حفظها الله وأمتعها وبارك لها وفيها.
وإنني اليوم أقضي أيامي بين كتابي وصلاتي، وأذوق السلام في أهلي وولدي. لكم تغيرت بفضل قلبك الطاهر يا «نجوى».
ولست اليوم أحمل لريمة إلا الرحمة والرثاء، مسكينة هي، أسأل الله أن يلطفَ بها، فما أولى القلوب الثائرة بالرثاء، وهي تقيم في جناحٍ من الدار وحدها حتى لا أُبْعِدها عن ولدها.
وقد أتيت بولدي عجيب إلى حضرة السلطان كما شاء، فأرضاه حُسن خطِّه وأعجبه إنشاء رسائله فجعله خازنًا لكتبه. بارك الله للسلطان في مُلْكه ورعيته.
وأمَّا جميلة ابنتي فقد زوَّجها السلطان لوزيره الذي اخترته له ليحمل الأعباء عني، صديقي وتلميذي كمال الدين، وفَّقه الله إلى رضاه. وأمَّا صديقي أبو النور فقد كان أحب شيء عندي أن يشاركني في سلامي وأمني، ولكنه لم يرضَ أن يفارق ماهوش، فهو لا يحب أن يدفن عظامه إلا في ثراها.
ما أسعد ذلك الصديق الطيب بقلبه الكبير، إنه يعطي ولا يحب أن يأخذ، ويعاشر الناس كما يجدهم راضيًا، ولم أره يومًا يضيق بالحياة.
وقد أردت أن أكتبَ للناس قصتي، فعكفت في شهر رمضان أتسلَّى بها بين قيامي وسحوري، لعل كلمة منها تُسرِّي عن الناس همًّا أو تُدخِل إلى قلبهم سرورًا، أو لعل خطرةً تخطر على قلبهم عند قراءتها تحمل إليهم حكمة أو عِبرة.
وقد وقفتها على أهل جانبولاد، وجعلت منها نُسَخًا في مسجدها، لعل الله يجعل لي منها ثوابًا إذا ترحَّم الناس على كاتبها جيلًا بعد جيل.