الفصل الرابع
كلما تذكَّرت ولديَّ كاد قلبي يتقطع رحمةً لهما ورقَّة، ولن أقطع بيني وبين ريمة من أجلهما. إنهما بهجةُ عيشي لا بهجة لي غيرها سوى ذلك الخيال الذي يملأ قلبي من علية ابنة علاء الدين. فلأجعل هؤلاء عزائي، ولأتحمل ما استطعت تنكيد امرأتي وسوء عشرتها. أي جميلة ابنتي! إنك قطعة من كبدي، وحسبي أن أقول قطعة من كبدي. وأنتَ يا عجيب ولدي، إنك الحبيب الخبيث معًا، وإن خبثك ليحلو لي وإن كنتُ في بعض الأحايين أضيق به ذرعًا. وولدي عجيب من تلاميذ هذا العصر الحديث الذين يعتقدون أنهم ناشئة جيل جديد قد تقدَّم وأصاب غيرَ ما أصابت أجيالُ آبائه من الذكاء والعلم، وهو مثل أبناء جيله يسيء الظن بجيل الآباء بقدْر إحسانه الظن بنفسه. ولا عجب في ذلك؛ فإنه أمرٌ تقضي به سُنة الكون منذ خلق الله جيلًا بعد جيل؛ فكل جيل يبدأ في تحصيل المعرفة، فيظن أنه قد أوجد تلك المعارف أول مرة، وكلٌّ منها يذوق أول طعم تجارب الحياة فيكون كل شيء عنده جديدًا، فيحسَب أنه قد كشف شيئًا لا عهد لأحدٍ به من قبله، فلِمَ لا يكون ابني كذلك؟ لست ألومه على ذلك الوهم؛ فهو أمر طبيعي سبقتْه إليه ألوفٌ من الأجيال، وكلما رأيته منتفخًا بأوهامه تبسَّمت وتذكرت أحوالي إذ كنت في مثل سنه، وأردُّ له دَين الرحمة الذي كان لأبي في عنقي. هكذا نحن نسدِّد ديون الآباء للأبناء.
ولو كان عجيب ابني يقنع بسوء الظن بجيل أبيه لوافقته واستحسنت صنْعه؛ فقد عاشرت هذا الجيل وعرفته معرفةً لم تُتَح لابني. وكلما مرت الأيام بي زِدت يقينًا أن هذا الجيل خلقة شاذة من السخف والجهل. ولست أبرِّئ نفسي؛ فأنا كذلك خلقة شاذة من هذا الجيل، فأنا شاذ في جيلٍ شاذ، ولكن المصيبة الكبرى أن ابني يُحسِن الظن بنفسه وبأبناء جيله، مع أني لا أرى إلا زيادة متصلة في التخليط والخبط.
وقد ولع ابني بما يسميه الأدب، واستهتر به استهتارًا عظيمًا، حتى بلغ به الأمر أن صرف همَّه إليه، ولم يبالِ ما يكون حاله في مستقبل أيامه. حقًّا إنني لم أصنع في حياتي ما أحمَده، وقد تركت نفسي أتخبَّط مع الأيام فلم أُحسِن عملًا ولم أستطِع شيئًا، وشهدت على نفسي بأنني لا أَصلح في صنعة، ولكني مع ذلك لا أريد لولدي ما جرَّبت أثره في حياتي. على أن ولدي قد فهم من الأدب القشور وغاب عنه اللباب. رأيته يومًا يشتري مُعجَمًا، ثمَّ رأيته يُقبِل عليه كلما وجد فراغًا، فيحفظ من ألفاظه كلَّ ما شذَّ واستعجم، وتعوَّد بعد ذلك أن يستعمل تلك الألفاظ في كتابته وحديثه، وولع بعباراتٍ يجمعها في قراءته من كلِّ ما هبَّ ودبَّ من كتب هؤلاء المساكين المخدوعين الذين يحسَبون أن الأدب لا يزيد على طمس المعاني وإلقاء الألفاظ سُحُبًا سوداء عليها تجعلها غامضة مبهمة، فإذا قرأ القارئ مثل هذه الكتب لم يدرك منها معنًى، فلا يسعه إلا أن يتهم نفسه ويسيء الظن بفهْمه، ويدفعه اليأس إلى أن يقول مع القائلين إن هؤلاء الكتَّاب من نوابغ الأدب. ولقد طالما صدَّع عجيب رأسي بما يقذفه عليه من عبارات هؤلاء البائسين؛ فهو يتغنى بالضوء الذي يداعب أعطاف السماء، وبالنشوة التي تتمشى في الظلال الناعمة، وبالسحر الذي يتموج فوق مجالي النبضات اللانهائية. وقد كنت ليلةً جالسًا وحدي في حديقة داري أتمتع بضوء القمر الزاهي، فسمعت ولدي يتغنَّى بأبياتٍ مما يسمُّونه الشعر، وكان لا بدَّ لي أن أسمع غناءه وإنشاده؛ فقد كان الليل ساجيًا ليس فيه ضجيج أحتمي فيه من السماع، وما أزال إلى اليوم أقشعر كلما مرت أصداء تلك الأغنية بخاطري، كانت شيئًا لا معنى فيه ولا وزن له، ووالله لو كان ذلك شِعرًا لاستطاعت كل عنز في حقول ماهوش أن تكون شاعرة.
كان عجيب يتغنَّى بشيءٍ مثل هذا:
فشعرت بدُوار في رأسي وغصة في حلقي وصحت به: «اخرس.»
ولكن الخبيث أقبل نحوي في حماسة شديدة، وجعل يرجمني رجمًا متَّصِلًا بإنشاده حتى أوشكت أن يُغمى عليَّ، ولم أستطِع أن أصرفه عني إلا عندما قلت له: هذا مدهش، فاذهب إلى أمك لتُدخِل به السرورَ على قلبها.
وقد عُرِفَ عجيب ابني بالنبوغ في الأدب بين لِدَاته، وتمكَّن منه الوهم فاعتقد أن الله قد وهب له من فضله ما لم يَهَبه لسواه. وجعل يسألني عن أسماء شياطين الشعراء ليختار له واحدًا من بينهم ظريفَ الاسم كريمَ السابقة.
وكثيرًا ما أفضى إليَّ بأملِه في أن يكون كبير الأدباء في جيله، فتأخذني الشفقة عليه فأهزُّ رأسي صامتًا. فليمضِ كما شاء الله له، ولا حيلة لي في صرفه عن وهمه، والزمن وحده كفيل بحل مشكلات الحياة. إن تيار الحياة يحمل الإنسان في سبيله كما يريد هو لا كما يريد الإنسان، ولا عجب إذا كان ابني يصبح كبير الأدباء في عصره؛ فإني رأيت العصر يصير من فساد إلى فساد، ولعل هذا الأدب الممسوخ يكون في عصره آيةَ الإبداع في أنظار أهله، والعبرة بأبناء ذلك الزمان لا بنا نحن. ومع ذلك فإني لم أتمالك نفسي يومًا أن أخوض مع ولدي في مناقشةٍ صاخبة عندما سمعته يتحدث عن الأدب في حماسة حمقاء، فقلت له ناصحًا: ماذا تريد من ذلك الذي تسميه الأدب؟ حقًّا إن اسمه محبَّب إليكم معاشرَ الأبناء؛ لأنكم تسمعون مِنَّا أن الأدب محمود، ولكن الأدب الذي تتحدث عنه شيء آخر. فقال لي متبرِّمًا: أتظنني لا أعرف معنى الأدب؟ لقد حفظت تعريفه على شيخي، وأنا أعرِف عن عظماء الأدباء أكثر مما تظن. فضحكت وقلت: عظماء؟ يا خبر!
فقال وقد نفخ صدره: بلا شك، إنهم عظماء وخالدون، وسأكون أحد الخالدين.
فقلت: إذن مُتَّ جوعًا.
وما كان أشد عجبي إذ سمعته يقول: فليكن! وماذا عليَّ لو مُتُّ جوعًا إذا كنت من الخالدين بعد موتي؟ إنها ضريبة العظمة، إنها ثمن الخلود.
فنظرت إليه وهززت رأسي أسفًا؛ إذ إنني أبوه الذي جاء به إلى الحياة.
ولست أدري مَن ذا الذي يُلقي مثل تلك الأوهام في عقول هؤلاء المساكين؟ أم لعلها تنبت في الرءوس بغير أن يلقي أحدٌ بذورها كما تنبت الحشائش على جانبي نهر ماهوش.
ولو كان أمرُ عجيب ولدي لا يزيد على هذا الهراء لهان الأمر عندي، ولكنه كاد يؤدي به يومًا إلى الهلاك — حماك الله يا ولدي.
كنت يومًا جالسًا في الحديقة عند الساقية، فمرَّ بي عجيب وكان يقرأ في معجمه، فلما اقترب مني نظر إليَّ باسمًا في خبث، وكان ظريفًا فلم يعرِّج عليَّ ولم ينشد لي شيئًا من تأليفه ولا من محفوظه. فلما بعُد عني لم تبعد صورته عن ذهني، وجعلت أفكِّر في حاضره وفي مستقبله، وأسأل الله له الهداية. ثمَّ جاء صديقي أبو النور فجلس إلى جانبي وأخذنا نتحدث، فشاركني فيما كنت فيه من التفكير في أمر ولدي، ولما رآني لا أرضى له صناعة الأدب سألني في سذاجة: وهل اخترت له صناعةً أخرى تكون أجدى عليه؟
فاندفعت قائلًا في حماسة: ماذا تقول يا رجل؟ لقد حسِبتك أعلمَ بالحياة من ذلك! إن كل صناعة أخرى وكل تجارة غير هذه المهنة أجدى على أي شاب يريد أن يحيا، فليكن طبيبًا إذا شاء أو حجَّامًا أو مُنجِّمًا، فلن يزاحمه في صناعته إلا مَن كان له شيء من العلم بصناعته. فالناس يفتحون أعينهم ويسألون عن الطبيب قبل أن يسلِّموا إليه أبدانهم للعلاج، ويسألون عن الحجَّام قبل أن يأذنوا له بأن يُسيل الدم من عروقهم، ويسألون عن المنجِّم قبل أن يعطوه أجره على تضليلهم، أو فليكن فقيهًا فإنها تجارة رابحة ولن يزاحمه فيها إلا مَن كابد مشقة الحفظ وأعمى عينيه من طول القراءة، أو فليكن خبَّازًا فالناس لا يتدسسون بين الخبازين إذا لم يكونوا قادرين على صناعة الرغيف. فليكن أيَّ شيء من هذا أو غير هذا؛ لأنه عند ذلك يصير صاحب حرفة محدودة معروفة، لها قيود وفيها أسرار تمنعها عن الدخيل وتحميها من الدعي، ولكن لا يبلغن به السَّفه أن يدخل برجليه إلى تلك الرملة الخوانة التي يسمُّونها صناعة الأدب.
وقد نسيت في حماستي أنني أخاطب صديقي، وحسِبت أنني أتحدث إلى نفسي لا يسمعني أحد غيري، ولكني شعرت فجأة بهزةٍ في ساعدي، فتنبَّهت فإذا أبو النور يقول لي: أقول لك أما تسمع؟
فسكتُّ وتلفتُّ حولي، فطرقت أذني صرخةٌ مكتومة كأنها خارجة من بطن الأرض، فقمت مع صاحبي نركض باحثين عن مبعث الصوت في أنحاء الحديقة فلم نجد شيئًا، واتَّهمنا أسماعنا وعُدنا إلى الساقية نلقف أنفاسنا، وهممت أن أسأل صديقي عن رأيه في الأشباح التي ترفع أصواتها في الليل، هل يمكن أن تصرخ في وضح النهار؟ وإذا بالصراخ المكتوم ينبعث مرةً أخرى كأنه يصعد من تحت أقدامنا، فنظرت إلى صديقي مدهوشًا وهمست: بسم الله الرحمن الرحيم.
ولكني رأيته يذهب إلى شفة البئر التي تحت الساقية وينظر من فوهتها، فسرت وراءه وأطللت برأسي، فماذا رأيت؟ كان هناك رأس ولدي عجيب فوق سطح الماء، وهو يحاول أن يسند نفسه على الجدار الأملس ويضطرب برجليه في الماء، وسمعته يصيح: الوهس! الوهس! الوحي الوحي، الجدار المتملس يحاور كفي، وسراب الماء يداعب أنفاسي، والهلاك المشمخر يراود أجلي.
وكان يريد الاستمرار فخشيت عليه وصحت به: اخرس، ماذا الوهس وماذا الوحي؟ وما ذلك الذي يداعب ويراود ويحاور؟
فرفع رأسه نحوي وقال متحديًا: لقد رأيت الوهس قبل سقوطي في البئر، ومعناه الجري السريع. وأمَّا الوحي فمعناه العجل. وأمَّا الجدار المتملس الذي يداعب يدي فهي عبارة رائعة نقلتها عن الأديب الكبير …
وأراد المضي في قوله، فصحت به مرة ثانية: دع هذا وقل لي، أين الحبل؟ أين الحبل الذي كان هنا على بكرة البئر؟
فقال في انكسار: هو الذي انقطع بي وأهواني في ثبج اﻟ…
فقاطعته قائلًا: قلت لك اخرس.
ثمَّ نظرت حولي فلم أجد شيئًا أُنقِذه به، حتى وقعت عيني على عمامةِ صاحبي فنزعتها عن رأسه ثمَّ نزعت عمامتي وأخذت ما حولهما من اللفائف، وساعدني صاحبي على برمِها حتى صارت كالحبل شدةً، ثمَّ دليناها إلى الولد فأمسك بطرفها وتعاونَّا على رفعه حتى أخرجناه وهو مثل القط الغارق.
وأخذ صديقي لفافته وهو صامت فعصرها ونشرها، وأمَّا أنا فسِرت عاريَ الرأس مع ولدي حتى بلغنا البيت ودفعته إلى أمه قائلًا: أصلحي أمره، واعتني به حتى لا يُفجَع الجيل الجديد في كبير أدبائه.
فنظر إليَّ الخبيثُ وهو يرتعد من البرد وكاد يردُّ عليَّ جوابًا لولا أن اصطكاك أسنانه لم يساعده على الكلام.
ورجعت إلى صديقي فوجدته لا يزال يهزُّ أطراف لفافته ليجففها، فداخلني إشفاق عظيم عليه وقلت في حرارة: أشكرك يا صديقي، فلولاك لهلك ولدي.
فقال أبو النور: لم ألاحظ شبهه بك إلا اليوم.
فلم أدرِ ماذا حدث بي عند ذلك، ولكني شعرت بالضحك يغلبني، وكان ضحكًا مُتَّصِلًا معديًا بغير شك؛ فما مضت لحظةٌ حتى كان أبو النور يضحك معي وهو يهزُّ أطراف لفافته بيديه.