الفصل السادس
لا أجد في ماهوش كلِّها مَن له قلبٌ يحمل المودة الصافية سوى صديقي أبي النور. هو كالماء الصافي البارد إذا اشتد الحر، وكالنسيم البليل يمسح الجبين المحموم في تواضع، وهو كالنور يهدي ولا يصدم. هو روح وذكاء وخير ومواساة، وهو يعطي من نفسه ولا يبدي ما ينم عن أنه يعطي. عيناه الغائرتان تملؤهما الرحمة، وصوته الخافت ينبض بالإخلاص، حتى لحيته الخفيفة تبعث الثقة وتوحي بالصدق.
كُنَّا جالسين نتحدَّث في حديقة الدار — حديقتي الجرداء — ومرَّ بنا الوقت سريعًا كما تمرُّ ساعات الأُنس. ثمَّ لاح رجلٌ يخطو فوق السور داخلًا. واتَّجه الرجل إلى باب الدار، وكُنَّا نجلس في ستر بعض جذوع الشجر على مقربة من الساقية. فقال أبو النور: قُم إليه لعله رجلٌ جاء يدعوك إلى وليمة، أو لعله جاء إليك بهدية أو يرد إليك دَينًا.
فقلت له: أما إنك لم تعرف الناس يا صديقي. لو كان كذلك لما تخطَّى السور صامتًا، ولصاح معلنًا حتى يعرف أهل الحارة فيمَ أتى.
وقمت مسرعًا إلى نخلةٍ قريبة فاختفيت وراء جذعها، وقلت لصاحبي: قم أنت إليه وقل له إنني لست هنا.
فقام أبو النور يسعى إليه، وكان ضعيف البصر، فما رآه حتى كاد يصطدم به، ثمَّ قال له في تردُّد: جحا يقول لك إنه ليس هنا.
فصاح الرجل به: أما تستحي أن تكذب؟
فغضب أبو النور وقال: لست أكذب، فقد قال لي هذا.
فقال له الرجل: بل تكذب، فهو هنا.
ولم أطِق أن أسمع هذه المحاورة السمجة، وأطللت برأسي من وراء الجذع، فصحت قائلًا: وما لجاجتك أيها الرجل في شأني؟ ألم تسمع ما قاله لك؟
ولكن الرجل الجريء لم يعبأ بصياحي، فضحك وانطلق نحوي ومد يده إليَّ من وراء النخلة. فخجلت ولم أجد بُدًّا من أن أمدَّ يدي للسلام عليه. وما كدت أرفع عيني إليه حتى شهقت شهقةً كمن رأى منظرَ عفريت فجأة، وصحت قائلًا: أهو أنت؟
فقال الرجل: نعم هو أنا، أنا صديقك القديم.
وكان حقًّا صديقي القديم الحاج جمال الدين.
فقلت له مرتبكًا: لا مؤاخذة يا سيِّدي، ولكني أرجوك إذا أردت أن أعيرك البطل الصامت …
فقاطعني في لهجةٍ تنمُّ عن خبث: لا تخشَ يا صديقي، فما بي من حاجةٍ إلى البطل الصامت.
فانشرح صدري عندما سمعته يذكر البطل الصامت بغير أن يسمِّيه حِمارًا، ودعوته للجلوس معنا. فأخذ يثني عليَّ ويترحَّم على أبي حتى لان قلبي له ونسيت كلَّ ما كان منه. ثمَّ بدأ يتكلم فيما جاء له؛ وكان قلبي يغوص في صدري كلما مضى في حديثه حتى كاد يبلغ كعبي.
نعم، فقد جاء يطلب مني قرضًا؛ ثلاثين درهمًا نقدًا وعدًّا. فتحركتُ حركةً مضطربة كأنني أبحث عن مهرب ألجأ إليه، ولم أجد سوى صديقي أبي النور فقربت منه ولزقت به، والرجل مستمر في كلامه يصف شدةَ حاجته وصدقَ نيته في الوفاء، ووعد ألا يبقى الدَّين عنده أكثر من أسبوع. ثمَّ قال لي إنه في خطرٍ من تطليق زوجه أمِّ ولده إذا هو لم يجد عندي الدراهم الثلاثين، فأكون أنا السبب في خراب بيته وتعذيب أهله وتفريق أسرته. ولست أكتم أنني شعرت بالرحمة تدخل إلى قلبي عندما تصوَّرت الرجل وامرأته وأولاده، وما قد أجرُّه عليه من الويل إذا عجزت عن إغاثته. وجعلت أقلِّب الفكر وأتلفت حولي وأسأل عما عندي، وأنا صامت حائر والعَرق يتصبب من وجهي ويتقاطر على جوانب جسمي. وكان ما يزيد حيرتي أنني لم يكن عندي من النقود شيءٌ مما يُطلَب مني، وما كنت أقوى على الاعتذار له بقلة ذات يدي. أأطلِع الرجلَ على حقيقة أمري؟ أأقول له إنني لست أملك من هذه الدنيا ثلاثين درهمًا؟ أأنطق بهذا معتذرًا فيحسبني كاذبًا؟
لقد عشت حياتي أطلب الستر، وأخشى فضول الناس، وكم كابدت في إخفاء فقري، وكم عانيت من المشقَّة في التجمُّل والتعفُّف، ثمَّ يجيء هذا الرجل يطلب ثلاثين درهمًا فيفضحني؟! هذه ساقيتي لا تُخْرج ماء ولكني حرصت على أن تبقى دائرةً حتى لا يُقال إنني وقفتها عجزًا. وهذه حديقتي لا تُثمر ولا أرضى أن أبيع منها قيراطًا خوفَ أن يشمت الناس بي. كان يكفيني من ساقيتي نعيرها، ويكفيني من حديقتي اتِّساعها طلبًا للستر في أعين الناس. فهل كان يجمل بي أن أعتذر للرجل عن ثلاثين درهمًا فأطلعه بذلك على رقَّة حالي وقلة ذات يدي؟ هذا محال. ثمَّ كيف أتركه يطلِّق امرأته من أجل مبلغ زهيد؟ فلا بدَّ من الاحتيال في الأمر وإن كلَّفني شططًا. وأخذت أعدُّ ما عندي من الأموال فلم أجد سوى الثور الذي يدور بساقيتي، فقلت في نفسي: «أبيعه يوم السوق وأقرض جاري من ثمنه، فأبلغ عنده عذري، فإذا ردَّ الدَّين لم أَعدَم ثورًا آخر أشتريه.»
دارت كلُّ هذه الأفكار في رأسي وأنا مُطرِق صامت، ووجه صديقي أبي النور يحمرُّ حينًا ويصفرُّ حينًا، ووجهي يسخن ساعةً ويبرد أخرى. ونظرت إلى عينَي أبي النور فرأيت فيهما دمعتين حائرتين كأنه أدرك كلَّ ما يجول في نفسي، فمال إليَّ وقال هامِسًا: ما كلَّف الله نفسًا إلا وسعها، ولا يسع المقلَّ إلا الاعتذار.
فشجَّعني قوله، فنظرت إلى ضيفي وقلت مرتبكًا: ليس عندي الآن ما تطلب يا سيِّدي، فإذا كنت تنتظر عليَّ حتى أبيع هذا الثور يوم السوق …
فقاطعني الحاج قائلًا: ولكن فيمَ الانتظار إلى يوم السوق؟ إن الثور الذي يُباع في السوق يُمكن أن يُباع لحمًا في البيت؛ فأنت تقدر على بيع لحمه أقة أقة، ورطلًا رطلًا، ثمَّ تربح من بيعه ما كان يربحه التاجر.
فوقعت هذه الفكرة كأنها الصدمة على أم رأسي.
أثوري يُباع لحمًا؟ أيُذبَح هذا الثور في بيتي وأرى الدم يجري من عنقه؟ أأراه على الأرض يتخبط ويفحصها بحوافره؟ لقد بقيَ عندي تلك السنين كلها يدور بساقيتي ويشقى ليطربني بنعيرها في ليالي القمر الساكنة، وأنا لا أقوى على أن أرى فرخةً تُذبَح، وكنت دائمًا أتعمَّد أن أنامَ يوم عيد الأضحى حتى تُذبح شاةُ الضَّحية وتُسلَخ وتُجهَّز للأكل. فكيف أقوى على أن أرى هذا الهيكل الضخم يخرُّ كما يخرُّ الجبل ويُنحر أمام عيني؟!
لقد كان خادمًا مُخلِصًا وصديقًا قويًّا، ولو رأيت أحدًا يريد أن يؤذيه لوقفت أدافع عنه إذا لم يدافع هو عن نفسه بقرنيه. فقلت للرجل في حزم: لا، لا، هذا لا يكون.
فقال الحاج في إصرار: إذا كنت لا تحب أن يتدخل الجزار في الأمر فإني أقدر أن أذبح وأن أسلخ، وليس عليك إلا أن تأخذ اللحم وتبيعه. أين هذا الثور؟
قال هذا ثمَّ ذهب مسرعًا إلى مربط الثور في جوار الساقية، فنظرت إلى صديقي أستوحيه ماذا أفعل، ولكن صديقي نظر إليَّ متعجِّبًا وقال: أهكذا يكون الاقتراض؟
فقمت حائرًا لألحق بالرجل، ولكن رجليَّ ما كادتا تحملاني، وسار أبو النور إلى جانبي وقد أوقعت المفاجأة الحيرةَ في قلبينا. فلما بلغنا مربط الثور رأينا عجبًا. ولست أدري كيف استطاع الرجل في مثل هذه اللحظات أن يُتمَّ كلَّ هذا! كان الثور يتخبط على الأرض في دمه، فغطيت وجهي بيدي وخرجت مسرعًا ولم تسعفني الدموع، فوقفت جامدًا وجاء أبو النور فوقف إلى جانبي.
ولما سكن الثور المسكين، صاح الحاج في وقاحة: ابحث لي عن سكينٍ صغيرة لأسلخ بها.
فلم أتحرَّك ولم يتحرَّك أبو النور. وصاح الرجل مرةً أخرى: هات السكين قبل أن يبرد الثور ويفسد الجلد.
فسمعت القولَ وخِفت أن يبرد الثور، وأسرعت إلى البيت فأتيت له بسكينٍ فألقيتها إليه من وراء الباب، ووقفت مع صاحبي مُطرقًا حزينًا.
واقترب أبو النور مني فوضع يده على كتفي وقال مواسيًا: لا فائدة من هذا الوجوم. سأذهب إلى المدينة لأُعلِم الناسَ بلحم ثورك ليشتروا.
وبعد ساعة كان الحاج قد انتهى من سلخه وتقطيعه، وجاء أبو النور مع جماعةٍ من أهل ماهوش، وسمِعْته يحدِّثهم ويراجعونه، وفهمت من حديثهم أنهم يخشون أن يكون الثور قد نُحِر لأنه كان مطعونًا أو مسلولًا.
وحلف لهم أبو النور أنه كان سليمًا، وأنه قد ذُبِح ليقترض الحاج جمال الدين من ثمن لحمه. ولكن الناس لم يصدِّقوه، وقال أحدهم: ومَن يدرينا أن ذلك الحاج قد قرأ اسم الله عليه؟
وأضاف آخر: وكيف نعرف إذا كانت السكين حادة كما ينبغي؟
وقال ثالث: إنها جرة ونصف جرة. هكذا ينبغي أن يكون الذبح الشرعي. أيعرف هذا الرجل كيف يذبح؟
وقال صوتٌ من أقصى الجمْع: ما عِلْم ذلك الحاج بالذبح؟ ألا يكون قد خنقه؟
فسمع الحاج ذلك القول وصاح غاضبًا: ما أطول ألسنتكم أيها القوم! أجئتم لشراء لحمٍ أم جئتم لإقامة الحساب؟ انظروا إلى اللحم إن كانت لكم عيون.
فغضب القوم وصاح بعضهم: ما جئنا إلى هنا لنسمع هذا التقريع.
وصاح آخرون: إن النقود في جيوبنا.
ثمَّ انصرفوا واحدًا بعد واحدٍ ولم ينفع في إرجاعهم توسُّل صديقي أبي النور.
ونظرت إليهم وهم يبعُدون وقلبي يكاد ينفجر. فماذا أصنع بهذا اللحم كله؟ ومَن لي بمن يحمله وهو كالتل العظيم؟ وهل كنت لأتركه حيث هو لينتن ويتعفَّن؟ فما رأيت الناس يبلغون جانب السور حتى صِحت بهم: هلمُّوا أيها الإخوان عودوا كِرامًا. تعالَوا فخذوا اللحم ولا أريد له ثمنًا.
فترددوا في السير قليلًا ثمَّ وقفوا ينظر بعضُهم إلى بعض لحظة، ثمَّ انقلب تيارهم عائدًا، وأسرعوا حتى بلغوا مصرع الثور وهم يركضون، وجعل كلٌّ منهم يحمل ما يستطيع حمله حتى تخطَّفوا اللحم فلم يبقَ منه إلا فخذٌ واحدة كان الحاج واقفًا إلى جوارها يمنعها. ونظر الحاج إليَّ في غضبٍ قائلًا: أهكذا لا تبيع شيئًا؟ أهكذا تضيِّع عليَّ الدراهم ويذهب كل جُهدي سُدًى؟ ثمَّ أخذ الفخذ فحملها على كتفه اليسرى، وجرَّ جلد الثور بيمناه ووضع سكينًا تحت إبطه والأخرى في فمه، ثمَّ مضى خارجًا.
فسار أبو النور ونزع جلد الثور منه وقال في حنق: جحا أولى بجلد ثوره.
فنظر الحاج إليه في غيظ، ثمَّ ترك الجلد وأخذ السكين من فمه ومضى يهزُّ بها يمينه.
فصِحت به متوسِّلًا في غيظ: دعِ السكين فإنها لامرأتي.
فرماها إلى الأرض، ومضى بغير أن يلتفت نحوي، حتى خرج وهو يدمدم ويبرطم.
ونظر أبو النور إليَّ وهو يرفع جلد الثور وقال بصوتٍ مختنق: صديقي.
فنظرت إليه وقلت في حزن: أبا النور.
وسِرت وهو إلى جانبي يجر الجلد حتى بلغنا مربط الثور، فوجدنا به فوضى تُشبه آثارَ موقعةٍ في حربٍ ضروس؛ وجدنا رأس الثور المسكين والأكارع والفرث والمصران وكومةً من الأوساخ جعلت الهواء عفِنًا يكاد يخنق الأنفاس. فرمى صديقي الجلد إلى ناحية، وأخذ يرفع الحطام ويكنس الأقذار، وأسرعت أساعده حتى مضت ساعة وكلَّت مِنَّا الأيدي، وتألمت فقرات الظهر من الانحناء، فرفعت رأسي لأستريح، ورفع صديقي رأسه كذلك، وتقابلت نظراتنا، ووقفنا حينًا ينظر كلٌّ مِنَّا في وجه صاحبه صامتًا. ثمَّ انفجرت بيننا ضحكةٌ في وقت واحد، في لحظة واحدة، كأنها ضحكة شخص واحد، وامتدَّت الضحكة وطالت حتى كدنا نقع على الأرض من الإعياء، وجعل كُلٌّ مِنَّا يضرب بيده على ركبته.
لقد كانت فكاهة عظمى.