الفصل السابع
ما أشد ضيقي بالحياة في ماهوش وطني؛ فإني لم أجد حولي فيه إلا جشعًا وظُلمًا. ولكني أرحم هؤلاء الذين يظلمونني، فإنهم جديرون بالرثاء. وأيُّ قيمة للحياة إذا هي خلت من الكرم والإيثار والمحبة والصدق؟ إن الذين يفقدون هذه الخلال لا تبقى لهم في الحياة فضلةٌ تستحق الحياة. ولكني مع هذا قد كِدت أضيق بالحياة في ماهوش.
وحاولت أن أعتزلَ الناسَ قانعًا بالصورة التي أسمو معها إلى السماء في خيالي، فكنت كلَّ يوم أخرج إلى الحقول حتى أصل إلى شجرة الجميز، فأصعد فوقها وأختبئ بين فروعها حتى لا يراني الناس وأنجو من فضولهم. فكنت أقضي هناك الأيام أو الليالي خاليًا إلى نفسي، أطَّلع على الناس بغير أن يروني، وأخلو هناك إلى طيف علية ابنة علاء الدين فأناجيه وأحدِّثه بالمعاني التي لا أجد في الأحياء مَن يفهمها. ولكني بعد حينٍ ضِقت بمجلسي فوق الشجرة لأنه ملأ صدري بعيوب غيري؛ إذ كنت أرى الناس يمرُّون تحتي وهم لا يفطنون إلى وجودي، فيُظهِرون ما يبالغون في إخفائه عن العيون ولا يتحرَّجون من كشف خلجات الضمائر. وقد خرجتُ من كلِّ ما رأيته وأنا فوق الشجرة على حقيقة واحدة؛ هي أن الإنسان جدير بالرثاء، وليس في ذنوب الناس ما يستحق العقاب.
لقد بدا لي وأنا فوق الشجرة أن الله خالقَ هذه الأكوان العظيمة لن يضيق بالعفو ولن يكبر على رحمته ذنب. فلما لم يُجْدِني اعتزالي فوق الشجرة حاولت الاعتزال في الفلوات، فكنت أخرج إلى تلال ماهوش وأشرف منها على واديها، فأراه خطًّا أغبرَ ضئيلًا تحت قدمي، ويُخيَّلُ إليَّ أن الأنفاس تضيق فيه من الضباب الذي يجثم عليه. فإذا وقفت حينًا أنظر إلى ماهوش من فوق التلال لاحت لي صغيرةً تافهة، بكلِّ ما فيها من نضال وضجيج. ولكني مع ذلك كنت أعود إليها وأحسُّ أنني لا أستطيع الاستغناء عنها، فإذا حاولت أن أجد لي موضعًا فيها لم أعد إلا بالخيبة، فأرتد إلى عزلتي وتأمُّلي. ولو كنت في غنًى عن الطعام والملبس، أو لو كان أهلي وولدي في غنًى عما يحتاج إليه أمثالهم، لما برح بي الضيق من حياتي في ماهوش وطني، ولكني بشرٌ كسائر الناس، وأهلي وولدي لا غِنَى لهم عن أن يصيبوا من الحياة نصيبًا. فكيف أجد ذلك النصيب وقد بحثت عنه في كل أركان ماهوش فلم أجد لي فيها مكانًا.
ولقد أبى لي حيائي أن أشكو إلى الناس، فلست أحب أن أحمِّلَ أحدًا ثقل همي. ولولا كلمة أقولها لصديقي أبي النور لأنفِّسَ بها عن صدري لزاد الأمر على طاقتي. وقد أشار ذلك الصديق عليَّ أن أذهبَ إلى القاضي، وهو صديق كان لأبي، لعلي إذا شكوت إليه حالي ساعدني على أن أجد عملًا ألتمس منه القوت لنفسي وأهلي. فترددت طويلًا ولكن الحاجة كانت تدفعني، وغرَّتني من القاضي كلماتٌ كان يقولها لي إذا لقيني. فذهبت إليه على استحياء وسألته مساعدتي، ولكنه نظر إليَّ نظرةً فيها دهش وعجب، ولم يجبني بحرفٍ على مقالي، وتشاغل عني ببعض أمره حينًا، ثمَّ التفت إليَّ وقال: «إن الأرزاق موفورة لمن أقبل على التماسها.» ثمَّ أضاف سائلًا: لِمَ لا تشتغل بالتجارة يا جحا؟
ولو كان عندي مال لما انتظرت حتى يقترح عليَّ السيد القاضي؛ فإني لا أملك من الدنيا ما أعيش به يومًا بعد يوم. ولو كان عندي رأس المال لما احتجت إلى أن أكون تاجرًا. فسكتُّ حينًا وأنا مطرق. فأعاد القاضي سؤاله كأنه يريد ألا أنصرف عنه حتى يفتح لي متجرًا.
يا للنفاق والرياء! لقد كان في يده أن يجعلني محتسِبًا أو مأذونًا، ولو كان جادًّا في عنايته بأمري لما ردَّ على سؤالي بسؤال، ولما حمَّلني مئونة الاعتذار. فلما لم أجد عند القاضي جوابًا لم أجد حاجةً إلى أن أجيب عن سؤاله. وانطلقت مني آهة ثمَّ أعقبتها كلمة «يا ألله»، ثمَّ مضيت عنه.
فقام مُسرِعًا يشتد في أثري، حتى أدركني ودسَّ في يديَّ أربعين درهمًا وقال لي: أحبُّ أن تبدأ تجارتك، فاشترِ لي بهذه عشرين وزة لطعام ضيوفي.
ولم أكن عند ذلك فارغ البال، فأناقشه أو أجادله، فوضعت الدراهم في جيبي ثمَّ مضيت عنه صامتًا، وجعلت أعيد سؤاله على نفسي: لِمَ لا تشتغل بالتجارة يا جحا؟
ولقد كانت التجارة مهنةَ الكرام، وكان من أجدادي مَن اشتغلوا بالتجارة، وكان النبي — عليه الصلاة والسلام — تاجرًا، وكان أبو بكر وعثمان تاجرَين، فلمَ لا أكون مثلهم تاجرًا؟
ولكن التجارة تحتاج إلى المال، ولست أدري أيُقيِّض الله لي كنزًا أم يجعل لي في طريقي لقًى من ذهب أو جوهر؟ والتجارة فوق هذا تحتاج إلى ولوج الأسواق ومعاملة السوقة، فهل أستطيع أن أكون تاجرًا؟
ولكني عُدت إلى نفسي قائلًا: ما لي أضعُف عن الحياة، وإذا عُدت منها بالخيبة التمست الأعذارَ لنفسي؟ وعزمتُ على أن أخوض زحمةَ الناس، وأن أضرب في الحياة كما يضربون.
فما عُدت إلى منزلي حتى كنت قد استقر عزمي. ونظرت حولي وجعلت أقلِّب وجوه الرأي وألتمس الحيلةَ في تحصيل رأس المال، حتى عزمت على بيع داري ليكون ثمنه رأس مالي.
وهكذا بِعت البيت القديم الذي خلفه لي الأجداد، والذي يحمل في كل ركن من أركانه ألوفًا من الذكريات. وكان بيع ذلك البيت صدمةً كادت نفسي تتصدع منها. فوقفت عند كل جِذْعٍ في الحديقة الجرداء. ووقفت عند الساقية المتهدِّمة التي لا تُخرِج الماء، وذكرت ثوري المسكين الذي ودَّره جاري جمال الدين — سامحه الله. وسرت حوله أذرف الدموع الغزار أسفًا وحُزنًا، فوقفت عند كل لبنة من لبنات السور المتهدم الذي لا يبلغ علوه ذراعًا، وجعلت أناجي حيطانه وأندب لها اضطراري لفراقها، ولم يفارقني الشعور بأنني أنا الذي جعل الدهر من محنته أن يبيعَ هذا التراث العزيز.
ثمَّ جمعت كل متاعي وانتقلت إلى دارٍ أخرى في زقاقٍ ضيِّق، ونزلت إلى ميدان العمل كما ينزل الناس في التماس الأرزاق.
وكانت كلمات القاضي ترنُّ في أذني كل صباح؛ إذ قال لي يومَ لقيته: «إن الأرزاق موفورة لمن أقبل على التماسها.»
وذهبت إلى السوق لأنظر في السلع وأختار من بينها ما يصلح لأن أتخذه متجرًا. وبعد تفكير وتردُّد اخترت أن أتجر في الطنافس؛ فهي نظيفة لا يأنف الحس منها، وهي جميلة يرتاح الذوق إليها، ولا يتعفف عنها أصحاب المروءة، ولا يشتريها إلا العظماء.
ولما استقر رأيي على هذه النية ذهبت إلى متجرٍ عظيم لأشتري منه، فرأيت به مجموعة من تلك التحف الثمينة التي لا تُصنع إلا في مدينة تبريز. فراعني جَمالها وعللت نفسي بالكسب الهيِّن والثروة الطائلة. ووقفت أتأملها، وكانت عيني لم تقع على مثلها في البهاء. كانت نقوشها كأنها خُلِسَت من زهر الربيع، وكانت ألوانها كأنها استُمدت من أشعة الأصيل على أردان السحاب.
فوقفت حيالها مأخوذًا لا أقدر أن أردَّ عيني عنها، وأجلت ناظري في محاسنها فتأملت فيها زهرةً بعد زهرة، وقوسًا بعد قوس، وضرب بي الخيال إلى بلاد إيران، وخُيِّلَ إليَّ أنني أرى أنامل الفتيات وهن يعقدن عقدها، وكلما أتممن منها ورقة من زهرة أو قضيبًا من غصنٍ امتلأت قلوبهن إعجابًا وزهوًا، وفاضت نفوسهن تيهًا وعجبًا. وتصورتُهن يقفن دون الأنوال يتأملنها عن بُعد، ويُملن رءوسهن يَمنةَ ويَسرةً لكي يتملين بحسنها. تصورت هاتيك الفتيات وهن عاكفات على الطنافس يعقدن فيها العقدة بعد الأخرى، يتهاتفن بالضحكات ويتشاورن بالهمسات ويتحدثن عن أحلامهن بنفوسٍ جائشات. ثمَّ تصورتُ إحداهن وقد بدا لها من وراء النافذة شخص، فتركتِ العقدة وأسرعت إلى النافذة تنظر من وراء «الشباك»، فتدسُّ عينها في فرجاته الضيقة بين مخروطاتها الدقيقة لكي تتزود من حبيبها بنظرةٍ تظل لقلبها في الليل زادًا حتى يطلع الصباح. فإذا ما مر الشخص عادت الفتاة إلى الطنفسة تعقد فيها العقدة بعد الأخرى، بأناملَ مضطربة، ولكن تلك الأنامل كانت تصوِّر الزهرة الساحرة التي كنت أراها أمام عيني، رائعة الألوان، حلوة المنظر، منسجمة الأشكال. كنت أتصوَّر هذا وأنا واقف أنظر إلى الطنافس، وقلت لنفسي ما هذه إلا خطرات نفوسٍ وأشجان قلوب، وما يغلو على مثلها ثمن وإن غلا.
وذهبت إلى التاجر لأساومه في شرائها فوجدته حريصًا عليها، ولا عجب؛ فهي جديرة أن يَحرصَ عليها كلُّ مَن يعرف لها قدْرها. فزدته في ثَمنِها ولم أتردَّد في أن أبذل له ما يُطْمعه في بيعها. وبعد لأي سمح التاجر فدفعها إليَّ، ووزنت له ثَمنها ثلاثمائة دينار كاملة. وحملتها وسِرت بها وأنا أكاد أطير فرحًا؛ فقد خُيِّل إليَّ أنني فُزت من الرجل بصفقة الخبير ذي القلب البصير.
ولكن ماذا وجدت من الناس؟ ذهبت أعرض الطنافس على خيار القوم، فعرضتها على القاضي فلم يكن في حاجة إليها، وعلى المحتسِب فقال إنه اشترى بالأمس منها، وهكذا لم أجد في كلِّ مَن عرضتها عليهم رجلًا يستطيع أن يدرك أسرار جمالها. ثمَّ عرضتها على الناس في الأسواق فكانوا يقومون إليها يقيسونها بالذراع، ويجسونها بالأيدي ويزنوها بالميزان، كأنما هي سلع مبتذلة، وليست من حرارة الأرواح ونشوة الأماني. وكانوا مع ذلك إذا اشتروها لم يعرضوا إلا البخس من الأثمان. وهكذا خرجت من تجارة الطنافس بخسارة نصف مالي. ولكني لم أجزع ولم أضعُف، وعزمت على أن أختار تجارةً أخرى تكون في سلعةٍ مما يحتاج الناس إليه ولا يمكنهم أن يستغنوا عنه؛ فإن العظماء قليلون، وقد فسد الزمان وضاعت بين الناس قيم الفنون. وأمَّا عامة الناس فلا يحصيهم العد، والبيع والشراء فيهم لا يحده حد.
وبعد تفكيرٍ واجتهاد عزمت على أن أتجر في الأغنام؛ فليس فيها قطعة واحدة لا يحتاج الناس إليها؛ فشعرها صوف وجلدها نعال، ولحمها طعام وفروتها حلية، وهي بعد ذلك كله جميلة المنظر حلوة الطباع. ولقد كنت دائمًا أحبها وأُطْعِم ما أقتنيه منها بيدي، وأداعبه كما أداعب ولدي. ولقد أبدع الله خِلقتها، فما ترى فيها من عيب، سبحان مَن جلَّت قدرته وعظمت حكمته وبدعت صنعته. ولكن كل هذا لم يجعل تجارة الأغنام رابحة؛ فقد كنت أشتريها وأنا راضٍ بثَمنها. كنت أعطي الدنانير المعدنية ثمنًا لخلقةٍ حية، كنت أعطي صاحب الشاة حجرًا أصمَّ وآخذ منه حياة بديعة الخلق. ولكن الناس إذا أتوا لشرائها مني لم ينظروا إليها بعيني، فكانوا يدفعونها في غلظة ويجسُّونها في شراهة. كان لعابهم يسيل وهم يقلِّبونها بأيديهم كأنهم سِباع تتأمل الفريسة، فإذا اشتروها لم يشتروها إلا بعد مماكسة ومراجعة ومساومة فيها لجاجة وجشع.
وهكذا لم أخرج من تجارة الأغنام إلا بخسارة نصف ما بقيَ من مالي.
هكذا استمر بي الحال وأنا أتنقَّل من تجارة إلى تجارة، ومن سلعة إلى سلعة، وكلٌّ منها يقتطع نصف ما بقيَ عندي، حتى لم يبقَ لي إلا دراهم معدودة، فلم أجد شيئًا أشتريه إلا بيض الدجاج. وفي الحق أن البيض سلعة نظيفة جميلة الصورة بيضاء اللون لها هندسة عجيبة في شكلها، ورونق رائع في جملتها. ليس في الأشياء ما يُدخل الفرح على القلب مثل البيضة إذا وجدتها في ركن بيت الدجاجة، كأنها عند ذلك كنز من الجوهر. ولكن البيض لم يكن خيرًا من كلِّ ما سبقه؛ فقد كنت أشتري التسع منها بدرهم؛ بدرهم واحد. وكانت كل بيضة منها عندي أثمن من كلِّ ما عندي من الدراهم. ولكن الناس كانوا إذا أتَوا للشراء لم يدركوا ما في البيض من جلال الخلقة وجمال الصورة وإبداع الهندسة، بل ينظرون إليه في الضوء، وينقدونه نقدَ الصيرفي للدينار، كأنه شيء لا تتجلى فيه قدرةُ الخالق المبدع الذي برأ الأكوان، فكان الأمر ينتهي بي دائمًا إلى أن أبيع العشرة منه بالدرهم الواحد، حتى ابتلع السوقُ كلَّ ما بقيَ من دراهمي.
وأنا اليوم أتلفت حولي فلا أجد إلا يدًا فارغة، وبيتًا خاويًا، ولا أزال أنتظر الفرج ولا يزال عني متباعدًا.
أي رب، هذا أنا ضربت في الأسواق ولم أعصِ مشورة القاضي، لم أقعد ولم أتخاذل، ولكني هذا عبدك لا أملك مالًا ولا أجد رزقًا كأنما كنت في غيبةٍ عند توزيع الأقسام. أستغفر الله من قولي، أستغفرك يا مَن وسع عفوك الآثام.
لقد كاد الشك يداخلني، فلأَعُد إلى صورة الحبيبة التي أسمو معها إلى السماء لعلي أكفِّر هناك عن خطئي في التسبيح العلوي والترتيل.