الفصل التاسع
مضت أيامٌ لم أرَ فيها صديقي أبا النور، وضاق صدري من الوحشةِ إليه؛ فإنه لم يبقَ في الحياة من سلوى إلا أن أجلسَ معه وأفضي إليه بأحزان قلبي.
وقد زادني في هذه الأيام حُزنًا ما لقيته من حمق ريمة وسوء عِشرتها؛ فهي لا تجعل يومًا يمرُّ بي بغير أن تزيدني وسواسًا وهمًّا، حتى تخيَّل إليَّ أن الفضاء أضيقُ في وجهي من حُجْرة في بيتي. أفٍّ لحجرات بيتي! إن سقفها يكاد ينطبق على الأرض فلا أستطيع البقاء فيها وأخرج منها لا ألوي على شيء، وألتمس الهواء الطلق في أطراف ماهوش، فتطاردني أشباح البؤس تصيح من ورائي بصوتِ ريمة زوجتي.
فكنت كلما وجدت جنازةً سِرت وراء النعش لأشيِّعَها إلى القبور، وأبقى حتى يُدفَن الميت وتُقرأ عند جدثه الصلوات، ويُوجَّه إلى أهله العزاء، فأودُّ لو طال بقائي عند القبر؛ فإني أجد عنده ارتياحًا. وقد سار ولدي عجيب معي يومًا مع إحدى هذه الجنائز، فلما دُفِن الميت قام بعض أصحابه يؤبنونه، فقال أحدهم في رثائه: «أنت هذا نحملك إلى مقرك الموحش، الذي لا ترى فيه شمسًا ولا قمرًا، ولا يطالعك فيه نجمٌ ولا يَهُبُّ عليك نسيم. أنت هذا في مقرِّك المظلم لا تنفذ إليك الأضواء ولا تؤنسك سجعات الأطيار.»
وجعل ذلك الرجل يفيض في وصف القبر ووحشته، وظلمته وضيقه، حتى انهالت العَبرات من المعزِّين وشهقوا جميعًا بالبكاء. وعند ذلك شعرتُ بوخزة في جنبي، فإذا ولدي يلكزني بكوعه ويشير إليَّ أن أدنوَ منه بأذني، وقال لي هامسًا: أقرأت قصيدتي التي وصفت بها بيتنا الجديد؟
وكان قد أطلعني على قصيدةٍ يصف فيها ذلك البيت، فكأنه قد أملاها على ذلك الرجل الذي وقف يؤبِّن الميت ويصف قبره ووحشته وظلمته.
فثارت نفسي عند ذلك، وتذكَّرت كلَّ بؤسي وقمت بغير أن أستأذن أو أعزي، وهِمت على وجهي بين القبور وولدي يسير صامتًا في أثري، حتى بلغت المدينة ولم ألتفت ورائي.
وكنت في سيري هائمًا في أحزاني، أشعر بالخزي مما جررته على أهلي وولدي من الشقاء. إن ماهوش قد أنكرتني ولم تجعل لي في أرزاقها نصيبًا ولا بين أهلها مكانًا، واضطرتني إلى بيع دار أجدادي، ولم تجعل لي في بيوتها إلا ذلك القبر الذي نقيم فيه أحياء. ولكن أيُّنا المذنب؟ أأنا أم ماهوش؟ أي وطني العزيز، أيُّنا الذي يقع عليه ذنب حرماني وطردي وإقتار رزقي؟ أأنا أم أنت؟ أتتركني ماهوش أهْلَك أنا وأهلي؟ أيُقال عن ماهوش في مستقبلِ أيامها أن جحا وأهله ماتوا بها جوعًا ودُفِنوا بها أحياء؟ ولما قربت من داري رأيت عن بُعد صديقي أبا النور يطرق الباب وهو يحمل شيئًا على ظهره وشيئًا في يده، ثمَّ فُتِحَ له الباب فدخل، وأسرعت حتى بلغت الدار فوجدته قد وضع حِمْله، وكان كيلةً من القمح وقطعة من اللحم، وأخرج من جيبه رمانتين وجلس يمسح العَرق عن جبينه.
فلما رأيت ذلك كَبُرَ على نفسي. أيحمل أبو النور كلَّ هذا إليَّ وهو رجلٌ رقيق الحال لا يكاد يستطيع أن يعيش مستورًا؟ وتجرَّأت فكلَّمته في هذا، وما كدت أُخرِج صوتي حتى خرجت عليَّ ريمة كأنها نَمِرة تنطلق من عرينها، وقالت بصوتها الجهوري: أكنت تريد أن نموت جوعًا؟ ألا فاعلم أيها الرجل أنه لولا هداياه في هذين الأسبوعين لهلكنا كلنا جوعًا.
ولم أُدرِك إلا عند ذلك حقيقة قولها. لقد مضى عليَّ أسبوعان حقًّا لم أجد في جيبي درهمًا، ولم أعطِ امرأتي دانقًا، فكيف كُنَّا نأكل وممَّ كُنَّا ننفق؟
ولا أستطيع أن أبيِّن مقدار ألمي عندما تبينت هذه الحقيقة الطاحنة. لقد انحدرت وهويت وصِرت حِمْلًا على صديقي.
وخرجت من الدار أسيرُ كالأعمى والثورة تملأ جوانحي. لئن كانت ماهوش لا تفسح لي مكانًا فيها فإني لن أحمِّل صديقي وحده مئونتي. إن لي حقًّا على ماهوش؛ فأنا جحاها، أنا الذي إذا ذُكِرَت ماهوش قال عنها الناس إنها وطني. أنا الذي يبعث الملوكُ إليَّ لكي أسير إليهم فآبى. أنا الذي يطلبونه لكي يسامرهم ويعلِّمهم — كما يقولون — الحكمةَ فيأبى إلا أن يعيش بين قومه الذين ينكرونه. أنا الذي أتنفس في حماقات ماهوش بضحكي وأهدهد من سخافاتها بعفوي، وأستقبل السماء في الصباح والمساء من أجلِها بدعائي، فلآخذنَّ من ماهوش حقي وإن أبت أن تبذلَ لي حقي.
ولما صرتُ بين الحقول تلفتُّ حولي، فلم أجد سوى بساتين فسيحة تمتد إلى مدى البصر عن يميني وشمالي، فيها من كل فاكهة ومن كل بقلة. فعزمت على السرقة عمدًا. فليقُل الناس ما يقولون، فلستُ أسميها سرقة؛ فأنا لا آخذ إلا رزقي. أنا جحا، وما ينبغي لها أن تنساني. وقفزت فوق السور وجعلت أقطف وأقطع وأخلع في شيء من الحنق. ولست أنكر أنني مع كل حنقي لم أخلُ من خوف أن يراني الناس فيقولوا إنني أسرق. ونزعت شملةً كانت عليَّ فجعلت فيها الفاكهة والبقل وجعلتها صُرَّة كبيرة. ولما عزمت على حمْلها شعرت بوخزة في قلبي، ألست سارقًا؟ ألم أدخل البستان خفيةً أتلفت لا يراني صاحبه؟ وفيما كنت أفكِّر مضطربًا مرتبكًا شعرت بيدٍ على كتفي وسمعت صاحب البستان يقول: ما هذا يا جحا؟
ففزعت ولكني تماسكت وفكَّرت مليًّا وقُلت في نفسي إنها عاصفة هوجاء، ألم تكن ثورة نفسي كالعاصفة؟
وأجبت الرجل بغير وعي: هي عاصفة هوجاء حملتني فوق السور قسرًا.
فتضاحك الرجل خُبثًا كأنني كنت أمازحه، ثمَّ قال: وأين تلك العاصفة؟ فالجو صافٍ والشمس تبسم في وداعة!
فقلت في مرارة: إنك لا تعرفها، إنها عاصفة لا يحسُّها أمثالك.
فضحك الرجل وكأنه ظنَّ بي تخليطًا، ثمَّ قال: آمنَّا يا سيِّدي جحا، هي العاصفة قد حملتك، ولكن ما الذي قلع هذا وقطف ذاك؟ وجعل يشير إلى ما في صُرَّتي. فقلت مبادِرًا: دفعتني العاصفة فكلما تشبَّثت بشيء خرج في يدي.
فضحك الرجل مرة أخرى، ثمَّ قال: آمنَّا بهذا أيضًا، ولكن ما الذي وضع كل هذا في شملتك؟
فلم أجد للرجل جوابًا، فقلت في صراحة: أمَّا هذا فقد فاجأتني قبل أن أفكِّرَ فيه.
فانفجر الرجل بالضحك انفجارًا عجيبًا حتى كاد يقع على الأرض، ثمَّ أقبل نحوي فحمل الشملة بيديه وألقاها على كتفي قائلًا: بارك الله لك فيها يا جحا، وحاذر أن تطيِّرها العاصفة عن كاهلك.
ثمَّ فتح لي باب البستان فخرجت منه مغتبطًا حزينًا.
ولما عُدت إلى بيتي وجدت أبا النور ما زال جالسًا في انتظاري، فحدَّثته بأمري، وقد لمحت الدمعَ ينحدر فوق خديه وهو قائم لينصرف عني.
أي صديقي، ليس في طاقة إنسان أن يفعلَ ما فعلت.
إنك تواسيني بصمتك ودمعك خيرًا مما واسيتني بقمحك ولحمك، ولا أملك إلا أن أشكرك من قلبٍ جريح.