تمهيد
كانت أمامي مجموعة تشتمل على تراجم الأدباء المختارين لجائزة «نوبل» منذ ابتدائها في أوائل القرن الحاضر إلى سنة الحرب العالمية الأولى، فسألت نفسي: تُرَى لو لم تذكر مناسبة الجائزة في هذه المجموعة، هل يستطيع القارئ الناقد أن يعلم أسباب اختيار هؤلاء الأدباء دون غيرهم من مئات الأدباء في هذه الحِقبة التي تجاوزت الجيل في حدوده المصطلح عليها؟!
إنه يعلم ولا شك أن هناك وحدة مقررة جمعت بين أسمائها، ولكنه قد يبحث عن تلك الوحدة طويلًا قبل أن يقف على حقيقتها أو ما يقارب تلك الحقيقة.
ففي وسعه أن يعلم بغير مشقة أن هذه الأسماء لا تنتمي إلى أمة واحدة، ولا إلى فترة واحدة تتقارب فيها الأعمار.
ولكنه لا يرى فيها دلالة على التطوُّر أو الترقِّي في مطلب واحد من مطالب الأدب؛ لأنها تقرن الشعر بالقصة، وتقرن هذين بالرواية المسرحية، وتقرن هذه المطالب جميعًا بالتاريخ أو بفلسفة الأخلاق، وتمضي في طريق ثم تعود إليه بعد ارتياد الطرق الأخرى على اطِّراد وعلى غير اطِّراد.
ولا يرى الناقد في هذه المجموعة أنها جمعت أفضل نماذج الأدب في الأمم المتعددة ولا في الأمة الواحدة؛ لأنه يرى للأدباء المختارين أندادًا يماثلونهم أو يفوقونهم في أمتهم وفي سواها.
ولكنه يعلم على التحقيق أن المجموعة تعطيه صورة واسعة متعددة الجوانب من ثقافة الغرب في قرابة نصف قرن، ولا يفوته أن يلمح فيها غياب نوع من الأدب لا يمثله أديب من أدبائها، وهو ذلك النوع الذي نصطلح على تسميته بدعوة الهدم والعنف، أو بما دون ذلك من دعوات الخشونة والمرارة، فإذا لاحظ ذلك فقد وصف المجموعة على الجملة صفة مقارِبة لحقيقتها؛ لأنها في الواقع تجمع نماذج الفن الرفيع على شرط محدود، وهو خدمة السلام والتفاؤل بمصير الإنسان، فإذا توافر الشرطان مع التوسط في الكفاية والإتقان، فذلك خير من الامتياز الراجح بواحد منهما وفقدان الآخر.
وليست العصمة في وزن أحد الشرطين أو وزنهما معًا أمرا مستطاعًا أو ميسورًا لعمل من أعمال الإنسان، فقد يختل الوزن مع اختلاف الزمن واختلاف البواعث النفسية أو الاجتماعية، ولكن الأمر الذي لا ريب فيه أن دراسة الجائزة على علَّاتها كفيلة بتعريف الناقد تعريفًا صحيحًا بصورة وافية من صور الثقافة الغربية الحديثة من جوانبها المتعددة، ولا يقدح في ذلك غياب الجانب المسكوت عنه من أدب الهدم والقنوط؛ فإن الجانب المختار يدل عليه ويشير إليه، ويكاد يشرحه شرحًا صريحًا على سُنَّة المقابلة ومعارضة النقيض على النقيض.
وهذا الذي اخترنا تأليف هذا الكتاب لأجله؛ فإن دراسة «جائزة عالمية» يستحقها مَن تختارهم هيئة مِن الهيئات المرشحة لوظيفتها، لن تخطئ أن تعطينا صورة من تاريخ الأدب الحديث تستحق النظر، وتستحق أن يدار عليها موضوع كتاب، وممَّا يستحق النظر من أجله أيضا أن يتعرف الناقد المؤرِّخ مواطن الصحة والخطأ ومواطن الخطأ في موازين الهيئات الفنية، التي تتصدى لوزن الكفايات والملَكات على نطاقها الواسع بين أمم الحضارة؛ فإن العلم بمدى هذه الهيئات من الصحة والخطأ، ومن الإنصاف والمحاباة، ومن محاباة الضرورة ومحاباة الاختيار، غرضٌ لا يهمله مؤرخ الأدب في ناحية من نواحيه.
•••
وعلى هذا الاعتبار نكتب هذه الدراسة عن الشاعر الإسباني «خيمنيز» صاحب جائزة نوبل لسنة ١٩٥٦؛ فهو من هذه الزاوية يعرض للدراسة في هذه الصفحات.
ولقد دار البحث طويلًا في موضوع الجائزة العالمية منذ سنوات، فخطر لبعض الباحثين أن تشمل الدراسة تقديرًا مجملًا لجميع الأدباء الذين استحقوا من لجنة التحكيم جوائزها منذ السنة الأولى إلى السنة الأخيرة عند تأليف الكتاب، وخطر لبعضهم أن تبتدئ الكتابة عنهم من السنة الأخيرة، ويختار مِن المتقدِّمين بعد ذلك مَن ترشحه المناسبة أو يرشحه التفضيل والتمييز بالقياس إلى قراء اللغة العربية.
ثم تردَّد الكلام عن «خيمنيز» لمناسبات شتى، وتردد كذلك عن «بسترناك» الشاعر الروسي الذي نال الجائزة بعده لمناسبات أخرى، فرجحت كفة الشاعر الإسباني وزاد في ترجيحه أنه اختتم حياته الأدبية وخلصت سيرته من لجاجة المآرب السياسية، وصلحت هذه السيرة صلاحها لتفصيل القول عن العلاقة بين الأدب القومي والأدب الإنساني، كما تتحراها الجوائز العالمية بموازينها المصطَلَح عليها.
وفي الصفحات التالية فصول كافية لبيان هذه الدراسة من زواياها المتعددة: عن الجائزة وصاحبها ونشأتها ودستورها من وثائقها الرسمية، وعن لجنة التحكيم وسنتها المتبعة في اختيار أدبائها، وعن الأدب القومي وآثار الآداب العالمية فيه، وعن بيئة الأدب الإسباني التي نشأ فيها الشاعر، ثم الجزء الأخير من الكتاب عن الشاعر وتقدير أدبه وشواهد هذا الأدب التي يُسْتَعَان بها على تقديره.
•••
ونحسب أن هذا الكتاب سيتأدى إلى قصده ويستوفي غايته، إذا خرج منه القارئ على علم برسالة الشاعر الإسباني قومية وإنسانية، وعلى علم بالمناسبة التي رشحته لجائزة العالمية.