قصائد ومقطوعات
ربة الشعر
جاءتني أول الأمر على استحياء طفلة بريئة تكسوها براءتها، طفلة صغيرة
أحببتها.
ثم راحت تزين نفسها بما يحلو لها من حليها، فكرهتها ولا أدري كيف
كرهتها؟!
ثم بايعوها ملكة، وجللوها بالجواهر من فرعها إلى قدمها، فكانت سخافة مرة من
النقائض لا معنى لها.
وعادت تعرى من دثارها فابتسمت لها، ولم تزل حتى تجردت من أوقارها، وثابت إلى
التفضل على سجيتها، فعدت كذلك مؤمنًا ببراءتها.
وخلعت لبسة المتفضل أخيرًا، ولم يبقَ لها حجاب غير براءتها العارية.
آه يا ربة الشعر المجرد: بغيتي من حياتي … أنت لي الآن مدى الحياة.
اللب
أيها اللب العليم.
هب لي من الأشياء أسماءها في صميمها.
هب لي الاسم الذي هو الشيء تخلقه نفسي لأول مرة، ويصل إليه — من قبلي — من
جهلوه، فلم يصلوا إليه.
واجعل من نسى الأشياء فلاذت منه بالخفاء، ومن قبلي يهتدي فيلقاها.
حتى الذين يعشقونها من قبلي يبحثون عنها ويعرفونها.
اسمها الصحيح — أيها اللب العليم — تمنحني إياه، وتمنحني اسمي واسمك واسمه،
وسائر الأسماء لجميع الأشياء.
وددت
وددت لو أن أشعاري جميعًا، تلوح كما تلوح السماء ليلًا، حقيقة لساعتها بغير
تاريخ.
وددت لو أنها — كالسماء — تعطي في كل لحظة كل شيء، بكل ما عندها من نجوم، لا
طفولة ولا فتوة ولا هرم، ولا لمحة من كل هذا تختلس منها شيئًا، أو تلقي بظل من
الظلال على جمالها العميق في غوره السحيق.
روعة … لمعة … نغمة … تستقبل عيني وتطبق من فوقي!
والروعة، واللمعة، والنغمة، معًا ماثلة بين عيني.
السماء كلها في جناني، السماء كلها في خلدي.
كتاب مفتوح.
غَنِّ
صوتي. غَنِّ. غَنِّ. إنك إن تركت شيئًا لم تقُله، لم تقل شيئًا.
أنا
أنا لست أنا.
أنا هو.
هو الذي يمشي إلى جانبي ولست أراه.
هو الذي أوشك أن أراه بعض حين.
هو الذي أوشك بعض حين أن أنساه.
هو الذي أتكلم وهو صامت صافٍ.
هو الذي يغفر وأنا ناقم، وهو الذي يسعى حيث لا أكون.
هو الذي سيبقى وقد أدركني الفناء.
السرعة
إن أسرعت مهرولًا عدا الزمن أمامك وسبقك، كأنه فراشة تطير أمامك.
وإن تأنيت متمهلًا، مشى الزمن وراءك كأنه الثور الذلول.
لا أحد!
لا أحد.
لكنه الماء. أترى الماء لا أحد؟ كيف يكون الماء لا أحد؟!
لا أحد. إنها زهرة. أليست الزهرة أحدًا؟!
لا أحد. بل هناك الريح، فالريح ما بالها؟ أليست أحدًا؟!
ليس إلا الوهم هناك.
ليس إلا الوهم. أليس الوهم بأحد؟!
بحق السماء
صمتًا بحق السماء
إنك لن تعرف كيف تقولها.
دع أزاهيري مفتحة
ودع معها الأحلام
•••
يسير على القلب أن يستمع لحروف حنانك، وأن يستمع لديه إلى الماء يترقرق بين
لمعات السلسبيل، وإلى ذلك الضباب يسري معه حالمًا، والقمر المورَّد، والصدى من
أعماق تلك الطاحون.
بحق السماء لا تطفئ ذلك اللهب المتوقد بين جوانحي، وصمتًا بحق السماء؛ فإنك
لن تعرف كيف تقوله حين تقول.
أغنية الشتاء
غناء. غناء. أين هو الطير الذي يسمع منه الغناء؟!
إنها تمطر، ولا ورق على الأعواد، ويسمع غناء، ولا يرى السرب الذي يرسل
الغناء.
ليس في القفص طير، ولا أطفال تبيع الطير، وغناء يسمع ولا طير. والوادي بعيد،
جد بعيد، فأين، أين ذلك الغناء؟!
لست أدري أين هاتيك الطيور التي تغني، تغني، تغني، أين؟ أين ذاك
الغناء؟!
رماد ورد
دعوتك باسمك، وأجابني منك صدى وئيد كلما دعوت.
ولكن أين أنت — تلك المرأة — التي هي الآن ملك يدي؟!
أين أنت. فإنني لا أراك؟!
يا بستانًا من الذكريات لا تذوي.
يا قبلة من أحلام مضت، ومن أحلام ستمضي.
يا نسيمًا يدنو بأطياف الأماني، وهن بعيد.
أترينني الآن أسلك دروب الحياة كالضرير يتحسس طريقه في الضياء؟!
نعم. كل آهة مني أجابتها آهة منك، وأنت هنا. أجل هنا. تسكرينني، وأحسك معي.
ولكن أين أنت؟! تلك المرأة التي هي ملك يدي.
أين أنت فإنني لا أراك؟!
الطرف الآخر
من الذي يعلم ما في الطرف الآخر من كل ساعة؟!
كم من مرة توارى الفجر وراء الجبل!
كم من مرة توهَّج الأفق بأرجوانه الملكي، وبين أحشائه الذهبية تكمن
الصاعقة!
كم من مرة كانت الوردة سمًّا، وكان السيف واهب حياة!
وكم حسبت أن المرج يزدهر في أعقاب الطريق، فإذا بالمرج بركة حمئة!
وكم حلمت بمجد إنسان، وفتحت عيني على حفرة الهية!
افتحوا الأبواب
افتحوا الأبواب.
دعوها الليلة مفتوحة لذلك الذي فارقنا مع الموت، لعله ينوي الليلة أن
يعود.
افتحوا كل سبيل.
لعله يعود ليرى مثال جسده في أجسادنا، ليرى قبسًا من روحه بقية باقية في
أرواحنا، ليرى الأبد العظيم يرتفع بنا حين يهبط علينا، ليرى قليلًا منا يتسرب
وراء نفوسنا يوم نُسلِّم الروح.
افتحوا الدار كلها كأنها احتوته حاضرًا في زرقة الليل.
معنا كأنه قطرات من دمنا، ومع النجوم كأنها زهر يحوم.
حياتي وحريتي
هذه حياتي.
تلك التي في أَوْجِ العلا.
تلك التي تهفو مع النسيم.
تلك التي تصحب الطائر إلى أقصى المطار.
تلك التي تستوي على قمة الظلام.
هذه حريتي.
•••
أشم الوردة، وأشق الماء بيدي العابثة، وأقطف المرج حتى يَعْرَى، وأقبس الشمس
أبدية الشعاع.
مرة أخرى
سأولد مرة أخرى حجرًا.
وسأحبك أيتها الأنثى.
•••
وسأولد مرة أخرى إعصارًا.
وسأحبك كذاك، أيتها الأنثى.
•••
وسأولد مرة أخرى موجة طافية.
وسأحبك، سأحبك نعم أيتها الأنثى.
•••
وسأولد مرة أخرى نارًا.
وكذاك أحبك أيتها الأنثى.
•••
وسأولد مرة أخرى رجلًا.
وأحبك مرة أخرى أيتها الأنثى.
الربيع الأصفر
أقبل أبريل مترع الكئوس بكل ريحانة صفراء.
وجري الجدول أصفر، وسفح الهضبة أصفر، وحاشية البستان صفراء.
والمقبرة التي تضم صغار البنين.
الحديقة التي أَلِفَ الحب مأواها.
تتنزل عليها أشعة الشمس صفراء، تقطر أهدابها، صفراء صفراء.
واها للزنابق من نضار!
وَاها للماء الدفيء من تبرموار!
للفراشة الصفراء خافقة، تحوم.
على الورود الصفراء!
ضفائر من أصفر تلتفُّ بالأغصان، ونهار معطر بالذهب، نعمة مفاضة في يقظة
الحياة، بين رفات الذاهبين.
ويد الله تتفتح مملوءة بالثروة الصفراء.
جنة العريف
من آثار العرب في غرناطة
لا أحد، كلها مفتحة خالية.
لكن، لا شيء مفقود!
وما هن بنساء، وما هم بأطفال، وما هم برجال.
إنهم دموع.
ومن ذا ينهض بوقر تلك الدموع، فائضات، مرتجفات، يغرقن أنفسهن في غمار
الماء؟
•••
وكان الماء يتكلم، وكان الماء ينوح.
تحت المرمر. تحت الرخام.
ينوح. يترنم.
بين الأسى المزدهر، والسلسبيل المعتكر، ينوح ويترنم.
•••
جنون بالبكاء. جنون بالغناء.
أرواح ودموع، بين جدران أربعة، ماء يتعذب، كأنه لهيب.
أرواح تتكلم، تتبرم.
ودموع منسية تتحطم.
والماء يترنح وينوح.
أرواح سجينة، تغدو وتروح.
•••
هنالك يخنقونها.
هنالك يحملونها، يجرونها.
عارية يبصرونها.
بَدَارِ. بَدَارِ. إنهم يهربون بها.
روحها تمنت لو تفيض.
لو تصبح غرفة من الماء.
تجري هنا وهناك، فيضًا من كلمات.
فيضًا من عبرات.
بين رشاش الماء، روحًا مع الأرواح.
•••
على السلم.
كلا. بل يهبطون الدرج.
يا لها من خليط، من أرواح، من أمواهٍ، من دموع.
يا لها من آكام شاحبة، من فرار واكفهرار.
ومن ذا يدري؟ أين القرار؟
•••
أين ترف القبلة، أيتها الروح.
كيف ننظر فلا نرى أرواحًا، ولا نرى دموعًا، في حنايا الماء؟!
لا انفصال، ولا افتراق.
دعهم يفروا. دعهم يذهبوا.
أتراهم ذهبوا يتنسمون الأنوار؟! يُطِلُّونَ وراء الأسوار؟! يختبئون في أغصان
البان، يتحدثون إلى النبع الفوار؟!
سكوت. سكوت. إنهم الآن لا يتوهون.
اسمع. اسمع. إنهم الآن لا يتكلمون.
إن الماء ينام ويحلم. إنهم يمسحون عنه الدموع. إن الأرواح المأسورة لم تكن
بالدموع. إنها أجنحة تطير.
طفلة حلوة في شبابها.
فتاة بوردتها الموردة.
وليد يحملق في الدنيا.
خطيب وخطيبة.
هذا الذي كان الغناء والمراح.
هذا الذي كان الأنين والنواح.
في وهجات الشمس الغاربة على ذؤابات الشجر، بين أعطاف الريح.
أعلى ما يكون الصياح.
من روح جريح.
فاترة، هاجعة، كسيرة.
•••
أمواه بيضاء علوية، أشتات وأوصال تتمطى على ذراعيها.
تهمس لأشجانها وأحلامها.
أحلام هربت من عذابها.
وسكون، وتسليم، واستسلام.
يمينها تصافح روحها.
والنجم في أوانه حضرة أبدية، تضلها عن هواها، تضلها عن هداها.
•••
وتعود الآن كَرَّة أخرى.
تعود إلى قبلة عذابها.
تواري جبينها في كفيها.
لا تريد أحدًا. لا تريد شيئًا.
تريد أن تغني.
تهرب إلى غير مأوى.
وعلى غير هدى.
•••
الأمواه تتكلم. تتألم.
الأرواح تنوح. تترنم.
يا له من عناء، هباء!
يا له من عناء، ولا عزاء!
هيام، وتجوال وتحوام، ولقاء في الركن القصي، ولا مقام.
وترديد بين الشفاه، كترديد النيام وبث على الأقدام.
رأس يصدمه الجدار.
ولا قرار، ولا سلام.
•••
روح تذوب في سلسال.
وينطرح جسد، وتنزف أوصال.
ويفارق الجسم دموعه وآهاته.
يبقيها وراءه للجدول الرقراق، والماء الزلال.
تتألم. تتكلم. تترنم.
مع الأرواح. مع الأشباح. تتلوَّى في تيه العذاب، تحت الشفق اللماح.
والأسى عند نوافيره يجنح إلى سواد، والليل مطبق الجناح، في ساعة
الرَّوَاح.
أمنية
ووددت لو سالت حياتي إلى مَنِيَّتِها، كهذا الجدول من الماء الزلال في صباحه
المشرق، ثرارًا، لامعًا، حساسًا، طروبًا، كأنما هو ذوب الدنيا بما وسعت،
يَخْفُتْ بعيدًا ويذهب وهو يترقرق على نغم رائق بهيج.
على ضريح ملاح
إلى قبة السماء ينظر الناظر ليرى مثواك.
إن مُنْيَتَك من صَيِّب كوكب.
إن الحجر لا يحجبك، ولكنه عالم من الأحلام يحيط برفاتك.
في المجهول تعيش، في كل موجود.
في السماء، في البحر، في الثرى، في أحضان الحمام.
البحر
الثرى يذهب بنا إلى الثرى.
ولكنك أيها البحر تذهب بنا إلى الآفاق.
معالم الطريق فيك رواسخ من فضة ومن ذهب عند لألاء تلك النجوم.
طريق البر سبيل الجسد.
طريق البحر للروح سبيل.
نعم هكذا نخال، فما للبحر غير الروح من عابر، بنجوة من التراب.
خضراء
خضراء.
خضراء كانت العذراء.
عيناها. غدائرها. خضراء! خضراء.
والوردة البرية في أجمتها.
لا هي بالحمراء ولا هي بيضاء.
إنها. إنها خضراء.
وبين نسمات الهواء الأخضر أقبلت إليَّ.
كل شيء على الغبراء، يَخْضَرُّ لها في الطريق.
إزارها اللامع ما هو بذي زرقة، وما هو بذي بياض. إنه ذو اخضرار.
البحر الذي أقبلت عليه أخضر.
والسماء — حتى السماء — من أجلها خضراء.
وهذه الحياة حياتي، لا يزال لها بابها الأخضر تنساب منه كلما أقبلت
عليه.
تَعَالَيْ!
إن عِلِّيِّين اليوم زرقاء، والطبول تبشر بعيد الربيع.
لتحيا الورود. لتحيَا ورود الحب.
ولتدخل خضرة المروج مع الشعاع الوضيء.
تَعَالَيْ إلى المرج. لريحانة الإكليل.
تَعَالَيْ. تَعَالَيْ.
للريحانة، وللحب.
•••
سألتها: هل تدعينني أحبك؟
وقالت وهي تتوهج: إذا طلع نجم الربيع أحببتك بكل قواي.
تَعَالَيْ إلى المرج. لريحانة الإكليل.
تَعَالَيْ. تَعَالَيْ للريحانة، وللحب.