الجوائز والأمم
كتب الأسقف جوتفريد بلنج تقريرًا إلى رئيس لجنة المحكمين قبل منح الجائزة للسنة الثانية، قال فيه: «إن الجائزة ينبغي حقًّا ألا تَتخِذ صبغة العمل السياسي، ولكنه من الحق الذي لا نزاع فيه أيضًا، ولا سبيل إلى اتقائه أنها قد نظر إليها فعلًا، وسيُنظر إليها كأنها ذات صبغة سياسية، وهذه نتيجة لا محيد عنها في عمل له هذه الصلات الدولية — العالمية — ومهما تحاول اللجنة أن تبتعد عن صبغة العلاقات الدولية، فلا مناص من التعقيبات التي تخوض فيها الصحافة من جميع الجوانب غير مستثنًى منها الجوانب القومية.»
وقد أصاب الأسقف الحكيم، ووقع ما توقع منذ السنوات الأولى لتوزيع الجائزة إلى هذه السنوات الأخيرة بعد زهاء ستين سنة من بداءة عملها، فنحن اليوم نراجع أسماء الفائزين بالجوائز في أكثر المراجع التي تُعْنِى بتدوين أخبارها وأخبار أمثالها، فنعلم من النظرة العابرة كم نالها من أدباء هذه الأمة أو تلك بين الأمم الأوروبية والأمريكية، ونعلم من بعض الموسوعات القومية نسبة الفائزين من بعض الأقوام إلى جملة الفائزين منهم جميعًا دون أن نقصد من ذلك تلميحًا إلى شبهة المحاباة أو الإجحاف.
ولا يفوت القارئ أن يلحظ أن الأمم الإسكندنافية فاز منها عشرة أدباء، ولم تَفُزْ بمثل هذه النسبة أمة من الأمم، سواء نظرنا إلى اللغة أو تعداد الأدباء والسكان، ولا يفوت القارئ أن يلحظ أن ملة من الملل بلغت نسبتها أربعة أضعاف المعدل المفروض لها عند المقابلة بينها وبين غيرها، وقد يُحسِن القارئ ظنه بنية اللجنة، فيعزو ذلك إلى المصادفة أو إلى حكم الظروف العارضة، ولكن المسألة الباقية على اختلاف الظنون أن الجوائز العالمية كلها — من حيث المبدأ — موضع نظر كثير ومناقشة طويلة، يمتد البحث فيها من إنكار كل فائدة للجوائز العالمية إلى القول بقلة فائدتها وإمكان الاستغناء عنها، إلى الجزم بضررها وسوء عقباها في الأعمال الفنية وفي العلاقات الدولية أو الإنسانية.
وسبيل الوصول إلى الرأي الراجح في هذه المناقشات أن نسأل عن الفائدة التي يعنيها طلابها، ويحق لهم أن ينتظروها منها ومن كل عمل يماثلها؟ فما هي هذه الفائدة؟ وكيف يستطاع تحقيقها إن لم تحققها الجوائز العالمية؟!
هل هي الإنصاف الذي تتفق عليه الآراء وتصطلح عليه جميع الموازين؟
إن كان هناك خطأ فهو خطأ الناقد الذي ينتظر هذا الإنصاف من عمل حكم في الأدب والفن يتولاه فرد واحد أو يتولاه جملة أفراد.
فليس هذا الإنصاف في استطاعة أحد، ولا هو من الأحكام التي يريدها من يشاء باختياره على أحسن ما تكون النية، وأحسن ما يكون وزن المحاسن والعيوب، ويجوز أن يوكل كل هذا الإنصاف إلى التاريخ يصححه ويعيد تصحيحه حتى ينتهي به إلى قراره الأخير، ولكنه بعد انتهائه إلى هذا القرار يعرض له اختلاف الفهم واختلاف أسباب الثناء والانتقاد.
وإذا كنا نخطئ في انتظار الإنصاف المطلق من لجان التحكيم، فما هي الفائدة التي يجوز لنا أن ننتظرها غير مخطئين؟! هل يجوز لنا أن ننتظر منها خلق الأعلام الموهوبين الذين يستحقون الإجازة ويبلغون فيها مبلغ التقدير؟
من البديهي أن الذين استحقوا الجوائز إنما استحقوها بعد أن بلغوا نهاية الطريق، ومنهم من خطا وتقدَّم في خطوه مرحلة بعيدة إلى الشهرة العالمية قبل أن توجد الجائزة بأعوام، وإنما كانت الجائزة بالنسبة إليهم علامة انتهاء، ولم تكن قَطُّ علامة ابتداء أو حض على الابتداء، فإذا أفادت هذه الجائزة في خلق عبقرية أدبية فإنما تخلقها لأنها تستحثها على القدرة، وتدفعها إلى النبوغ بدافع الأمل في مثل ذلك الجزاء. وقد تكون هذه الفائدة من الفوائد المرجوة التي لا تبلغ مبلغ الاستحالة في المعهود من شئون الناس بين طلاب الأدب وطلاب النبوغ ونباهة الشأن في شتى المساعي والأغراض. ولكننا نخطئ كذلك إذا انتظرنا منها أن تعطي الأمل وتعطي القدرة على تحقيقه في وقت واحد، بل نخطئ إذا انتظرنا منها أن تعطي الأمل على ثقة وبغير قيد ولا شرط كما يقال؛ فإن الجائزة نفسها مشروطة بشروطها التي لا يرضاها كل أديب ولو قدر عليها، فغاية ما يستفيده الأديب إذا أحس القدرة على إتقان فنه أن يبتدئ على شيء من الأمل لا يلقي عليه كل تعويله، ولا يستمد منه كل كفايته وصفوة ملكاته، وإنه لمبتدئ في طريقه — لا محالة — بما في سليقته من البواعث التي لا تنتظر تحقيق الآمال.
هذه فائدة تذكر للجوائز على عمومها، ولكنها إذا انحصرت فيها جدوى الجوائز لم تكَد تكون أهلًا لما يبذل فيها من الجهد وما يدور حولها من الريب والشكوك، وما ينفق فيها من أوقات المحكمين والنقاد والمعلقين.
فجوائز الأدب والفن في الأمم الأوروبية والأمريكية أكثر من أن يحيط بها الإحصاء، توزعها الأكاديميات والجماعات الأدبية أو أصحاب الوصايا والتبرعات، ومنها ما يخصص للشعر، وما يخصص للرواية والمسرح، وما يخصص للمقالات والدراسات، وقد تبلغ مئات الجنيهات بحساب الجنيه قبل هبوط العملة في الزمن الأخير، وكل هذه الجوائز معروفة التاريخ يندر منها ما يرجع إلى ما قبل القرن التاسع عشر الذي عُرِفَتْ فيه أوقات ظهور الكتب ونشأة الكتاب، فدلت المقارنة بين أعمال الفائزين بالجوائز قبل وجودها وبعد وجودها على أن الفرق بينها غير محسوس أو غير ذي بالٍ، ولم يثبت أن أديبًا أفادته الجائزة فائدة لم تكن ميسورة له بغيرها، بل لم يثبت أنها شملت بالموازنة والتشجيع طائفة الأدباء أجمعين؛ إذ كان الأكثرون منهم يُحجِمون عن التقدم إلى المحكمين حذرًا من التفضيل والاعتراف بقضائهم بعد الاحتكام إليهم، ومن اعترف بهذا القضاء عاد فتمرد عليه، وجعل الخيبة بديلًا من النجاح، يعلنه كأنه مفخرة من مفاخر التنويه المعكوس، ولا ينسى القراء فكاهة الحرد والنقمة التي أعلن بها الفيلوسف شوبنهور فخره بها والخيبة بعد تجربتها أيام الشباب؛ فإنه نشر رسالة في الأخلاق وكتب على غلافها (إنها لم تصادف قبولًا من الجامعة) التي سماها، وكانت في الحق شهادة له على المحكمين وعلى الجائزة سقطت بها قيمتها وصرفت عنها المتنافسين عليها.
فلا نزاع في عجز هذه الجوائز عامة عن خلق العبقريات، وليس هناك كبير نزاع في قلة جدواها على العبقري الذي يقنع منها بشحذ الهمة واختصار الطريق.
أما الفائدة التي ثبتت لهذه الجوائز بغير نزاع، فهي فائدة الترويج ولفت الأنظار إلى الأثر الذي تأتيه الشهادة من الهيئات العالمية، وهي ولا ريبَ خليقة أن تشهد لما يستحق الشهادة بحسنة من الحسنات إن لم يكن مستحقًّا لها بأفضل الحسنات، وقد يكون في جملة شهاداتها المتعاقبة دليل على معالم الطريق في تطوُّر الآداب من حقبة إلى حقبة، ومن ميدان إلى ميدان، وقد تبينت هذه الفائدة المحققة — فائدة الترويج ولفت الأنظار — في أعمال المغمورين أو أصحاب الشهرة المحدودة، كما تبينت في أعمال المشهورين أصحاب الصيت الذائع بين جوانب العالم المعمور. ومنهم من ظهرت لمؤلفاته طبعات منسوقة على نسق جديد بعد الإعراض عنها واستنفاد الثناء عليها لكثرة التَّرداد وآفة السآمة مما يتواتر الثناء عليه.
وأحسن ما في هذه الجوائز العالمية — بعدُ — أن اتصالها بالدولة في أية أمة، وعلى أي نوع من أنواع الحكم لا يخولها السيطرة على أقلام الأدباء فيما وراء بلادها، وقد يجعلها أحيانًا تابعة لاتجاه الرأي العام إذا سمح لها أن تقف منه موقف التوجيه البعيد بين آونة وأخرى، ولا خطر منها على أية حال كالخطر الذي يُخشى من جائزة تتحكم فيها سيطرة الحاكم المستبد؛ فإنها في هذه الحالة تضيف قيود الإغراء إلى قيود الطغيان، وتموِّه بطلاء الذهب سلاسلَ الحديد.