الأدب الإسباني في وطنين
عرفت أسبانيا ظاهرتين كبيرتين من ظواهر الأدب في وطنه الأصيل وفي وطن الهجرة، وهو أمر نادر في تواريخ الآداب لعلَّه لم يعرف على هذا النحو في غير البلاد الإسبانية.
إحدى هاتين الظاهرتين نعرفها نحن أبناء اللغة العربية لأنها تشمل آداب هذه اللغة في المغرب، ويحسبها بعض النقاد والمؤرخين شطرًا من شطرين متعادلين يسمى أحدهما أدب المغرب، ويسمى الآخر أدب المشرق، وقد يقصدون بذلك إلى المقابلة بينهما في القيمة والغزارة، ولا يقصرون على تقسيم الموقع والمدة الزمنية.
أما الظاهرة الأخرى فهي هذه الظاهرة الحديثة، التي أصبحت أسبانيا فيها موطن الأدب الأصيل بعد انتقال المهاجرين منها إلى أوطانهم المختارة في أقطار أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية.
والمقابلة بين الظاهرتين تُسفِر عن تشابه قريب بين آثار الهجرة في الأدب العربي المنتقل إلى الأندلس، وآثار الهجرة في الأدب الأندلسي المنتقل إلى البلاد الأمريكية.
فالشعور بالانفصال من أصل عريق يُحدِث في نفوس الجاليات المنتقلة منه أثرين متلازمين يخيل إلينا عند النظرة الأولى أنهما متناقضان أو متعارضان، وإنما هما شيء واحد يستقبله النظر من ناحيتين.
إن أثر الشعور بالانفصال أن تختلف عوامل البيئة حتمًا واضطرارًا، سواء أراد المنفصلون ذلك الاختلاف أم لم يريدوا، ولكنهم كلما اختلفوا زاد بهم الحنين إلى موطنهم الأصيل، والاعتزاز بماضيهم البعيد، وقد يبالغون في ذلك مبالغة المشفق من الضياع بين مصير الأدعياء الذين يقال عنهم إنهم تركوا أصولهم وتركتهم، ومصير اللصقاء الذين ينزلون بين قوم يرفضونهم ولا يرحبون بانتسابهم إليهم.
فالجاليات تنطلق من قيود العادات والتقاليد التي فارقتها، ولا تلبث أن ترى أنها تغيرت باختيارها، وعلى الرغم منها وأنها تستريح إلى هذا التغيُّر أحيانًا وتتبرم به أحيانًا أخرى، ولكنها لا تنسى أصولها، ولا تزال تناظرها من بعيد مناظرة الند للند، والشريك للشريك، وتود لو أنها سبقتها في صيانة النسب، وزادت عليها بالنسب المكتسب، فلا يقال عنها إنها فرع منقطع عن أرومتها، بل يقال عنها إنها جذور الشجرة نبتت في التربة الجديدة، فجادت بالثمرة التي لا تجود بها في تربتها.
•••
والذي حدث بعد انتقال الأدب العربي إلى وطن الهجرة في الأندلس أنه تأثر وأثَّر، وأن أثر الانتقال إلى أحوال المعيشة في الوطن الجديد ملحوظ في شعره ونثره وفي مبناه ومعناه.
فالأسلوب العربي — الأندلسي — أسهل وأبسط وأقرب إلى الترخُّص والسلاسة، كأنه وسط بين اللغة الفصيحة ولغة المعيشة اليومية؛ فإن الناطق بالعربية تعوَّد بين المتكلمين بها من الغرباء عنها أن يقيس لغته إلى لغتهم، فلا يحس بالإسفاف والخطأ بالقياس إليهم، ولا يزال يرى في لهجته الشائعة أنها أفصح وأقوم من لهجاتهم، وأن لهجته الشائعة على إسفافها لا تزال مطلبًا رفيعًا فيما يحاوله الأعاجم من حكايتها وفهمها.
وقد سرت السهولة إلى أنماط البلاغة ومعانيها، فأصبح العربي والأندلسي أقرب إلى التصرُّف وإلى مجاراة أحوال المعيشة في وطن الهجرة، ولعل المسألة هنا مسألة استطاعة، لا مسألة رَوِيَّةٍ ومشيئة؛ فإن المنقطع عن وطنه القديم لا يستطيع أن يحافظ على أحواله وأطوار معيشته، كما يستطيع ذلك أهلوه الذين يصبحون ويمسون بين تلك الأحوال والأطوار، ولا يتكلفون جهدًا ولا حركة في المحافظة عليها.
وقد ظهر أثر البيئة الطبيعية وأثر الحياة الاجتماعية معًا في أعز الفنون على السليقة العربية وهو الشعر؛ فكثر فيه وصف البساتين والرياض وذكر الجداول والأنهار، وتوسع الشعراء في تعديد القوافي الذي بدأ في المشرق بالتسميط والازدواج، ولم يتوسع المشرقيون فيه لقلة الحاجة بينهم إلى الغناء المشترك والإيقاع على حركات الرقص في الحلقات الجامعة التي يشترك فيها المنشدون والمنشدات، فلم يترك الشاعر العربي الأندلسي قافيته التي انفردت بها القصيدة العربية، بل احتال على التوفيق بينها وبين تنويع الأدوار للمنشدين والمنشدات بالإكثار من مواضع القافية وتوزيعها على حسب مواضع الإعادة والترديد.
ووضح الفرق بين المحافظة ومجاراة البيئة والوقت في موضوعات الفكر والعلم، كما وضح في موضوعات الفن والأدب، فلم يعتصم ابن رشد — فيلسوف الأندلس الأكبر — باستقلال المحافظة أمام الحكمة اليونانية، ولم يحاول أن يلحقها على وجه من الوجوه بالحكمة المشرقية، بل كاد يكون في شرحه لفلسفة أرسطو ودفاعه عنها أشدَّ حرصًا على آراء الفيلسوف من الأوروبيين ورثة الثقافة اليونانية، ولعله كان حريًّا أن يعتدل في الدفاع عنها لو أنه أخذها من الغرب وتلقَّاها من مصادرها الأوروبية، ولكنه دافع عنها دفاع من يعلم أنها بضاعته جاء بها إلى الغرب، كما جاء إليه بثقافته العربية، فلم يشعر قبلها بعصبية الغربة والغرابة، التي تنبه في الذهن نزعة المقاومة والاعتراض، بل رأى المقاومة لها والاعتراض عليها من الغرب نفسه قبل أن يراهما من أبناء قومه، فلم يقِف منها موقف زملائه المشرقيين، ولم يقابلها بالمحافظة أو بالنفور.
أما الأصول المقدَّسة في الوطن المهاجر فهي السند الدائم الذي يركن إليه النازحون من ديارهم إلى ديار الهجرة، وهي الذخيرة المضنون بها على التفريط والنسيان؛ لأن التفريط فيها أو نسيانها يسلك المهاجر الغريب مسلك الطريد المنبوذ من منبته، ولا يبلغ به أن يُعَدَّ من الأصلاء المعرقين في بلاد الغربة التي استقر فيها، وقصاراه أن يكون في هذه البلاد دخيلًا غاصبًا يحتمي بالقوة أو ينطوي في غمار مجهول.
وآية الآيات على أن الملاذ الروحي هو وطن الأمة قبل الإقليم الجغرافي والتربة الأرضية أن حرص المهاجر على الأصول يتلخص في تراث الروح والعاطفة، ويشتد غاية اشتداده في هذه الأمور، ولا يبلغ مثل هذه الشدة يومًا في الشئون المحلية وما يمكن أن يسمى بشئون الإقليم والمناخ.
وتلك هي الأصول التي صينت من الضياع في دار الهجرة العربية الأندلسية، فلم يكن وطن من الأوطان الشرقية أشد حرصًا على عقائد الدين وأقوى غيرة على التراث الروحي من العرب الأندلسيين.
ولا يتبين ذلك من عمل الفرد، ولا من تشدُّده أو تسامحه في مسائل التحريم والتحليل، فربما كان الفرد الأندلسي أطوع لهواه وأسلس لغواية المتعة والطرب من أخيه في الموطن الأصيل، وإنما تتبين صيانة الأصول في العُرف الاجتماعي، وفي الآداب العامة التي يتمثَّل بها قوام «الروح الوطنية»، وتتراءى فيها مَلَكَة المحافظة على البقاء.
وأظهر علامات هذه المحافظة أن الأندلس لم تنتشر فيها بدعة من بدع المذاهب المتطرفة أو المنحرفة التي شاعت في بلاد المشرق وفي صميم البلاد العربية، فلم يزِد عدد القائلين بهذه المذاهب على أفراد متفرقين يفهمونها لأنفسهم ولا يشيعونها بين جيرانهم، ولم تتجمع من أتباعها والقائلين بها طوائف كثيرة أو قليلة تحسب في عداد الفرق التي جاوزت السبعين فيما يقال بين أبناء البلاد الشرقية، وإنما تجمعت في المغرب من الأندلس إلى أفريقية الشمالية طوائف الموحدين والمرابطين ومن إليهم من الغلاة المتنطسين الذين استكثروا حرية الغزالي الفكرية، وهو في المشرق حرب على أدعياء الحرية في الدين.
وأصيب فلاسفة المغرب بما لم يصب به غير القليل من زملائهم المشرقيين، وكان للسياسة عملها فيما أصاب هؤلاء وهؤلاء، كما يحدث لكل حركة فكرية على اختلاف الأمم والأديان، ولكن أعداء الفلاسفة بين أمراء المغرب لم تعوزهم الذرائع التي يسوِّغون بها اضطهادهم ومصادرتهم، كما أعوزت الكثيرين من أمراء المشرق في حملاتهم على أصحاب المذاهب والبدع من الفقهاء، أو من المعتزلة والمتصوِّفة والمتكلمين وأبناء الطريق، فما كان في وسع هؤلاء الأمراء المشرقيين أن يخلقوا ذرائعهم لاضطهاد مخالفيهم في كل يوم، ولا في كل مناسبة، وإنما كانت مناسبتهم الغالبة لتسويغ تلك الحملات فرصة من فرص الفتنة السياسية أو فرص التمرُّد والانقلاب، ويصعب عليهم فيما عدا ذلك أن يخلقوا ذرائع الاضطهاد لكثرة المذاهب والفرق، وصعوبة جمعها في زمرة دينية تجيز لولي الأمر أن يعاملها معاملة الخارجين على الدين.
ومما يلاحظ على مذاهب التصوف التي نشأت بالأندلس أنها لم تنشر كتابًا واحدًا من مراجعها الكبيرة في ربوع المغرب، وأن الصوفي الأكبر من أبناء المغرب — محيي الدين بن عربي — هجر المغرب إلى المشرق، وعلم أكثر تلاميذه بين الحواضر الشرقية، ولم ينتشر له في غير هذه الحواضر أتباع أو مفسِّرون.
وأحق من ذلك بالملاحظة في هذا الباب أن مذاهب أهل السنة أنفسهم لم تنتشر بين مسلمي المغرب كانتشارها بين مسلمي المشرق من تخوم الهند إلى تخوم وادي النيل، ولما اختار المغاربة مذهبهم بين مذاهب السنة الأربعة وقع اختيارهم الأول على مذهب أهل المدينة — مدينة الرسول — كما سمي المذهب المالكي عند قيام الإمام مالك بن أنس بتدريسه إلى جوار قبر الرسول، وكان من فضائل هذا المذهب عندهم أنه أقرب المذاهب مأخذًا من السلف، وأكثرهم رواية عن بقية الصحابة في مدينة الرسول. وقد تمذهب به الخليفة عبد الرحمن الثاني على يد يحيى بن يحيى الملقب بحكيم الأندلس، وهو على مثال أستاذه الإمام مالك في المحافظة على سنن السلف والاعتماد على الكتاب والحديث، وقد قيل إن العصبية الأموية كان لها أثرها في الإعراض عن مذاهب الشيعة في المغرب، إلا من كان من المغاربة ثائرًا على الأمويين، فإنه أقبل على الدعوة الفاطمية، وناصَر خلفاءها وخرج باختياره على سلطان الأمويين، ولكنَّ انتشار المذهب المالكي في المغرب لا يُفَسَّرُ بسبب آخر غير حب المحافظة على سنن السلف، وحب التبرُّك بالأثر المنقول عن مدينة الرسول؛ فقد كان الإمام مالك مواليًا لآل علي، ولم يكن له ولاء معروف للدولة العباسية في المشرق، ولا للدولة الأموية في المغرب. وقد تتلمذ له — مع هذا — خليفتان عباسيان وهما: الأمين والمأمون، ودخل في مذهبه خلفاء بني أمية المحاربين للعلويين.
وقد ظهر في المغرب مذهب من مذاهب السنة كان له دعاته السابقون في المشرق، وهو المذهب الظاهري الذي تولَّى إمامته بالمغرب الفقيه الحكيم ابن حزم صاحب الدراسات الواسعة في المِلَل والنِّحَل، ومذاهب السنة والشيعة، وسائر المذاهب الإسلامية وغير الإسلامية، ولكنه لما اختار له مذهبًا يُعَلِّمُهُ ويدافع عنه لم يرتضِ له سندًا يقيم عليه مذهبه غير الأخذ بظاهر النصوص من آيات القرآن وأحاديث النبي عليه السلام، ولم يشأ أن «يتفلسف» في أمور الدين، وهو أَعْرَفُ أبناء عصره بأقوال الفلاسفة والفقهاء.
•••
ويلي العقائد والشعائر في حرماتها المقدسة عند النازلين بديار الهجرة حرمةُ اللغة وحرمة الأدب، الذي يحسب الفخر به فخرًا بلغة الضاد والناطقين بالضاد، بين من لا ينطقون بها من أبناء اللغات.
وتكاد نزعات المحافظة جميعًا تبدو للناظر في كتب الأندلس من صفحاتها الأولى؛ إذ لا تخلو هذه الصفحات من اسم المؤلف منسوبًا إلى قبيلته وإلى بلده وإلى مذهبه، يتلوه التقديم الذي يوشك أن يكون وثيقة نسب وتعريفًا بمصادر الأدب الذي تلقَّاه، وأسانيد الرواية التي عَوَّلَ عليها.
وليس في موسوعات الأدب المغربي من مرجع متداوَل في البلاد العربية اليوم أهم وأنفس من هذه الكتب الثلاثة: العِقد الفريد لابن عبد ربه، والذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام، ونفح الطيب للمَقَّرِي، وكلها مُثُل في المحافظة على صلة المغرب بالمشرق، أو مُثُل في المناظرة التي لا تخفي دلائل الفخر بالمحاكاة والمقابلة، ولسان حالها المفهوم من ثنايا السطور: إننا لمشرقيون هنا مثلكم أيها المشرقيون.
فكتاب ابن عبد ربه يروي تواريخ العربية وآدابها من عصر الجاهلية إلى العصر الذي عاش فيه، ويقتبس المؤلف أكثر ما رواه من أستاذيه: ابن مخلد، وابن عبد السلام القرطبيين، وكلاهما رحل إلى المشرق ولم يقنع بما وصل إليه من أدبه في مكتبات قرطبة، وهو كثير.
وقد وصلت نسخة من الكتاب إلى الصاحب بن عباد، فتصفحَّها ليطَّلِع منها على أخبار المغرب، فطواها وهو يقول: «هذه بضاعتنا ردت إلينا.» لأنه وجد بين يديه كتابًا قَلَّمَا يذكر المغرب، إن ذَكَرَهُ، إلا كمن يذكره على السماع.
وكتاب «الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة» عرض لنوابغ الأدب من أبناء المغرب الذين يُذْكَرُونَ مع أندادهم ونظرائهم من المشرقيين، ولسان حاله — كما أسلفنا — أن للجزيرة الأندلسية نصيبًا من فخر العربية جديرًا بما سبق من فخر الجزيرتين: جزيرة العرب وجزيرة ما بين النهرين.
وكتاب «نفح الطيب» رحلة إلى البلاد الشرقية، تروي أخبار المغاربة الذين رحلوا مثل هذه الرحلة إلى مكة، أو القاهرة، أو دمشق، أو بغداد، أو حواضر الأدب العربي، حيث كانت من رقعة البلاد الإسلامية، ويكاد الأديب لا يذكر في هذه الموسوعة الكبيرة إلا لما ينتسب به إلى حاضرة من تلك الحواضر، وما قام به من حَجة دينية، وحَجة «أدبية لغوية» قلما تفترقان.
وكان من ديدن النقاد في المغرب أن يشبهوا كل شاعر من فحول شعرائهم بنظير له بين شعراء المشرق، فكان عندهم متنبي الأندلس، وبحتري الأندلس، ونواسي الأندلس. وكانوا يفخرون بالشاعر إذا بلغ من شهرته أن تُروَى له أبيات فيما وراء البحر من بلاد الناطقين بالضاد، كأنه قد أبرأ الذمة، وأقام حجة النجابة للبنين في موطن السلف الغابرين.
وإننا لندرك الشيء الكثير من بواعث الحركات الأدبية في الأمم ذات الوطنين، إذا رجعنا بها إلى مناط الفخر بالأصول عند المقيمين والمهاجرين بين عرب الشرق وعرب الأندلس والمغرب على العموم.
فليس مناط الفخر هنا بالمكان ولا بالسكان ولا بشيء ممَّا يقع عليه العِيان؛ فإن الفخر بمكان من الأمكنة لذاته أبعد ما يكون عن أمة نشأت على الرحلة بادية وحاضرة، في طلب المرعى أو في طلب الكسب والتجارة، وأمرها كتابها أن تسيح في الأرض، وعلمتها تجارب الفتوح والنقلة أن سعة المضطرب في ملك الله امتداد للوطن، وليست عقوقًا له ولا خروجًا منه إلى سواه.
والفخر بالسكان المقيمين في بلادهم أبعد شيء عن خواطر إخوانهم المهاجرين الذين ينتسبون مثلهم إلى أعراقهم وأصولهم، ويستمدُّون شرف النسبة كما يستمدها كل منتسب إلى تلك الأصول والأعراق.
فليس العربي الأندلسي مُفَاخِرًا بمكان تركه في المشرق، ولا بسكان تركهم فيه يعيشون معه في زمانه وينتمون إلى الشرف الذي ينتمي إليه، ولكنما الفخر عندهم جميعًا «بوطن روحي» واحد ينتمي إليه بنوه بالضمير والفكر وبما يشرف الإنسان من وجدان ولسان، فإذا هم أعطوه حقه من القداسة والصيانة فلا جُناح عليهم بعد ذلك أن يتنافسوا ويتناظروا، بل لا جُناح عليهم أن يتنازعوا ويتنافروا، ويذهب كل منهم مع حاضر زمنه ومآلف سكنه، حيث طاب له الذهاب في أبعد مطاف وأوسع رحاب.
وكذلك صنع الأندلسيون في دواعي الجِدِّ واللهو من مطالب المعيشة اليومية، فتصرفوا بفنون النظم والغناء، وطوَّعوا الموشحة الفصيحة والزجل العامي على هوى المجلس والسامر الذي ألفوه في رحاب الوطن الجديد، واستطاعوا أن يبدعوا لتلك السوامر الراقصة وفاقها من المعاني الشعرية والأوزان المستحدثة، وتمموا المقابلة بينهم وبين أبناء الجزيرة في المشرق إلى أبعد غاياتها المعروفة عند ازدواج الفنون العربية والفنون الفارسية حول الحِيرة وبلاد النهرين؛ فقد أخذ العرب من الفرس معازفهم وآلات موسيقاهم، ولكنهم لم يأخذوا منهم شِعرهم ولا عروضهم، بل أعطَوْهم على نقيض ذلك أوزانًا عربية، وبحورًا من العروض العربي ينظمون فيها أشعارهم الفارسية ويقيسون عليها أغانيهم التي تُوَقَّعُ على المعازف وأناشيدهم التي تنظم للتلاوة والإلقاء.
ومثل هذا قد حدث في الأندلس كلها وما جاورها بعد امتزاج الشعر العربي بفنون الرقص والموسيقى الإسبانية؛ فإن الأمة الوافدة أخذت من الأمة المقيمة مجالسها ومعازفها وعادات إنشادها ورقصها في الجماعة المشتركة من الجنسين، ولكنها أعطتها الأوزان والأعاريض، ويسَّرت لمن ينظم فيها بلغات الغرب ما لم يكن يسيرًا أن ينظم في الكلام الموزون قبل ذاك.
وجاء الفتح العربي في إِبَّانِ الدور الذي بدأ فيه تطوُّر اللغة الإسبانية، ووُجِدَتْ فيه الثقافة التي يمكن أن تودع اللغة المكتوبة، وتنقل إليها المؤلفات التي كانت مقصورة على اللاتينية، وكلها من كتب الدين وما إليها، وقد تم هذا التطور كله بعد شيوع الثقافة العربية وسريان البحث فيها والاطِّلاع عليها بين طبقة المتعلِّمين وصفوة العلية من المرشحين لمناصب الحكم والرياسة. وليس أدل على مدى هذا الشيوع من أقوال الراضين عنه والمتبرِّمين به على السواء، ويكفي في مقامنا هذا أن ننقل منه رسالة الكاتب الإسباني الفارو التي أوردها (دوزي) في كتابه عن الإسلام الأندلسي حيث يقول: «إن أرباب الفطنة والذوق سحرهم رنين الأدب العربي، فاحتقروا اللاتينية وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها، وساء ذلك معاصرًا كان على نصيب من النخوة الوطنية أوفى من نصيب معاصريه، فأسف لذلك مُرَّ الأسف، وكتب يقول: إن إخواني المسيحيين يعجبون بشعر العرب وأقاصيصهم، ويدرسون التصانيف التي كتبها الفلاسفة والفقهاء المسلمون، ولا يفعلون ذلك لإدحاضها والرَّدِّ عليها بل لاقتباس الأسلوب العربي الفصيح، فأين اليوم من غير رجال الدين من يقرأ التفاسير الدينية للتوراة والإنجيل؟ وأين اليوم من يقرأ الأناجيل وصحف الرسل والأنبياء؟ وا أسفاه! إن الجيل الناشئ من المسيحيين الأذكياء لا يُحسِنُونَ أدبًا أو لغة غير الأدب العربي واللغة العربية، وأنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكبيرة بأغلى الأثمان، ويترنَّمون في كل مكان بالثناء على الذخائر العربية، في حين يسمعون بالكتب المسيحية، فيأنَفون من الإصغاء إليها محتجِّين بأنها شيء لا يستحق منهم مُؤْنَةَ الالتفات، فيا للأسى! إن المسيحيين قد نَسُوا لغتهم، فلن تجد فيهم اليوم واحدًا في كل ألف يكتب بها خطابًا إلى صديق. أما لغة العرب فما أكثر الذين يُحسِنون التعبير بها على أحسن أسلوب! وقد ينظمون بها شعرًا يفوق شعر العرب أنفسهم في الأناقة وصحة الأداء.»
ولقد كان شيوع التعليم بالعربية على هذا المدى الواسع سببًا لإهمال اللاتينية والإغريقية، وخطوة لا بُدَّ منها لإحياء اللغات الشعبية وتداوُل الشعر والبلاغة والعلم من طريق غير طريق رجال الدين، ومن هذا الطريق سَرَتْ إلى لغة القوم أنماط النظم والتعبير، التي قال صاحب تلك الرسالة: إن متعلمي العربية كانوا يحتفلون بتجويدها احتفالًا يفوقون به العرب أنفسهم في الأناقة وصحة الأداء.
ولا شك أن الثقافة الطارئة على البلاد كان لها أثرها الذي سرى إلى الأفكار والأذواق من طريق التأثير في مرافق المجتمع، وتبديل نظمه ومعاملاته، وتوزيع الأرزاق والمزايا الاجتماعية بين طوائفه وأفراده، وهو تأثير متشعِّب بعيد الغَوْرِ صَاحَبَ تكوين الأمة الإسبانية في نشأتها الجديدة، فشوهدت له نتائجه في كل تغيير تتميز به الأمة الناشئة من أسلافها الأقدمين منذ خضوعهم للدولة الرومانية، وبعض هذا التغيير يتَّصِل بالعقائد التي تركها الفاتحون لأهلها، وتركوها لوكلاء الكنيسة القائمين عليها.
إن أسقف إشبيلية رأى من الضروري في الوقت نفسه أن يترجم الكتاب المقدس إلى العربية، ويضبط شروحه وتعليقاته بهذه اللغة، ولم يفعل ذلك للتبشير به بل لفائدة أتباعه، واشتغل كثير من المسيحيين بأعمال الدولة، ومنهم قساوسة كان أمراء بني أمية يرسلونهم للسفارات السياسية الهامة، وأطلق اسم المستعرِبين في هذه الفترة على المتكلمين بالعربية من المسيحيين، وقد عرف الداخلون منهم في الإسلام باسم المرتدِّين، وأطلق عليهم العرب اسم المولَّدين.
وقد كان عهد عبد الرحمن الثاني (٨٢٢–٨٥٢م) عهد سلم طويل بالقياس إلى غيره، وقد أعاد تنظيم الإدارة الحكومية في مملكة قرطبة على أسس الإدارة العباسية بأساليبها المكتبية وأنماطها في ترتيب الحاشية الملكية، وكان مشهورًا برعايته للآداب، جلب إلى البلاد كثيرًا من المصنَّفات، وكثيرًا من المصنفين والمؤلفين المشرقيين، معزِّزًا بذلك صلة إسبانيا الإسبانية بثقافة الإسلام في المشرق. وكان من أشهر هؤلاء زرياب الموسيقي الفارسي الذي أقصاه عن بلاط هارون الرشيد ببغداد غيرةُ أستاذه منه، فوجد له ملاذًا حسنًا في بلاط قرطبة، وأصبح ثَمَّةَ الحكم المسموع في شئون الذوق والزي، فأدخل إلى العاصمة الإسبانية طرائف كانت مجهولة فيها من أساليب الحضارة الشرقية تختلف بين ألحان الموسيقى والافتنان في طعام الهليون.
وكان عهده عهد استقرار سياسي وأمن داخلي بينه وبين الأمراء الإقطاعيين وقبائل البربر الجبلية الذين أطاعوه وخضعوا لأمره، وضعف سلطان المشرق فنشأت في مكانه حضارة عربية إسبانية، اصطبغت فيها تقاليد الماضي بالصبغة المحلية، مع استمرار العلاقات التجارية وافتتاح العلاقات السياسية بين إسبانيا ودولة بيزنطة ممَّا يدل على مكانة الدولة الأموية …
وصحيح أن الأثر الباقي للعرب في البلاد الإسبانية أقلُّ كثيرًا من أثرهم في البلاد الفارسية، حيث بقيت معالم الحياة الفكرية والروحية عربية إلى عصرنا هذا، ولا تزال هذه المعالم لاتينية بين الإسبان. إلا أننا نرى — حتى من الكلمات التي تخلَّفت عن أدوات المعيشة — مبلغ دين البلاد للعرب في شئون الاقتصاد والاجتماع وشئون السياسة في بعض الأحوال، وإن تراث العرب في شئون الثقافة أيضًا لجدير أن يعرف له أثره الجليل على إسبانيا وعلى سائر أنحاء أوروبة الغربية؛ فقد كان المسيحيون يَفِدُونَ إلى إسبانيا من كل صوب ليتلقوا علومهم من الأساتذة العرب أو الإسرائيليين، وينقلوا تلك العلوم إلى اللغة اللاتينية. وقد عرف التراث الإغريقي لأول مرة من طريق لغة العرب واطَّلع عليه الغربيون بتلك اللغة، وكانت طليطلة التي أعيد فتحها (سنة ١٠٨٥م) أكبر مركز للمعرفة انتقلت منه ثقافة العرب إلى العالم المسيحي، وبقي فيها كثير من علماء المسلمين، ولحِق بهم اللاجئون اليهود من الجنوب الإسلامي الذي كان قد غلب عليه يومئذٍ ملوك الموحدين المتشددين … وفي خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر على عهد الملك ألفونس الحكيم والملك ليون (١٢٥٢–١٢٦٤م) دأبت مدارس الترجمة بطليطلة على نقل مؤلفات كثيرة تشتمل على كتاب القانون لأرسطو، وبعض كتب إقليدس، وبطليموس، وجالينوس، وبقراط مضافًا إليها ثروة من شروح العرب وتعليقاتهم …
ومهما يكن من عناية الباحث بالناحية الأدبية، أو ناحية الشعر من فنون الأدب كله، فالحقيقة التي لا تُجهل أن الشاعر يقتبس من وحي زمانه، وأن المجتمع الإسباني قد تمخّضض عن عُرْفٍ جديد بعد عصر الحضارة العربية غير ذلك العُرْفِ الذي توارثه القومُ بضعة قرون متلاحقة لم تعقب بعدها أثرًا باقيًا من فنون المنظوم أو المنثور التي تحسب في عداد الآداب القومية.
ولا يفوت المؤرخَ أن يذكر بين خصائص الأدب الذي ينسب إلى وطنين متباعدين خاصة مألوفة في كل ظاهرة من قبيلة تشوبها أهواء العصبية، ولا تخلص من الهوى في حالتي الإثبات والإنكار، ولكن هذا الهوى الخفي قد يكشف عن نفسه، فلا يكلف الناقد شيئًا من العناء للشك فيه حين يتمادى إلى اللغو والهراء، فيزعم أن أدبًا من الآداب ينفصل عن فعل الزمن بعد عدة قرون، فلا يبقى فيه ما ينسب إلى تلك القرون في صيغته ولا في موضوعاته ولا في معانيه، ومن هذا القبيل إنكار بعض الغلاة لكل فائدة خرج بها أدب الإسبان من مئات السنين في ظل الحضارة العربية، ولم يكن لها مثيل ولا أصل معروف قبل ورود تلك الحضارة على البلاد.
إن أول هذه القضايا أصعبها وأوفرها حظًّا من الخلاف والمناقضة؛ فهناك نموذج جديد من الشعر له مجال جديد ونزعات اجتماعية جديدة وفن جديد يظهر فجأة إلى الوجود في جنوب فرنسا عند نهاية القرن الحادي عشر، ولم يكن في شعر فرنسا قبل ذلك بادرة تتجه إلى هذه الوجهة، ولكنه من الناحية الأخرى على مَشَابِهَ قوية من بعض نماذج الشعر العربي المعاصر في البلاد الإسبانية، فأي شيء أقرب إلى المعقول من الظَّنِّ بأن شعراء ﭘﺮوﭬﻨﺲ الأوائل كانوا يقتدون بالنماذج العربية.
إن هذا الرأي كان يلقى القبول الذي لا يتعرض لغير القليل من المناقشة عدة قرون، وكان أشد مؤيديه ومقرريه جياميري باربييري في إبان النهضة السلفية (الكلاسيكية)، كما بسط في كتابه عن أصول الشعر الذي طُبِعَ سنة ١٧٩٠، وكانت الأذهان لا تزال مشبَّعة بسحر الشرق حين اتجهت الأفكار عامة بقيادة سسموندي وفرييل إلى القول بالشبه القريب بين الشعر العربي وشعر ﭘﺮوﭬﻨﺲ، ولم يتغير هذا الاتجاه إلا بعد فترة حوالي منتصف القرن التاسع عشر؛ إذ بدت بين المستشرقين ودعاة الأدب (الرومانتيكي) ومباحث اللغة التي تدور عليه حركة معارضة لذلك الرأي، وراح النقاد يطالبون أصحابه بالأسانيد التي تثبت الصلة بين ﭘﺮوﭬﻨﺲ والأندلس ولا يجدونها، فيذهبون إلى الطرف الآخر مُنكِرِين مُفرِطِين في الإنكار، وإذا عزونا ذلك بغير نية سيئة إلى الحماسة الوطنية التي كانت تعم شعوب الغرب يومئذٍ، فمن العسير مع هذا أن نجد ناقدًا (رومانتيكيًّا) يقدم على الدفاع عن فكرة التأثير العربي أمام آراء المستشرق المشهور دوزي الذي ينفيه ويسخر منه.
إلا أن الرأيين — على إفراطهما في الإثبات والنفي — لا يعتمدان في الحقيقة على سندٍ غير مجرَّد التخمين، فلم يأتِ من قبل البحث التحليلي الذي يجريه المستشرقون غير سند قليل، أو لا سند على الإطلاق. ولكنَّ البينة الحديثة التي تبرز الآن إلى الضوء تذهب بعيدًا إلى إزالة كل شك في وجود أثر محقَّق لشعر الجنوب على شعراء ﭘﺮوﭬﻨﺲ؛ فإن جدة شعرهم لا تظهر في موضوعاته، بل في الأساليب التقليدية التي يصاغ فيها. فليست هذه الحرارة النابضة تعبِّر عنها تلك اللهجة المصقولة الغنية بالأخيلة والصور شيئًا مألوفًا قبل ذلك في الأغاني الشائعة على سذاجتها واندفاعها؛ إذ هي نظرية عاطفية، ونحلة مجازية رومانتيكية، وعارض من داء النفس تمكن إثارته بالوسائل الفنية، ولا يجنح إلى الهُيام بالبنت العذراء بل بالمرأة الزوجة التي يستمد الشاعر من رعايتها وخدمتها زادًا يستوحيه ويسمو به ويعيش عليه، فمن أين جاء فن العشق هذا؟ ومن أي مصدر صدرت نحلة (السيدة) هذه بعد نحلة العذراء؟ إنها لم تصدر من تقاليد القوم كما تعرضها آدابهم، سواء أكانوا من التيوتون أم الرومان؛ فقد كان نساء القرون الوسطى — كما قال بروتنيير — يحنين الرءوس إلى أهون حضيض هبطن إليه تحت شريعة العسف والحيوانية، ولم يكن لتلك الرعاية أثر في عرف الفروسية التي كانت يومئذٍ آخذة في الظهور بين أبناء الطبقات العليا. فما كان هذا الحنين العاطفي على وفاق مع عقيدة الصولة والقتال، وما كانت هذه المثالية التي تتعلق بالأنثى المرأة إلا على نقيض المثالية التي تشيد بها الكنيسة حول البنت العذراء، ولو أنها نشأت من شغف الشاعر بسيدة القصر التي ترعاه لقد كانت خليقة أن تصاغ في قالب أقرب إلى التواضع والاستكانة، ولم يؤثَر عن أدب اليونان واللاتين بين عصريهما الذهبي والفضي ما يُحسب أساسًا لمثل هذا الشعور، بيد أنه ولا شك مستمَدٌّ من تقليد أدبي مقرر، وإن ذلك التقليد الأدبي لحقيق أن يبحث عنه على الأقل في شعر الأندلس العربية؛ إذ كان الشعر العربي في القرن الحادي عشر قد مضى عليه زمن طويل وهو ينمو ويتطور على تقاليده الموروثة، ومهما يكن من طول هذا الزمن، فما من عهد غبر عليه كان خلوًّا من نظمٍ قوامه العشق والغزل.
وأقدم ما عرف منه شعر البادية بصوره المترددة في لغته المصقولة وتشبيهاته الدقيقة وأوزانه المركَّبة وقوافيه المحكمة؛ لأن اللغة العربية كانت أول لغة حرصت على القافية المتواترة التي لا تسمح بالخلل، وكانت كل قصيدة من قصائده تفتتح بالشكوى من فراق الحبيبة التي تتجدد ذكراها عند مشهد الأطلال في الربوع المهجورة، ولما انتقل الشعر من البادية إلى الحاضرة لازمته نغمة الغزل، وازدادت فيه توكيدًا وتكرارًا مع الصقل والتهذيب الذي أحل الرِّقَّة الملطفة محل المتاع الحسي الصريح في غزل الصحراء، ونشأت المقطوعة الغنائية التي يتحدث فيها الشاعر عن نفسه وعن عاطفته بعد القصيدة المطولة، ومضت بضع عشرات من السنين استنبط فيها الشعر العربي نبعًا جديدًا من الفكاهة وصِدق الوصف لأحوال الحياة قبل أن تستقر المقطوعة الغنائية على أسلوبها وتقاليدها، وتولد منها في نظم شعراء القصور الملكية ضرب من الغزل واللهو الظريف، يشترك فيه النغم الموسيقي وطلاوة الصناعة لتحل محل البواعث النفسية القوية. أما جمهور الشعراء من سواد الأمة فقد استخدموا مقطوعة الغزل للتعبير عن هوى الشاعر المدنَف الذي ذهب الحب العذري بلبه شوقًا إلى حبيبة مثالية لا مطمع فيها، واستخدمها المتصوفة للتعبير عن معانٍ أخرى من الحب الروحاني الرفيع رمزًا لأشواق الروح وتقديسها للمحبوب، وغلبت نغمات الحب الحسي الجريء وأخيلته على شعر المتصوفة من العرب والفرس على السواء. وأحق أطوار هذا الشعر الغنائي بالتنويه نشوء أدب واضح المعالم حول الحب الأفلاطوني ممتزجًا بالفكرة الاجتماعية الأخلاقية عن الحب التي هي حصة بلاد العرب من المساهمة في هذا الأدب.
وقد كان بعض شعراء القصور في بغداد في زمن لا يرجع إلى ما قبل القرن الثامن قد عكفوا على النظم في هذا الضرب من الغزل، ولم يكد ينقضي على ذلك قرن واحد، حتى كان شاعر فتى لم يعدُ سن الصبا الباكر يدون منظومات هذا الغزل في كتاب شائق سماه كتاب الزهرة، وقسم فيه ألوان الحب مع الشرح والتعليق، ذلك الفتى الشاعر هو ابن داود، ابن الرجل الذي أسس مدرسة من أشد مدارس الإسلام تزمُّتًا وغَيْرَةً على الدين وخليفته على مدرسته، وقد فصل في الكتاب سجايا الحب وآدابه وأساليب التعبير عنه على هدى الحديث الذي أسنده إلى النبي، وفحواه أنه «من عشق فكتم فعَفَّ فمات فهو شهيد».
وإن وحدة الثقافة في العالم الإسلامي قمينة أن تُنبت بذور هذا الضرب من الغزل كذلك في بلاد الإسبان، وإن كان قد تطور هنا على نحو آخر يلائم الامتزاج بين العناصر العربية والعناصر الإسبانية مع الحافز الدائم من الشعور بالصراع مع الدول المسيحية في الشمال، ولم يحدث قط في عصر من عصور الأدب العربي أن شاع بين جميع طوائف الناس وَلَعٌ بالشعر كهذا الولع به بين ربوع الأندلس، ولا استعداد كهذا الاستعداد لتَلَقِّي وحي الجمال والقدرة على أدائه باللفظ الذي يجمع بين الأناقة وجَيَشَان الشعور، ومن الشعراء المعروفين وغير المعروفين ممَّن نظموا في هذه المقاصد سعيد بن جودي الذي ذكره دوزي، وكان مثلًا يُحتذى فيما تَقَرَّرَ هنا أيضًا من أدب الغزل العذري، وقد تحدَّث الناس بابن حزم، وسار بذكره المثل في الصلاح وشدة المراس، كما سار بذكره المثل في الغرب لاعتباره مؤسسًا لبحوث المقارنة بين الأديان، وإن هذا الرجل مع هذا لَيَتَصَدَّى للكتابة في موضوع العشق، ويسوق الشواهد عليه من نظمه على نمط ينافس به كتاب الزهرة وقد يعلو عليه، وهو يتقبل مبدأ الحب الأفلاطوني، ويراه سببًا من أسباب ائتلاف أجزاء النفس الموزَّعة وبلوغها مبلغ الوحدة الكاملة في الحياة الأرضية، ويبسط على هذه القاعدة من (الرومانتيكية) الصافية تحليلًا للحب يعتبر من وجوه كثيرة أنه هو الحب الذي تَغَنَّى به الشاعر الجوال — التروبادور — في القرن التالي، وإن كان الشعراء الجوَّالون قلما ارتفعوا إلى أوجه في آفاقه المتوهجة.
إننَّا إذا طالعنا سير الشعراء العرب على عهد ملوك الطوائف وجدنا أنهم قد أتقنوا هذه الصناعة — صناعة المديح والهجاء — وأنهم كانوا لا يفتأون يتنقَّلون ولا يكفون عن التطواف — وهو قوام نحلة الشعراء الجوالين — لينزلوا بساحة هذا الأمير إن لم ينفحهم ذاك الأمير بالعطاء، وأي مأثرة من المآثر يحمدونها في قصيدهم؟ إنها مأثرة الكرم؛ إذ هي الصفة التي لا تتم بغيرها صفة الشجاعة، ولا صفة العزة، ولا صفة من صفات الإمارة، فلا غنى للأمير عن منح الهبات، وبهذه الهبات من الذهب والجوهر الذي كان يُبذل للشعراء إجازة لهم وجزاءً على مديحهم تتجاوب الأحاديث بين أرجاء الشرق بأسره. ونعود إلى الشعراء الجوَّالين، فنرى أن أشعارهم قد نشأت في ظروف جد قريبة من هذه الظروف بين قصور أمراء الإقطاع من فرنسا الجنوبية، فقد بَطَلَتْ قُبَيْلَ أواخر القرن الحادي عشر عادة ادِّخار الذهب والفصوص الكريمة والإنفاق من غلَّات الأرض، وخلَّفتها نزعة جديدة إلى البذخ والزهو بالحُلَل والأسلحة والأناشيد، وأصبح نظم الأبيات والمقطوعات من السنن المألوف المستحب إلى جانب الغرب الجنوبي من فرنسا، فظهر الشاعر الجوال في مكان المهرج الوضيع، وارتفع الشعر الأوروبي لأول مرة بعد عصر الإمبراطور أغسطس إلى منزلة اجتماعية ذات خطر يعسُر علينا أن نشك فيما كان للمسلمين الإسبان من أثر فيه، فإنما كانت سيرتهم هي القدوة التي اقتدى بها أمراء الإقطاع.
إلا أن هناك فكرة أخرى تستقر في أساس أدب الشعراء الجوالين، وتتطور في شعر دانتي وبترارك، وترجع كذلك إلى مصدرها الإسلامي، وهي فكرة الحب المثالي الأفلاطوني، أو حب أهل السمت والرياسة، فكرة الحب كأنَّه طاعة وولاء خلافًا لحب الأخذ والاستيلاء، وقد يدهش من يسمع بأن حبًّا كهذا ينجم من معدن الحياة الحسية التي تنسب إلى المسلمين؛ فإن إسفاف مستوى الدراسات العربية بأوروبة لم يهيئ أذهاننا لقبول فكرة كهذه الفكرة، ولكن الدراسات الأخيرة تعلمنا أنها حقيقة لا محل للشك فيها؛ إذ نقرأ — مثلًا — عن شاعر قرطبي هامَ بجارية فتاة لم يبصرها غير لحظات معدودات، فأصبحت مصدر وحيه وإلهامه طوال أيام حياته، ووصف لنا ابن حزم هواه الأفلاطوني لفتاة رآها وهو بعدُ غلامٌ صغير، فظلت صورتها تعاوده وتذكي قريحته سنوات عدة بعد ذلك، وشرح لنا في كتابه الذي ألَّفه سنة ١٠٢٢ أمثلة من الحب الخاضع المستسلم الذي يعم الشعر العربي، كأنما المحب مجنَّد في سبيل الجهاد لا إرادة له إلا أن يطيع، فكل واجبه أن يُسَلِّمَ زمامه لحبيبته ولها هي أن تعذبه وتذيقه الألم والمُوجِدة، ويقول ابن اللبانة — مثلًا — إن حبيبته كالسيف المصلَت الذي يمزق فؤاده، وفؤاده مع هذا يفيض بحلاوة هواها والشوق إليها، وهذه النغمة المولعة بالألم تعم شعر القرن الحادي عشر أينما كان، فلا يزال المحب يخضع للتحكم والهوان من إعراض حبيبته حتى ليسقم وينحل أو يقضي نحبه كالشهيد، وعلى هذا النحو نقرأ لابن سهل اليهودي الذي دان بالإسلام وتوفي بإشبيلية (سنة ١٢٥١) أنه جمع بين ذُلَّيْنِ لأنه يهودي وعاشق، وعلى هذا النحو نقرأ لابن زيدون قوله في الأميرة ولادة:
إن الموشحة — ومثلها الزجل — مقطوعات منظومة من مصاريع مقفَّاة قصار، على خلاف القصائد التي تنظم عادة من أعاريض طويلة، وتلاحظ فيها النبرات؛ لأنها تنظم للغناء وإن كانت كترانيم القديس أميروز تجري على أوزان القصيد، وهي تبتدئ بفاتحة تسمى المركز تتألف من سطرين أو ثلاثة أسطر مقفَّاة، وتتلوها مقطوعات تلتزم القافية في ثلاثة أسطر منها، ويأتي السطر الرابع على قافية المركز، وهو وزن تعوَّدناه من المرددات الشعبية — الفولكلور — فهو وزن أغنية الحلقة أو الفرقة الراقصة ينشد قائدها المركز والخرجة، وتردد الفرقة سائر الأبيات؛ ومن ثَمَّ نعلم أن الشاعر مقدَّم لم يبتدع هذا النمط من النظم، وإنما عمد إلى أغنية الحلقة فصاغها صياغته الفنية وعممها واتَّفق ذلك في وقت له شأنه؛ إذ كانت الأندلس يومئذٍ تثور على حكم البلاط، ويشترك المسلمون والمسيحيون صفًّا واحدًا في تلك الثورة، وينبغي أن نذكر أن اللغة العربية وإن كانت لغة البلاط، إلا أن اللغة الشائعة كانت مزيجًا من اللهجات الإسبانية المتداولة المسمَّاة بالرومانس، يتكلمها كثير من المسلمين في قرطبة، ويكون الشاعر الضرير إذن قد اشترك بشعره في ثورة وطنية موجهة إلى لغة الفاتحين، تشابه تلك التي حدثت قبل نصف قرن في بلاد الفرس.
وبعد أن قابل المؤلف الناقد بين أوزان الشعراء الجوَّالين وأوزان العرب، خلص إلى رأي يتوسط بين نسبة التطور كله إلى أثر الآداب العربية وبين إنكار كل أثر لهذه الآداب في مناهج أولئك الشعراء بما احتوته من معنى ومن صيغة لفظية؛ فنحن معه قد نبتعد عن الطرفين المتقابلين في بيان آثار الهجرة العربية إلى الأندلس: أولهما يتطوح مع الإنكار، ويكاد يزعم أن العرب لم يدخلوا ذلك الإقليم، أو دخلوه ولم يتغير بدخولهم كلام ولا عمل بين أهله، والآخر يحصر أسباب التغيير كلها فيما صنعه الفاتحون قاصدين أو على غير قصدٍ منهم، فكلاهما غريب لا يعقل ولا يخفى ما فيه من هوى التحيز والانحراف، وإنما الرأي الصحيح هو الذي يستغرب أن تجري الأمور في غير مجراه. فلا بد من أثر ولا بد من صلة لهذا الأثر بالحضارة العربية مع انقطاع كل أثر سواه بالمصادر الأخرى، وما من شيء أقرب إلى طبيعة الأمور.
والرأي الذي لا غرابة فيه أن يكون العرب قد تأثَّرُوا بالبيئة الطبيعية التي انتقلوا إليها وأثَّرُوا في البيئة الاجتماعية، فلم تثبت على حالها التي وجدوها عليها، ولعلهم في هذه الظاهرة الإسبانية النادرة — ظاهرة الثقافة ذات الوطنين — نموذج صالح للقياس عليه، حينما تمثلت لنا المحافظة والتجديد جنبًا إلى جنب في حركة واحدة من حركة واحدة من حركات الثقافة والحياة الفكرية. فهم محافظون متشددون كلما ارتبط الأمر بالأصول وخيف أن يحسب المنقطعون عن تلك الأصول منبوذين من موطنهم الأول دخلاء على موطنهم الجديد، وهم مجددون بعد ذلك فيما يختارونه أو لا يختارونه من مجاراة الأحوال الطبيعية حيث استقرَّ بهم المقام جيلًا بعد جيل، وقد يطيب لهم أن يسلكوا في تجديدهم مسلك المنافسة لإخوانهم الذين تركوهم وراءهم بموطنهم الأول، ما داموا ينظرون إليهم نظرة النِّدِّ للنِّدِّ في انتسابهم إلى الأصل العريق.
وسنرى أن هذه الظاهرة تكررت على صورة قريبة من هذه الصورة، حين أصبح الإسبان أصحاب أدب مهاجر يناظر أدب الوطن العريق من وراء البحار.