نحو القرن العشرين
كان كل قطر من أقطار العالم في أواسط القرن التاسع عشر يستمع إلى دعوة من دعوات التغيير والتجديد، وكل دعوة من هذه الدعوات تُرادِف في مرماها الدعوة إلى مراجعة الماضي للانفصال عنه أو للعودة إليه، ولكنها على اختلاف تفهم أنها سائرة إلى مستقبل خير من الحاضر، وأنها لا ترضى عن بقاء الحاضر كما تراه.
واستمعت الأمة الإسبانية إلى هذه الدعوات، كما استمع إليها العالم الأوروبي من حولها، ولكنها لم تَسِرْ في حركة التجديد قُدُمًا بغير تردُّد — أو بقليل من التردُّد — كما سارت جاراتها من الأمم الأوروبية، وإنما كانت تسير إلى غَدِهَا، وتتلفت خطوة بعد خطوة إلى ماضيها لأن جذور الماضي في هذه الأمة أثبَت في مكانها من جذوره في جاراتها، ولعلها ثبتت هذا الثبوت لأن هذه الأمة صنعت ماضيها قريبًا، ولم تتطاول عليه العهود طبقة بعد طبقة حتى لحق بذمة الغيب المجهول.
كانت السلطة الدينية فيها أقوى وأوسع نطاقًا من نظائرها في جميع بلاد القارة الأوروبية؛ لأنها من القوى القليلة التي احتشدت لمقاومة العقائد الغالبة التي تخالف المسيحية، ثم احتشدت لمقاومة المذاهب التي نشأت في المسيحية نفسها بعد عصر الإصلاح وعصر النهضة، ثم احتشدت لمقاومة العلوم الحديثة التي تصدى لنشرها أُناس من غير رجال الدين.
وكانت السلطة السياسية تعتزُّ باعتمادها على هذه السلطة الدينية، وتضيف إليها سلطان الدولة الإمبراطورية التي تبسُط حكمها على ديارها وعلى ما وراء البحار من أقطارها، وتجمع بين يديها أَعِنَّةَ السيطرة المطلقة التي لا بد منها في أمة قلتية لاتينية جرمانية، تتنازع في داخلها ولا تتماسك بغير سلطان صارم يتغلَّب على عوامل التنازع بينها.
وكانت تقاليد المحكومين وعاداتهم أقوى من سلطان رجال الدين ورجال الدنيا سندًا للماضي وإقرارًا له وغيرة عليه، فلو أراد الحاكمون تغييرًا إلى الغد منفصلًا عن الأمس لحالت بينهم وبين ذلك إرادة المحكومين، ولا سيما المحكومين الذين تتجمَّع إرادتهم في الامتناع؛ فإنه يسير عليهم لا يكلفهم جهدًا يعجزون عنه.
واتفق في أواسط القرن التاسع عشر أن الأمة الإسبانية مُنِيَتْ بحكم الأجنبي على أثر الثورة الفرنسية، فأصبحت دعوتها إلى الحرية شعورًا وطنيًّا عارمًا تستطيع أن تذهب فيه إلى غاية مداه، ولكنها تُحَقِّقُ هذه الحرية، ثم تعود إلى استخدامها في تدبير أمورها، فلا تستغني عن رياضة الماضي على موافقتها، ولا ترى أن مقاومتها لسلطان التقاليد تسمح لها بتلك الحرية التي أعانتها على مقاومة السلطان الأجنبي، بل على مقاومة السلطان الوطني في حدود الدواوين والأنظمة الحكومية.
•••
وربما كانت ثورة إسبانيا الكبرى أصدق صورة للنفس الإسبانية في موقفها بين الماضي والحاضر، وبين روابط التاريخ وروابط الحياة العصرية؛ فإن هذه الثورة وُصِفَتْ على حقيقتها حين سُمِّيَتْ بالحرب الأهلية، وشاع عنها هذا الوصف بدلًا من وصفها بالثورة أو الانقلاب، كما شاع عنها فترة من الزمن بعد انتشار أخبارها في الصحف العالمية؛ إذ كان النزاع الأكبر بين المتقاتلين فيها نزاعًا بين القوميين والجمهوريين وكلاهما من أحزاب اليمين، ولم ينفرد الثائرون اليساريون في الطرف الآخر بقوة مستقلة تعتمد على أنصارها وحدهم لمقاومة خصومها، بل كان أكثر اليساريين متبرمين بالواقع غير منفصلين عن التراث القديم، وكان خروجهم على المجتمع أشبه شيء بخروج الإنسان من مكان ضَيِّقٍ ينقطع فيه عن موارد المعيشة، فهو أدنى أن يكون انتقالًا من مسكن مكروه أو منزلٍ وخيمٍ، ولم ينجح أصحاب المبادئ الثورية في ضَمِّ المتبرمين إليهم؛ لأنهم أقنعوهم وحوَّلوهم عن ماضيهم، ولكنهم نجحوا معهم لأنهم طلاب تغيير حيث كان، ومثل هذا الطلب يجيبه من يضيق بمكانه ولا يطيق الصبر على مقامه، ولو لم يفتح عينيه على مكان ينتقل إليه.
ولهذا يلاحظ أن الأدب المسمى بالأدب الموجَّه أو الأدب الهادف يفقد أنصاره من القائلين والمستمعين معًا بعد الحرب الأهلية وبعد الحرب العالمية الثانية؛ لأن محاولات التوفيق بين التراث الإسباني وبين مطالب الحياة الحديثة في كل وجهة من تلك الوجهات المتعددة لم تحقق أملًا من الآمال، ولم تُسْفِرْ عن يقينٍ يؤمن به طلاب التغيير والتجديد، ويكاد الساخطون ينشدون الرضا اليوم في أحضان الطبيعة وفي وداعة الفطرة، وينظرون في ريب شديد إلى تلك «الطوبيات» التي يتصدى لقيادتهم إليها دعاة الخطط والأهداف.
وبينما تظهر هذه الأسماء والعناوين وتحتجب، وبينما يتفق عليها الدعاة ويختلفون، كانت النفس الإسبانية الكامنة في أعماقها تواصل الترجمة عن نفسها بنشيدها العريق، الذي تعيد وتبدئ فيه على نغمتين خالدتين؛ لأنهما نغمة الحب والعبادة، نغمة المناجاة والصلاة، أو نغمة الحياة والخلود، وكانت الموشحة الريفية — أداة هذا الفن المطبوع — تزدهر في إبان عصر الاضطراب والجَيَشَان بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين؛ لأنه العصر الذي ابتعث كوامن الأمة من الأعماق، وقد سِيقَتْ شعوب الأقاليم خلال هذه الفترة إلى التآلف والاقتراب لاشتراكها في المحنة وفي المرافق الوطنية أمام السلطان الأجنبي والحوادث العالمية فاتصلت جليقية بقسطيلة، وانتقلت أغاني الريف بلهجتها الساذجة إلى الحاضرة الكبرى على يد شاعرة من الأقاليم أقامت في مدريد وفارقت موطنها، ولم يفارقها الحنين إليه ولا إلى ألحانه وموشحاته؛ لأن موشحات جليقية كما قالت: «كلها موسيقى، وخفاء، وشكاية، وتنهُّد، وابتسام لطيف.»
هذه الشاعرة روزاليا كاسترو ولدت سنة ١٨٣٧ وتُوُفِّيَتْ سنة ١٨٨٥، وكان مولدها ببلدة سنتياجو دي كومبستلا من بلاد جليقية، ومقامها بمدريد أكثر أيامها من نشأتها إلى وفاتها، وقد ولدت أمٌّ نبيلة لم تتزوج، فدفعتها إلى امرأة فلاحة تربيها بين أسرتها الفقيرة بإشراف أمها، وقد نظمت الشعر باللهجة الجليقية وباللغة الإسبانية، فكانت حياتها كلها موافقات عجيبة للتقريب بين الأطراف المتقابلة والنقائض التي لا بد لها من التجاور والمصاحبة.
•••
وعادت المسرحية الإسبانية إلى الازدهار مع الموشَّحة الريفية في حِقبة واحدة، وكان ينبغي أن يزدهرا معًا على هذا الاختلاف الظاهر بينهما في الأوضاع الفنية؛ لأنهما — على هذا الاختلاف — يستقيان من ينبوعين قريبين إن لم تَقُلْ إنهما ينبوع واحد، فالموشَّحة في إسبانيا وليدة الحب والعبادة، والمسرحية في إسبانيا وليدة البطولة والقداسة، وكلتاهما قريب من قريب في معدن النخوة والإعجاب.
ولقد كانت المسرحيات الناقدة والمازحة جميعًا إسبانية في الصميم حين تحوَّلت بالدراما من البطولة والقداسة إلى العبث والسخرية؛ فقد أصاب من قال: إن الجليل والمضحك لا يفرق بينهما غير لفتة صغيرة، كأنها عثرة البطل الذي يروع الناظرين، ثم تطرحه أمامهم مطرح الضحك عثرة صغيرة تمرغه بالتراب.
ولم يكن كتاب الجيل الناشئ بعد مطلع القرن العشرين أول من نقل البطولة هذه النقلة، أو عثر بها هذه العثرة، فعرَّضها للسخرية واللهو بعد الإعجاب والمهابة؛ إذ كان سرفانتيز إسباني الإسبانيين حين شيع عهد البطولة والفروسية بتلك المرثاة الضاحكة، التي خلَّد بها فارسه المسكين دون كيشوت وخادمه الأمين سانكوبانزا، ولم يفعل نُقَّادُ الأجيال الأخيرة من أدباء الأمة الإسبانية غير ما فعله رائدهم الكبير في إحساسه بالفروسية بعد عثرتها، وفي تحولُّه بالإعجاب إلى الرحمة والرثاء من خلَل الضحك والدعابة، ولم يغادر كتاب المسرح منذ أوائل القرن التاسع عشر حومة البطولة والفروسية، حين أقاموا قواعد النقد الاجتماعي على السخرية من أدعياء الوجاهة والرياسة؛ لأنهم أبطال مُدَّعُون وفرسان مزيفون؛ فإن الذي يسخر من الفارس المزيف يعجب بالفارس الصادق والبطل الصحيح.
•••
على هذا النحو يتغير أدب الأمة المتوطنة من أثر اختلاف الزمن، يتغير التعبير ولا يتغير فحواه أو معناه الذي يُرادُ التعبير عنه، وقد يكون هذا التغيير شبيهًا بالتشكُّل الذي يمر به الكائن الحي من طور إلى طور، وهو هو الكائن الحي بذاته وفصيلته في جميع أطواره، وكأنه مادة في داخل القالب تتغير، ولا يتغير القالب المحيط بها ولا قوام المادة التي يحتويها.
وعلى هذا النحو أيضًا يتغيَّر أدب الأمة المهاجرة من أثر اختلاف المكان، فيبقى على أصوله التي ترتبط بأصول الأمة ولا تحب هذه الأمة أن تغيره، بل لا تستطيع له تغييرًا بمحض مشيئتها، وإنما يطرأ التغيير على كل ما له علاقة بأحوال المعيشة في ديار الهجرة، فلا يختلف الإسباني في العالم العصري من سائر أبناء الأمم المعاصرين له إلا لسبب واحد، وهو اختلاف ماضيهم مع اتفاق الحاضر بينهم على جملته، ولولا أن الماضي شيء لا يزول لما اختلفت آداب الأمم في عصر واحد.
•••
•••
لكن الحرب الأهلية في إسبانيا وسَّعت نطاق الجامعة الفكرية بمقدار ما ضيَّقت من حدود الأوطان السياسية؛ لأن ديار الهجرة رحبت بأدباء الوطن الأصيل الذين قذفت بهم حماستهم الوطنية من ديارهم، أو برمت نفوسهم بالمقام في تلك الديار لاضطرابها بزعازع السياسة والفتن الداخلية، فكانت حماستهم لوطنهم تُلازِمُهم في ديار الهجرة التي اتَّسعت لآرائهم، ولم تَضِقْ بحماستهم الفكرية أو الرُّوحية، وانطلقت أصداء بابل على اختلاطها في ميادين الأدب الهادف، أو الأدب الموجَّه كما يسميه أنصاره من دعاة اليسار أو اليمين، وكان اختلاط هذه الأصداء على أشُدِّهَا في أوطان الجامعة الإسبانية بين المشرق والمغرب، ولعلها اشتدت في تلك الأوطان هذا الاشتداد لِمَا طبع عليه أهلها من الاستجابة السريعة لدوافع الشعور وثورات الطموح والرجاء، ولكنه لم تلبث أن بلغت غايتها من الحِدَّة، ولم تبلغ غايتها من أهدافها الاجتماعية أو السياسية، فتراجعت إلى القرار الوحيد الذي تستقر عنده النفس الإسبانية إذا أعياها المخرج من القلق إلى عمل مستطاع أو أمل ناجح، وذاك هو ملاذُ الطمأنينة الخالد حيث تسكن إلى أحضان الطبيعة وأحضان الأسرة وبراءة الفطرة والطفولة.
وقد بقيت الأغنية هي الأغنية بما تُردِّدُهُ على الدوام من نغمات المناجاة أو الصلاة، ولكن الموضع الذي خلا بانهيار الأمثلة العليا التي تخيَّلها طلاب الأهداف الاجتماعية قد شغله الحنين إلى عالم آخر غير عالم الصناعة والفلسفة الاقتصادية، وهو عالم الإنسان الطفل في مهد الطبيعة أو الإنسان الطفل في مهد الأمومة، ولا بد للنفس البشرية من حنين إلى قرار تسمو إليه أو تستريح إليه حيث كان، فإن لم يكن حنينًا إلى رجاء تبلغه بالصراع والجهاد، فهو حنين الدعة الذي تبلغه حين تقتدي بالإنسان الوديع في حضن الطبيعة أو بالإنسان الوديع في بواكير الطفولة.
وممَّا يلفت النظر أن خيبة الرجاء في الأدب الهادف قد شغلت مكان هذا الرجاء في بلاد اللغة الإسبانية جميعًا بالحنين إلى الريف أو الحنين إلى الحياة الطيبة في ظِلِّ الطفولة، وقد يصادف القارئ ذلك الحنين إلى البراءة من ضوضاء الحياة المصنوعة، أو الحياة الصناعية حيث ينتظر الحنين والحنان في تعبيرات العاطفة ونفحات الشعر والبلاغة، فلا يصادفه بما يلفت النظر؛ لأنه حديث منتظر في مواضعه ومناسباته، ولكنه يعجب حتى تصادفه لفتات الكاتب إلى أيام الطفولة، أو إلى الحديث عن الطفل وعن الريف ومروجه ومراعيه بين فصول القصة وبين غضون المقالة في غير مناسبة تستوجبها وتستطرد إليها، كأنما يملأ بها الكاتب مكانًا خاويًا ليس في وسعه أن يتركه على خوائه، ولا أن يملأه بتلك الأهداف المعبودة التي تحطمت كما يتحطم الصنم المنبوذ في محرابه المهجور.
ومن الصعب بعد الحرب الأهلية والحرب العالمية أن نُفْرِدَ الأدب الإسباني بعنوان واحد أصدق من عنوان «أدب الفطرة»، بما تشتمل عليه من فطرة الطبيعة وفطرة الطفولة، فهذا هو الموضوع الذي يأخذ بقسطه الشائع في قصائد كل شاعر وفصول كل ناثر، ولكنه يوشك أن يستأثر بالشعر كله وبالكتابة كلها في أدب خيمينز بين مقامه بموطنه الأول ومقامه بديار الهجرة، فهو أديب الريف والطفولة غير مدافَع، وهو إمام هذه المدرسة بين أبناء قومه، ولا جَرَم يحسبه النقاد إمامها بين سائر الأقوام من أمم الغرب في العصر الحديث؛ لأن الموضوع «أندلسي إسباني» حيث ينتمي إلى أقرب مواطنه إليه.