ما الخيال؟
قدرة البشر على التخيُّل تقريبًا غير محدودة؛ إذ من خلاله يمكننا التفاعل عقليًّا مع الأفكار دون التقيد بقيود الواقع. وتسمح ممارسة الخيال بالهروب من حياتنا العادية دون أن نغادرها. ومع ذلك، يغدق الخيال أيضًا على حياتنا الإمكانيات. ففي حين لا يمكننا التدخل في الواقع ببساطة عن طريق تخيُّله بشكل مختلف، يمكننا النظر إليه في شكل جديد. إذ يمكننا تجاوز القيود الراهنة وتغيير الأحوال القائمة ونحن معزَّزون بالخيال. هذا الكتاب مكرَّس لاستكشاف الخيال وأهميته في الفكر والتجربة البشريين. وهو مُستمَد من الفلسفة، والعلوم الإنسانية، والنظريات الأدبية. ويتناول أمثلة للخيال عبر الثقافات البشرية القديمة والحديثة — من الفن، والعلوم، والأدب، والموسيقى، والحياة اليومية — لإظهار مدى مساهماته وعمقها.
نخصص الفصل الأول لتعريف الخيال، مفسِّرين تنوع التجربة الخيالية والطرق التي من خلالها يستعصي على الفهم. وننظر في الفصل الثاني في تطور الخيال ومساهمته في ظهور الثقافة البشرية. وفي الفصل الثالث والرابع والخامس، نستعرض فلسفات الخيال من القدماء إلى القرن العشرين لفهم أدوار الخيال في التفكير البشري. تشمل هذه الأدوار انحراف الخيال عن المعرفة وكذلك مشاركته فيها، وارتباطه بالجنون، ودوره في الشعر والفن وإمكانيات الفكر، وعلاقته بالعواطف، ودوره في الإدراك، وعلاقته بالجمال، والسمو، والمأساة، وبإدراكنا لما هو متجاوز وللحرية البشرية، وطرقه في تعزيز إدراكنا للواقع. وباعتبار الإبداع مظهرًا تعبيريًّا للوجود والتفكير الخيالي، فإنه من المواضيع المهمة على مدى هذا الكتاب، بَيْد أن الفصل الأخير ينظر من كثبٍ أكثر فيه ودعمه للازدهار البشري.
قيمة التجربة الخيالية وتنوعها
للخيال نطاقٌ واسع، وهو يميز الحياة البشرية بعدد لا يُحصى من الطرق. ومن أجل أن نفهم الخيال، يجب أن ندرك أولًا مدى تنوع مساهماته في تجربتنا. فالخيال هو وسيلة الأطفال في اللعب التظاهري والجمهور في اندماجهم في الدراما واستيعابهم لها. كما يواسي من مات أحباؤهم برؤًى تتجاوز الحياة الدنيوية. ويساعد الفنانين في تصوير الحياة من منظورات جديدة، فيخلقون عوالم مُتخيَّلة للقرَّاء ليعيشوا فيها افتراضيًّا. وهو المسئول عن الابتكار. فاختراع الطائرة الورقية في الصين القديمة، وتصميم الأهرامات المصرية، والهبوط على القمر، وازدهار التكنولوجيا الطبية، كلها مدينة للخيال البشري من بين المهارات المعرفية الأخرى.
والخيال بالطبع أيضًا هو الوسط الذي تظهر فيه الأوهام وأحلام اليقظة. فقد يحلم الأطفال بأنهم قادرون على الطيران، أو أنهم يمتلكون قوة الأبطال الخارقين، ويدمجون أوهامهم هذه في اللعب. ويستمتع الكبار كذلك بسيناريوهات بعيدة الاحتمال — كأن يصبحوا أبطالًا في الملاكمة أو التزلج الفني على الجليد، أو يفوزوا باليانصيب — أو بسيناريوهات مستحيلة — مثل تفادي الموت. بالنسبة للخيال، لا يهم كم قد تكون هذه الاحتمالات ضئيلة أو منعدمة في الحياة الحقيقية. إذ يمكن له اقتطاع نصيب مما هو أبعد من المحتمل أو حتى الممكن.
وبصرف النظر عن الأوهام، فإن كثيرًا من الفضل في فهمنا للواقع نفسه يعود إلى الخيال. يمكننا أن نبدأ بفهمنا للماضي. قد يكون فهمنا للتاريخ فهمًا جامدًا وأقل حيوية، أو غير مكتمل حتى، إذا لم يكن لدينا وسيلة لوضع المعرفة في سياق تجريبي. إذ يمكننا أن نتخيل — بما يتوافق مع الحقائق المعروفة، ولكن بتجاوز ما هو معروف بدقة — كيف كانت الحياة بالنسبة لجندي في إسبرطة القديمة، أو لكاتب في إيطاليا العصور الوسطى، أو لنا إن كنا حاضرين عند توقيع إعلان الاستقلال الأمريكي. إن الثقافة من نواحٍ عدَّة هي إرثُ الخيال.
حتى الروايات الأدبية يمكن أن تُعيد الأحداث والأماكن التاريخية إلى الحياة من خلال زرع شخصيات خيالية في خضمِّها. فبينما لا نتطلع إلى رواية ليو تولستوي «الحرب والسلام» (١٨٦٩) للحصول على أدلة تاريخية حول روسيا القرن التاسع عشر، فإن الرواية يمكن أن تساعدنا في تخيُّل ثقافتها تحت تأثير الحروب النابليونية. وأعادت الروائية الأمريكية الحائزة جائزة نوبل توني موريسون، في روايتها بعنوان «جاز» (١٩٩٢)، إحياء عصر النهضة في هارلم والجنوب الأمريكي خلال بداية القرن العشرين لأولئك الذين وُلدوا بعد ذلك بفترةٍ طويلة من خلال الجمع بين البحث التاريخي وقوة خيالها.
بمساعدة الأعمال الخيالية، يمكننا أيضًا التفكير في وجهات النظر المختلفة في زماننا الحالي. فعندما نضع أنفسنا «مكان شخص آخر»، نتبنى بذلك وجهة نظر متخيَّلة. وبالخيال، يمكننا أن نحاول الوصول إلى فهمٍ أفضل لأولئك الذين يختلفون عنا. وعندما نفشل في هذا التخيل، قد تبدو الاختلافات أكثر صعوبة في التجاوز مما هي عليه. لذا، يؤدي الخيال دورًا مهمًّا في الحياة الأخلاقية والسياسية.
والخيال يتلاعب أيضًا بعنصر الزمن. فنحن لا نتذكر الماضي وحسب، ولكن قد نراه في ضوء جديد. إذ يمكن تخيل الأخطاء التي ارتكبناها كأنها لم تحدث في عقولنا. وبينما قد يغذي هذا شعورنا بالندم، فيمكن أن يساعدنا هذا التأمل أيضًا في التعلم من أخطاء الماضي. ويمكننا تأمُّل الحاضر من خلال تخيُّل بدائل له. فيمكننا تصوُّر طرق أخرى ممكنة للعيش في الوقت الراهن، وتصميم أهداف مستقبلية نستهدفها.
نظرًا لهذه المرونة الهائلة، جرى تبجيل الخيال لتوسيعه نطاق الحياة البشرية ومساهماته في الإنجاز البشري. ومع ذلك، أُلقي عليه باللوم بسبب الاضطرابات التي يتسبَّب فيها في إحساسنا بالواقع. إذ يمكن لنا أن نخضع للآمال الكاذبة ونحن منشغلون بالخيال المبالَغ فيه. كما قد يُشعِل الخيال العواطف، ويُغذِّي مشاعر القلق والمخاوف المبالغ فيها. والخيال هو أساس نظريات المؤامرة، وعندما يُدمَج مع الهواجس الثقافية يمكن أن يُغذي التحيز. وفي حين يُحتفى بالخيال على نطاقٍ واسع في الثقافة الشعبية اليوم، فقد جرى التنديد به على مدار التاريخ لخلطه بين الوهم والإدراك، والسراب والحقيقة.
ويعود الهجوم على الخيال في الأساس إلى أيام أفلاطون. وعلى الرغم من كونه فيلسوفًا واسع الخيال وميالًا إليه بشكل استثنائي، فقد قدَح في الخيال في كتابه «الجمهورية» (نحو ٣٧٥ قبل الميلاد)، واصفًا إياه بأنه سبيل الخطأ والالتباس. وفي القرن السابع عشر، أعلن عالم الرياضيات والفيلسوف الفرنسي بليز باسكال أن الخيال «عدو العقل». وفي كتابه الذي بعنوان «خواطر» (١٦٦٠)، وصف باسكال الخيال بأنه «الجانب الخادع في الإنسان، ومصدر الأخطاء والزيف، وهو خادع بصفة خاصة لأن أوهامه ليست دائمًا واضحة». ولأنه «غالبًا ما يكون خاطئًا»، كان باسكال يعتقد أن الخيال «لا يمكن أن يحدد قيمة حقيقية للأشياء». وفي روايته «راسيلاس» (١٧٥٩)، اعتبر الكاتب البريطاني صامويل جونسون أن الخيال مفسد؛ فهو يُغري العقل ليتمتع ﺑ «الزيف اللذيذ» كلما «ساءته مرارة الحقيقة». في تلك الرواية، تمثِّل شخصية عالم الفلك المجنون فكرة الإسراف في الخيال؛ إذ يعتقد ذلك العالِم أن له «سيادة خيالية» على أحوال الطقس، فيوزع ضوء الشمس والمطر حول العالم كما يشاء. وفي العقود الأخيرة، درس علماء النفس قدرة الخيال على تشويه الذكريات، أو قدرته على خلط شعور التذكر بالأفكار التي جرى تخيلها بدلًا من الأفكار التي جرى تذكُّرها، وهو الأمر الذي لا يزال محلَّ جدل.
وباعتبارهما من نتاج الخيال، جرى انتقاد الأدب والفنون لاشتمالهما على أوهام العواطف غير العقلانية أو تعزيزها. كان أفلاطون قلقًا من أن الفنون — وخاصةً الشعر الدرامي والملحمي — ستضلل المواطنين؛ مما يكدِّر النظام الاجتماعي. وحذَّر جونسون من أن رفاهيات الخيال ستجعل العقل يرفض «رتابة الحقيقة». كما صوَّر الكاتب الإسباني ميجيل دي سيرفانتس بطل روايته «دون كيخوته» (١٦٠٥) بأنه قد تأثر على نحوٍ سخيف بالأدب الخيالي. فالرجل الذي نصب نفسه فارسًا بعد قراءته العديد من قصص الفروسية يضرب ببصره الخيالي في كل مكان، ويرى العالم كما يتخيله. فيقاتل طواحين الهواء التي يتخيل أنها عمالقة متنكرة كطواحين. وتكمن المفارقة في معالجة سيرفانتس بالطبع في أن قارئه ينخرط أيضًا في عالَمٍ خيالي.
وعلى عكس سيل الانتقادات، رأى بعض الفلاسفة أن الخيال تعزيز للعقل البشري. فقد انحرف أرسطو عن درب معلمه أفلاطون، وزعم أن الفكر كله يتطلب الخيال. فالعقل لا يفكر أبدًا بدون صورة، كما زعم؛ فالصور — التي هي واحدة من أدوات الخيال الرئيسية — هي مادة الفكر الأساسية. وفي معالجته للشعر الدرامي، أشاد أرسطو بالقدرة على تأمُّل الاحتمالات؛ مما يتيح فهمًا لما حدث، بل ولما «يمكن» أن يحدث. وسيتردد صدى هذا التقدير في القرن الثامن عشر مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط وظهور فلسفة الجمال. وسيشرح الكتَّاب الرومانسيون بتفصيلٍ كبير وحماسة شديدة فكرةَ الخيال الإنتاجي الذي يُنسب إليه التفكير في الاحتمالات.
ومنذ القرن التاسع عشر، حيث أصبح التفكير العلمي ثقافةً مستقلةً عن العلوم الإنسانية والفنون أو مناوئة لها حتى، أصبح الكتَّاب الأدبيُّون هم المدافعين المخلصين عن الخيال. فقد أشاد الشاعر الأمريكي والاس ستيفنز بالخيال، ورأى أنه يمثل قدرة العقل على إدراك إمكانيات الأشياء. فكتب في كتابه «الملاك الضروري: مقالات عن الواقع والخيال» أن الخيال يخفف «ضغط الواقع» من خلال خلق منظورات أخرى لعقولنا للنظر فيها. ووصف الشاعر الأيرلندي الفائز بجائزة نوبل شيموس هيني في كتابه «إصلاح الشعر» كيف يتيح لنا الخيال الاستجابة بشكل مختلف تجاه المصائب؛ مما يتيح لنا التعرف على طبيعة محنتنا والنظر في الإصلاح الممكن — «إمالة موازين الواقع نحو توازن متجاوز.» بسبب هذا، يزعم هيني أن للخيال «تأثيرًا مُحرِّرًا ومعاونًا على روح الفرد.»
قد يكون من الصعب استيعاب أن القدرة نفسها التي تتيح لنا تجنُّب ضغوط الواقع، أو التي يمكن أن تخلطه علينا، قد تكون مطلوبة لفهمه. ومع ذلك، فإن الاكتشافات العلمية تدين بالكثير للخيال. فقد اشتهر عن ألبرت أينشتاين إشادته بالخيال بأنه «أكثر أهمية» من المعرفة، كما فصَّل استخدامه الخاص له في تحقيق اكتشافات في الفيزياء أحدثت ثورة في فهمنا للمكان والزمان. إذ وصف عمليات التصور الداخلي التي استدعى من خلالها سيناريوهات افتراضية لاختبار المعرفة الحالية مقابلها. كما وصف شعوره بالإلهام أثناء عزف الكمان، حيث كانت تظهر الأفكار كصور في ذهنه قبل التعبير عنها باللغة والمفاهيم العلمية.
قد يُعَد خيال أينشتاين الخاص حالةً استثنائية من العبقرية. ومع ذلك، كان هو نفسه يعتقد أن الخيال مطلوب لكل أشكال التقدم العلمي. حيث كتب في كتابه «تطور الفيزياء» (١٩٣٨) يقول: «إن إثارة أسئلة واحتمالات جديدة، والنظر إلى مشكلات قائمة من زاوية جديدة، يتطلبان الخيال الإبداعي، ويميزان التقدم الحقيقي في العلوم.» وقد ردَّد علماء آخرون صدى تقدير أينشتاين للخيال. إذ عبَّر الحائزان على جائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب، فرانسوا جاكوب (١٩٦٥) وإريك آر كاندل (٢٠٠٠) ببلاغة عن التشابه الشديد بين البحث العلمي والإبداع الفني، في حين وصفت إليزابيث بلاكبيرن (٢٠٠٩) «عملية البحث العلمي التي يكشف الإبداع والعبقرية البشريين من خلالها عن نمط داخل ما بدا كأنه فوضى وغموض» بأنها جميلة. وسواء أكان الخيال أكثر أهمية من المعرفة أم لا، فقد قال العلماء بأن المعرفة الحالية لا يمكن أن تتطور بدونه.
لقد وصفنا حتى الآن كيف يتيح لنا الخيال الهروب من الواقع، وكيف يشوِّه إحساسنا به، وكيف يتيح لنا النظر إليه من منظورٍ جديد، وحتى فَهْمه. ومن اللعب والأحلام إلى الفنون والعلوم، يقع الخيال موقع القلب في كثير من التجارب والإنجازات البشرية. هل يعمل الخيال بشكل مختلف عبر هذه الأنواع المختلفة من التجارب؟ هل نتحدث حقًّا عن القدرة نفسها، أم إن هذه التجارب تُظهر مجموعة متنوعة من القدرات العقلية؟ في بقية هذا الفصل، سنتناول بعض التحديات في تعريف الخيال وتحديد أنماطه المتعددة.
تملص الخيال
لم يكن الخيال الذي أثَّر بعمق في تاريخ البشرية مفهومًا فهمًا جيدًا في معظمه. فحتى الفلاسفة الذين أسندوا إلى الخيال دورًا مهمًّا في نظرياتهم عن العقل اعترفوا بأن فهم الخيال يمثل تحديًا مهولًا وشاقًّا. فقد وصف الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم الخيال بأنه يتملص من قبضة الفلسفة، معتبرًا إياه نوعًا من «القدرات السحرية غير القابلة للتفسير بأقصى جهود الفهم البشري». كما وصف كانط الخيال بأنه «فنٌّ خفيٌّ في أعماق الروح البشرية، يمكننا التكهن بعملياته الحقيقية من الطبيعة وكشفها أمام أعيننا بصعوبة.» ومع ذلك، يمكننا أن نقترب أكثر من تعريف الخيال بتحديد تلك الخصائص التي تجعله مراوغًا ومتفلتًا لهذه الدرجة.
الخاصية الأولى من هذه الخصائص هي «تفاوت» المفهوم. فقد نقصد بكلمة «التخيل» استحضار شيء مثل صورة بصرية في عقولنا، كما نفعل عند الاستغراق في الأوهام أو أحلام اليقظة. فالصور الداخلية تشكل جزءًا كبيرًا مما نشير إليه غالبًا بمحتوى التخيل. أو قد نقصد النظر في احتمالات أخرى غير الوضع الحالي، دون أي تصور داخلي على الإطلاق. لقد أتينا على ذكر أشكال الإبداع والابتكار، والتظاهر واللعب، وهي تشتمل كلها على التخيل. بعض هذه الأشكال تجريبي بطبيعته؛ إذ يتضمن شيئًا يشبه الإدراك الداخلي، والبعض الآخر مفاهيمي بطبيعته. ويحدث بعض هذه الأشكال بالكامل في العقل الفردي، في حين ينشأ البعض الآخر من خلال التفاعل الاجتماعي أو المادي.
عادة ما يُعرَّف الخيال في تاريخ الفلسفة بأنه تمثيل داخلي لما هو غير موجود أمام الإدراك. من هذا المنطلق، يرسم التخيل صورة ذهنية أو تمثيلًا تخطيطيًّا آخر على أساس التجربة السابقة. على سبيل المثال، تعامل الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت مع الخيال كنوع من التصور الذهني. وأوضح هذه القدرة بالإشارة إلى أنه بينما يمكنه أن يتخيل أو أن «يتصور» داخليًّا مثلثًا بثلاثة أضلاع، فلا يمكنه سوى أن يتصور مفاهيميًّا — لا أن يتخيل — شكلًا هندسيًّا ذا ألف ضلع. قيل إن هذا النوع من التخيل يحدث في «عين العقل» ويشمل تجربة شبه بصرية. وبمنأًى عن البصر، يمكن لمظاهر الخيال الداخلية أن تنشِّط حواسَّ أخرى، مثل صوت الصفَّارة، أو طعم ثمرة الليمون، أو ملمس الحرير.
اعتبر فلاسفة آخرون الخيال لا تصورًا داخليًّا، بل شكلًا من أشكال التظاهر أو الادعاء. إذ يمكن اعتبار أن التظاهر يشمل القدرة على تقبُّل سيناريوهات مغايرة للواقع، مثل تخيل أنني مزارعة في بلاد الرافدين القديمة، عوضًا عن أن أكون في مكتبي أكتب هذه الكلمات كما أفعل الآن. أو أن يأخذ أحدهم شيئًا حاضرًا بديلًا عن شيء غير حاضر، كأن يتظاهر الأطفال أثناء اللعب بأنَّ قطعة حطب هي سفينة قراصنة، والمرج هو البحر من حولهم. ويمكن أن يشمل التظاهر العنصر التجريبي للتصور الداخلي أو التصورات الحسية الأخرى، ولكن يمكن أيضًا تصوره بشكل مفاهيمي صارم.
دافَع الفيلسوف البريطاني جلبرت رايل عن وجهة نظر مفاهيمية صارمة أو «مفترضة» للتخيل باعتباره تظاهرًا في عمله المؤثر «مفهوم العقل» (١٩٤٩). في مثال رايل الذي يُستشهَد به كثيرًا، يمكنني تخيل حضانة من طفولتي. بالنسبة لرايل، يعني هذا التخيل أنني بحاجة فقط إلى التظاهر بأنني أرى الغرفة، أو تخيُّل ذلك. فليس هناك حاجة لأن توجد في ذهني تجربة بصرية داخلية أو شيء آخر مثل صورة داخلية لهذه الغرفة. وبما أن الصور الداخلية غير ضرورية لحدوث التخيل، كما زعم رايل، فإنها ليست جزءًا أساسيًّا من الخيال.
ومع ذلك، جرى التصدي لهذا الرأي بأمثلة على التخيل تتطلب التصور بشكل أساسي. فمقارنة اللون الأصفر للموز بذلك الخاص بالليمون على سبيل المثال — دون وجود أي فواكه في متناول اليد — ستتطلب شيئًا مثل التصور الداخلي للأمر. علاوة على ذلك، في تخيل غرفة من الطفولة، قد ينطوي الأمر على التظاهر والتصور شبه البصري الحاضر كليهما؛ بينما «أتظاهر» بأنني أرى غرفة من منزل طفولتي، قد أختبر أيضًا شيئًا مثل صورة بصرية لهذه الغرفة، قد تتسبب في أن يشعر كثير ممن يتخيلون بأنها تحقق تجربة التخيل الحقيقي. إن الجدل بين أنصار التخيل المفترَض وأولئك الذين يتبنون التخيل التجريبي يعكس نماذج مختلفة للعقل، وقد يعكس — كما أشار ويليام جيمس في كتابه «مبادئ علم النفس» قبل أكثر من قرن — التباين في قدرات المتخيلين على التصور الداخلي. يمكننا التغلب على هذا المأزق إذا فهمنا التخيل لا كقدرة واحدة، ولكن كقدرة متغايرة ومتباينة الخواص تقبل في حيزها وجود أنماط متعددة. وقبل التطرق إلى هذه الأنماط، يمكننا النظر في المزيد من الصعوبات التي يطرحها الخيال على أي تفسير اختزالي له.
الخاصية الثانية للخيال هي «تباينه فيما يتعلق بإرادتنا». إذ يمكننا أحيانًا أن نتخيل بشكل متعمد كما نرغب ويحلو لنا. فيمكننا أن ننظر إلى السُّحب ونحدد الأشكال التي ربما نرى أنها تصنعها. ويمكننا، عند كتابة قصة قصيرة، تأليف الأحداث التالية. كما يمكننا أن نبتكر طُرفة لتقديم إحدى الخُطب. بالمقابل، قد تفشل رغبتنا في التخيل. إذ يمكننا أن نحاول تكوين صورة لشيء ما ونخفق في ذلك، أو نحاول تكوين فكرة جديدة فلا نبلغها.
ومع ذلك، يمكننا أيضًا أن نتخيل بشكل سلبي أكثر. حيث تتضمن الأحلام تخيلًا مسلوب الإرادة بشكل كلي. ففي أحلام اليقظة، قد تظهر الأفكار المتخيَّلة ببساطة في دفق الوعي لدينا، كما لو كانت تظهر من تلقاء نفسها، غير مرتبطة بواقعنا الحالي. وقد تظهر لنا السُّحب فجأة — دون جهد أو توجيه منا — على شكل وجه، أو على شكل حيوان. فالحد الفاصل بين التخيل المتعمَّد وتدفقه اللاإرادي في أحلام اليقظة قد يكون مطموسًا في الإبداع؛ الإبداع الذي يمكن فيه توجيه تدفق الأفكار التلقائي نحو أشكال أكثر تفصيلًا. في مثل هذه التجربة، قد يكون من الصعب تمييز أي حدود واضحة بين التخيل العمدي والتخيل السلبي.
الخاصية الثالثة للخيال التي تجعله يتفلَّت من التتبع والملاحظة هي «طبيعته الاستبطانية». فبينما يمكن التعبير عن الخيال خارجيًّا، لا يمكن للآخرين ملاحظة عملية التخيل نفسها مباشرة. فقد يكون ما أتخيله أنا غير مرئي تمامًا وغير متاح لك، والعكس صحيح. وفي حين يمكننا فحص دماغ الشخص المتخيِّل لرصد مناطق النشاط العصبي، فإن التخيل يحدث من منظور الشخص الأول، ولا يمكن فهمه بشكل كامل بمعزل عن هذا.
لهذا السبب، يجري غالبًا استدعاء الظاهراتية في الجهود المبذولة لفهم الخيال. فالظاهراتية — من منظور الشخص الأول — هي دراسة ما يظهر للوعي والهيكل الذي يأخذه. وفي حين أنها طريقة فلسفية منهجية ابتكرها الفيلسوف إدموند هوسرل في بداية القرن العشرين، فإنها يمكن أن تعمل بصورة غير منهجية كلما تأملنا تجربتنا المَعيشة من منظور الشخص الأول ووصفناها. وقد خصَّص الفلاسفة الظاهراتيون الفرنسيون أمثال جان بول سارتر، وموريس ميرلو بونتي، وبول ريكور، دراسات ظاهراتية للخيال وعملياته، كما سنرى في الفصل الخامس.
الخيال التوليدي والخيال الإنتاجي
عرفنا الخيال حتى الآن كأحد أنشطة الوعي — سواء كان موجهًا عن عمد أو مَعيشًا كتجربة سلبية — الذي يقدم صورًا أو أفكارًا لما هو ليس ظاهرًا مباشرة في الإدراك، وقد يُحدِث بها تغييرًا. وقد يَحدث هذا التقديم والتغيير في الذهن فقط، أو عبر الإبداع المادي أو اللغوي أيضًا. ومن خلال هذا التعريف يسمح الخيال بوجود أنماط متعددة. لكن قبل توضيحها، يجب أن نضيف تمييزًا آخر.
من الضروري لفهم مدى ضلوع الخيال في المعرفة البشرية التمييز بين الخيال التوليدي والخيال الإنتاجي. مع الخيال التوليدي، نستدعي أو نستحضر في الذهن صورًا أو أفكارًا نعرفها بالفعل من التصورات أو التجارب السابقة. وعليه صنَّف أرسطو الخيال من هذا النوع باعتباره شكلًا من أشكال الذكريات. ومع ذلك، فإن ما نتخيله بهذه الطريقة لا يُعَد على نحو صارم مجرد إعادة إنتاج للذكرى. فإذا كنا نتذكر سيارة معينة كنا نقودها في السابق أو فيلًا قضينا وقتًا معه في مَحميَّة، على سبيل المثال، فإن الذكرى ستكون محددة لما تم إدراكه من قبل. ومع ذلك، يمكننا أيضًا تخيُّل سيارة أو فيل دون تمثيل مركبة معينة أو حيوان معين. في هذه الحالة، قد نستقي من ذكريات مختلفة مع توليد نسقٍ مُجرَّد من أي تجربة معينة.
ويمكن تغيير الصور الخيالية التوليدية أو دمجها لإنشاء صورة جديدة. إذ يمكننا تخيُّل سيارة وفيل. ويمكننا تخيُّل فيل داخل سيارة. ويمكننا أيضًا تخيل فيل يقود سيارة. هنا، الفكرة الجديدة تتجاوز بوضوح أيَّ مكونات أصلية كانت الخبرة السابقة قد قدمتها. قد تثير هذه الفكرة الجديدة تفصيلات أخرى، على سبيل المثال، في كتابة كتاب للأطفال أو رسم كاريكاتير سياسي. إن العديد من التفسيرات التي تصف هذا الجمع أو التوليف يَعتبِر الخيال وظيفة توليدية بالكامل. ومع ذلك، نكون في بعض الأحيان قادرين على التخيل بطرق تنتج أفكارًا جديدة لا يمكن تفسير معناها بالكامل عن طريق جمع الأفكار القديمة معًا.
يمكن لنا أن نجد مثالًا على ذلك في الأدب. اعتمد شكسبير على الخبرة والمعرفة السابقة عندما كتب مسرحيته «هاملت»، حيث يفكر البطل في كيفية التصرف ردًّا على جريمة قتل عمه (المزعومة) لوالده الملك. كان لدى هذا الكاتب معرفة بالأمراء، والمكايد السياسية، وعمليات قتل الأبناء لآبائهم وقتل الملوك، بل كان لديه حتى اسم مشابه، وهو هامنت، اسم ابنه. كان لدى شكسبير أيضًا بعض المعرفة من الحياة، أو التاريخ، أو الدراما الحالية لعلم النفس البشري. ومع ذلك، فإن الادعاء أن شخصية هاملت هي مجرد مزيج من الأفكار السابقة التي كانت لدى شكسبير هو ادعاء لا يبرز جِدَّة إبداعه. فالسمة الخاصة للحياة الداخلية — أو كما يقول شكسبير، «الطبيعة الداخلية» — التي أنشأتها تأملات هاملت الطويلة وغير الحاسمة هي من بين الصفات الجديدة التي أدخلها شكسبير على الخيال الدرامي.
بالإضافة إلى هذه الجِدَّة، قد يكون للخيال الإنتاجي دور أساسي أكثر في التفكير. فبدلًا من إنتاج أفكار جديدة فقط، قد يستحدث الخيال الإنتاجي شكل الخبرة نفسها. فكما سنرى بمزيد من التفصيل في الفصل الثالث، كان كانط يعتقد أن الخيال يشارك في إنتاج هيكل الإدراك البشري نفسه. إذ دفع كانط بأن الخيال، من بين أدوار أخرى يؤديها، يدمج في دوره الإنتاجي المدخلات الحسية في صورة متماسكة حتى يتسنى لنا إدراك الأشياء الحسية المعقدة التي تبقى ثابتة عبر لحظات الإدراك المتتالية. وبما أن الخيال يتوسط بين القدرات الأخرى (بالنسبة لكانط هذه القدرات هي الإحساس والفهم)، وصف كانط هذا النشاط للخيال الإنتاجي بأنه «متجاوز». وفي الآونة الأخيرة، ينسب علماء النظرية المعرفية إلى الخيال دورًا إنتاجيًّا مشابهًا؛ إذ يقال إنه يدمج المفاهيم باستمرار لتشكيل مفاهيم جديدة. في هذا الدور، يُعتقَد أن الخيال يعمل في خلفية الوعي لدينا بحيث يكون غير قابل للملاحظة.
ثَمة مثال أيسر وأقرب منالًا على الخيال الإنتاجي قدَّمه كانط، ويمكن العثور عليه في التجربة الحسية أو العاطفية للجمال. عندما ندرك جمال غروب الشمس أو زهرة الأوركيد، نحن لا نسجل تفاصيلها التجريبية وحسب، ولا ننظر إليها من حيث الجانب المفاهيمي. فنحن لا نرى في غروب الشمس تناثر أشعة الضوء فقط، أو لا نرى في تلك الزهرة جزءًا من نبات يقوم بوظيفة تكاثرية وحسب. بل نشعر أيضًا بالبهجة بسبب انسجام أو حيوية ما يُدرَك، وبسبب جماله أو أي سمة حسية أخرى لافتة للنظر، تُثير — وفقًا لكانط — تفاعلًا حرًّا بين الخيال وقدرة عقلية أخرى، وهي الفهم. فحين نرى أن شيئًا جميل، يقترح كانط أننا ندركه من خلال التفاعل الديناميكي للخيال.
لا يعود هذا التأثير العاطفي إلى سمات الشيء وحدها، بل إلى أنشطة الذات المتلقية التي تحفزها هذه السمات. بكلمات أخرى، الجمال بالنسبة لكانط ليس في عين المتلقي، بقدر ما هو في خياله، أو بالأحرى في تفاعل الخيال مع القدرة العقلية المتمثلة في الفهم. كما أقرَّ سارتر بأن جمال المناظر الطبيعية يرجع إلى الوعي الذي يتلقاه. فالعقل يكوِّن العلاقات بين هذا العنصر وذاك، ويضبط التعددية في هيئة متناسقة أو متناغمة. إن الوعي هو ما يُضفي الصفات التي تمكِّن من رؤية المناظر الطبيعية كمناظر رائعة أو مريحة للنفس. على هذا النحو، يمكن القول إن الخيال مُنتِج، فهو يولِّد منظورًا تفسيريًّا يتكشَّف خلاله العالم بطريقة معينة.
حتى الآن، أشرنا إلى أن الخيال يلعب دورًا في مجموعة واسعة من الخبرات البشرية. فالخيال هو نشاط الوعي الذي يمكن أن يكون مقصودًا أو سلبيًّا، أو مزيجًا بينهما. ويمكنه استخدام الأفكار بصورة توليدية أو المساهمة أيضًا بشكل منتج في تشكيل التجربة. والآن، يمكننا النظر في بعض الأنماط الرئيسية للتخيل.
أنماط التخيل
يمكن ممارسة نشاط التخيل بعدة أنماط. تشمل هذه الأنماط التصور الداخلي، بما في ذلك التصور البصري أو التصورات الحسية الأخرى في العقل؛ والتظاهر، الذي يرتبط به بشكل وثيق التفكيرُ الافتراضي أو المغاير للواقع؛ والتخيل الملموس أو «رؤية الشيء كأنه»؛ والإبداع. وقد ركز العديد من الفلاسفة على واحدة فقط من هذه القدرات باعتبارها الصورة الأساسية للتخيل. وبينما تتيح هذه النُّهج تحليلًا أكثر تيسيرًا، فإن نظرة متعددة الأنماط للخيال يمكن أن تعبِّر عن نطاقه ضلوعه وعمقه في التفكير البشري.
يشكل التصور الداخلي وأنواع التخيل الباطني الأخرى النمط الأكثر شيوعًا عند مناقشة نشاط التخيل. وهو موضوع تحليل سارتر الظاهراتي في كتابه «الخيالي» (١٩٤٠) ودراسات تجريبية في علم النفس في الآونة الأخيرة. ومع ذلك، فإنه متاح لمعظم الناس من خلال التأمل، بما أنهم مرُّوا بتجربة إغلاق عيونهم واجتذاب شيء مثل صورة بصرية إلى «عين العقل» لديهم.
على سبيل المثال، يمكنني تخيُّل رجل ثلج، حتى لو كان اليوم صيفيًّا حارًّا. هذا شيء ليس موجودًا بالفعل في عقلي، ولا يوجد أمام إدراكي المباشر، لكنه يحضر إلى أفكاري ويظهر فيها. يتيح لنا هذا التخيُّل التفكير بحرية دون التقيُّد بالحواس. وإلى جانب هذا الاستحضار، يمكن للخيال أيضًا تحويل مثل هذه الصورة. إذ يمكنني تخيل رجل الثلج على شاطئ، يمسح بمنديل جبهتَه الآخذة في الذوبان. ولما كانت هذه الظواهر الداخلية مُصوَّرة بشكلٍ منظم على أساس الذكريات، فإن لها سمتًا بصريًّا حتى لو لم تَكُن صورًا محددة في العقل.
غير أن التصور الداخلي لا يُعَد بصريًّا فقط في طبيعته؛ إذ قد يشمل أيًّا من الحواس. فيمكنني على نحوٍ مماثل أن أستدعي أصواتًا، أو روائح، أو مذاقات أو أحاسيس ملموسة. وبتجاوز الحواس الخمس، يمكنني استدعاء أحاسيس حسية حركية، أو شعور بالحركة، مثل السقوط، أو الطفو، أو الركض السريع. يمكنني أيضًا تخيل مشاعر حسية عميقة: مثل الجوع، أو الألم، أو اللهث. ففي حين يوصف التصور الداخلي غالبًا بمصطلحات بصرية، فإن بإمكانه استدعاء أحاسيس متعددة من تجارب متجسدة.
ولا يقتصر التظاهر على الادعاء فحسب، بل يمكن أن يشمل تقبُّل فكرة مُغايرة للواقع، والتفكير الافتراضي، وأخذ شيء ما بديلًا لشيء آخر. فكما هو الحال في مثال رايل عن تخيل أنني أرى غرفة طفولتي، يمكنني تخيُّل أن شيئًا ما هو الحال (في حين أنه ليس كذلك). يمكنني تخيل أنني نابليون بونابرت، وأتأمَّل كيف يكون شعوري وأنا في الأسْر على جزيرة سانت هيلينا. يمكن أيضًا أن يتداخل التخيل المغاير للواقع مع التفكير الافتراضي (كما في: إذا فرضنا كذا، فقد ينتج عنه كذا). يمكنني تخيل أنني فزت باليانصيب، فأنظر في مختلف الاحتمالات كما لو كنت في موقع يخولني لتوزيع المبلغ الذي ربحته. يسمح لنا التظاهر أيضًا ﺑ «تخيل هذا مكان ذاك» كما في مثالنا السابق، تخيل قطعة حطب كسفينة قراصنة. هذه القدرة نفسها تسمح لنا بالانغماس في المواقف الخيالية للمسرح والدراما، لنتخيل ممثلًا معينًا كأنه هاملت، وخشبة المسرح كغرفة في قلعة تنتمي للعصور الوسطى في الدنمارك. إن تخيل شيء ما مكان شيء آخر هو أساس التفكير المجازي والرمزي. ومن ثَم، وُصف التظاهر بأنه أصل الفنون.
التخيل الملموس، أو «إدراك جانب ما»، أو «رؤية الشيء كأنه»، كلها تصف ذلك النمط من التخيل الذي يعتمد على الإدراك، ولكنه يولد معنًى، أو تشابهًا، أو قيمة تتجاوز ما هو مُقدَّم إدراكيًّا بصورة مباشرة. فرؤية وجوه في السُّحب هو مثال على مفهوم «رؤية الشيء كأنه»، والذي يُسمى أيضًا «رؤية جانب ما» أو «إدراك جانب ما»، الذي استكشفه فيتجنشتاين الذي أدرك في مثل هذه الظواهر ضلوع الخيال في الإدراك. وصف سارتر ظاهرة التصور «الملموس» ذات الصلة بأنها رؤية قيمة أو صفة رمزية في الأشياء المدركة. لقد ذكرنا المناظر الطبيعية الجميلة التي قد يُرى أنها رائعة أو مريحة للنفس. يقول سارتر إننا بالخيال نعير عاطفتنا للظواهر المدركة، فنرى أكثر مما هو موجود تجريبيًّا. سنناقش هذا التعزيز في إدراكنا للواقع بمزيد من التفصيل في الفصلين الثاني والخامس.
إن التصور الداخلي، والتظاهر، والتخيل الملموس هي كلها أنشطة تقديمية للوعي، ما يُقدَّم فيها — صورة كانت أو فكرة أو اقتراحًا أو تجربة مستدعاة — لا يكون محددًا بالإدراك الحالي. هذه التقديمات كلها مطواعة بطرق لا تنطبق على إدراكنا للواقع؛ ومن ثَم فهي جميعها تحويلية بشكل خفي أو نشط. وينطوي الإبداع على أن يصبح أيٌّ من أنماط الخيال هذه تعبيرية، باستخدام وسائط مثل اللغة، أو الصور، أو الأصوات، أو الحركة الجسدية، أو الأشياء الملموسة. سنخصص الفصل الأخير من هذا الكتاب لتناول الإبداع بمزيد من التفصيل، وستُعرض العديد من المساعي الإبداعية البشرية كأمثلة عبر هذا الكتاب.
إن نطاق الخيال واسع، وأهميته للحياة البشرية كبيرة؛ فهو يلعب دورًا حاسمًا في الوعي، وله أنماط متعددة. ويسمح لنا التخيل بالتخلي عن إدراكاتنا أو أفكارنا الحالية وقَبول الاحتمالات وتطويرها. والتصور البصري أو أنواع التصور الباطني الأخرى، والتظاهر أو قَبول حالات أخرى من الواقع، وتصور احتمالات مغايرة للواقع أو افتراضية، ورؤية الأشياء بطرق رمزية أو كأنها مليئة بالمعنى، هي كلها طرق تسمح لنا بأخذ موقف تجاه العالم، وتطوير منظور له، وربما تغييره.
وبتخيل أكثر ما هو موجود، يمكننا الاستجابة تجاهه بحرية أكبر. فمن خلال تفعيل الخيال، يمكننا التعبير بإبداع عن أفكار جديدة، وأحيانًا دمجها في الواقع. في الفصل التالي، سنستكشف ظهور الخيال في تطور الإنسان ودوره في ظهور الثقافة البشرية.