من الجنون اللاهوتي إلى القدرة المعرفية
على مدار تاريخ الفكر الغربي، كان لمفهوم الخيال سِجل حافل بالاضطراب. فقد اختلف الفلاسفة القدماء والمحدثون الأوائل على حد سواء اختلافًا شديدًا حوله، أو نظروا إلى الموضوع بتناقض لافت للنظر. فبالنسبة لبعض المفكرين، كان الخيال في أحسن الأحوال جنونًا موحًى إلهيًّا، وفي أسوأ الأحوال مصدرًا للوهم الخادع؛ فكان من الضروري الحد من تأثيره إذا كانت هناك رغبة في ترسيخ الحقيقة الموضوعية. وبالنسبة لآخرين، كان الخيال نشاطًا عقليًّا لا يمكن كبته ولا فصله عن المعرفة، وقد يكون أساسيًّا لها.
وعلى مدار تقييماتهم، اعتبر الفلاسفة والكتَّاب أن ضلوع الخيال في التفكير البشري مسألة ذات أهمية كبيرة. وعلى الرغم من الشكوك الكثيرة المحيطة به، فقد أدركنا في النهاية أنه يؤدي وظائف مهمة بل أساسية للعقل البشري. وتَتبُّع تقييم الخيال يتيح لنا النظر في عدد من الأمور: علاقته بالعقلانية والمعرفة؛ ودوره في صنع الصور في الشعر والفن؛ وعلاقته بالعواطف، والأحاسيس الجسدية، والمواجدة، والإدراك. وتكشف هذه النقاشات عن قوة الخيال وتأثيراته العميقة على الشخص الذي يمارسه.
نقد الصور والمظاهر
في اليونان القديمة، حيث بدأت الفلسفة الغربية، كان الأدب الشعري مصدرًا أساسيًّا للأفكار حول الأمور اللاهوتية والبشرية كليهما، وحول موضوع تأثيره بدأ الجدال حول الخيال. وكانت قد قدمت قصيدة «أنساب الآلهة» لهسيود والحكايات الملحمية لهوميروس للمواطنين اليونانيين القدماء رؤًى حول أصول الكون وأهمية الآلهة في الشئون البشرية. وقدم الكُتَّاب المسرحيون مثل يوربيديس وسوفوكليس ليس فقط الترفيه، ولكن أيضًا استكشافات مهمة للأفكار. كما أثَّر الخطباء في الحياة العامة مثلما يفعل المعلقون السياسيون والاجتماعيون اليوم.
وقد ظهرت الفلسفة لتنافس بشكل مباشر هذه الأنشطة الأدبية. فينبغي فهم معالجة أفلاطون للخيال في ضوء جهوده لضمان ارتقاء الفلسفة على تأثير الأدب الشعري وإقناع الخطب. كان أفلاطون يهدف إلى تحقيق النصر فيما سماه «الخصومة القديمة» بين الفلسفة والشعر. فطبقًا لرأيه، لم يكن الشعراء ولا الخطباء يملكون أي معرفة حقيقية؛ ومن ثَم كان تأثيرهما خطيرًا.
كان نقد أفلاطون للشعراء والفنانين (وللخيال بشكل ضمني) نقدًا واسع النطاق على الرغم من الموهبة الأدبية الاستثنائية التي أظهرها في حواراته الفلسفية. ففي كتابه الحِواري «الجمهورية»، دعا أفلاطون على لسان شخصية سقراط إلى الرقابة على الشعراء، بل حتى نفيهم على أساس أنهم يعززون الأوهام، بل الأكاذيب. ومن خلال بطل كتابه، ينتقد أفلاطون الصور الشعرية والفنية لأنها تشوش على استيعابنا للواقع. فيرفض التصويرات الشعرية للأحداث، مثل تغيير الإله شكله، باعتبارها كاذبة ووهمية. كما يقرِّع التظاهر — مثلًا، في الدراما عندما يجسد ممثل واحدٌ شخصيات متعددة — باعتباره يضر بالنظام الاجتماعي، إذ يجب تعيين دور واضح لكل مواطن. ويقترح أفلاطون أن الدولة يجب أن تكون تحت حكم من لا تتحرك روحه إلا بالعقل وحده، وليس برؤية شعرية — ومضللة بشكل خطير — تقوم على المظاهر المجردة.
في أعماله، يتصور أفلاطون الخيال بعدة طرق مترابطة: فيما يتعلق بالإبداع الفني للصور، ومن حيث صلته بالإدراك، ومن حيث علاقته بالعواطف. الخيال مُضمَّن في نقد أفلاطون للمحاكاة، أو إنتاج الشعراء والفنانين للصور. وبما أنه يعتبره تعاملًا مع المظاهر، فإن أفلاطون يتناول الخيال كجزء من وصفه لإدراك تلك المظاهر. كما يقر بشكل مباشر بقدرة الروح على صنع الصور، وتوغل الخيال في العواطف البشرية. ولنرى كيف فهم أفلاطون الخيال، يمكننا التطرق إلى كلٍّ من هذه الأمور على التوالي.
المحاكاة هي المهارة الفنية الخاصة بخلق الشبيه أو — بشكل أساسي أكثر — التقليد من خلال الصور البصرية أو اللفظية. فتصوير الجاموس، والخيول، والغزلان على جدران كهف شوفيه الذي ذكرناه في الفصل السابق هو محاكاة، مثلما هو تصوير هوميروس لتيه أوديسيوس، أو التقديم المسرحي لأوديب في مأساة سوفوكليس. ويمكن أن تكون الموسيقى محاكاة عن طريق نقل الحالة المزاجية أو الشعور. ويعزو الفلاسفة اليونانيون القدماء أصل كل الفنون إلى المحاكاة. ومع ذلك، يؤكِّد أفلاطون على أن الشبيه أو التقليد الذي يصنعه الشعراء والفنانون مضلل بطبيعته. فالتشويه بالمحاكاة محتوم ولا مفر منه، كما يجادل أفلاطون؛ إذ إن تمثيل الأشياء في صور شعرية أو بصرية ينفصل عن الواقع الحقيقي بعدة درجات.

وفي عهد قريب أكثر، تخلت ترايسي أمين في نُصبها الذي بعنوان «فراشي» (١٩٩٨) عن التمثيل المحاكي لهذا الشيء تمامًا. إذ أعدَّت الفنانة إطار صندوق، ومرتبة، وأغطية مستعملة، ووسائد، وبقايا مختلفة من حياتها الفعلية في الفراش في غير ترتيب. وحقيقة أن عمل أمين ترشَّح لجائزة تيرنر، وبيع في مزاد عام في عام ٢٠١٤ مقابل عدة ملايين من الدولارات، لا تعكس فقط التوجه المُعارض لأفلاطون من جانب جامعي التحف الفنية المعاصرين، ولكن أيضًا الاستكشاف المستمر للتقليد كمبدأ مفترض للفن وتحدٍّ لمكانته كعمل نموذجي للخيال.
استخدام أفلاطون لهذه المجموعات من المصطلحات يحمل علامات ما ورائياته، أو نظريته عن المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الواقع، وإبستمولوجيته، أو نظريته عن المعرفة. ونتذكَّر أن أفلاطون يرى أنه لا يمكن فهم الوجود الحقيقي بالتجربة الحسية، ولكن فقط في العقل باستخدام المنطق. فما يمكننا أن نستوعبه بالحواس — التجلي التجريبي للواقع — هو مجرد مظهر. ويشير أفلاطون مرارًا وتكرارًا إلى أن المظاهر يمكن أن تكون خادعة؛ لأن مظهر الشيء لا يشير بالضرورة إلى طبيعته الحقيقية. وفي كتاب «الجمهورية» يستشهد سقراط بمثلَي القصبة التي تبدو منحنية في الماء وهي في الواقع مستقيمة، والشمس التي تبدو صغيرة في السماء.
يقارن أفلاطون بين قدرات الروح التي تدرك المظاهر بتلك التي في المقابل تتحصل على معرفة بواقع أعمق. فيستدعي أفلاطون استعارة الخط المقسم لشرح التوزيع المعرفي للروح. ينقسم الخط بين نصف علوي متضمن قدرات الإدراك العقلي والفهم التي تختص بالمعرفة، ونصف سفلي بقدراته التي تتعامل مع مجرد الرأي. على النصف السفلي هذا يقع الاعتقاد والخيال (إيكاسيا). في حين يتعامل الاعتقاد مع موضوعات الإدراك الحسي (أي أخذ الأشياء كما تظهر)، يتعامل الخيال مع صور أو ظلال، أو «أطياف» تلك الأشياء فقط — مثلما يمكن تصويرها في الأعمال الأدبية أو الفنية، أو مثلما تُستدعى في عين العقل. وفي مناقشة الشعر، يشير سقراط إلى الجزء الفكري لدينا الذي تقترن به الصور — الممثلة في النصف السفلي من الخط — بأنه أدنى من «الجزء الذي يضع ثقته في القياس والحساب» — النصف العلوي من الخط. بعبارة أخرى، يقع الخيال في مرتبة أدنى من العقل.
قد يكون الخيال خطيرًا أيضًا؛ إذ يعيِّن أفلاطون موقع العواطف كذلك في الجزء السفلي من الروح، الذي يتأثر بشدة بمثل هذه الصور، ولا يخضع لسلطة العقل. ومن بين أمور أخرى، يدور في ذهن أفلاطون أيضًا في كتابه «الجمهورية» التجارب المؤلمة، مثل تلك الممثَّلة في الشعر المأساوي. فيتهكم على تصوير الرثاء والحزن العميق، حيث قد يشير هذا إلى نظرة سلبية للموت أو الحياة الأخرى، ويثبط الشجاعة المطلوبة لتضحية المرء بحياته من أجل أمته. ويشمل نقد أفلاطون للخيال تشابكه مع العواطف الدنيا التي يرى أنها تفسد الروح وتشتت الانتباه عن تأمل أسمى موضوعات الفكر.
غير أن هذا النقد القاسي ليس كل ما في الأمر فيما يتعلق بالخيال بالنسبة لأفلاطون. إذ يسمح كتابه الحِواري اللاحق بعنوان «فيدروس» بمناقشة مختلفة جدًّا حول الفانتازيا، والصور، والشعر. يتعلق الحوار بين أمور أخرى بطبيعة الشهوة أو الحب الرومانسي. يُقال إن مظهر الحبيب الجميل يوقظ رؤية أسمى للجمال الإلهي، حيث يُعَد هذا الحبيب انعكاسًا أو صورة لشكله أو ماهيته الإلهية. في هذا الحوار نفسه، يعترف أفلاطون على لسان سقراط أن الشعراء قد يكون لديهم هبة تمييز طبيعة الجمال، وأن الشعر بالفعل قد يكون مُستلهَمًا من الآلهة. لكن التعرض لهذا الإلهام ليس شكلًا من أشكال المعرفة. بدلًا من ذلك، يسميه سقراط شكلًا من أشكال الجنون، ولكنه جنون إلهي المصدر.
وفي حين يناقش أفلاطون في كتابه «الجمهورية» الإدراك السلبي للمظاهر أو إبداع الفنانين والشعراء لصور مقلَّدة، فإنه في كتابه الحواري «فيليبوس» يصف الإنشاء الإيجابي للصور داخل الروح نفسها. في هذا الكتاب، يشبِّه سقراط الروح بكتاب فيه كاتبٌ داخلي يسجل الذكريات. كما يقدم سقراط «عاملًا» آخر، وهو «الرسام، الذي يرسم في أرواحنا صورًا لتوضيح الكلمات التي كتبها الكاتب». غير أن هذه ليست مجرد وظيفة لمساعدة التذكر، حيث يتفق سقراط ومُحاوره على أن هذه الكتابة والصور في الروح لا تتعلق بتجارب الماضي وحسب، ولكن أيضًا بالتوقعات. هذا التصوير الداخلي ذو صلة ﺑ «جميع الآمال المتعلقة بالمستقبل». ومن ثَم يعترف أفلاطون بدور الخيال في الفكر التوقعي.
وعلى الرغم من اعتراف أفلاطون بدور الإلهام الإلهي والتوقع، فإن رؤيته العامة للخيال تظل تحذيرية ونقدية. فالخيال يتعامل مع الصور غير الموثوقة معرفيًّا، ويمكن أن يضلل الروح عن بحثها عن المعرفة والحقيقة.
تكمن المفارقة في نقد أفلاطون بالطبع في أن كتاباته خيالية بشكل غير عادي. حيث يستخدم أفلاطون الاستعارات الحية، والمقارنات الإبداعية، والأمثلة التوضيحية الخيالية، والروايات الأسطورية. والكهف الذي أتى على ذكره في كتاب «الجمهورية»، حيث الأفراد السجناء يشاهدون الظلال على الجدار كمثال لخداع التجربة الحسية، هو مجرد مثال واحد من أمثلة عديدة على استخدامه لأدوات الخيال المرتبطة عادة بالشعر. من الواضح أن أفلاطون كان يقدِّر قيمة الخيال كأداة مفيدة للفيلسوف، ما دام أنه مقيد بالفكر العقلاني.
الصور الفكرية وفن الإمكانيات
قد يكون الخيال أكثر أهمية للتفكير مما اعتقد أفلاطون. إذ يرد أرسطو على نقد أفلاطون بوصفه للخيال كقدرة إيجابية للعقل تنتج الصور اللازمة للإدراك المعرفي. ففي كتابه «عن الروح»، يصف أرسطو العملية «التي نقول من خلالها إن الصورة تكون معروضة أمامنا»، وينظر إلى الخيال باعتباره تلك القدرة على صنع الصور. وفي حين لا يميز تناول أفلاطون دائمًا بين تصور المظاهر وإنتاجها في العقل، يميز أرسطو بوضوح بين الخيال في العقل والاستقبال الحسي الأولي. ويشير إلى أن الرؤى من خلال الخيال تظهَر للأشخاص «حتى وعيونهم مغلقة».
وفي رأي أرسطو، لا يجب اعتبار الخيال مُضللًا برغم حقيقة أن الصورة قد لا يكون لها أساس في الواقع أو تنحرف عنه انحرافًا شديدًا. وعلى عكس أفلاطون، يدفع أرسطو بأننا يمكن أن نتخيل شيئًا خاطئًا دون الوقوع في الخطأ بالضرورة بقيامنا بذلك. فكما أن الخيال مختلف عن الإدراك الحسي، فهو أيضًا مختلف عن الاعتقاد. يمكننا أن نتخيل الشمس ككرة صغيرة في السماء، في حين نعلم أنها أكبر بكثير من الأرض. يمكننا أن نتخيل شيئًا لا يوجد في الواقع على الإطلاق، مثل حيوان الجريفين الخرافي، دون الاعتقاد في صورته. فهذا الاستقلال للخيال عن الاعتقاد يتيح له أن يكون قوَّة معرفية متميزة يمكنها تجنب الخطأ بما يتماشى مع الاعتقاد الصحيح.
يمكن أيضًا أن تستفيد الروح المفكِّرة بالصور كما لو كانت محتويات للإدراك. حيث يمكن أن تكون هذه الصور موضوعًا لتقدير الروح ونواياها، بحيث تقبل الروح بما تعتبره جيدًا وتسعى له، أو تنكر ما تعتبره سيئًا وتتجنبه. وفي الواقع، يعتبر أرسطو الخيال أساسيًّا لأي تفكير، زاعمًا أن «الروح لا تفكر أبدًا بدون صورة ذهنية». ويحدد أرسطو كيف يعمل التفكير عبر استخدام هذه الصور. ففي كتابه «عن الروح»، يكتب:
إذن، ملكة التفكير تتخيَّل الأفكار في هيئة صور … أحيانًا من خلال الصور أو الأفكار في الروح، كما لو كانت تراها، تحسب وتخطط للمستقبل من منظور الحاضر …
هنا يقترح أرسطو أن الخيال لا يقدم فقط للعقل صورًا تعتمد على التجارب السابقة، ولكنه يتيح لنا تصور الإمكانيات المستقبلية. ومثل سقراط في كتاب «فيليبوس» لأفلاطون، يعترف أرسطو بدور الصور التوقعية. وعلى نحوٍ وثيق الصلة بهذا، إن القدرة على استكشاف الإمكانيات — ما قد يحدث أو ما يمكن أن يحدث، كما في التفكير الافتراضي — أمر أساسي للابتكار.
لم يدرك أرسطو فقط الوجود المطلق للخيال في التفكير، ولكنه قدَّر أيضًا التعبير عنه في الأعمال الإبداعية. وفي كتابه «فن الشعر»، يحدد أرسطو الهيكل الملائم والعناصر المناسبة للمأساة الناجحة، بما في ذلك «الفكر» الذي يشكِّل العمل كليًّا. ويدفع أرسطو بأن هذا الشعر فلسفي أكثر من التاريخ؛ لأنه يخبرنا ليس فقط بما حدث، ولكن «بما يمكن» أن يحدث. وعلى عكس نقد أفلاطون للخيال الشعري، يدافع أرسطو أكثر عن الشعر وعن التطهير الذي يمكن أن يثيره باعتباره مفيدًا للروح الفردية، وكذلك للمجتمع. وبينما حذَّر أفلاطون من أخطار إثارة العواطف، كان أرسطو يعتقد أن إبداء العواطف من خلال التعاطف الذي يثيره الخيال مع الشخصيات المأساوية له وظيفة مفيدة في توازن الروح.
تشير هذه الروابط بين الخيال والإمكانية، سواء في التفكير المتأني أو في التمثيل الشعري، إلى أن الخيال لا يحتاج إلى أن يكون مدركًا فقط بشكل توليدي (حيث يكون الخيال مشتقًّا فقط من التجربة الحسية). لأنه إذا كان الخيال هو ذلك العنصر من عناصر عقلنا الذي يتيح لنا التفكير في الإمكانيات التي تنحرف عما هو واقع بالفعل، فإن التخيل — أو التفكير القائم على الخيال — سيكون أيضًا مصدرًا للأفكار الجديدة. وعلى عكس وجهة النظر التوليدية بالكامل للخيال، تروج فلسفات القرن الثامن عشر وما بعدها للخيال الإنتاجي. وهذه الفلسفات تدين بالكثير إلى إدراك أرسطو أن الخيال يمكِّننا من التفكير في الإمكانيات.
الشعور المتجسد والمواجدة والخداع
يثير الخيال التجارب الجسدية، وكان هذا الجانب من الخيال هو أكثر ما شغل بعض المفكرين المحدثين الأوائل. ففي مقاله «عن قوة الخيال» (١٥٧٤)، قدَّم الفيلسوف وكاتب المقالات الفرنسي ميشيل دي مونتين نظرية للخيال المتجسد تساعد في تفسير العديد من الظواهر المتعلقة بالخيال، بما في ذلك المواجدة، والهوس، والتجارب النفسية الجسدية. جادل مونتين بأن الخيال مسئول عن قدرتنا على الشعور بالتعاطف مع الآخرين. في رأيه، يسهل الخيال المشاركة المباشرة للعواطف، أو الاستجابات، أو المخاوف بين ذات متخيِّلة وأخرى. وعلاوة على ذلك، للخيال تأثير مباشر على التجربة الجسدية للمتخيِّل. إذ يكتب: «نحن نجفل، نرتعد، ونشحُب، ونخجل، في حين نتأثر بالخيال بأشكال مختلفة.»
مرَّ معظمنا بتجربة التثاؤب بعد أن يتثاءب شخص آخر في حضورنا، في شكل من أشكال التعاطف المعدي. يفسر مونتين هذه الظواهر من خلال الإشارة إلى استجاباته المتعاطفة الشديدة الحساسية، غالبًا من خلال إحساس جسدي. فيكتب: «يؤلمني فعليًّا مجرد رؤية شخص آخر يتألم. فأنا غالبًا ما تنتقل إليَّ أحاسيس الشخص الآخر». ومن خلال هذا النقل الخيالي، وبمثال مونتين، يمكن لأحدهم أن يشعر بحكة في حلقه عندما يسعل شخص آخر. وقبل أن يأتي ديكارت ليثير الشكوك في وجود عقول أخرى، يجادل مونتين بأن الخيال يعطي المرء اتصالًا شبه مباشر مع التجارب الجسدية أو النفسية للآخر من خلال تقليدها أو محاكاتها غريزيًّا. فإذا سعل الشخص الآخر، فقد أسعل أيضًا. وإذا كان الآخر يعاني من قلق، فقد يثير هذا فيَّ شعورًا بالقلق. فالسعال أو القلق هنا ليس أقل واقعية، حتى ولو أثاره الخيال.
بينما وصف مونتين تجربته الشخصية، حيث يعدُّ نفسه مصابًا أو موهوبًا بخيال قوي، فقد درس علم النفس المعاصر ظاهرة المواجدة الاجتماعي. تصف بعض النظريات المعرفية هذه القدرة على أنها محاكاة العقل لتجربة شخص آخر. وقد حدَّد علماء الأعصاب آلية عصبية مرآتية في الدماغ حيث تُنشط الخلايا العصبية عند مشاهدة شخص آخر يقوم بإجراء معين. تشير هذه التفسيرات، على التوالي، إلى العمليات المعرفية وآليات الدماغ التي تكمن وراء تجارب المواجدة كما وصفها مونتين. وبينما تساعد هذه التفسيرات على شرح الارتباطات المعرفية والجسدية للمواجدة الاجتماعية، يظل الخيال هو وسيلتها التجريبية.
ولا تقتصر المواجدة على رد فعل فوري ولا شعوري، بل يمكن تنميتها من خلال بذل جهد عمدي لتخيل وجهة نظر الآخر. ويُعزى إلى الأدب تعزيز التخيل بقصد المواجدة. فقد اعتبر أرسطو الشفقة أو التعاطف مع معاناة الشخصيات من بين المشاعر الأساسية التي تثيرها الدراما المأساوية. وفي كتابها «العدالة الشعرية» (١٩٩٥)، أيدت الفيلسوفة مارثا نوسباوم الرأي القائل بأن الأدب يساعدنا على التخيل؛ ومن ثَم التعاطف مع وجهات نظر الآخرين غير المشابهين لنا، وبأن الخيال الأدبي يؤدي من ثَم وظيفة ديمقراطية. وفي الآونة الأخيرة جادل المنظرون بأن الأدب يعمل على ممارستنا ﻟ «نظريتنا للعقل» — الفكرة التي تقول بأننا ندرك أن الآخرين يعايشون تجارب مثل تجاربنا، وبأننا يمكن أن «نقرأ العقول». قد يكون هذا الأمر متعدد الطبقات في التجربة الأدبية — مثلًا، عندما نستطيع تخيل وجهات نظر الشخصيات المتعددة ومنظورات بعضهم تجاه بعض — ولكنه يشكل أيضًا جزءًا من تواصلنا الإنساني الأساسي. بفضل الخيال، ندرك أن الآخرين يعايشون التجارب كما نعايشها نحن، على الرغم من أن هذه التجارب ليست متاحة لنا بصورة مباشرة.
بصرف النظر عن المواجدة المتجسدة، يقدم مونتين عددًا من الأمثلة المشوقة التي تُظهِر الخيال ليس فقط كسمة للحياة العقلية، ولكن كقوة جسدية. ويشير إلى التأثيرات المتغيرة للخيال على النشاط الجنسي، وما نسميه الآن بتأثير الدواء الوهمي، حيث تُحدِث المواد التي نعتقد أن لها قوًى شفائية أو غيرها من القوى المفيدة تلك التأثيرات استنادًا إلى معتقداتنا. ويتساءل إذا كان للالتزام الديني تأثيرات مماثلة على الحالة النفسية؛ ومن ثَم يستبق بعض الدراسات المعاصرة في علم النفس التجريبي. (بينما لا توجد أدلة علمية (حتى وقت الكتابة) تشير إلى أن الصلاة تؤثر تأثيرًا مباشرًا على الصحة، فقد أظهرت تقنيات التصوير أنها تؤثر بشكل إيجابي على الحالة النفسية للأفراد الخاضعين للتجارب).
ومع ذلك، تتجاوز تكهنات مونتين نطاق المعقولية. إذ يتساءل، في غياب التدقيق العلمي، ما إذا كان بالإمكان إحداث تأثيرات جسدية في العالم من خلال الخيال وحده. يشير مونتين على سبيل المثال إلى حكاية عن صقَّار قيل إنه أسقط طائرة ورقية بنظرة منه. كانت مثل هذه التكهنات ستثير القلق بشأن الخيال في عصر مونتين.
ولم يكن الفلاسفة هم المفكرين الوحيدين المهتمين بفهم الخيال. فقد استكشف شكسبير في عدد من أعماله المسرحية قوة الخيال، لكنه أعرب عن شك أكبر من شك مونتين في فاعليته. ففي مسرحيته «حلم ليلة منتصف صيف» (١٦٠٥)، وهي مسرحية كوميدية تصوِّر الجنيات والتعاويذ وتغيير الشكل بالسحر، يهاجم الخيال بشكل هزلي كمصدر للخطأ، وكمحفز للاضطراب العصبي والهوس. ومعالجة شكسبير للخيال في المسرحية معالجة تحليلية أيضًا. إذ يرصد ثيسيوس، الشخصية الرئيسية في المسرحية، شقاء الآخرين وبلاياهم، ويعلق على التشويهات والاختلالات التي تسبب بها الخيال، ويُشير ضمنًا إلى أن الجمهور من بين الذين خدعهم سحره.
فكما تستسلم الشخصيات لحالات تغير الوعي والهلوسة، ينجذب الجمهور إلى عالم المسرحية، ويتعرض لخيالاتها وأوهامها الجامحة. ويعلق ثيسيوس على الرؤى الخيالية «الشديدة الغرابة»، قائلًا:
يرى ثيسيوس أن الشاعر غير عقلاني مثل العاشق والمجنون. فبينما يرى الشخص المجنون الشياطين في كل مكان، ينخدع العاشق بخيالات عن الجمال السامي لمحبوبته. ويكاد شكسبير يشير ضمنًا إلى أن الانخداع بالخيال موطن ضعف إنساني مشترك بين البشر جميعًا. ويبدو أن مؤلف مسرحية «حلم ليلة منتصف صيف» يجد متعة كبيرة في استكشاف شطحات خيال الشاعر خاصة.
هنا يحاكي شكسبير ساخرًا نقد أفلاطون للشعراء في كتابه «الجمهورية». فالشاعر ليس مخدوعًا بالخيال وحسب، بل يضلل الآخرين ويخدعهم عمدًا بالتخيل، والآخرون هم جمهوره وقرَّاؤه. وبينما يقف العاشق والمجنون عاجزين تحت سيطرة الخيال، يكون خيال الشاعر متعمِّدًا وموجِّهًا. فيدين شكسبير الخيالَ بأنه يميل إلى اختلاق السببية بدلًا من الصدفة المحضة، وبإثارته للخوف، يحوِّل الأشياء العادية إلى أخطار. ويستبق شكسبير هنا مفهوم الخيال الإنتاجي، باعتبار أنه يدين أيضًا إثارةَ الخيال للاستدلالات الخاطئة؛ فحين نشعر ببعض الفرح، يختلق لنا الخيال فكرة عن مسبب هذا الفرح. وعند رؤية شجيرة في مساء مظلم، قد نخاف منها كأنها دب. فالخيال يبتكر شيئًا من العدم، ويحوِّل ما هو موجود بطرق تثير مشاعرنا، وتأسر أفكارنا، وربما تضلل أفعالنا. كما يولِّد الخيال الخرافة والهوس، إلى جانب التسلية الكوميدية.
كما أننا لا يمكن أن نجد في الخيالات عونًا أو ملاذًا؛ ومن ثَم يشير شكسبير إلى فقر الخيال. ففي مسرحيته «ريتشارد الثاني»، يذكرنا على لسان بولينبروك أن الخيال ليس مساويًا للواقع، وذلك من خلال استدعاء الأحاسيس المتناقضة:
يمكننا أن نحمل جمرة في أيدينا، ولكننا لا نستطيع منع أيدينا أن تحترق من خلال التفكير في الجبال الجليدية. ولا يمكننا أن نُشبع شهيتنا بمجرد الأفكار. تكمن المفارقة هنا في أن شكسبير استخدم الصور الحية ليبرز لنا حدود الخيال.
الخيال المنهجي وتوليف الخبرات
إذا كان الخيال يثير القلق بين أبناء أوائل العصر الحديث، فقد سعى بعضهم إلى الحد من قوة الخيال. حيث سعى ديكارت للتفريق بين الجزء المنطقي من العقل وذلك الخاص بالخيال. فبينما كان هناك إدراك بأن الخيال يتوسط بين الحواس والعقل — إذ يَستحضر إلى الذهن أفكارًا عن الأشياء المادية — يرى ديكارت أنه لا يجب أن يكون له تأثير يتجاوز الحد. فلم يكن التنافس بين الفلسفة والفنون الخيالية وحده هو ما كان على المحك، ولكن الثقة في فهم العقل للأفكار العقلانية التي من المفترض أن تكون أساسًا للعلوم الحديثة.
بالنسبة لديكارت، يتعامل التفكير العقلاني والخيال كلاهما مع الأفكار في الذهن، ولكنهما مع ذلك قدرتان مختلفتان، وتُعَد الأولى وحدها أساسية للإدراك المعرفي. فالخلط في تحديد مصدر أفكارنا لا يعرضنا لخطر الوقوع في الخطأ وحسب. بل يجعل أي جهد لفهم طبيعة الواقع من خلال الأفكار العقلانية جهدًا متزعزعًا.
ومن ثَم، في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» (١٦٤١)، يربط ديكارت الخيال بالتشوهات الإدراكية والأوهام والجنون. فوفقًا لديكارت، الأفكار الفطرية واضحة ومتميزة، ولكن الأفكار الناتجة عن الخيال هي مجرد أفكار مشتقة، ومنسوخة من الانطباعات الحسية، ومُعاد تجميعها، وقد نعايشها كأوهام أو هلوسات. ويصف ديكارت الأشخاص الذين استسلموا للخيال بأنهم:
يُصرون بثبات ورسوخ على أنهم ملوك في حين يكونون فقراء تمامًا، أو أنهم يرتدون ثيابًا موشَّاة بالأرجوان في حين أنهم عراة، أو يتخيلون أن لهم رءوسًا من الطين، أو أنهم جرار، أو أنهم مخلوقون من الزجاج.
ويدفع ديكارت أيضًا بأن التفكير يمكن أن يعمل بدون الخيال؛ ومن ثَم فإن الخيال ليس جزءًا أساسيًّا من الذات المفكِّرة.
في حين ستُستخدم العمليات الفلسفية الخاصة بديكارت الخيال بطرق مميزة ومثيرة للاهتمام، فإن الخيال في الكتاب المشار إليه سابقًا وفي كتابه «مقال عن المنهج» (١٦٣٧) يُهاجَم بشدة، باعتباره مرتبطًا بالحياة الحسية التي تتسم بعدم اليقين والإشكال المعرفي. في هذا الكتاب الأخير، يستبق ديكارت حججه في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى»، ويجادل من أجل أولوية العقل — باعتباره الملكة القادرة على إنتاج الأفكار الواضحة والمتميزة — على الخيال والتجربة الحسية التي يعتمد عليها. فيدفع ديكارت بأن اليقظة المعرفية — أي استخدام الحكم العقلاني للحد من تأثير الصور الخيالية — مطلوبة لمواجهة الخيال؛ لأنه «ليس مما يُمليه العقل أن يكون ما نراه أو نتخيله موجودًا في الواقع».
وعلى الرغم من إعلان ديكارت أن الخيال ليس أساسيًّا للعقل العقلاني، فإنه يسمح بمساحة للتخيل في كتاباته الفلسفية والعلمية. في الواقع، يُشرِك ديكارت الخيال بطريقة منهجية في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى». فمثلما يُشرِك أفلاطون الصور والاستعارات والأساطير، يُشرِك ديكارت التظاهر والتراكيب الافتراضية والتصور كأدوات لعملية الشك المنهجية لديه. فلم يكن الخيال فقط الوسيط الذي حقق من خلاله ديكارت التجارب الفكرية في كتابه هذا — إذ كان أداة لهذه الصور المغايرة للواقع — ولكن أيضًا أحد الموضوعات الرئيسية لتلك التجارب.
يستهل ديكارت كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» بادعاء أنه يستأصل من عقله جميع الآراء المتراكمة، بما في ذلك تلك المستمدة من التجارب الحسية، من أجل ترسيخ أساس موثوق به للتفكير العلمي. ووجود المفكر ككائن مفكِّر هو الحقيقة الواحدة التي لا ريب فيها، والتي يمكن أن تشكِّل نقطة مرجعية وأساسًا للتفكير المنطقي في حد ذاته. غير أن الوصول إلى هذه الحقيقة الأساسية يتطلب استخدامًا منهجيًّا للخيال. إذ يجب على ديكارت أن يقارن فهمه اليقيني لنفسه كعقل مفكِّر مع احتمالات مضادة مفترضة — كان الاحتمال الأشهر هو وجود مخادع شرير يحمله على الاعتقاد بأنه موجود — من أجل استبعادها باعتبارها غير منطقية. ويدفع ديكارت بأنه قد يكون مخدوعًا بشأن جسده، ولكنه لا يمكن أن يكون مخدوعًا بأنه على الأقل «شيء مفكر». لأن من يشك في وجوده، لا بد أن يكون موجودًا من أجل أن يشك في هذا الوجود في المقام الأول.
الخيال ضروري أيضًا للتأمل فيما قد نملكه من معرفة بالعالم. ففي كتابه «مقال عن المنهج»، يعرِّف ديكارت الخيال بأنه القدرة على تأمل «شكل شيء مادي». فالخيال يتيح للعقل إمكانية استحضار أفكار عن الأشياء التي قد تنتمي إلى عالم الحواس وتأملها أو التلاعب بها. فالخيال ضروري بالنسبة للعقل لكي يتمكَّن من بناء تمثيل للعالم يمكن تطبيق فهمه العلمي عليه.
يمكننا أن نجد مثالًا على هذا في دراسات ديكارت العلمية. فلدى شرحه لكيفية ظهور قوس قُزَح في السماء، يتصور ديكارت منظورًا يمكن من خلاله للضوء — الذي يصيب قطرات المطر بزاوية معينة — أن ينتج الألوان. ومن دون هذا التصور الافتراضي، لم يكن بإمكان ديكارت شرح الظاهرة. وفي حين يشدد ديكارت على أن الخيال ليس جزءًا أساسيًّا من الذات المفكِّرة، فإنه يعترف في كتابه «مقال عن المنهج» بأن الأفكار التي تنشأ في الخيال لا بد أن «تنطوي على قدر من الحقيقة».
وبعد قرن من الزمن، يحدث تطور في النظرة إلى الخيال عندما يعيِّن الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم أدوارًا أخرى للخيال — لا تقتصر فقط على تقديم أفكار الوجود الجسدي، ولكن أيضًا توليفها. ففي كتابه «تحقيق حول الفهم الإنساني» (١٧٤٨)، يصف هيوم القدرات المختلفة التي يجب أن ننسبها للخيال. فبالخيال، يمكننا الانخراط في إنشاء التراكيب الخيالية، وادعاء (أو ما سميناه التظاهر) وتجسيد (من خلال التصور) هذه المظاهر بشكل مقنع. يكتب هيوم:
لا شيء أكثر حرية من خيال الإنسان؛ وعلى الرغم من أنه لا يمكنه تجاوز ذلك المخزون الأصلي من الأفكار الذي تقدمه الحواس الداخلية والخارجية، فإن لديه قوة غير محدودة على خلط هذه الأفكار، وتركيبها، وفصلها، وتقسيمها، في جميع أصناف التخيل والتصور.
بينما وُصف الخيال عند هيوم في البداية بمصطلحات إيجابية، مثل الحرية والاقتدار، فإن وصفه لما يفعله الخيال محدود بوظيفة توليدية. فالخيال لا يخلق أي شيء جديد في حقيقة الأمر، ولكنه يخلط، أو يُجمِّع، أو يفكِّك، أو يقسِّم أفكارًا أخرى.
وتنشأ الصعوبة مع تعذر إمكانية الفصل بين الخيال والاعتقاد. ففي حين فصل أرسطو بين هاتين القدرتين، لا يفصل هيوم بينهما. يستطرد هيوم عن الخيال فيقول:
يمكنه اختلاق سلسلة من الأحداث ويضفي عليها صبغة الواقعية، وينسب لها زمانًا ومكانًا معينين، ويتصورها على أنها موجودة بالفعل، ويصبغها بكل التفاصيل الخاصة بأي حقيقة تاريخية، ويؤمن بها بأكبر قدر من اليقين.
وكما أشار شكسبير، يمكن للخيال أن يثير عوالم خيالية ليس فقط باعتبارها موجودة، ولكن باعتبارها يقينية. وبينما تَكلَّف أرسطو المشاق للتفريق بين تخيل صورة زائفة والاعتقاد فيها، يتبع هيوم شكسبير في أنه ينسب إلى الخيال اختلاق ميل للخلط بين تصور الشيء والاعتقاد بوجوده.
يُقرُّ هيوم أيضًا كفيلسوف تجريبي — ورغم نقده للخيال — بأن الخيال وحده هو ما يمكن أن يسهل الروابط بين أفكارنا المستمدة من الخبرات الحسية؛ مما يتيح للعقل قدرة توليفية مهمة. فالبيانات الحسية لا تعطينا بحد ذاتها تصورًا ثابتًا للعالم. فالخيال في رأي هيوم يربط البيانات الحسية معًا لتمكيننا من رؤية موضوعات الإدراك رؤيةً ثابتة بين اللحظة والأخرى؛ مما يتيح معايشتها بصورة متسقة. وقد دفع هيوم بأن الخيال يخلق أيضًا شعورًا بالهوية الشخصية، إضافة إلى استمرارية الأشياء في الزمان والمكان، وذلك من خلال توليف كل البيانات المتنوعة التي تتكون منها هذه الكيانات، إن جاز التعبير. وكما كتب في عمله «رسالة في الطبيعة البشرية» (١٧٣٩):
الهوية التي ننسبها إلى عقل الإنسان هي مجرد هوية خيالية، ومن نوع مشابه لتلك التي ننسبها إلى الخضراوات وأجسام الحيوانات. إنها … يجب أن تنبُع من عملية خيالية مشابهة لتلك التي تتم على أنواع مماثلة من الأشياء.
في تفسير هيوم، لن يكون هناك شعور متسق بعالم موضوعي ثابت أو بأنفسنا بدون الخيال. ومن شأن هذا الرأي الذي واءمه كانط وطوَّره أن يثير توقعات مُغالية من الخيال بين الفلاسفة على مدى القرنين التاليين.
هذا التدقيق الناقد وحتى الإدانة التي تلقاها الخيال في الفلسفة القديمة والحديثة المبكرة قابلهما إقرار بتأثيره وأهميته للعقل البشري. وفي الأدب والفنون، كان دور الخيال معارضًا تاريخيًّا للبحث الفلسفي عن الحقيقة. ولم يدقق الفلاسفة وحدهم في علاقة الخيال بالحقيقة والزيف، والإدراك الحسي والعاطفة، فيما يتعلق بتأثيره وقوته، بل شاركهم في هذا الأدباء أيضًا. وقد أثارت الأوهام والتشويهات المنسوبة إلى الخيال القلق بشأن تأثيره على التفكير البشري.
في الوقت ذاته، أُقرَّ للخيال أيضًا بأنه وسيلة للمواجدة ولتهيئة العقل بحدس عن العالم الموضوعي. وبكثير من التردد، أقرَّ الفلاسفة بأن الخيال قد يكون مشاركًا في تشكيل تصورنا عن العالم وعن أنفسنا. وسيكون للاعتراف بالتأثير التوليفي للخيال دور مهم في صياغة الخيال الإنتاجي. ومن شأن هذه الفكرة بدورها إثارة فلسفة الجمال في أواخر القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، والتأثير على معالجة الخيال لفترة طويلة في القرن العشرين، وذلك كما سنرى في الفصول التالية.