الفصل الرابع

الخيال الإنتاجي والجمالي

حدث لتقييم الخيال وفهمه تحوُّل بفعل الاعتراف بدوره المركزي في الإدراك والتعبير عن الصفات الجمالية. كانت فلسفة الجمال — التي مقابلها الإنجليزي مشتق من الكلمة اليونانية aisthesthai (التي تعني «يتصور») — تعني أصلًا دراسة الإدراك الحسي. ولكن بحلول القرن الثامن عشر، ركز فلاسفة الجمال على إدراك الجمال أو السمو — الشعور بالشاسع أو المتجاوز — في الطبيعة أو الفن. وحاول ممارسو فلسفة الجمال تحديد طبيعة المتعة الجمالية وكشف أسرار العبقرية الفنية. فبدأ النظر للخيال بصفته مصدرًا لتجربتنا للحرية وحتى الشعور بالحياة. ولمَّا أصبحت العقلانية مرتبطة بالمعرفة في عالم حتمي ماديًّا وقابل للتنبؤ رياضيًّا بفعل الثورة العلمية، بدأ بعض الفلاسفة يتطلعون إلى الخيال لإضفاء حيوية على العقل وتوفير لمحات عن معنًى أسمى.

وأدى ظهور فلسفة الجمال (وخاصةً معالجة كانط لها) إلى ولعٍ شديد بالخيال من جانب الكتَّاب والمفكرين الرومانسيين. وباحتفاء الرومانسيين في أوائل القرن التاسع عشر بالخيال الإنتاجي، وجدوا فيه صدًى للإبداع الإلهي أو قدرة على استبصار ما يسمونه المعرفة «المطلقة» أو المباشرة وغير المشروطة للواقع بكليَّته. وفي وقت لاحق من ذلك القرن، زعم الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه أن الخيال قوة معرفية جوهرية، واعتقد أن بإمكان الخيال من خلال الفن مجابهة التفكير البارد والمجرد الذي يقيد الحياة الحديثة ويعيق استقبال قوى الطبيعة الأولية. في هذا الفصل، سنقتفي عملية اكتشاف الخيال الإنتاجي — الخيال الذي لا يعيد إنتاج التجربة الحسية فحسب، بل ينتج في الأصل الروابط أو الأفكار — وإرثه العميق.

تشكيل العالم الظاهري

يلعب الخيال الإنتاجي عددًا من الأدوار في فلسفة كانط. وفقًا لكانط، يتطلب تماسك عالم الظواهر — العالم كما يظهر لنا — نشاط ما يسميه الخيال الإنتاجي. دفع كانط، مستلهمًا فكرة هيوم التي تقول إن الخيال يولِّف نتاج الإدراك الحسي، بأن الخيال يساهم في تشكيل الكيفية التي نعايش بها العالم أمامنا. فالخيال في هذا الدور يعمل في خدمة الإدراك، فيُنشئ صورة للعقل من الأحاسيس المتنوعة؛ البيانات المختلفة للتجربة الحسية.

ويتجاوز كانط فكرة هيوم عن الدور التوليفي للخيال، فيقدم تمييزًا واضحًا للاستخدام الإنتاجي للخيال عن أي وظيفة توليدية بحتة. إذ يعرِّف كانط الخيال بأنه «القدرة على الحدس دون وجود الشيء». ومع ذلك، يشرح كانط في كتابه «الأنثروبولوجيا من وجهة نظر براجماتية» (١٧٩٨) أن الخيال يمكن أن يعمل بشكل توليدي أو إنتاجي. إذ يتيح لنا الخيال التوليدي إعادة توليد فكرة أو صورة أي شيء خبرناه بالفعل. فهو، كما يكتب كانط، «تصوُّر مشتق». بالمقابل، ينتج الخيال الإنتاجي «تصورًا أصليًّا»؛ مما يجعل أي تجربة لشيء ما ممكنة في المقام الأول.

ولفهم كيفية عمل الخيال بشكل إنتاجي، نحتاج إلى التطرق إلى أحد مصطلحات كانط العديدة عن الخيال. فعندما يشير إلى الخيال بمصطلح Einbildungskraft، يشير المصطلح الألماني إلى القدرة (Kraft) على صنع صورة (Bild) موحدة أو واحدة (ein). يصف كانط تلك القدرة بأنها القدرة على توليف صورة متماسكة من الانطباعات المتنوعة التي نتلقاها من حواسنا. ويمكن لمصطلح كانط Phantasie (الذي يمكن ترجمته إلى «الخيال» أو «التوهم») أن يشير إلى عملية الدمج الداخلي أو التحويل اللعوب لهذه الصور عندما تُستدعى في الذهن. كذلك مصطلح Vorstellungskraft — أو القدرة (Kraft) على التصور أو العرض Vorstellung — مهمٌّ أيضًا كقدرة على التمثيل، كما في استدعاء فكرة أو حدس لشيء ما. في كتابات كانط، هذه المصطلحات أحيانًا تُعين لها أدوار فنية معينة للخيال، في حين تُستخدم في أوقات أخرى على نحوٍ مترادف. وطبقًا للمصطلح الأول Einbildungskraft، يُعَد الخيال إنتاجيًّا بصورة أساسية لتجربتنا.

في كتابه الرائد «نقد العقل المحض» (١٧٨١)، تناول كانط إدراكنا للأشياء، أو تصورنا وفهمنا للأشياء في العالم. وقد زعم أن العديد من قدراتنا المعرفية — الوعي الحسي، والفهم، والمنطق — يعمل معًا لإعطاء شكل متماسك للتجربة الظاهراتية، أو للعالم كما يظهر لنا. أما كيف يكون العالم في حد ذاته بعيدًا عن هذه المظاهر، فهذا ما لا يمكننا أن نعرفه. وقد شبَّه كانط هذا ﺑ «ثورة كوبرنيكوس». حيث زعم كانط أن الواقع يظهر لنا بالصورة التي يبدو عليها بفعل هيكلة العقل له على هذا النحو. فإحساسنا بالواقع مُصمَّم وفقًا لنظامنا المعرفي الخاص.

الخيال بالنسبة لكانط هو جزء من قدرتنا على الوعي الحسي، التي تشمل أيضًا القدرة على الإحساس — الحواس الخارجية الخاصة بالعالم المكاني والحس الداخلي للحالات الذهنية المرتبة زمنيًّا. فقد دفع كانط بأن الخيال مسئول عن توليف الإحساسات المندرجة في إطار فئات الفهم — أو المرتبة بواسطتها. هذا يعني أننا لا نعايش العالم بوصفه مجرد سيل من المدخلات الحسية، بل بشكل مكاني وزمني وسببي، ووفقًا لترتيب موضوعي يمكن للعقل تفسيره. ولكي يحدث هذا، كتب كانط، على الخيال توليف البيانات الحسية الأولية المتنوعة في شكل صورة — أو تجميع الانطباعات المتنوعة في الذهن لتشكيل كُلٍّ متماسك. هذا الحدس الموحد يتجمع معًا بفعل — وتشرِّعه (بحسب عبارة كانط) — القدرة على الفهم. في هذا الدور، يكون الخيال إنتاجيًّا لأن عملية التوليف الخاصة به التي يكفلها العقل تلقائيًّا تُثمر تصورًا أصيلًا. فدور الخيال لا يقتصر على مجرد إعادة تصوير ما قد جربناه وعايشناه بالفعل في إدراكنا الحسي، ولكنه يلعب دورًا أصيلًا في تشكيل الإدراك نفسه.

من ثَم نجد أن الخيال الإنتاجي بالنسبة لكانط «متجاوز»؛ إذ يتجاوز حدود قدرة واحدة لتوفير أساس جوهري للتجربة. بهذه الصيغة، يعمل الخيال عفويًّا، كما يقول كانط؛ لأنه لا يكون مشتقًّا من قدرة أخرى من قدرات العقل، أو موجهًا بواسطتها. مفهوم العفوية هذا سيصبح مهمًّا لفهم كانط للتجربة الجمالية. فبالنسبة للرومانسيين، ستربط هذه العفوية الخيال بالحرية البشرية. علاوة على ذلك، سنحتفي بالتجربة الجمالية لأنها تعزِّز «التفاعل الحر» للخيال مع الفهم؛ وهو الدور الذي لا يكون فيه الخيال تابعًا للتفكير المفاهيمي، بل لاعبًا ومشاركًا معه.

التفاعل الحر الجمالي وتصوُّر الجمال

إدراك الدور المتجاوز للخيال الإنتاجي يتركنا مع مشكلة تتعلق أيضًا بالنظريات المعاصرة للإبداع، كما سنرى في الفصل السادس. إذا كان الخيال يعمل دائمًا على تشكيل تجربتنا الظاهراتية، فكيف تختلف إذن تجربة «خيالية» بصفة خاصة عن المعالجة العادية للمدخلات من محيطنا؟ سعى النهج الفلسفي الجمالي لتمييز التجارب السامية خاصة — مثل المشاعر التي تثيرها الطبيعة الجميلة أو الفن الجميل — عن الإدراك العادي. ويمكننا الالتفات إلى فلسفة كانط الجمالية بحثًا عن تفسير لما سمَّاه الجميل والسامي أو الجليل، بالإضافة إلى العبقرية الفنية. سيتبين أن الخيال في أدواره الجمالية الخاصة ذو أهمية مركزية للتوفيق بين العقل والعالم.

ظهرت فلسفة الجمال في منتصف القرن الثامن عشر، عندما طبَّق الفيلسوف الألماني ألكسندر بومجارتن فلسفة الإدراك بشكل عام على خبرات الجمال في الطبيعة والفن. كما حاول الفيلسوف ذو الأصول الأيرلندية إدموند بيرك وضع يده على أشكال تأثرنا بخبرات الجميل والسامي. فقد سعى كلا المفكرين لشرح أهمية الخبرتين الخاصتين التاليتين اللتين تبدوان عامتين: شعور الحبور بالطبيعة الجميلة أو بأعمال العبقرية الفنية، والإجلال أمام المشاهد أو الأفكار السامية. لقد فهم كانط من هذه المصادر وغيرها أن فلسفته الخاصة ستكون غير مكتملة دون استيعاب تلك الخبرات؛ ذلك لأنها تتميَّز بشكل لافت عن الفهم الحتمي للعالم. كما أدرك فيها أيضًا إمكانية دمج جزأين من فلسفته كانا سيكونان منفصلين لولا ذلك. فكرَّس كانط ثالث أعماله المسماة بالنقدية، وهو كتابه «نقد ملكة الحكم» (١٧٩٠)، للكيفية التي يرتبط بها إدراك الجمال والسمو مع الخيال بطرق مميزة.

وجد كانط أن الخبرة الجمالية تقاطع عاداتنا المعرفية المعتادة. فقد دفع بأن الفهم — في الخبرات العادية — «يشرِّع» البيانات الحسية الأولية التي يشكِّلها الخيال، فيفرض عليها اتساقًا مفاهيميًّا، ويضمن استيعابنا واقعًا قابلًا للفهم والمعرفة. ولكن عندما نواجه شيئًا جميلًا، تُعلَّق عمليات التفكير العادية لدى الفرد للحظة في خبرة السرور. فالحكم بأن شيئًا ما — كغروب الشمس مثلًا — «جميل» لا يختص بالشيء نفسه، على حد زعم كانط، ولكن بالشعور الذي يثيره في الشخص الذي يعايشه. فعندما نلتقي شيئًا جميلًا، يبدأ هذا الشعور عندما يشارك الخيال والفهم في نمطٍ تفاعلي مرح. فبدلًا من أن «يشرِّع» الفهم الخيال، تُحفِّز معايشة الجمال «تفاعلًا حرًّا» معرفيًّا بينهما؛ مما يُدخل الحيوية على العقل.

يصف كانط هذه الحيوية الذهنية بأنها «شعور بالحياة»: شعور بالحرية يختلف بشكل مهم عن فهمنا لعالم محدد بالكامل بالأسباب المادية. ففي كتابه «نقد العقل المحض»، كان كانط قد أوضح معرفة الواقع من منظور فيزياء نيوتن: العالم الذي نعرفه هو عبارة عن كون ميكانيكي محدد سببيًّا بدقة رياضية. لكنه اعتبر أيضًا أن الروح البشرية تتمتع بالحرية؛ ومن ثَم فهي قادرة على تشريع رغباتها ذاتيًّا، الأمر الذي تناوله في عمله النقدي الثاني، وهو كتابه «نقد العقل العملي» (كلمة العملي هنا تعني المتعلق بالأخلاق). وفي حين أن العالم الظاهري — أو العالم الذي يمكننا معرفته — هو عالم محدد سببيًّا، فإن العالم الواقعي كما هو — أو العالم كما هو في حد ذاته — يتضمن الذات أو الروح البشرية الحرة.

وهذان العالَمان المعروفان بالعقل البحت والعقل العملي على التوالي هما عالمان منفصلان تمامًا. يقول كانط في مقدمة كتابه «نقد ملكة الحكم» إن هناك هاوية (المصطلح الألماني هو Abgrund) تفغر فاها بينهما. لكن بلقاء الجمال، نتأثر بشيء في العالم الظاهري لا يمكن تفسير تأثيره تفسيرًا كاملًا بمصطلحات ميكانيكية أو حتمية. فتقدم هذه التجربة لمحة عما يعتبره كانط نداءً أخلاقيًّا أعلى، وبشكل ضمني حريتنا.

لننظر في مثال الخبرة الجمالية المذكور أعلاه. وفقًا لكانط، رؤية غروب الشمس الجميل تثير الخيال للدخول في تفاعل حر مع الفهم. نحن بالطبع في إدراكنا العادي نفهم الغروب عمليًّا أو علميًّا. إذ قد يعتبر أحد البحَّارة لون غروب الشمس الأحمر بدرجة معينة دليلًا على صفاء الطقس من جهة الغرب في الصباح. وقد يصف الفيزيائي الغروب باعتباره تشتتًا لأشعة الضوء عندما تصطدم بالجزيئات في الجو في فترة من النهار يأخذ فيها ضوء الشمس مسارًا أطول للوصول إلى العين البشرية بسبب دوران الأرض. ومع ذلك، وبقدر ما نراه جميلًا، لا نجد تفسير الغروب مكتملًا بهذه المعرفة العملية أو الفيزيائية. فتكون هذه التفسيرات معلَّقة في حين يستوعب العقل الظاهرة في حالة من التفاعل الحر. ذلك أن الغروب الجميل يثير شكلًا خاصًّا من السرور، ومعه إدراك ووعي بجانب آخر من جوانب أنفسنا. فعندما أحكم على الغروب بأنه جميل، فهو بالنسبة لي أكثر من مجرد دلالة عملية أو مجموعة من التأثيرات الفيزيائية. يقول كانط في هذه الخبرة: «الفهم يخدم الخيال وليس العكس.»

وعلى الرغم من أن الحكم بالجمال على شيء هو أمر ذاتي، فإن كانط يزعم أنه عامٌّ كذلك؛ ومن ثَم يربطنا بإنسانيتنا المشتركة. فحين نعايش غروبًا جميلًا للشمس، يقترح كانط أننا نشعر بالاتصال بالذوات البشرية الأخرى؛ لأننا نشعر بأنهم سيتأثرون أيضًا بالطريقة نفسها إذا شاهدوا هم أيضًا الغروب. في الواقع، عندما نشهد شيئًا جميلًا، قد نشعر بدافع لمشاركته مع الآخرين، مشيرين إلى مدى جماله، وذلك على الرغم من أنه ينطوي على أكثر مما نستطيع التعبير عنه بالكلمات. ورغم أننا لا نستطيع تفسير جمال غروب الشمس، فإنه سيثير وسيستحضر الغرض من الطبيعة كليًّا؛ الإحساس بأن كل الأشياء تتناسب معًا بطريقة ما لا تنطوي على العشوائية فحسب، بل تعبِّر عن غرض أسمى. يدفع كانط بأن هذا يحدث دون أن يقدِّم لنا العقل أي فكرة عن ماهية هذا الغرض. ومن ثَم يعزز هذا التفاعل الحر الإدراكي بداخل الذات ميلًا لرؤية العالم كلًّا غائيًّا ومتناغمًا.

غالبًا ما يُفسَّر الجمال بالإشارة إلى مفهوم التناسق وانجذابنا له. ومع ذلك، يجادل كانط بأن للحرية أهمية محورية لأي تأثير دائم قد يكون للجمال علينا. ويرى أن الحكم بالجمال لا يُعَد قرارًا يتعلق بالشيء، بل يُعَد تأثيرًا للخيال في عملية إدراكه. بمصطلحات فلسفة الجمال، يدَّعي كانط أن التناسق التام يثير فينا السأم في نهاية المطاف، في حين تأسرنا الظواهر التي تحفز التفاعل الحر للخيال. لتوضيح ذلك، يُشيد كانط بعفوية الحدائق الإنجليزية في مقابل التصميمات الفرنسية الصارمة هندسيًّا، التي كانت شائعة في ذلك الوقت. هذه الظواهر وظواهر أخرى مشابهة لها — يذكر كانط منها حديقة فلفل في إحدى غابات سومطرة، أو تغريد الطيور، أو وميض النار، أو تموجات الماء في الغدير — تعزِّز «حرية الخيال تعزيزًا كبيرًا». وتكشف المتعة التي نجدها في مثل هذه الظواهر عن حرية الخيال التي تزدهر دون الحاجة إلى التقيد بفكرة الكمال.

التفاعل الحر في معايشة الجمال قد يحفز أيضًا النشاط الإبداعي أو إبداع فن جميل. يقول كانط إن الإبداع الفني هو القدرة على «خلق طبيعة أخرى من المادة التي تعطيها الطبيعة الحقيقية». هنا يقدِّم كانط أيضًا مفهوم الأفكار الجمالية؛ الأفكار التي ينقلها الشعر أو الفن، والتي تثير حدسيات لا يلائمها أي مفهوم.

أقصد بالفكرة الجمالية ذلك التمثيل للخيال الذي يثير الكثير من الأفكار، ولكن لا يمكن أن يلائمه مفهوم محدد؛ بحيث لا يمكن لأي لغة أن تعبر عنه بشكل كامل وتتيح لنا فهمه.

يجادل كانط بأن الأفكار الجمالية توسِّع تفكيرنا؛ لأنها تتيح لنا «السعي نحو شيء يقع خارج حدود الخبرة». وعلى الرغم من أن الفكرة الجمالية لا يمكن وصفها، فإنها تثير العقل إلى «مزيد من التفكير» فيما يتجاوز التفكير المفاهيمي، الأمر الذي يُفعِم العقل بالحيوية والنشاط.

الخيال والسمو

بينما يتفاعل الخيال بشكل حر أثناء إدراك أو إبداع الجميل، يثير السامي رد فعل مختلفًا؛ فهو ينطوي على إثارة عنيفة للخيال. كان السمو موضوعًا رئيسيًّا من موضوعات الفلسفة الرومانسية، وكان يُعتقد أنه تجربة جمالية مهمة. يمكن معايشة السمو من خلال مشاهدة الظواهر الطبيعية التي تبدو غامرة وساحقة في قوتها أو حجمها، أو يمكن استحضاره من خلال أفكار ذات حجم هائل تتجاوز الحدس الخيالي.

ففي كتابه «بحث فلسفي في أصل أفكارنا عن السامي والجميل» (١٧٥٧)، أكد بيرك على الظواهر المرعبة والخطيرة التي يمكن أن تثير شكلًا سلبيًّا من السرور أو الرهبة عندما نُعايشها من موقع آمن. وبمحاكاته تحليل أرسطو للذة المأساوية المأخوذة من تصوير المعاناة الكارثية، أراد بيرك أن يشرح شعور السرور الذي نجده في الأشياء التي قد تثير أقوى مشاعرنا. فالسمو هو تجربة تثير العواطف المتعلقة بحفظ الذات، وتنتج الدهشة:

العاطفة التي يسببها العظيم والسامي في الطبيعة عندما تعمل تلك البواعث بأقصى قوة لها هي الدهشة؛ والدهشة هي تلك الحالة الروحية التي تتوقف فيها جميع حركات الروح، مع معايشة درجة من درجات الرعب. في هذه الحالة، يمتلئ العقل تمامًا بهذا الشيء بحيث لا يستطيع استيعاب أي شيء آخر، ولا يستطيع التفكير في الشيء نفسه الذي يشغله.

يثير السامي شعورًا باللامحدودية يتجاوز أي شيء يمكننا خلقه بأنفسنا أو حتى فهمه كاملًا، وبينما يطغى السامي على العقل، تصبح «حركات الروح» الأخرى معلَّقة.

قد تشمل الظواهر السامية المحيطات الهائجة المائجة، والعواصف الرعدية العاتية، والبراكين الثائرة، والزلازل. هذه هي نوعية الأشياء التي دفع كانط في كتابه «نقد ملكة الحكم» بأنها تحفز الشعور ﺑ «السامي العارم». وفي مواجهة هذه الظواهر، يجتهد العقل في استشعار لانهائية القوى المعنية وهول حجمها — وإذ لا يصل إلى حدس بهذا الشكل، يلوذ بالدهشة. لأن «الطبيعة جليلة في ظواهرها التي تحمل معها حدسًا يشي بلانهائيتها.» فمعايشتنا للسامي، من مسافة آمنة على الأقل، هي معايشة لخبرة «تمدد العقل». ومع ذلك، يبيِّن السامي قوة الطبيعة ويُجلي الغموض عنها بقدر ما يستطيع العقل مقاومة تمثيل قوة طاغية بهذا القدر.

وبالإضافة إلى إظهار قوة الطبيعية، بالنسبة لكانط، ينجُم السامي من ظواهر يتقزم أمام حجمها الإدراك البشري. إذ يغلب هول بعض الظواهر على قدرتنا على تجميع صورة لوحدتها؛ يذكر كانط الأهرامات المصرية، وجبال الألب السويسرية، وكاتدرائية القديس بطرس في روما. وبما أنه لم يبتعد عن مدينته البروسية الأصلية كونيجسبرج أكثر من ١٠ أميال، فإن كانط لم يرَ قَط هذه المعالم رأي العين. ومع ذلك، استطاع أن يتصور أنه من أجل أن نراها بحجمها الكلي، يجب أن نقف على مسافة بعيدة جدًّا عنها بحيث لا يعود باستطاعتنا إدراك تفاصيلها الدقيقة. يجب أن يبذل الخيال جهدًا جهيدًا في استيعاب وحدة هذه الأشياء وتنوع تفاصيلها في الوقت نفسه، ثم يفشل في ذلك. وفي حين يوسِّع هذا الجهد من حدود الخيال، كما يقول كانط، فإننا نجد أن الحس الداخلي للفرد يعاني من نوعٍ من العنف. ومع ذلك، كما يقول كانط أيضًا، «هذا العنف نفسه الذي يُلحقه الخيال بالفرد ويصبه عليه لا يزال في حكم المفيد ﻟ «الغاية النهائية» للعقل.» فالمهابة التي نشعر بها في معايشة السامي تستحضر لنا مهمتنا الأسمى كبشر.

والظواهر الطبيعية المرتبطة بالسامي هي مواضيع متكررة في رسومات المدرسة الرومانسية، على الرغم من رأي كانط بأن الفن لا يمكن أن يمثل السامي تمثيلًا صحيحًا. فأعمال الرسام الألماني كاسبر ديفيد فريدريش — مثل «الراهب قرب البحر» (١٨٠٨-١٨١٠) — تتأمل في عظمة المشاهد الطبيعية التي قد يكون فيها الجسد البشري ضئيلًا. وقدَّم الرسام الإنجليزي جيه إم دبليو تيرنر قوى الطبيعة في حلقات من الدمار الكبير، بما في ذلك الحرائق العنيفة الكبيرة، أو المعارك البحرية المدمرة، أو السفن التي يبتلعها البحر وسط عواصف عاتية — كما في لوحته «العاصفة الثلجية: قارب بخاري قبالة فم ميناء» (التي عُرضت لأول مرة في عام ١٨٤٢). كانت عبقرية تيرنر الفريدة تتمثل في إثارة إحساس لدى المشاهد بلا محدودية السامي ضمن الحدود المكانية للصورة المرسومة. فالألوان الهوجاء والضبابية والدوامية، التي تغشى مشاهد العاصفة البحرية في رسمة تيرنر لا تعبر عن السامي الرومانسي وحسب، بل سيكون لها تأثير على التناول «التعبيري التجريدي» للطبيعة.

ومع ذلك، وكما يرى كانط، قد تستطيع الأفكار تمثيل السامي أكثر من الفن. ففكرة نهاية كل شيء أو فكرة اللانهاية قد تهيمن بحجمها على الخيال البشري. فلا يستطيع العقل ابتكار صورة أو استدعاء حدس حسي يتوافق بشكل مناسب مع مفهوم كاللانهاية، الذي ضمنه كانط بين أمثلة ما سماه «السامي الرياضي». هذه الأنواع من الأفكار، في إثارتها لمشاعر الدهشة، تبدو في البداية أنها تكشف عن قصور العقل البشري، أو قصور الخيال بشكل أكثر تحديدًا. ومع ذلك، يتضح أن الانصراف عن الدهشة يتضمن ما يشبه التضحية بالخيال لصالح العقل، وفق تشبيه الفيلسوف الفرنسي جان-فرانسوا ليوتار، في إحيائه المعاصر لفكر كانط في كتابه «دروس في تحليل السامي» (١٩٩١). في رأي كانط، تكشف معايشة السامي في النهاية، وللمفارقة، عن تفوق الإنسان على الطبيعة. لأن الفكر العقلاني يسود على الخيال وعلى الصور القاصرة التي يشكلها الخيال من العالم التجريبي.

وفي حين يكون السامي رهيبًا ومخيفًا، فإنه أيضًا «يستدعي قوتنا» لنعتبر ضعفنا الجسدي أمام قوى الطبيعة كأمر ثانوي مقارنة بواجبنا السامي. وفقًا لكانط، معايشة السمو تحثنا على وضع أعلى قيمة نمنحها لأنفسنا كبشر موضع الاختبار في مخيلتنا، لو كنا في موقف يتعين علينا فيه الاختيار، مثلًا بين إنقاذ أنفسنا والدفاع عن قانون أخلاقي أسمى. فمعايشة السمو تذكرنا بقدرتنا على النظر في الأفكار التي تتجاوز أي تمثيل في العالم الظاهري، وربما اختيار الإجراءات التي نحكم بصحتها حتى في مواجهة الأخطار المُهلكة. بالنسبة لكانط، يُظهِر هذا قابليتنا للاستقلالية الأخلاقية؛ ومن ثَم كرامتنا الإنسانية.

من التأمل الكوني إلى «المطلق»

ظهور فلسفة الجمال أشعل شغفًا بالخيال في جميع جوانب الحركة الرومانسية. كان قد قرأ كولريدج لكانط سنواتٍ عديدةً قبل أن ينشر تعريفه الشهير للخيال في كتابه «سيرة أدبية» في عام ١٨١٧. بالنسبة لكولريدج، الخيال جوهري للذات البشرية ولمعرفتنا بالعالم. فهو يمثِّل لنا المدخل الوحيد إلى إدراك وحدة الطبيعة وإلى القُدسي.

غير أن تعريف كولريدج للخيال محيِّر بشكل ملحوظ. فقد استخدم ثلاثة مصطلحات للخيال، مميِّزًا بين الخيال الأوَّلي، والخيال الثانوي، والوهم. ويبدو أن مصطلح الوهم يصف الخيال التوليدي، الاشتقاقي، مثل القدرة على استدعاء وإعادة تجميع صور الأشياء التي ليست موجودة للإدراك المباشر. ولكن يرى كولريدج أن أصح تعريف للخيال هو أنه قوة إبداعية حقيقية. ويتجلى تركيز كانط على الإنتاجية والعفوية في وصف كولريدج للخيال الأولي وصداه الثانوي.

يتلقَّى الخيال الأوَّلي ثناءً رائعًا باعتباره قدرة فعَّالة تسمح للبشر المتناهين بتكرار إبداع الله من خلال الوعي بخلقه. كتب كولريدج:

أعتبر الخيال الأوَّلي القوة الفعالة والعامل الرئيسي للإدراك البشري كله، وهو تَكرار في العقل المتناهي للعمل الأبدي المتمثِّل في خلق الأنا اللامتناهي. وأعتبر الخيال الثانوي صدًى للخيال السابق؛ إذ يوجد مع الإرادة الواعية، ولكنه رغم هذا يتطابق مع الخيال الأوَّلي في نوعية عمله، ويختلف فقط في الدرجة، وفي طريقة العمل.

الخيال الأولي هو عامل حيوي وأصيل، ومع ذلك فهو أيضًا مُتلقٍّ ومنفتح من حيث إنه يشارك ويؤثر في الإدراك بالعموم. فيمكننا على سبيل المثال أن نرى من الطبيعة جوانب جميلة أو جليلة بسبب هذه «القوة الفعَّالة» للخيال. وباعتباره «العامل الرئيسي» في الإدراك نفسه، يسمح الخيال للشاعر أو الفنان بتلقي الإلهام من الطبيعة التي وهبها لنا الإله. وفي هذا تكرار لحجة أفلاطون، في كتاب «فيدروس»، بأن بإمكان الشعراء إدراك الجميل بشكل فريد، وأنهم يتلقون إلهامًا إلهيًّا.

ومع ذلك، يجب أن يعمل أيضًا الخيال في رأي كولريدج بالتنسيق مع الإرادة البشرية. فالخيال الأوَّلي في الإدراك البشري ذاته يكرر بشكل متناهٍ العمل الإبداعي الإلهي الذي يعطي شكلًا للعالم كما هو معروف. والخيال الثانوي هو «صدًى» لهذه القدرة الإبداعية الأولية، ولكنه أضعف؛ إذ «يختلف في الدرجة»، ويعمل على مستوى الوعي البشري.

باستخدام الخيال الثانوي، قد يخلق الفنان بصورة متعمدة الأفكار، ويفرضها، ويكتشفها في عملية الإبداع. ومن ثَم، وفي حين يكون الخيال الثانوي أكثر صلة بإبداع الجمال في الفن، فإنه تابِع وخاضِع للخيال الأوَّلي الذي يمنح تصورًا أكثر أصالة للجمال في الطبيعة.

ومن ثَم، جرى الجمع هنا بين الفكرة القديمة للإلهام الإلهي وتفسير الخيال كقدرة من قدرات الإدراك البشري. فبينما يتضمن الخيال (الخيال الأولي) انفتاحًا على قدرة أسمى، فإنه (كخيال ثانوي) متجذر أيضًا في العقل البشري النشط. فبالخيال، يمكن للفكر أن يتجاوز الإدراك المباشر، أو استرجاع انطباعات الحواس وتجميعها في الأوهام، فيمكِّن من إدراكٍ أسمى. في المجمل، القدرة على الخيال تمكِّن العقل البشري من فهم الكون المخلوق وإدراكه، وإبداع أعمال تحاكي تدابيره الإلهية.

ومع ذلك، فإن أهمية الخيال تتجاوز على نحوٍ كبير دورَه في الإبداع البشري. ففي رسالة بتاريخ ١٦ أكتوبر ١٧٩٧، يعزو كولريدج إلى العناصر الخيالية من تعليمه في فترة الطفولة إعداده لفهم عظمة الكون. فيصف كيف أن فهمه للفلك — بحجمه الجليل والمهيب — قد دعَّم قصصه الأدبية الخيالية.

أتذكر أنني وأنا في الثامنة من عمري سرتُ مع والدي في إحدى الأمسيات الشتوية عائدين من منزل أحد المزارعين … وأخبرني بأسماء النجوم — وكيف أن المشتري أكبر ألف مرة من عالمنا — وأن النجوم المتلألئة الأخرى هي شموس لها عوالم تدور حولها … سمعته بسرور وإعجاب عميقَين؛ ولكن بدون أدنى مزيج من الدهشة أو الشك. لأنه من خلال قراءتي المبكرة للقصص الخرافية، وقصص الجان وما إلى ذلك — اعتاد عقلي على العظمة — ولم أعتبر قَط «حواسي» معيارًا لإيماني بأي شكل من الأشكال.

هنا ينسب كولريدج للأدب استعداد عقله لفهم عظمة الكون. فحتى القصص الخرافية لها مكانتها كترياق للمنهج التجريبي الصارم؛ فهي تسمو بالعقل لاستيعاب الأفكار التي تتجاوز الملاحظة المباشرة.

يقترح كولريدج أن فهمنا بدون الخيال سيفتقد لأي مبادئ توحيدية كونية. فيجادل بأننا سنكون قادرين على «التأمل في «الأجزاء» فقط» بدلًا من الكل. ربما كان كولريدج يفكر في جوردانو برونو، الراهب من القرن السادس عشر الذي تكهن بكلٍّ من لانهائية الكون ووجود العوالم المتعددة. تكهنات برونو استبقت نظرية تعدد الأكوان المعاصرة؛ إذ تطرح أن الكون المرئي هو واحد من بين العديد من الأكوان التي تشغل مناطق أخرى من الزمكان.

بينما يرفض كولريدج التعليم ذا المنهج التجريبي الصارم، يجادل أيضًا بأن التعليم العقلاني التام لن يكون كافيًا. فالعقلانية الصارمة في غياب الخيال ستؤدي إلى «الدقة المجهرية». والعقل الذي سيتسم بهذا لن يكون قادرًا على تصوُّر أي نظام كوني. وعلاوة على ذلك، العقلانية وحدها لن تعِد العقل لإدراك الجمال، أو السمو، أو أي حدس تجاه معنًى أسمى.

يتردد صدى هذا الرأي في الخيال — بأنه ليس قدرة توليدية فقط، ولكن قوة نشطة من قوى العقل — عند ويليام ووردزوورث، الذي يعتبر أن الخيال يمنح تجربتنا معنًى فائقًا يتجاوز الإدراك المباشر. ففي عمله «المقدمة»، يكتب عن الخيال الذي يَمدُّ العين إلى ما هو أبعد من مسار الأفق باعتباره «دعوة إلى الفضاء | بلا حدود، أو دليل إلى الخلود». فبالنسبة له، يسمح الخيال الإنتاجي لنا بتجاوز حدود التجربة العادية والوصول إلى واقع أسمى.

ومع ذلك، يفتح الخيال أيضًا عين الشخص على الاضطراب. فكما يشير المتحدث في عمل ووردزوورث، قد نحظى بلمحة عن الطبيعة من خلال الخيال ﮐ «إحساس غامض وغير محدد | بأوضاع مجهولة من الوجود». وقد يشعر المرء بالحرمان بسبب الخيال. فكما كتب في نسخة عام ١٧٩٩ من هذا العمل:

… في أفكاري
كان ثَمة ظلام — سَمِّه عزلة،
أو هجرانًا فارغًا — لا أجد أشكالًا مألوفة
للأشياء الحياتية، ولا صور أشجار،
ولا بحرًا أو سماءً، ولا ألوان الحقول الخضراء،
بل أشكالًا ضخمة وهائلة لا تعيش كما يعيش
الأحياء تجوب عقلي ببطء في النهار،
وتقضُّ أحلامي في الليل.

فرغم الطبيعة المحيطة، قد لا يبقى للمرء من الخيال إلا حالة العزلة، أو «الهجران الفارغ». فبينما يوفر الخيال تجربة جميلة للطبيعة، فإنه يثير أيضًا أفكارًا عن الموحش والغريب.

يقترح الشاعر الألماني فريدريش هولدرلين — وهو شاعر رومانسي مبكر تأثر بشكل كبير بفلسفة كانط الجمالية — فكرة أن الألفة مع الطبيعة يمكن أن تنهار، وأن الخيال يجب أن يكون وسيطًا في علاقتنا بها. على سبيل المثال، في قصيدته المكونة من مقطعين شعريين بعنوان «نصف الحياة»، يقدِّم المتحدِّث في المقطع الأول دفء الصيف وتألقه الذي يبدو أنه يعانق المتحدث ويحتويه، وفي المقطع الثاني يقدِّم الشتاء الجامد الذي يظهر «واجمًا وباردًا». بالمثل، في روايته بعنوان «هايبريون» (١٧٩٧)، يتذبذب البطل الذي يحمل اسم الرواية نفسه بين شعور بالانتماء إلى الطبيعة وآخَر باليأس والخسارة، وهي الدائرة التي لا نجد لها حلًّا في السرد. غير أن هولدرلين أشار في مسوَّدة لمقدمة الرواية إلى تجربة الجمال كإعادة محتملة لوحدتنا المفقودة مع الطبيعة. وحيث كان مفتونًا لفترة من الوقت بالفلسفة الجمالية عند كانط، أدرك هولدرلين التفاعل الحر للخيال في تجربة الجمال كإمكانية لاستعادة الفرد البشري لحيويته.

وكما هزَّت النظرية الجمالية مشاعر هولدرلين، هزَّت رومانسيين ألمانًا آخرين، وجدوا في الخيال مفتاحًا لتحقيق فهم ﻟ «المطلق». فبينما يمكننا فهم المطلق بطرق مختلفة، فربما يشير إلى الكل اللانهائي الذي يشمل الوجود كله، أو ببساطة، الوصول الحدسي والمباشر إلى الطبيعة كما هي في حد ذاتها. ولا يمكن أبدًا معرفة المطلق معرفة مباشرة من خلال الوسائل العقلية ولا التعبير عنه تعبيرًا كاملًا بالفكر المفاهيمي. ومع ذلك، أبقى المفكرون الرومانسيون الأمل في أننا قد نحصل على لمحات منه في الحدس الشعري أو الجمالي، الذي يلعب الخيال دورًا حاسمًا فيه.

كان المنظِّر الرومانسي المهم فريدريش شليجل يعتقد أن الخيال ضروري لفهم الواقع الحقيقي. فوفقًا لما كتب في كتابه «شظايا فلسفية»: «لا واقع بدون شعر. مثلما أنه لا يوجد عالم خارجي بدون خيال، وذلك برغم كل الحواس.» وقد طور شليجل فكرة كانط أن الخيال قد يعمل في حالة من التفاعل الحر، حيث دافع عن «الفلسفة الإبداعية التي تنشأ من الحرية والإيمان بالحرية، وتُظهِر كيف تفرض الروح البشرية قانونها على كل الأشياء، وكيف أن العالم هو عمل فني من إبداعها.» ومثلما فعل كولريدج، دفع شليجل بأن الخيال، باعتباره «قدرة الإنسان على إدراك القدسية»، كان مطلوبًا لأي إدراك ديني.

وهناك شروحات رومانسية أخرى تنسب للخيال الإنتاجي قدرات جديدة. بالنسبة لنوفاليس (وهو الاسم الأدبي للشاعر الألماني جيورج فيليب فريدريش فرايهير فون هاردنبرج)، يقدِّم لنا الخيال البشري القدرة على الوصول إلى الأسرار الداخلية للطبيعة، عوضًا عن مجرَّد السماح لنا بالهروب من قيودها. فروايته بعنوان «هاينريش فون أوفتردينجن» (١٨٠٢) هي تأمل نفسي في الحياة الداخلية لبطلها، كما أنها تدافع عن أهمية الخيال ورؤاه. في مشهد الافتتاح، يناقش هاينريش مع والديه حلمًا استيقظ للتو منه. يروي هاينريش رؤية زهرة زرقاء تحمل وجه حبيبته. ستُعرَف هذه الصورة المتكررة للزهرة الزرقاء على نطاق واسع بين الرومانسيين كرمز للاشتياق وللالتحام والتكامل الذي نطمح إليه في النهاية، وأصبحت رمزًا للرومانسية في أعمال إي تي إيه هوفمان، ووالتر بنجامين، وسي إس لويس. وبينما لا يُلقي والد هاينريش بالًا لحلمه، يقول هاينريش إن هذا الحلم قد يسمح بأن نرى لمحة من الذات الداخلية المحجوبة عنا. يمكن أيضًا قراءة الزهرة الزرقاء على أنها تمثل قوة الخيال نفسه. لأن الرؤية في الحلم تحفز التأمل الصريح في دور الخيال في الحياة والمعرفة البشريين، جنبًا إلى جنب مع الشوق الشديد.

خطط نوفاليس في دفاتره لإنشاء موسوعة رومانسية تجمع المعرفة البشرية المتنوعة في نصٍّ واحد. لن يكون هذا المشروع مجرد محاولة لجمع العلوم والفلسفة والدين والشعر وفلسفة الجمال فحسب، بل لتوليفها أيضًا. فللخيال مكانة مركزية في محاولة نوفاليس ليس فقط لتوحيد هذه المجالات المتنوعة من المعرفة البشرية، ولكن أيضًا الذات البشرية مع الطبيعة. فالخيال يبشِّر بتوحيد ما اعتبره الحس الداخلي والخارجي، أو الحياة الداخلية للعقل البشري مع تصوره ورؤيته للعالم. فدفع الرومانسيون بأن إدراكنا للمدرك بالحواس والمتجاوز، والطبيعي والإلهي، والعلمي والفني، من خلال الخيال، لن يكون مجزَّأً، بل سيتوحَّد في الحدس الحقيقي للحياة.

المأساة والخيال الأوَّلي

كان نيتشه ناقدًا قاسيًا للمفكرين والكتَّاب الرومانسيين، واعتقد أن تطلعهم الدائم للمطلق كان حاضنة لاستياء غير صحي تجاه عالم تجربتنا العادية. ومع ذلك، أقرَّ بالاهتمام العميق بالخيال الذي أعرب عنه الرومانسيون، وتطرق إلى الموضوع في عدة أعمال. ففي مقالٍ مبكر بعنوان «حول الحقيقة والأكاذيب من منظور خارج الأخلاق»، دافع نيتشه عن الخيال البشري باعتباره فهمًا بدائيًّا للطبيعة، وأدان تبعيته للمعرفة المفاهيمية. وفي كتابه «ميلاد المأساة» (١٨٧٢)، قدَّم نيتشه نظرية جمالية طبيعية، الفن المأساوي فيها تعبير عن خيال الطبيعة الإبداعي.

تأمل نيتشه في أصول الشعر المأساوي بين اليونانيين القدماء، فحدد ما أطلق عليه الدوافع الأبولونية والديونيسية. تُعتبر هذه الدوافع — ربما مثل الخيال نفسه — ميلًا من الطبيعة يتجلى من خلال الفن «دون وساطة الفنان البشري». يستدعي نيتشه أبولو كإله الشمس والنور، والنظام، والجمال، والمعرفة، وكتجسيد للعقل، والاعتدال، والفضيلة الأخلاقية. يرى أتباع أبولو الواقع على أنه محدَّد بأشكال ثابتة، وأبدية، ومتجسد في المعالجات المثالية للنحت اليوناني القديم. وبما أن أبولو هو أيضًا إله الأحلام — أو نبوءات الوحي والرؤى — يجادل نيتشه أن الرؤية الأبولونية هي وهمٌ يخفي المعاناة والفوضى الكامنة في الطبيعة.

في المقابل، ربط اليونانيون القدماء ديونيسوس بالموسيقى، والثَّمَل، والشهوانية. فيروي نيتشه أساطير أتباع ديونيسوس الذين عربدوا — أثناء تأدية طقوسهم للإله — بالرقصات الشهوانية الثملة والتضحيات العنيفة أحيانًا. وعلى هذا يمثِّل الدافع الديونيسي الاختلاط والالتحام الفوضوي للكائنات، واللاعقلانية، ولاتناهي الفوضى، والتغيير المستمر داخل الطبيعة. وبينما تنتج الغريزة الفنية الأبولونية مظاهر جميلة، تكشف الغريزة الديونيسية عن حيوية فوضوية وعنيفة.

يزعم نيتشه أن كلا النوعين من الدوافع ضروري للفن. وباعتبار الدراما المأساوية نوعًا فنيًّا ينطوي على مناظر أو أوهام بصرية (الممثلون يرتدون الأقنعة على المسرح)، وشعر موسيقي (غناء الجوقة)، فإنه ينبثق من التوتر المحتدم بينهما. وفي العصر المأساوي، وفي المأساويات العظيمة، يتجلى الدافع الديونيسي بشكل كامل. وفي تفسير نيتشه، نتج تراجع المأساة — وقمع الرؤية الديونيسية — عن ظهور الفلسفة العقلانية في المجتمع اليوناني القديم. فمثلما أسكتت شخصية سقراط في كتاب أفلاطون «الجمهورية» الشعراء المأساويين، يجري قمع الدور الذي يلعبه الخيال بالهيمنة الغاشمة للعقل.

يتحدى مقال نيتشه «حول الحقيقة والأكاذيب من منظور خارج الأخلاق» (١٨٧٣) ربط أفلاطون للخيال بالأوهام والأكاذيب. إذ يقدِّم المقال تفسيرًا لظهور اللغة والهياكل التجريدية للفكر المفاهيمي الذي في رأيه يقمع حدسيات الخيال الأكثر أصالة. ويجادل نيتشه في المقال بأن الربط المتكرر بين الكلمات والأشياء، والتعميمات اللازمة لبناء المفاهيم، تقللان من التصورات الحية والمتنوعة في الأصل، التي تغذي الفكر الخيالي. وبظهور الأفكار المفاهيمية، تتقلص التجربة الخيالية الأصلية أكثر للواقع. ويقلب نيتشه نظرية أفلاطون رأسًا على عقب، فيجادل بأن الفكر العقلاني يبني تمثيلًا كاذبًا للواقع على حساب تجربة أكثر أصالة، وأكثر خيالًا.

في رأي نيتشه، يضيع التنوع الحيوي داخل التجربة عندما نتواصل بشأنه بالكلمات، تمامًا كما يتلاشى النقش من على عملة قديمة مع الاستخدام المتكرر. على سبيل المثال، كلمة «ورقة» ومفهومها، يتجردان بالضرورة من التنوع التجريبي للأوراق كما نعايشها في الطبيعة. فالتعميمات اللازمة للعملية اللغوية تقودنا إلى النظر في الفكرة التجريدية للأشياء على أنها حقيقتها الأساسية، ونتجاهل تجلياتها المتنوعة. وفي حين أن عملية التمثيل هذه ضرورية للإدراك الأسمى، فإن عملية التعميم المُتضمنة — كما يجادل نيتشه — تبدد الفردية والتنوع من التجربة ما قبل المفاهيمية.

ربما لم يقصد نيتشه بمقاله أن يقترح نظرية جادة للإدراك اللغوي، ولكن بالأحرى أن يعبر عن القلق بشأن قمع عاداتنا الإدراكية المتطورة ﻟ «قدرة الخيال البشري الأولية». وبعض استخدامات اللغة — مثل الشعر أو الموسيقى الغنائية — ستستعيد الفكر الخيالي وتعززه. وبالإشارة إلى «اللغة المتلعثمة» التي قد تحافظ على حيويتنا الخيالية، يبدو أن نيتشه يرى إمكانية أن الاستخدامات الجديدة والإبداعية للغة قد تنفصل عن الأوضاع العادية للتصور. سيكون هذا هو مساهمة الفنان أو الشاعر في استعادة علاقة أكثر أصالة مع العالم الذي نعايشه. ومن شأن هذا أن يشمل ما وصفه نيتشه ﺑ «عودة اللغة إلى طبيعة التصور»، فنستعيد الخيال في تفاعلاته مع الحياة الدنيوية.

قد يصبح الفكر الحديث أيضًا أكثر خيالًا، كما زعم نيتشه، من خلال الاستلهام من الفلاسفة الذين جاءوا قبل أفلاطون. ففي كتابه «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي»، وصف نيتشه الفكر الفلسفي قبل السقراطي على أنه تعبير عن التفكير الإبداعي العميق. فالفلاسفة القدماء أمثال طاليس أشاروا إلى العناصر الأولية — مثل الماء — باعتبارها مبادئ تأسيسية لكل الوجود. فيصف نيتشه إجراءات هذا التفكير بأنها «مدفوعة بقوة غريبة، غير منطقية — قوة الخيال الإبداعي» حيث تقفز من إمكانية إلى أخرى. في هذا التفكير:

سيُظهر الهاجس الإبداعي المكان؛ فيخمن الخيال من بعيد أنه سيجد هنا مكانًا منطقيًّا للراحة. لكن القوة الخاصة للخيال هي الإدراك والتوضيح السريعان كالبرق للتشبيهات.

هنا يصف نيتشه التفكير الخيالي كتنقيب حدسي عن الإمكانيات، وهي عملية قد يتعرف العقل من خلالها على التشبيهات ويوضحها، مغذيًا ظهور الأفكار الجديدة. في هذا التحليل للإدراك وفي نظرية نيتشه الجمالية المأساوية، يعتبر الخيال قوة بشرية حيوية، ويستبق النظريات المعاصرة للإدراك الإبداعي التي سيتم مناقشتها بمزيد من التفصيل في الفصل الأخير من هذا الكتاب.

إن الخيال يشارك في تكوين تجربتنا للعالم. فهو يغذي التجارب الجمالية مثل تلك الخاصة بالجمال والسمو. ومع ذلك، قد نشرك أيضًا هذه القدرة بشكل متعمد، في تفاعلها الحر والعفوي، لتحويل ما يظهر مباشرةً في تجربتنا. فالخيال الإنتاجي يجعل الإبداع البشري، ومن ثَم الثقافة البشرية، ممكنين.

وتأكيد كانط على أن الخيال الإنتاجي يساهم في تكوين التجربة وتعزيزها جماليًّا جعل المفكرين والكتَّاب الرومانسيين يدركون بقوةٍ قوة الخيال وأهميته. فرأوا أن الخيال يسمح للعقل البشري بفهم ما يتجاوز التجربة المباشرة، كما يسمح بالتوفيق بين العقل والطبيعة. ومحاولة كولريدج لفهم الخيال باعتباره مستقبِلًا لوعينا وموجهًا به أطلقت نظرية عن الإبداع ستكون مؤثرة في القرون التالية. ونجد صدى النظرة الرومانسية للخيال باعتباره عنصرًا لتوحيد الحياة الداخلية للفرد مع العالم، وإن كانت هذه النظرة قد تحولت جذريًّا، في احتفاء نيتشه بالفن ودعوته إلى قدرة خيالية أكثر أصالة وحيوية من تمثيلاتنا المفاهيمية للأشياء.

في الفصل التالي، سنستكشف الآثار المثيرة للإعجاب ﻟ «التحول الإنتاجي» كما جرى استكشافه في نظريات الخيال في القرن العشرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥