الفصل السادس

الإبداع من الاختراع إلى الدهشة

ليس هناك ما يمكن أن نلاحظ فيه الخيال الإنتاجي أكثر من الإبداع، حيث يمكن استخدام أنماط متعددة من الخيال لتوليد أفكار جديدة ومفيدة وذات مغزًى. فمن خلال الإبداع، ندمج الخيال مع العالم من حولنا، مستخدمين الأشياء المادية، أو الأصوات، أو اللغة، أو الأفكار القائمة لصياغة شيء جديد. وعلى الرغم من أن مهارات التفكير العادي قد تكون مشاركة في هذا، فإن الإبداع لا يتبع مساراته المعتادة، بل يطفر بشكل غير متوقع. والإبداع ضروري (ليس فقط في الفنون ولكن أيضًا في العلوم) لحل المشكلات وتحسين حياتنا اليومية.

لطالما اعتبر الفلاسفة الإبداع جزءًا من فلسفة الجمال، لكن في العقود الأخيرة جرت دراسته كجانب أساسي أكثر من جوانب المعرفة. في الوقت نفسه، زاد بشدةٍ الاهتمام بالإبداع في العلوم الإنسانية. ومع ذلك، لم يفسر الفلاسفة ولا العلماء الإبداع تفسيرًا كاملًا، فهو مراوغ للتفسير المنطقي أو الآلي، وقد يكون من الصعب تكراره بالكامل في المختبر. ولفهم الإبداع فهمًا أفضل، قد يفيدنا تأمل ازدهاره في سياق وجودنا في العالم؛ أي الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم المحيط بنا من خلال تحويله، وفي ضوء التفاعلات بين الواقع والممكن.

سنُلقي في هذا الفصل نظرة أقرب على الإبداع كوسيلة للتفاعل مع الواقع من خلال الخيال، مستقصين الرؤى والأفكار في مصادر تتراوح من الفلسفة القديمة وحتى النظرية المعرفية المعاصرة. كما سنناقش علاقة الإبداع بالخيال: جهوده لتجاوز القيود وإثراء الواقع بالإمكانيات. كما سنتناول الإلهام ودور اللعب المعرفي في التفكير الإبداعي، وننظر في أدوار «القدرة السلبية» — أو القدرة على المضي قُدمًا مع عدم اليقين — والفضول، والدهشة في تغذية الحياة الإبداعية.

من الطيران الخيالي إلى الإبداع الابتكاري

لطالما ارتبط الإبداع بمجازات الطيران والارتقاء، وبناءً على هذا يمكننا النظر في علاقة الإبداع بالخيال البشري. ففي قصيدته «تجوَّلت وحيدًا كسحابة» (١٨٠٧)، وصف ووردزوورث خياله الشعري بأنه ينظر إلى العالم من أعلى، ويستطيع رؤية عشرة آلاف زهرة نرجس في «خط لا نهاية له» على امتداد خليج ما. وأشار الشاعر الأيرلندي ويليام بتلر ييتس إلى «بالون العقل». فإذا كان الخيال يحلق في شطحات من الوهم، فقد نسعى مع الإبداع لجعل ذلك حقيقة.

ثَمة أسطورة يونانية قديمة رواها أوفيد في قصيدته «التحولات» (٨ ميلاديًّا) توضح هذا الجهد. يروي أوفيد أن كبير الحرفيين ديدالوس سجنه ملك كريت مع ابنه إيكاروس في متاهة من تصميمه الخاص. كوسيلة للهروب، أبدع ديدالوس زوجَين من الأجنحة من الشمع والريش. ويشير سرد أوفيد إلى مُشاهدين — مُزارع، وصياد سمك، وراعٍ — «وقفوا مندهشين، يعتقدون أنهما إلهان قادران على التنقل في السماء». غير أن إيكاروس تجاهل نصيحة والده بألا يطير بالقرب بشدة من الشمس، فسقط في البحر وغرق، حيث ذاب الشمع وأثقل الماء جناحه. تُحذر الأسطورة من الغطرسة. لكنها توضح أيضًا الدافع الإبداعي البشري لتجاوز القيود، ولتغيير الواقع أو وجهة نظرنا إليه.

جرى تصوير مصير إيكاروس بمفارقة مأساوية وإن كانت ساخرة، بريشة الرسام الهولندي بيتر بروخل (الأكبر). تُظهر لوحته بعنوان «مشهد سقوط إيكاروس» (نحو ١٥٦٠) منظرًا بحريًّا رائعًا تطفو السفن فيه بسلام، والفلاح والصياد يباشران أعمالهما، والراعي ينظر إلى السماء، ولا يلاحظ أحد زوجًا من الأرجل يخوض في الماء (انظر الشكل ٦-١). مشاهدو بروخل فقط هم من يلاحظون إيكاروس؛ لأنهم، ولكي يفهموا عنوان اللوحة، يجب عليهم أن يكملوا السرد، فيبتكروا صورتهم الخاصة عن السقوط المشئوم. يدعو بروخل مشاهديه لتخيل إيكاروس ورؤيته للعالم من الأعلى، والإثارة اللانهائية لارتقائه ولو أنها كان فيه تهلكته في النهاية. تتفاعل لوحة بروخل التي تدور عن مخاطر الإبداع المفعم بالطموح مع خيال المشاهد وتحفزه.
fig7
شكل ٦-١: بيتر بروخل الأكبر، لوحة «مشهد سقوط إيكاروس» (نحو ١٥٦٠)، المتاحف الملكية للفنون الجميلة في بلجيكا، بروكسل.
تقريبًا في الفترة نفسها الذي رسم فيها بروخل لوحته عن إيكاروس، نشر المستكشف بيدرو سيزا دي ليون كتابه «سجلات بيرو» (١٥٥٣)، مشيرًا إلى علامات وآثار دروب غريبة على السهول الساحلية التي جرى اعتبارها فيما بعدُ بقايا طرق قديمة. إننا نعرفها الآن باسم خطوط نازكا أو الجيوجليفات، وهي أعمال ضخمة نُقشت بين عامَي ٢٠٠ قبل الميلاد و٥٠٠ ميلاديًّا. تشكل الخطوط مئات الأشكال الضخمة، بما في ذلك طائر طنان، وقرد، وسحلية، وعنكبوت، وحوت، ولاما، وشجرة، وبجعة تمتد إلى ٢٨٥ قدمًا، وتصاميم هندسية ضخمة يصل حجمها إلى ١٢٠٠ قدم. شوهدت هذه النقوش لأول مرة من الأعلى في عام ١٩٢٧ عندما أعاد الطيارون البيروفيون اكتشافها. أكثر ما يثير الدهشة بشأنها هو أنه لا يمكن رؤية هذه الأشكال العملاقة رؤية كاملة إلا من السماء (انظر الشكل ٦-٢).
fig8
شكل ٦-٢: العنكبوت، أحد الجيوجليفات التي نقشها شعب نازكا في صحراء نازكا جنوب بيرو بين عامَي ٢٠٠ قبل الميلاد و٥٠٠ ميلاديًّا.

ربما كان لنقوش نازكا العملاقة هذه غرضٌ عملي، مثل تحديد مسارات سير لجمع الماء أو بناء مناطق عمل لصنع الحبال أو الشباك. وربما كان الغرض منها اتصال صانعيها اتصالًا دينيًّا مع الآلهة. تُظهر الأعمال بشكلٍ ماديٍّ التخيل الإبداعي؛ لأنه بدون مَركَبات جوية لرؤيتها من الأعلى، كان يتعيَّن على صانعي هذه النقوش تخيُّل منظورٍ جوي للأشكال التي ستصنعها الخطوط. كان يتعيَّن تصور نقوش نازكا ذهنيًّا في حين يتم العمل عليها على الأرض؛ مما يُظهر الإبداع كتبادل ديناميكي بين الوعي البشري والعالم الفيزيائي.

في أوائل القرن السادس عشر، وضع ليوناردو دا فينشي دفاتره التي تتألف من الآلاف من صفحات الرسومات التي تسجل بين أمور أخرى أفكارًا للاختراعات وخططًا لتحويلها إلى واقع. وبفضول لا يعرف الكلل، درس ليوناردو بين أمور أخرى كثيرة طيرانَ الطيور والخفافيش والحشرات، إلى جانب تشريح الإنسان، وجمع نتائجه في تصاميم للطائرات، مثل الطائرة الخفَّاقة والطائرة المروحية. وفي حين لم يُبنَ بنجاح من بين هذه التصاميم إلا مظلة الهبوط والطائرة الشراعية المعلقة، كانت أفكار ليوناردو سابقة لوقته بقرون، ويُنظر إليها الآن على أنها بمثابة استباق للتصاميم المحاكية الحيوية المعاصرة. فهي تثير ما سيصبح تاريخ الطيران البشري، الذي كانت شرارته نظام النقل ببالون الهواء الساخن للأخوين مونجولفييه (١٧٨٣)، وأول رحلة طيران بشرية بمحرك للأخوين رايت (١٩٠٣)، وسفر نيل أرمسترونج وباز أولدرين إلى القمر في مركبة أبولو ١١ (١٩٦٩).

بينما قد تتوافق هذه الاختراعات جميعًا مع الأهداف العملية، قد يكون الإبداع خاليًا تمامًا من الغرض العملي، فنطلبه فقط من أجل ممارسته في حد ذاته. ففي عام ١٩٧٤، اشتهر مسير فيليب بيتي من غير عون بين برجَي مركز التجارة العالمي على حبلٍ مشدود على ارتفاع ١٣٥٠ قدمًا (٤١١ مترًا) فوق الأرض. وقد وصف فنان الاستعراض على الحبل المشدود بأنه شعر بأنه مبهور بالسماء؛ إذ يتجرأ على الدخول إلى مجهول مثير. وبهذا الحدث الفريد الذي كان موضوع العديد من الأفلام والكتب، أنجز بيتي ما كان يبدو حتى ذلك الحين مستحيلًا، وألهم انتشارًا واسعًا للتأملات الإبداعية. يعكس استعراضه الدافع البشري لاستكشاف الإمكانيات لأجلها بذاتها ودمجها في الواقع.

قد توضح هذه الأمثلة جميعًا حُلمًا بشريًّا قديمًا. فربما تحركت الرغبة في تجاوز القيود، والارتقاء فوق العالم، ورؤيته كما نتصور أن الله قد يراه، لدى البشر الأوائل لأول مرة وهم يسجلون مواقع النجوم على جدران الكهوف. تبيِّن هذه الإنجازات أيضًا الإبداع كوسيلة لتسهيل التحول في منظورنا البشري؛ مما يتيح ما سماه سارتر «استكشاف إمكانية» العالم الذي نعايشه. ويمكن القول إنه في كل عمل إبداعي، تُنشأ فكرة جديدة وذات مغزًى من خلال دمج أفكار سابقة — الشمع والريش، والأشكال التصويرية، والجغرافيا الأثرية، وطيران الطيور، وتشريح الإنسان، وسير الإنسان، وارتفاع ناطحات السحاب. ولكن بعيدًا عن مجرد دمجها معًا، تدمج هذه الأعمال الإبداعية الإمكانية في تجربة بشرية نعايشها، لتغيير حالة معينة من الواقع، ولتوسيع مفهومنا لما هو ممكن.

الإلهام والعبقرية

كيف يأتينا الإلهام بهذا الإبداع؟ لطالما حيَّر الإلهام الإبداعي الفنانين والعلماء والمخترعين الذين يعتمدون عليه والفلاسفة الذين حاولوا شرحه. ولعدة آلاف من السنين، كان الإلهام يُنسب إلى مصادر غامضة يتلقاه منها الشخص المبدِع. والنصوص الهندوسية القديمة كانت تتضمن صلوات من أجل الإلهام إلى الإلهة ساراسواتي، ربة المعرفة والموسيقى والفنون. وأشار الإغريق القدماء إلى إلهات الإلهام التسع كمصادر للإبداع البشري، فكانوا يعتقدون أنهن لا يلهمن الشعراء وحسب، ولكن أيضًا العلماء وعلماء الرياضيات. كما كان يُعتقد أن تأثيرهن ينطوي على نوع من الاستحواذ أو التلبس. ففي محاورة أفلاطون «أيون»، يصف سقراط الشاعر بأنه «غير قادر على الإبداع حتى يصبح ملهَمًا ومحمومًا، فلا يعود عقله فيه». وزعم سقراط أن لا أحد «يستطيع أن يَنظِم أو يُنشد أو يتنبأ» إذا لم يكن مستحوذًا عليه بهذا الشكل.

بينما يتجنب المفهوم الشائع للإبداع في يومنا هذا كثيرًا من دلالاته الدينية، فإنه ما يزال يصدح بالرأي القديم عن الإلهام أنه وميض مفاجئ من الاستبصار؛ أي لحظة من لحظات الاكتشاف. يأتي هذا الوصف للحظة الإبداع من الأسطورة المحيطة بأرخميدس، أحد أبناء مدينة سرقوسة من القرن الثالث الميلادي، الذي اكتشف سر مبدأ قوة الطفو. طلب الملك هيرو من أرخميدس — كونه صاحب العديد من الاختراعات مثل اللولب الهيدروليكي — أن يحدد ما إذا كان تاجه قد صُنع بمزيج من المعادن الرخيصة. كان أرخميدس جالسًا في حوض الاستحمام العام، وفجأةً ظهر له الحل: أنه يمكنه مقارنة كثافة الأشياء من خلال إزاحتها للماء. فقفز من حوض الاستحمام وهو يصرخ «وجدتها!». من الصعب معرفة ما إذا كانت هذه الأسطورة التي سجلها المعماري فيتروفيوس بعد مرور قرنين على وفاة أرخميدس تحمل أي حقيقة تاريخية. ومع ذلك، من المعقول أن نستنتج أن هذه الحلول التي كان أرخميدس يبحث عنها قد ظهرت من إدراك للتشابه بين أفكار متمايزة كان يتأملها بصورة متزامنة.

وقد نفهم الإبداع بشكل أفضل بإدراكنا السياق الذي نشأ فيه، أو كما أسميته في كتابي «حياة الخيال» (٢٠١٨)، الإبداع ﮐ «تجاوز متأصِّل». ذلك أن الإبداع ينشأ من موقف تجريبي معيش ويحوله، وهذا الموقف يشمل بيئة معرفية كاملة، أو حالة متجسدة وحيوية تحدث فيها الخبرة المعرفية. ورغم أن فيتروفيوس يعزو جزئيًّا إلهام أرخميدس إلى إلهات الإلهام (كما كان معتادًا)، فإنه يشير أيضًا إلى أن المخترع قد أمضى سنواتٍ عديدةً في التأمل الرياضي. فكثيرًا ما طبَّق ذلك العالِم الرياضي خبرته على العالَم المحيط به؛ من معرفة كيفية تعزيز جدران المدينة بأفضل شكل في مواجهة الغزو، إلى محاولة حساب كمية حبات الرمل التي قد يسعها الكون المعروف. في لحظة الاكتشاف، فعل أرخميدس ما هو أكثر من مجرد وضع فكرتين معًا؛ إذ حفزه سياق فيزيائي كان يتأمَّل فيه مشكلته — كان جسده مغمورًا بالماء مما أثار إدراكًا بالتشابه — جنبًا إلى جنب مع خلفية واسعة من المعرفة المستقاة من مجالات مختلفة، وعادة حل المشكلات التي كان يمارسها منذ فترة طويلة. فعلى الرغم من أن لحظة الاكتشاف تبدو كأنها تنشأ من العدم، فهي في الواقع تنشأ من بيئة معرفية كاملة تساهم في الفكر الإبداعي.

في حين أن النظرة إلى الإلهام كوميض مفاجئ ينشأ من العدم ظلت مستمرة لفترة طويلة في الفكر الغربي، فإن الفلاسفة في القرن الثامن عشر بدءوا في مقاومة الاعتقاد السائد الذي يعزو إلهام الفنانين إلى مصدر خارجي. وعلى الرغم من أن كانط في كتابه «نقد ملكة الحكم» وصف العبقرية الفنية بأنها «لسان الطبيعة»، فقد كان يعتقد أيضًا أن الفنان يجب أن ينتبه إلى الأشياء الطبيعية الجميلة، ويحاول من خلال الممارسة المضنية إنشاء أعمال بناءً على شكل تلك الأشياء وهيئتها.

من ثَم، وإذا جاز القول، فإن هذا التكوين لا يُعَد نتاج إلهام عفوي أو نتيجة من نتائج الزخم طليق السراح للقدرات الذهنية؛ عوضًا عن ذلك، يحسِّن الفنان هذا التكوين ببطء وبتعنٍّ، في محاولة لجعله ملائمًا لفكره، مع الحفاظ على الحرية المتضمنة في هذا التفاعل الذهني الإبداعي.

فالعبقري هو الذي يمكن — بتعبيره عن الطبيعة — أن يخلق أعمالًا نموذجية من خلال التحسين التدريجي. وقد أقرَّ كانط بأن هذا الأمر يتطلب ممارسة خاصة للقدرات المعرفية، والتوازن بين الحرية والتكوين من خلال التفاعل الفكري والخيالي.

من اللافت للنظر أن العبقرية — وفقًا لكانط — لا يمكن تفسيرها تفسيرًا كاملًا أو التحكم فيها تحكمًا واعيًا. فالعبقري «لا يستطيع أن يصف أو أن يشير علميًّا إلى الكيفية التي ينتج بها ما ينتجه»؛ لأن المبدع «لا يعرف كيف جاء بالأفكار لما أبدعه؛ ولا في قدرته تخطيط منتجات مثلها … أو اتباع خطة، والتواصل … مع الآخرين بشأن المبادئ التي ستمكنهم من إنتاج منتجات مماثلة». فقد رأى كانط أن العبقرية المُلهَمة لا تتبع صيغة معيَّنة، ولا يمكن تعليمها.

الإبداع اليومي والاستثنائي

بينما يشير كانط إلى الإبداع النموذجي، ربما كان للقدرات نفسها التأثير ذاته في الإبداع اليومي، بحسب ما بدأ يقرُّه منظِّرو الإدراك في القرن العشرين. ففي كتابه «الفن كتجربة» (١٩٣٤)، وصف الفيلسوف الأمريكي جون ديوي كيف تشكل النزعة البشرية نحو الإبداع تصوراتنا، وتنشأ من الحياة اليومية العادية. زعم ديوي أننا كبشر نعبِّر من خلال الإبداع عن حاجتنا لصنع «تجربة» تكون «موحدة وكاملة» من دفق التجارب بشكل عام. على سبيل المثال، من خلال الطقوس الدينية، وتحضير وجبات خاصة، وتصميم الحدائق، وتخطيط مغامرات السفر، وشرب النخب، وتنظيم الأحداث الاحتفالية، نحن نشكل تجارب تبرز وتتميز عن التدفق العادي للحياة. يحدث هذا من خلال الاختلاف بينها وبين العادات العادية، وكذلك من خلال فرض حدود جديدة تعمل على تشكيل التجارب.

وتعبر الفنون عن توجيه وتنظيم أكثر تقدمًا لهذا الإبداع اليومي. على سبيل المثال، بدلًا من تدفق الأصوات بلا قيود وبشكل عشوائي، نعطي الصوت هيكلًا زمنيًّا ونغميًّا من خلال الموسيقى؛ ومن ثَم تتميَّز عن الضوضاء المحيطة. ومن خلال الرسم، نُبرز اللون والشكل والتفاصيل البصرية فنميِّزها عن عموم ما نبصره. وفي الرقص، نصقل حركة الجسم البشري ونهذِّبها. وفي الأدب كذلك، لا نتواصل بالكلمات وحسب، بل نستحضر بها عوالم متصوَّرة. هذا الإبداع يعزز عمليات الحياة اليومية وينظمها.

في كتابه «عملية الخلق» (١٩٦٤)، أسهب آرثر كوستلر في تناول الفكرة التي تقول إن الإبداع ليس ظاهرة استثنائية ولكن مستمرة مع التفكير اليومي. فبعد أن فحص تجارب تتراوح من الفنون والعلوم إلى سرد النكات، زعم أن «الارتباط الثنائي هو جوهر الإبداع»، حيث يجمع بين أُطر مختلفة من التفكير، أو المهارات المعرفية، أو أنماط الفكر أو النشاط المحكوم بالقواعد في اندماج مفاجئ. ووصف كوستلر الإبداع بأنه الارتباط الجامع للأفكار من مصفوفتَين غير متصلتَين من الفكر؛ مما يخلق مصفوفة جديدة. ويمكن أن تشمل هذا العملية مقارنة المصفوفات، أو استخلاص العناصر منها، أو تصنيفها، أو رسم المقارنات والاستعارات بينها.

جرى تعريف الإبداع بأنه النواة الأساسية للتفكير البشري. وبناءً على نظرية كوستلر، اقترح جيل فوكونييه ومارك تورنر، في كتابهما «الطريقة التي نفكر بها» (٢٠٠٢)، تفسير الإبداع من خلال مفهوم «الدمج المفاهيمي». وفقًا لهذه النظرية، يأتي العقل بأفكار جديدة من خلال دمج مفهومَين متباينَين معًا في مساحة ذهنية تطبيقية ثالثة. بناءً على هذا الرأي، كان أرخميدس قد دمج مفهومين متميِّزين (كلٌّ منهما نتيجة للدمج المفاهيمي): إزاحة الجسم للماء والعلاقة بين المعدن الواحد وكتلة الكل، بالانعكاس على «المساحة» الذهنية الجديدة؛ أي التاج المراد تقييمه. ومع ذلك، تقول النظرية إن الدمج أو التكامل المفاهيمي لا يحدث في الجهود الواعية للإبداع الشديد فقط، ولكن كعملية غير واعية مضمنة في التفكير البشري كله.

زعم منظرون آخرون أن التفكير البشري إبداعيٌّ بطبيعته لأنه يعتمد على مصادر تتجاوز المقارنة المنطقية أو التجريبية. فكما ناقشنا في الفصل السابق، تسمح الاستعارة بإنشاء مَعانٍ لا يمكن اختزالها في عناصر المقارنة. ووفقًا لريكور، تعبِّر الاستعارة عن الخيال الإنتاجي، ولا تعمل في الأعمال الأدبية والفنية وحسب، ولكن في النماذج العلمية والنظرية السياسية. ومع ذلك، قد تشكِّل الاستعارة بُعدًا من أبعاد التفكير اليومي أيضًا. ففي كتابيهما «الاستعارات التي نحيا بها» (١٩٨٠) و«الفلسفة في الجسد» (١٩٩٩)، يزعم جورج لايكوف ومارك جونسون أن الاستعارة تنشأ في الانتقال من التجارب الجسدية الأولية (مثل الشعور ﺑ «الابتهاج» أو «الحزن»، «الدفء» أو «البرودة»، «الاتزان» أو «الاختلال»)، وأن هذه الاستعارات الأولية تُفضي إلى التفكير المفاهيمي. وفي كتاب «المظهر والجوهر: القياس كوقود ومحرك الفكر» (٢٠١٣)، يزعم المنظِّر المعرفي دوجلاس هوفشتادتر وعالم النفس إيمانويل ساندر أن القياس موجود في الفكر البشري، رافضَين تهميش هذه المهارة وتغريبها إلى لحظات إبداعية نادرة نسبيًّا. يتنافس هوفشتادتر وساندر مع النظريات المعرفية المستندة إلى الدمج المفاهيمي والاستعارة وإن كانا يجدان فيها صدًى لنظريتهما، ويقترحان القياس كأصل للإبداع.

تُعَد هذه النظريات قيِّمة في المساعدة على إظهار كيف تعبِّر قدرتنا على الابتكار عن ميزة جوهرية للعقل البشري. فهي تقترح أن الإبداع يعتمد على قدرات تميز التفكير البشري بشكل عام، بدلًا من أنه يتأتَّى من مصدرٍ خارجي غامض. ومع ذلك، وإذا ما تبنَّيناها بمفردها، فقد تترك جوانب مهمة من التجربة الإبداعية من دون توضيح. فإدراك الإبداع باعتباره عنصرًا جوهريًّا من عناصر الوعي البشري لا يوضح — على سبيل المثال — انتشار عمليات الدمج المفاهيمي، أو الاستعارات، أو القياسات المحتملة في الإبداع الاستثنائي، ولا يبيِّن كذلك كيف تتقن بعض العقول المتخيِّلة هذه الوسيلة وتوجِّهها دون عقول أخرى. ولا يزال يتعين أن نفهم كيف تتميَّز التركيبات أو القياسات الجديدة ذات المعنى أو المبتكرة بصفة خاصة عن التدفق العشوائي المحتمل لعمليات المزج أو الاستعارات أو القياسات. هذه النظريات أيضًا لا توضِّح كيف يمكن أن يوجه الإبداع الفكر عكس تيار العادة المعرفية. فالإبداع حتى في العلوم يتطلب الانحراف عن الطرق القياسية للتفكير؛ مما ينطوي على قَبول المخاطرة والفشل المحتمل. وهذه الأمور تتجاوز الآليات التركيبية أو حتى المجازية، وتنطوي على مواقف وترتيبات قد تكون شعورية ووجودية بطبيعتها.

بينما يبدو الإلهام الإبداعي مراوغًا للتحليل المباشر، كشفت الأبحاث النفسية عن بعض الظروف التي قد تعزز الإبداع. إذ يبدو أن إبداع الأطفال الصغار يزدهر في قدرٍ نسبي من البراءة، ويتدنَّى في سن المراهقة مع تمحيص التفكير المنطقي واكتساب المعرفة. أما بين البالغين، على النقيض من ذلك، فنجد أن قاعدة واسعة من المعرفة تكون مفيدة للإبداع، حيث توفر الأفكار التي يمكن منها صنع تركيبات جديدة وذات معنًى. بالإضافة إلى ذلك، يُنظَر للتدريب المتنوع والمتعدد التخصصات أو الحصول على الأفكار من مجالات مختلفة على أنها أمور تحض على الإبداع؛ مما يعزز توليد تركيبات جديدة مفيدة أو ذات مغزًى. وقد تكون المجالات التي يُستمد منها الإبداع متباعدة للغاية. على سبيل المثال، ادعى أينشتاين أن «النشاط الاندماجي» الذي أدى إلى رؤًى علمية جديدة كان يتحفَّز عندما يعزف على الكمان. وبينما تأكَّد رأي كانط القائل بأن الممارسة و«عملية التحسين» المرتبطة بها تساعدان في الإنتاج الإبداعي، تُظهر الدراسات أن فرط الممارسة — أو فرط التكرار — قد تخنقه وتكبته.

من جوانب الإبداع التي أربكت الباحثين هي علاقته بالحرية والقيود. وعلى الرغم من الأهمية التي أولاها كانط للممارسة المنضبطة من جانب العبقري، فإن التفاعل الحر للخيال في التجربة الجمالية هو جزء مهم من نظرية كانط الجمالية. فيبدو أن الربط بين الخيال والحرية يجد صدًى في وجهة نظره القائلة بأن العبقري لا يستطيع شرح عملية الإلهام ولا التحكم فيها. كما أكد سارتر على حرية الخيال وتحرره من جميع الظروف الدنيوية. ولكون الإبداع حرًّا وغير نمطي، فهو عفوي. وقد يتخيل المرء أن المبدع لدى شروعه بمشروع معيَّن يبدأ بصفحة فارغة دون أي قيود. في الوقت نفسه، أكد المفكرون الإبداعيون أنفسهم أن القيود تميل إلى تشجيع الإبداع وليس تثبيطه.

على سبيل المثال، في حين انفصل الفنانون الطليعيون الحداثيون عن التقاليد المتعارف عليها، فتخلَّصوا من العديد من الأعراف المعروفة، أدركوا أيضًا قيمة وجود بعض القيود الشكلية في إبداع أعمال جديدة. فقد أحدث الشاعر الفرنسي شارل بودلير ثورة في الشعر برفضه الوصف الرومانسي للطبيعة الجميلة، والتفت عوضًا عن ذلك في مواضيعه إلى العناصر المنبوذة والمهمشة في باريس الحضرية الحديثة. ففي مجموعته الشعرية الثورية بعنوان «أزهار الشر» (١٨٥٧)، وصف الرغبة الإبداعية في القصيدة الشعرية كرحلة من نوعٍ ما لاستكشاف «أعماق المجهول من أجل العثور على شيءٍ جديد». ومع ذلك، في مقاله «صالون عام ١٨٥٩»، نصح بودلير الفنانين بألا يغامروا عشوائيًّا بالابتعاد عن الشكل التقليدي. فكما يزعم، قواعد إنتاج الفن «ساعدت في ولادة الأصالة»، حيث تحترم هذه القواعد الحاجة البشرية لوجود شيء من النظام. على سبيل المثال، كان بودلير يعتقد أن القيود الشكلية للسونيتة يمكن أن تعزز من شدة الفكرة الإبداعية.

بالمثل، حذَّر روبرت فروست من ميل الشاعر الحديث لاتباع التداعيات العشوائية؛ مما يؤدي إلى الانفصال عن الحياة وتداعيات مفتقرة إلى الأهمية. ففي مقاله «الشكل الذي تصنعه القصيدة»، حذَّر فروست من «إفساح المجال إلى التداعيات غير الموجَّهة والقفز من أحد الاقتراحات العشوائية إلى آخر وفي جميع الاتجاهات» مثل الجندب في عصر حار. في رأي فروست، يكون الشعر أكثر إشباعًا عندما يقدم «راحة وجيزة من الفوضى والالتباس»، وقد يدعم ذلك الجوانب المتعلِّقة بالشكل، التي لا تكون تقييدية فقط ولكن أيضًا توليدية. فعن القافية الشعرية، على سبيل المثال، يقول فروست: «لا نهائية هي الاحتمالات الممكنة للتناغم الموسيقي من تفاعل النبرات الدرامية للمعنى المنسوجة في القافية، رغم جمودها وقيودها.»

أشاد أيضًا المؤلف الموسيقي الروسي إيجور سترافينسكي بالقيود كضرورة للفن، على الرغم من مساهماته الراديكالية في الموسيقى الطليعية. ففي كتابه «جماليات الموسيقى» (١٩٤٢)، زعم سترافينسكي أنه:

كلما كان الفن مضبوطًا، ومحدودًا، ومستقصًى، كان أكثر حرية … وفي الفن كما في كل شيء آخر، لا يمكن أن يبني الإنسان إلا على أساس صامد: فما يتقوَّض باستمرار تحت الضغط، يجعل باستمرارٍ الحركة مستحيلة … حريتي تتألف من ثَم في حركتي ضمن الإطار الضيق الذي عيَّنته لنفسي في كل مشروع من مشاريعي …

احترام سترافينسكي للقيود الإبداعية تثير الدهشة أكثر عندما ننظر إلى قوة ابتكاراته في الموسيقى الحديثة. فقد أثار عرض الباليه الخاص به الذي بعنوان «طقس الربيع» جدلًا كبيرًا خلال عرضه الأول عام ١٩١٣ في باريس. فقد أصيب الجمهور بالصدمة، وشعر بالاستهجان ليس فقط بسبب الحركات المتقطعة أو الغريبة أو الجنسية لراقصي فرقة «باليه روس» لمؤسسها دياجيليف، ولكن أيضًا بسبب الأصوات الفظَّة ذات الطابع البدائي والتنافر الشديد للموسيقى. كتب تي إس إليوت عن عمل سترافينسكي أنه صنع الموسيقى من «الصرخات البربرية للحياة الحديثة» و«صخبها اليائس».

وربما نجد أن موسيقى الجاز — التي تعتمد على الارتجال غير المكتوب — هي أفضل ما يجسد التفاعل بين الحرية والتقيد في التفكير الإبداعي. فموسيقى الجاز — التي تتخلَّى تقليديًّا عن الاعتماد على الموسيقى المكتوبة — ظهرت تاريخيًّا من ثقافة الأمريكيين السود في أوائل القرن العشرين التي تسعى للتحرر من القمع المجتمعي؛ ومن ثَم فهي ترتبط ثقافيًّا وفنيًّا بالحرية. وفي مناقشتها لموسيقى الجاز — الأمر الذي كان دافعًا لها لكتابة روايتها التي تحمل الاسم نفسه — كتبت توني موريسون أن «الخيال يعزز الإمكانيات الحقيقية». ومع ذلك، وعلى الرغم من حريته المبتكرة، فإن الارتجال الذي هو أساسي في موسيقى الجاز يعتمد على الممارسات الراسخة والمقرَّرة، وإتقان الأساليب، والانحراف عن المعايير المألوفة منذ فترة طويلة. وما يتيح الأداء الارتجالي هو التواصل الموسيقي الخاص والمميز بين الموسيقيين، الذين يلهم بعضهم بعضًا من خلال إنشاء إطار تعاوني مستمر للتعبير المبتكر، الذي يتكشف في الوقت الفعلي.

التطورات التي تحدث ضمن حدود موسيقى الجاز كنوع فني يمكن أيضًا أن تسلط الضوء على العلاقة بين الحرية وقيود الأسس الفنية. ففي ألبومه «كايند أوف بلو» (١٩٥٩)، قدم مايلز ديفيس اتجاهًا موسيقيًّا جديدًا، وهو الجاز الوضعي. وبعمله مع المنظِّر الموسيقي جورج راسل، نقل ديفيس أساس الارتجال من تغييرات الأوتار إلى سُلَّم النغم أو الوضع الموسيقي. كانت التركيبات لا حصر لها تقريبًا؛ مما سمح بتعبيرات مبتكرة بصورة استثنائية. غير أن الحرية الواسعة التي استحثها الجاز الوضعي كانت متاحة بفعل المعايير الجديدة؛ العزف «في حدود صوت» مجموعة معينة من نغمات السلم الموسيقي، وفقًا لصياغة بيل إيفانز، عازف البيانو في الألبوم. أدى هذا الألبوم إلى تحفيز تطور موسيقى الجاز، ويشار إليه بانتظام كأكثر ألبومات موسيقى الجاز نجاحًا على الإطلاق.

اللعب المعرفي

يتجسد تفاعل الحرية والشكل الفني، والممارسة القياسية والابتكار المميز لموسيقى الجاز في مفهوم اللعب المعرفي، الذي يمكن أن نجد بعض الرؤى حوله في النظرية الجمالية. برز هذا المفهوم لأول مرة مع فلسفة كانط الجمالية، تمامًا مثل كثير من الرؤى حول الخيال. وقد رأينا أن الإبداع الفني جنبًا إلى جنب مع التجربة الجمالية القابلة للتلقي ينطويان في رأي كانط على التفاعل الحر لقوى الإدراك. وسع الكاتب الألماني فريدريش شيلر هذه الفكرة لينشئ نظرية عن الدافع الإبداعي للعقل البشري، أو نظرية اللعب. ففي عمله «في التربية الجمالية للإنسان في سلسلة من الرسائل» (١٧٩٥)، يوائم شيلر أفكار كانط نحو نظرية جمالية اجتماعية للعب.

يقترح شيلر أن هناك ثلاث غرائز أو «دوافع» مترابطة ومتداخلة توجِّه النشاط البشري؛ هي الحس، والشكل، واللعب. يدرك شيلر أن الروح البشرية الحديثة تعاني تضاربًا بين الحس والشكل؛ أو بين حدس العالم المادي المتغير، والنظام الأزلي للقوانين العقلانية. يدفع شيلر بأن العقلانية المتخصصة للحياة الحديثة قد أحدثت شرخًا في «الانسجام الداخلي للطبيعة البشرية»؛ مما أدى إلى فصل هذين التوجهين وتغريب أحدهما عن الآخر. فإذا لم نضبط الخيال الحدسي والحر، فإنه ستضيع ثمار التفكير العقلاني، في حين تخنق الميول المجردة للفهم حيوية الخيال.

غير أن هذين الدافعين يلتقيان معًا في اللعب في نشاط ديناميكي ومثمر. فيسمح ما يسميه شيلر «دافع اللعب» بتوحيد هذين التوجهين المتباعدين وانسجامهما. ويولد اللعب «الشكل الحي» الذي نجد التعبير عنه في التجارب الجمالية الديناميكية. كأمثلة، قد نفكر الآن في تصميم الرقصات المنفتح في الرقص الحديث، أو العزف الارتجالي للجاز، أو المسرح التفاعلي، أو لعب الأطفال الخيالي مع الأشياء المحيطة، فهي كلها أمثلة على التوفيق بين العفوية الحسية أو المادية مع الحاجة إلى الشكل. وفي كتابه «في التربية الجمالية للإنسان في سلسلة من الرسائل»، يزعم شيلر أن «اللعب واللعب وحده، الذي يجعل البشر في كل حالة بشرية مكتملين، ويكشف كلا جانبَي طبيعتهم في آنٍ واحد.» واستباقًا لأطروحة وينيكوت عن ضرورة اللعب للوصول إلى حس حقيقي بالذات، دفع شيلر بأن اللعب هو أساس الذات المنسجمة، وأنه هو ما يجعلنا بشرًا بصورة كاملة.

وقد أضاف الفيلسوف الألماني هانس جيورج جادامير مزيدًا من التطوير على مفهوم اللعب. ففي كتابه «الحقيقة والمنهج» (١٩٦٠)، يتصور جادامير أن اللعب هو العلاقة بين نشاط ما والمشاركين فيه (كالمباراة ولاعبيها، على سبيل المثال)، فهو يُباشر كغاية بحد ذاته، ويتجلَّى كظاهرة يمكن مشاركتها. في هذا السياق، اللعب ليس مجرد متعة ذاتية، بل نشاط تواصلي. وبما أنه يتجسد من خلال حدث واضح أو موضوعي، فإنه في هذا السياق مكافئ للإبداع التعبيري.

وبينما يجعلنا اللعب الإبداعي أكثر إنسانية، فإنه يربطنا أيضًا بالطبيعة. ففي اللعب الإبداعي، نتقبل بحريةٍ مادة العالم المادي وتجربته ونعطيهما قالبًا أو شكلًا. يشبه جادامير اللعب البشري — ويشمل ذلك اللعب بالكلمات في الأدب — بمظاهر اللعب في الطبيعة، مثل لعب الضوء، أو الأمواج، أو الرياح في الأشجار. ويجري تصوُّر اللعب البشري والعنصري على حدٍّ سواء كتعبيرات أولية للطاقة. واللعب البشري ليس ذاتيًّا (أي يحدث بالكامل في عقل الفرد) ولا موضوعيًّا بالكامل، بل تفاعل ديناميكي مع العالم. وحيث يردد صدى نظرية ديوي للفن كطريقة للتمييز بين التجربة وتدفقها العام، يصبح اللعب هنا ذا مغزًى عندما تتشكَّل طاقته لإنشاء تمثيل للآخرين.

مثل اللعب بشكلٍ عام، يتضمن اللعب المعرفي الحرية والتقيد، التلقائية والجهد، المرونة والشكل، في حين يكشف عن اتجاهات جديدة محتملة للفكر الإبداعي. إن فكرة اللعب المعرفي مهمة لفهم سبب عدم كفاية المعرفة والممارسة في حد ذاتهما — رغم أهميتهما — لضمان توليد الأفكار الإبداعية. كما تشير أيضًا إلى سبب عدم كون الإبداع مسألة تتعلق بدمج الأفكار القديمة فقط، ولكن تطلَّبه كذلك تغيير أنماط الأساليب العادية للتفكير. عندما يحاول المنظِّرون المعرفيون المعاصرون شرح الإبداع كعملية تجميعية، يميلون إلى الاعتراف بالعشوائية أو الصدفة كعنصر في ظهور الأفكار المثمرة. ومع ذلك، قد يكون الأمر أن اللعب المعرفي يشجِّع على حدوث فرص جديدة؛ فرص يجب أن يكون العقل منفتحًا عليها وقادرًا على استنباط الإمكانيات القيِّمة وغير المتوقعة.

القدرة السلبية والتغريب والفضول والدهشة

لا يتألف الإبداع فقط من المهارة المعرفية التجميعية، لكنه يتطلب أيضًا استعدادًا للانفتاح على الإمكانيات والتفاعل المستمر مع السياق. ومن خلال اللعب المعرفي، يدعو الإبداع إلى أفكار جديدة قد تغير، بدورها، منظورنا تجاه ما نعرفه. هذا يعني أنه من أجل أن نكون مبدعين، يجب أن نكون متقبلين النشاز المعرفي أو الجمالي — أو حتى من دعاته — الذي تقدمه الأفكار الجديدة، والذي قد يكشف عن أن المعرفة أو الممارسات الراهنة غير مكتملة، أو محدودة، أو بحاجة إلى مراجعة. وبينما يمكن أن يستفيد الإبداع من المعرفة الواسعة أو العميقة ومن القيود الشكلية أو المادية، فإنه يتطلب أيضًا تقبلًا للمجهول؛ لما يكمن خارج التوقعات أو خارج متناول المعرفة أو الممارسة الراسخة.

اشتهر التطرق إلى هذا الجانب الحاسم من الإبداع في مفهوم الشاعر الإنجليزي جون كيتس «القدرة السلبية»، التي عرَّفها بأنها القدرة — الضرورية للعبقرية الإبداعية — على احتمال «عدم اليقين والغموض والشك». وجد كيتس نموذجًا للقدرة السلبية في شكسبير، من حيث إن دراسة ذلك الكاتب الواسعة والشاملة للخبرة الإنسانية كانت تتسم بعمق الاستكشاف وبقبول الغموض الذي لا يُفهم بالكامل. بالمقابل، انتقد كيتس الشاعر الأكثر شهرةً كولريدج لأنه ينظر كثيرًا في الفلسفة بحثًا عن يقينٍ عام. قال كيتس إنه لا يمكن أن يكون المرء منفتحًا على الاكتشاف إذا كان «غير قادر على الرضا بمعرفة ناقصة». في رأيه، الأفكار الجامدة لا تتوافق مع التجربة الجمالية. فالدهشة التي قد يشعر بها الإنسان لدى مطالعته الجمال، على سبيل المثال، لا تتطلب تفسيرًا؛ لأنها «تتجاوز أي اعتبار آخر، أو بالأحرى تزيل أي حاجة لمزيد من التأمل.»

في رأي كيتس، القدرة السلبية تعني — علاوة على ما سبق — تعليق الحاجة إلى التسويغ أو تقصي الحقائق، والتوقف عن ملاءمة العالم مع فكرة المرء الخاصة عن الحقيقة، لصالح تصور شديد التعاطف والتنوع. قد يعني هذا إرباك الإدراك المعتاد وافتراضاته، والانفتاح على التأثيرات المفاجئة. قد نجد توضيحًا بصريًّا لذلك في لوحة «ليلة مرصَّعة بالنجوم» لفان جوخ (١٨٨٩)، حيث صوَّر الفنان سماء الصيف فوق إحدى البلدات البروفنسية. في الفصل السابق، أشرنا إلى كيف يمكن للوحةٍ تصوِّر منظرًا طبيعيًّا أن تتيح «تعزيزًا أيقونيًّا» لموضوعها، وهو توليد للمعنى يتحقق من خلال الاختصار، أو اختيار حدود الإطار، والتكثيف، أو تركيز العلاقات داخله. يمكننا أن نرى هذا في الكيفية التي يصوِّر بها عمل فان جوخ — بمواجدة خيالية — النجوم في حركة حيوية ومتفجِّرة، والقمر في توهُّج صاخب (انظر الشكل ٦-٣). تظهر السماء كما لو كانت تتواصل مع بيئة بشرية مسكونة ابتلعتها الطبيعة بالكامل تقريبًا في شكل حقول متموجة وأشجار سرو تتجعد نحو الأعلى كألسنة لهب سوداء. رأى ميرلو بونتي أن عمل فان جوخ أظهر كيف أن الحياة «ليست محصورة في أعماق الفرد الصامتة، ولكنها منتشرة ومعكوسة في كل ما يرى.» في وقت إبداعها، كانت اللوحة تمثِّل انحرافًا جذريًّا عن التمثيل الفني التقليدي للطبيعة، ووجدها مشاهدوها الأولون مثيرة للاضطراب.
fig9
شكل ٦-٣: فينسنت فان جوخ، لوحة «ليلة مرصَّعة بالنجوم» (١٨٨٩)، متحف الفن الحديث، نيويورك.
نجم الصباح الكبير الذي يظهر في اللوحة يمثِّل ما كان فان جوخ يستطيع رؤيته من نافذة المصحة، حيث كان يقيم مؤقتًا قرب نهاية حياته. رغم ذلك، ومع تيارات الغيوم المتموِّجة والحقول المتكوِّرة، ربما يكون فان جوخ قد استلهم اللوحة أيضًا من الفنان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي؛ إذ أظهر فان جوخ اهتمامًا شديدًا بمجموعة الطبعات الملونة الخاصة به — التي من بينها اللوحة الشهيرة بعنوان «الموجة العظيمة قبالة كاناجاوا» (نحو ١٨٢٩–١٨٣٣). شكَّل فان جوخ رؤيته للسماء التي تظلل الجبال بالقدرة الشديدة نفسها على الحركة التي استخدمها هوكوساي في موجته المنحنية بشدة، التي تُهدد بإغراق القوارب في خليج ساجامي وتقزِّم جبل فوجي (انظر الشكل ٦-٤). من بين الجوانب العديدة المميزة في عمل فان جوخ نجد رؤيته للسموات العليا لا كمساحة باردة وبعيدة أو كمسافة يقيسها علماء الفلك، ولكن كطبيعة مرنة تزخر بالزخم والحيوية؛ مما يشير إلى حدس تجاه كون مترابط وديناميكي.
fig10
شكل ٦-٤: كاتسوشيكا هوكوساي، «الموجة العظيمة قبالة كاناجاوا»، طبعة خشبية من مجموعته «مشاهد جبل فوجي الستة والثلاثون» (١٨٣١).

في رأي معاصري فان جوخ، كانت لوحة «ليلة مرصَّعة بالنجوم» كئيبة ومزعجة بسبب تماديها الغريب في موضوعها، وبسبب العاطفة الشديدة التي عبرت عنها. وكان ثيو شقيق فان جوخ قلقًا بشأن صحة فينسنت العقلية المتدهورة؛ ولذا أثنى (في مراسلاته) على المناظر الطبيعية الأكثر تقليدية لفان جوخ في حين تجاهل في صمتٍ الأعمال الأكثر بروزًا وابتكارًا. حتى الرسَّام نفسه كان قلقًا من أنه في نوع التجريد الذي يلف لوحة «ليلة مرصَّعة بالنجوم» — «كِبَر حجم النجوم … إلخ» — قد وطئ «أرضًا مسحورة»، مخاطرًا بذلك بعد «حياة من البحث، ومن الصراع المتلاحم مع الواقع». وقد تُوفي فان جوخ بعد عامٍ واحد من رسم هذه اللوحة، بعد أن باع لوحة واحدة فقط في حياته. ومع ذلك، وبعد عرض ٧١ لوحة من لوحاته في معرض استعادي يستعرض أعماله في باريس في عام ١٩٠١، كان سيُعترَف بأنه رائد الرسم التعبيري ومؤسس رئيسي للفن الحديث. كانت القدرة السلبية عند فان جوخ تتمثل في تبني رؤية أصلية للعالم وشكلٍ جديدٍ جذري من أشكال الرسم يقع خارج حدود العرف والممارسة الفنية القائمين.

ترتبط فكرة التغريب بالقدرة السلبية المُعبَّر عنها في تصوير فان جوخ الثوري لسماء الليل. كتب المُنظر الفني الروسي فيكتور شكلوفسكي عن «تغريب» الحياة اليومية في الفن الحديث، الذي أحدثه الانحراف عن التوقعات وتمديد عملية الإدراك في حين يواجه المُشاهد تصويرًا غير مألوف للعالم. شرع فنانو الحداثة — بإلهام من فان جوخ، من بين مبتكرين آخرين — في تجاوز ما كان مقبولًا بوصفه تصويرًا واقعيًّا. فأبرز الرسم التعبيري شكلًا أكثر حدة وبديهية من الإدراك — مع الحركات الجريئة والألوان المتفجِّرة وأحيانًا غير المتناسقة. وسعى الرسم التكعيبي ليس فقط إلى تجزئة مظهر العالم العادي، ولكن إلى الكشف عن توفر منظورات متعددة تجاهه. كما تحدَّى الأسلوب السريالي المظاهر اليومية من خلال دمج تصاوير الأشياء المألوفة مع الصور غير المنطقية لإثارة المشاعر الشديدة والتداعيات الضبابية.

النظر إلى الأشياء بطريقة غير مألوفة قد يطرح تساؤلات حول فهمنا العادي لها — عاداتنا المعرفية. كتب ميرلو بونتي أنه في الرسم الحديث، يتجه الأمر نحو مكاشفة أصدق للعالم «بكسر روابطه التقليدية». ولكن هذا الانحراف عن المتوقع ليس مقصورًا على تاريخ الفن أو فلسفة الجمال. فمع الفيزياء الحديثة أيضًا، وصل العقل البشري لفهم الواقع، ليس كشيء ثابت وقابل للقياس، بل كشيء محدد بطرق تفاعلنا معه. ومن منظور ثقافي، تجزئة المظاهر في الرسم الحداثي تحمل بعض التشابه مع رؤية حديثة للواقع نفسه.

في خطاب تسلمها لجائزة نوبل، أشادت الشاعرة البولندية الكبيرة فيسوافا شيمبورسكا بفكرتَي القدرة السلبية والتغريب في دعوتها إلى تقدير الدهشة. فدفعت بأن مهمة المفكر الإبداعي ليست فقط هزيمة المجهول، بل السماح له بتغيير توقعاتنا المعتادة. وصفت شيمبورسكا كيف أن الدهشة تتحدى المظهر البديهي للعالم العادي قائلة:

ما تكشفه الدهشة حقًّا هو أنه رغم كل ما اكتسبناه من معرفة، وكل ما ربما قد اكتسبناه من ألفة هنيئة، فإن العالم نفسه ليس واضحًا على الإطلاق.

رغم انحراف الدهشة عن مسار العقلانية والحقيقة، فإنها قد تكون مهمة للاكتشافات النوعية، حتى في العلوم. فقد أشارت شيمبورسكا إلى ماري كوري وإسحاق نيوتن كمثالين على العلماء المنفتحين على مشاعر الدهشة. وفي كتابه «العالم كما أراه» (١٩٣٤)، أكد أينشتاين على ضرورة تقبُّل المجهول أو كما يطلق عليه، «الغامض». ففي رأيه، الدهشة أمام الغامض «هي العاطفة الأساسية التي تقف عند مهد الفن الحقيقي والعلم الحقيقي». وكان يعتقد أنه من اللائق بالنظرة العلمية أن تَعتبر أن أسمى إنجازات العقل البشري مجرد «غيض من فيض روعة وإعجاز بنية الواقع».

ومع ذلك، إذا كانت القدرة السلبية، والتغريب، والدهشة المرتبطة جميعها بالتفكير الإبداعي تعلق الحاجة للعقلانية، فقد تكون هذه التوجهات في حالة توتر مع الفضول، أو الرغبة في المعرفة. ففي دفاعهم عن العقلانية، كانت نظرة بعض الفلاسفة للدهشة نظرة متناقضة، كما فعل ديكارت في أطروحته بعنوان «انفعالات النفس» (١٦٤٩). إذ رأى ديكارت الدهشة باعتبارها تأثيرًا للمفاجأة على النفس ينشأ فجأة، وتثيره الظواهر الجديدة والاستثنائية. في حالة الدهشة، نعايش تعطلًا في التوقعات السابقة، ونتوقف لنتأمل باستقصاء. وقد حذَّر ديكارت من أن الدهشة الزائدة قد تحيِّد الفضول، أو حتى «تعيق أو تفسد تمامًا استخدام العقل». ومع ذلك، يمكن للدهشة أن تحفز السعي نحو المعرفة؛ ومن ثَم الدراسة العلمية، كما فعل ديكارت نفسه في دراسته لأقواس قُزَح. فقد استخدم ديكارت التفكير الخيالي بالإضافة إلى التفكير العقلاني في إثبات أن بالإمكان تحليل قوس قزح من خلال مبادئ الرياضيات.

وقد تثير الدهشة الإبداع؛ إذ ننصدم فيها بالاختلاف عما نعرفه بالفعل؛ ومن ثَم تتكشَّف آفاق توقعاتنا، وتتعلَّق عاداتنا المعرفية للحظة، فيستيقظ إدراكنا للإمكانيات. وكما ناقشت في كتابي «الابتذال المتجاوز» (٢٠٠٧)، لاحظ الفنانون والكتَّاب كيف أن العالم الذي نعايشه عرضة لهذا التحول. توضح قصيدة ريلكه «جذع أبولو الأثري» من ديوانه «قصائد جديدة» (١٩٠٧) هذا النوع من التحفيز. فالقصيدة تصف تمثالًا يونانيًّا قديمًا مرَّ به الشاعر في متحف اللوفر أثناء إقامته في باريس. يشعر المتحدث في قصيدة ريلكه بالمواجهة الوجودية أمام التمثال غير الكامل للإله أبولو، حيث يمسه بقوة غير عادية.

وكما تخبرنا القصيدة، هناك كثير مما لا يستطيع متحدث القصيدة أن يعرفه عن التمثال الأصلي أو الإله الذي كان يمثله في السابق. فهو مجرد جزء؛ فكما يأتي في مطلع القصيدة، «لا يمكننا أن نعرف رأسه الأسطوري». ومع ذلك، عندما نظر المتحدث إلى العمل الفني، اندهش بحسيته، ومثاليته، وحيويته، وشعر بأنه ينظر إليه بدوره. وفي الأسطر الأخيرة الشهيرة لريلكه، يشعر المتحدث بأنه في خطاب مباشر أثناء اللقاء: «لا يوجد مكان لا يراك. | يجب أن تغير حياتك.» هذا الأمر الوجودي الذي لا لبس فيه يصدر من التمثال كما لو أنه فتح نافذة على عالم آخر؛ عالم ينظر إلى المتحدث، في انتظار رد فعل إبداعي. القصيدة بالطبع لا تخبر المتحدث، أو القارئ على الأقل، بما يجب أن يفعل لتغيير حياته، وكيف يُحدِث هذا التغيير، أو حتى لماذا. فهذا التحريض يدعو الخيال للتأمل في الإمكانيات التي يجب أن يتفاعل معها القراء إذا كانوا سيجيبون مطلب القصيدة. فمُطالع تمثال أبولو وضمنيًّا قارئ القصيدة لم يُثَر لتجربة الدهشة فقط، ولكن للتعمِّق فيها بشكل إبداعي.

بينما يبدو هذا الأمر في قصيدة «جذع أبولو الأثري» لريلكه كحالة استثنائية، فإن نظرة على بعض التجارب الأخرى الموصوفة في ديوانه «قصائد جديدة» توحي بالدهشة الكامنة والمتاحة في لحظات الحياة العادية. فنجد المتحدث في هذه القصائد مفتونًا بالنافذة الوردية في إحدى الكاتدرائيات، وبقط أسود، وامرأة عمياء تتجول في مقهًى، ونمر في حدائق لوكسمبورج، وبستان تفاح بعد الغروب تمامًا، ونظرة كلب يتخيَّل المتحدث من منظوره العالم وهو يتشكَّل. وكما يعتمد الإبداع على آليات الإدراك اليومي، نحن أيضًا في اللحظات اليومية معرَّضون بشكل مُحتمَل لحالة الدهشة التي قد تُثير رد فعل إبداعيًّا.

ولا يساهم الإبداع في الابتكار البشري فقط، ولكن له أيضًا أهمية وجودية، وهو مُكوِّن مهم في سعادة الإنسان. وبرغم الصورة النمطية السائدة عن المفكرين الإبداعيين كفنانين يعانون، تُظهر الأبحاث النفسية المعاصرة أن الاضطلاع بالأنشطة الإبداعية يعزز مشاعر الرفاهة. قد يكون هذا لأننا نستطيع من خلال الإبداع تحفيز ما أطلق عليه الفلاسفة اسم «الشعور بالحياة» في التفاعل الحر للخيال. فالإبداع يذكرنا بإمكانياتنا الخاصة، ومع مساهمته في تشكيل تجربتنا، يعزز الازدهار البشري.

بدأنا هذا الفصل بالنظر في أمثلة على التعبير الإبداعي تُظهر بشكل ملموس استعارةَ الطيران الخيالي. ورأينا أنه بينما يفصل الإلهام اللحظات الإبداعية عن التجربة اليومية، فإن الإبداع يستسقي من الموارد نفسها التي تدعم التفكير اليومي. كما يصف اللعب المعرفي الانحراف عن المسارات المعتادة للتفكير، ويربط بين الحرية والتقيد، والمعرفة والانفتاح على ما لم يُعرف بعد. والقدرة السلبية والتغريب يعززان قبول ما لم يُفهم بعدُ بشكلٍ كامل، وقد تحفز الدهشة التحولات في التفكير العادي وتُشعل جذوة رد فعلنا الإبداعي. إن الإبداع يجسد ويعبر بجلاء عن الخيال الذي ينشِّط التفكير البشري ويحرره، ويدعم فهمنا لعالم ذي معنًى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥