من جنيف إلى باريس
بعد أن فرغنا من زيارة أهم ما يزار في مدينة جنيف قمنا منها قاصدين مدينة باريس، فركبنا القطار الذي يقوم من محطة جنيف الساعة الحادية عشرة والنصف صباحًا، فوصلنا إلى باريس الساعة العاشرة والنصف مساء، وحُجَر القطار فاخرة تحوي ثمانية مقاعد كل مقعد عليه رقمه ليتيسر لكل من يحجز الأمكنة معرفة مكانه، وكل مقعدين يفصلهما فاصل مكسوٌّ بالمخمل الأحمر. وقد سار القطار بنا ينهب الأرض نهبًا نحو ساعة ونصف ساعة في مناظر سويسرية جميلة تأخذ بالألباب وتسحر الأفئدة، حتى وصلنا الحدود الفرنسية عند محطة تُسمَّى «ديوان التفتيش»، فمكثنا بها نصف ساعة ومر بنا المفتش خلفه خمسة رجال يساعدونه، فيسأل الراكبين: هل عندكم شيء ممنوع حمله؟ فيكتفي منهم بقولهم لا أو نعم. وبعد ذلك سار القطار في أجزاء من بلاد فرنسا تشبه مناظرها المناظر السويسرية، إلى أن وصلنا إلى محطة غيَّر منها القطار اتجاهه، وهنا سار في أرض سهلة متوسطة الخصوبة، يتخللها قليل من جبال وتلال ووديان وماء جارٍ ومزارع واسعة، ترتع فيها الماشية محتاطة بسياج من الأشجار يمنع الماشية من تجاوزها مرعاها.
وعند الساعة الثالثة دُعِينا في المرة الثانية لتناول طعام الغداء مقابل سبعة عشر فرنكًا، وأنواع الأطعمة لذيذة شهية، وهي:
(١) كامخ (سلطة)، وهي: سردين، قوطة، بيض ممزوج بشيء شهي. (٢) شُرْبَة. (٣) بيض مقلي ممزوج بلحم الخنزير، ولذا لم يكن لنا نصيب فيه. (٤) قطعة من اللحم العجالي الصغير (بتلو) تُسمَّى «روزبيف»، يصحبها بطاطس محمرة. (٥) جبنة رومي. (٦) جيلاته. (٧) موز وتفاح.
وقد انتهينا من الأكل الساعة الرابعة والنصف. ولما لم يكن يصحب هذا الأكل ماء غير المشروبات الروحية، اضطُرِرت لأخذ زجاجة ماء معدني ثمنها ثلاثة فرنكات قيمة الفرنك بالقطع قرش وربع قرش.
وقد أخذ القطار يسير بسرعة عجيبة، ولم يقف بعد أن جاوزنا حدود سويسرا غير مرتين حتى وصلنا إلى محطة باريس، وهنا يعجز القلم عن وصف الأنوار التي تتقدم محطة باريس على مسافة بعيدة، وقد ظهرت المحطة والضواحي تتلألأ بالأنوار الساطعة الخلابة التي تأخذ بمجامع القلوب وتسحر الألباب، وتترك في النفس أثرًا لا يُمحَى خصوصًا لمن لم يرها قبل ذلك.
وقد يُخيَّل للرائي أنه يسير وسط ثريات وأنوار ساطعة كأنه في احتفال بمهرجان عظيم، وقد سار القطار مسافة طويلة فيها.
وبعد أن وصلنا إلى محطتها نادى كل مندوب باسم فندقه، وقد قرأنا في الجرائد أسماء الفنادق والعيشة في الأُسَر وأثمان كلٍّ، فاخترنا النزول في بنسيون «عيشة الأسر»، فركبنا سيارة تطوي الأرض طيًّا وسط شوارع واسعة كثيرة الأضواء المتلألئة، وما زالت سائرة حتى وصلنا إلى المكان الذي نقصد إليه فلم نجد فيه حجرة خالية، فرجعنا بالسيارة نبحث عن فندق حتى عثرنا على فندق يُسمَّى «مصر» فارتاحت نفوسنا إلى ذكر هذا الاسم المحبوب عندنا ومنَّيْنا أنفسنا بالراحة فيه ولكن الأمر كان بعكس ذلك، فإن صاحبه طلب منا في الحجرة التي تحوي سريرين ستين فرنكًا عدا الأكل وهي قيمة كبيرة بالنسبة له، ولذا نمنا فيه تلك الليلة وفي الصباح قمنا مبكرين وكان هذا اليوم باردًا، فتناولنا طعام الإفطار وخرجنا نبحث عن السفارة المصرية حتى أُرشِدنا إليها. وهناك قابلنا حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ البنا إمام السفارة مقابلة شفَّت عن لطفه المعهود وأدبه الجم، وحضرة صاحب العزة سيزوستريس بك الذي كان قنصلًا لمصر في البلجيك في ذاك الوقت، وهو غاية في الأدب وحُسن الخُلق ورقة الحديث، وحضرة عبد السلام بك الجندي المملوء همة ومروءة وذكاء، وغيرهم من موظفي السفارة، فارتاحت نفوسنا واطمأنت قلوبنا، وأصبحنا كأننا في مصر لوجودنا بين أبناء وطننا العزيز، وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث عن مصر وحالتها العامة برهة من الزمن. ثم سألناهم عن الفنادق التي يعرفونها، فأرشدونا إلى فنادق جميلة اخترنا منها واحدًا موقعه أمام القنصلية المصرية وأجرة النوم فيه خمسون فرنكًا بما في ذلك الأكل، فأحضرنا حقائبنا إليه وتناولنا فيه طعام الغداء واسترحنا إلى الساعة الرابعة. وبعد ذلك خرجنا لنرى أهم شوارع باريس، وهنا يقف القلم ويجمد الفكر ولا يعرف كيف يصور الكاتب أو يصف ما يقرِّب جمالها وحُسنها إلى ذهن القارئ، لأنها جمعت من المحاسن نصيبًا وافرًا، ولكن أجدني مضطرًّا إلى ذكر شيء مجمل عن وصف باريس وما حوته من الجمال والإبداع.
(١) باريس
هي بإجماع آراء الكُتَّاب والزائرين لها والقادمين عليها والساكنين فيها أول مدائن الأرض عظمة وضخامة، وزهاء وبهاء، ورونقًا وجمالًا، وحُسنًا وجلالًا، لم يرَ الناس من يوم أن قامت للحضارة والمدنية قائمة نظيرًا لها يناظرها، ولا شبيهًا يشابهها في جمال شوارعها، وضخامة مبانيها، وعظمة ميادينها، ومتاحفها وحاناتها ومتنزهاتها، وتنسيق حدائقها، وقصور ملوكها، ورقة أهلها.
فهي مركز دائرة التمدين الحالي، ونبراسه الذي ينير ما حوله من البلدان والممالك، مقصد الطلاب، وقبلة السائحين، ونزهة المهمومين، ومفرجة كرب المكروبين، يؤمونها من فجاج الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم وأجناسهم، ويتسللون إليها من كل حدب وصوب، فلا تخلو هذه المدينة العظيمة من الآلاف المؤلفة تنساب إليها من جميع الأقطار والنواحي القاصية والدانية سواء في الصيف أم في الشتاء، ليمتعوا أرواحهم بجمالها، ويغذوا نفوسهم بزيارة معاهدها ومتاحفها وآثارها، ويرتضعوا لبان علومها ومعارفها، ويرتشفوا من منهلها العذب، ويرجعوا إلى بلادهم متضلعين في العلوم والمعارف وأنواع الفنون والصنائع. فهي مطمح القاصد، ونجعة الرائد، ومورد الظمآن، وجنة الضَّجِر، وسلوة المحزون، منبع الأزياء ومصدر الكياسة واللياقة واللطف والظرف، أس الحضارة وفهم الإشارة وموطن الرقة والرشاقة. يقفو المتمدينون أثرها، ويتبعون خطواتها، وينسجون على منوالها، ويحتذون حذوها فيما يستجد فيها من التمدين.
طليعة المدائن العظمى في العلوم والمعارف والمخترعات، عليها اعتمد الناس في ترقية النشء، وأرسلت إليها الممالك المختلفة البعوث الكثيرة ليرقُّوا بلادهم بما تعلموه واستناروا به من علوم هذه المدينة العظيمة وفنونها، فيعلو شأنها وتصبح أمة حية ناهضة بين الأمم الراقية.
ولقد كان لها الفضل الأول في ترقية أفكار المصريين المرسَلين إليها زمن محمد علي باشا وخلفه، فرجعوا منها حاملين لواء العلم ونالوا في ميدانه القدح المُعلَّى فأصبح يُضرَب بذكائهم المثل، ولهم الأثر البين في النهوض بأمتهم وترقية أحوالها مادِّيًّا وأدبيًّا، وفي رواج الصناعة والتجارة وتنظيم الجيوش ونظام الشوارع والمدن والحدائق وسن القوانين والنظام الذي ضمن سير الأمور على محور الاستقامة والعدل.
فيها من المعارض والمتاحف ودور العلم وبيوت الصناعة ما يعجز القلم عن وصفه وتعداده وبيان قيمته الفنية والعلمية، التي تدل دلالة واضحة على ما لفرنسا من القوة العلمية والمجد التالد وضربها في العلوم والمعارف بسهم وافر، حتى أصبحت علَمًا يُهتدَى بها ومنارًا يُسترشَد به في دياجير الظلمات ومُدلَهِم الخطوب والنوائب، ولطالما تغنَّى المادحون بمدحها وأجاد الواصفون في وصف تلك المشاهد والمناظر التي تسر الناظرين وتفتن عقول السامعين.
يُخيَّل إلى السائرين في شوارعها وطرقاتها ومنحنياتها أنه في عيد عظيم واحتفال جسيم، لأن أهلها في هرج ومرج، غادين رائحين، لبس وخلاعة، جمال ورشاقة، وجوههم مسفرة، ضاحكة مستبشرة، تحسبهم لم يُخلَقوا إلا للنعيم ولم يعيشوا إلا في هنائه، لا يعرف الشقاء ولا البؤس لهم بابًا، يُهرَعون إلى هاتيك المتنزهات اليانعة، والرياض النضرة ذات الأزهار الجميلة، يكبون على الملاهي ويتهافتون عليها تهافت الفراش على النار، فهي بهم غاصَّة وبمناظرهم الجميلة مزدانة.
يدلك على مقدار تهافتهم على دور التمثيل والملاهي أنى قصدت مرة أن أحضر رواية «تاييس» في الأوبرا حتى أرى بعيني ما شوَّقني إلى رؤيته الواصفون، قصدت نافذة التذاكر لابتياع تذكرة منها الساعة الحادية عشرة صباحًا، وقد تأخرنا عن الميعاد المضروب لفتح نافذة التذاكر خمس دقائق؛ فلم نتمكن من الوصول إلى النافذة إلا الساعة الثانية عشرة وربع الساعة، فكيف يكون الحال لو تأخرنا نصف ساعة وقد بلغ الازدحام غايته؟! ولذا تجد رجال الشرطة في عناء وتعب لكثرة الوافدين بين أهلين وأجانب.
وإنه ليعسر على الذي يزور باريس، وهذه حالها وتلك آيات جمالها، وصفها وصفًا يقرب حقيقتها إلى ذهن القارئ.
وإن الشوارع الباريسية، محور الجمال والإتقان، ينفق عليها مجلس بلديتها المبالغ الطائلة في كل عام حتى تبقى بحالة تليق بعظمة المدينة ومكانتها، فترى فيها أحسن ما اكتحلت بمرآه العين من قصور فخمة للأثرياء، أو لحفظ الآثار، أو للفائدة العامة، ومخازن جمعت ما تناهى في الحسن وغرابة الصنع، رُتِّبت فيها البضائع على نسق بديع، وجواهر تسطع أنوارها وتتلألأ من وراء ألواح زجاجية نقية. وهي في الليل أوفر بهاء وزخرفًا منها في النهار، إذ يلقون عليها النور الكهربائي فتزهو فوق زهائها وتتلألأ بضوئها الساحر، فيجذب بريقها الساطع آلافًا من المتفرجين. وعلاوة على ذلك فإن في كل الشوارع أناسًا يخطرون بأبهى الحلل وسيدات يرفلن في الدمقس والحرير وبديع الأزياء، ولهن في حركات السير والتثني فن عجيب يصدق عليهن قول الشاعر:
فلو أنك زرت باريس ولم تشهد ضواحيها ولم تدخل متاحفها وقصورها الباذخة وجناتها اليانعة، بل اقتصرت على التجوال في شوارعها الفيحاء؛ لكفاك منظرًا ترتاح إليه نفسك، وتشهد بغرابة هذه المدينة التي لم يشيد الناس إلى هذا اليوم نظيرًا لها.
(١-١) شارع الشان إليزه
هذا الشارع يمتد من ساحة الكونكورد إلى بناء قوس النصر الذي شرع نابليون الأول في بنائه، لانتصار جيوشه على جيوش أوروبا.
وهو يُعتبَر متنزهًا عامًّا لأهل باريس تحفه الحدائق الغنَّاء من الجانبين، قد نُضِّدت على جوانبه المقاعد الكثيرة للحكومة ولبعض الشركات، فإذا جلست على كرسي للشركة جاءك عامل يطلب منك أن تدفع له نصف فرنك أو أقل من ذلك مقابل جواز (تذكرة)، تبيح لك التنقل على تلك المقاعد طول اليوم. وهذا الشارع مقسَّم إلى ثلاثة أقسام: قسم لسير السيارات الغادية والرائحة، وقسمان للغادين والرائحين مشاة.
وجميع هذه الأقسام غاصَّة بالأشجار الباسقة والأزهار الجميلة، يتخللها كثير من النافورات. تسير فيه السيارات متصلة بعضها ببعض كالقطار يظن الناظر إليها أنه في احتفال بملك كبير أو فاتح عظيم. فإذا أراد الإنسان قطع هذا الشارع عرضًا فلا يتمكن من اجتيازه إلا بصعوبة، فالناس فيه كأنهم في يوم حشر، تحيط به العمائر العالية من الجانبين تناطح السماء بعلوها الشامخ تحوي منازل الأغنياء، وقصور الأثرياء، والقهوات ومسارح اللهو والفنادق، فلو سرت فيه يوم الأحد لرأيت من أشكال الناس وأزيائهم وجماعاتهم ما يبهرك. وتحسب أن السعادة والجمال صُوِّرا في ذلك الشارع، فأينما قلَّبت الطرف رأيت جمالًا يروقك ومنظرًا يسرك، تسير فيه المركبات الضخمة التي تُسمَّى «أمنبوس» وهي كثيرة في شوارع باريس ولندن.
(١-٢) ساحة الكونكورد
هي ساحة واسعة لا نظير لها في الأرض كلها كما علمت، ولم تصنع أمة من الأمم مثل هذه الساحة العظيمة الشأن، يرى السائر فيها أبهى المناظر وأحسنها. في وسطها مسلة مصرية أهداها المغفور له محمد علي باشا إلى لويس فيليب ملك فرنسا، وهي قائمة على قاعدة عظيمة، ومن حولها المماشي والممرات الواسعة يسير فيها المتنزهون والمتفرجون. وقد شُيِّد في ناحية منها عدة فساقي جميلة، تخرج نافوراتها من أفواه صور أسماك تحضنها تماثيل فتيات من أحسن ما أقامه المثَّالون، فهي آية في الإبداع والجمال.
وساحة الكونكورد كما علمنا قديمة العهد اشتُهِرت أيام الثورة الفرنسية، شهدت في تلك الثورة ما لم تشهده الساحات والميادين في العالم من الأهوال والفظائع، حدث بها من الحوادث ما تشيب لهولها الولدان وترتعد لذكرها الفرائص، فإن رجال الثورة جعلوها مقر فظائعهم ومظالمهم، فأقاموا فيها المشانق وأطاروا مئات رءوس من العظماء والأمراء ورجال الدين، صُبِغت جوانبها بدماء المقتولين، ولقد قال بعض المؤرخين: إن الذين قُطِعت أعناقهم في ساحة الكونكورد مدة سنتين، من سنة ١٧٩٣ إلى سنة ١٧٩٥، لم يقلوا عن ألفين وثمانمائة شخص من عظماء فرنسا، منهم الملك لويس السادس عشر وزوجه ماري أنطوانت وأختها أليصابات وأخوه الدوك دورليان وابن عمه فيليب وأعوانهم وكثير ممن ينتسب إليهم.
فسبحان الملك الديان الذي يغير الشئون من حال إلى حال! فبعد أن كانت مصرعًا للرجال ومقرًّا للمظالم والنكبات والأهوال، أصبحت مسرحًا للغواني الحسان، ومركز البهاء، ومقر الظرفاء، ودعامة العمران، ترتاح لمنظرها النفوس، وتُسَرُّ لرؤيتها القلوب، مذهبة الأحزان ومخففة الأشجان لما حوته من المناظر الفتانة والتماثيل البديعة الصنع.
وينتهي شارع الشان إليزه من الجهة الأخرى بقوس النصر العظيم.
(١-٣) قوس النصر
هو بناء ضخم شاهق البنيان، عظيم الأركان، له أربع حنايا ضخام، مقام وسط ميدان عظيم، تتفرع منه عدة شوارع من أكبر شوارع باريس المعدودة في أوائل شوارع مدن العالم زينة وبهاء.
شرع نابليون الأول في بنائه تذكارًا لانتصاره على جيوش أوروبا وأتمه من بعده فيليب، تحوي حناياه رسوم المعارك العظيمة التي أحرزت فيها الجيوش الفرنسية نصرًا على الأعداء.
وقد أُقِيم في أعلى هذه الحنايا الأربع عدة تماثيل غاية في العظامة تمثل رجالًا وفتيات وحيوانات، رمزًا وتصويرًا لحالة فرنسا وحروبها وغلبتها في المعارك والوقائع الحربية الكثيرة.
وهو أكبر قوس للنصر في الأرض كلها كما علمت، ويُعرَف باسم «قنطرة الكوكب» رمزًا للكوكب الذي تنبعث منه الأشعة والأنوار في كل جانب، كما تنبعث منه الطرق وتتفرع منه الشوارع وهي اثنا عشر شارعًا من أجمل الشوارع وأحسنها توصلك إلى داخل المدينة وخارجها، قد زُيِّنت جميعها بالأشجار الباسقة والأزهار النضرة والقصور الشامخة والعمائر الباذخة والمصايف الجميلة البديعة.
ومن أهمها الشارع الذي يوصل إلى غابات بولونيا، فهو لا يقل كثيرًا عن شارع الشان إليزه من حيث السعة وإنشاء الحدائق على جانبه حتى يتصل بغابات بولونيا، رُصَّت على جانبيه المقاعد داخل المتنزهات وخارجها.
ولعظم هذه الشوارع وتشابهها يضل الإنسان فيها ولا يعرف الشارع الموصل إلى محل قصده، وقد ضللنا مرة فيها وحسبنا أننا نسير في الشارع الذي يوصل إلى فندقنا فإذا بنا في شارع غيره. وهذه الشوارع كلها مركزها قوس النصر، فإذا وقف الإنسان تحته ومد بصره رأى هذه الشوارع عبارة عن حدائق غناء، فأصبحت بذلك مجتمعًا لأهل الترف ومتنزه جماعات الحظ واليسار، يأتون إليها من سحيق الأقطار ليمتعوا بمحاسنها الطرف، يجتمع فيها كل يوم من أهل المدينة ونزلائها الآلاف المؤلفة ليجلوا محاسن مناظرها، يسير أكثرهم في سيارات جميلة المنظر والأزاهر من هنا وهناك والشجر الأنيق في كل جانب وماء البحيرات الصناعية يتدفق من أنابيبها، فكأن السائر فيها يسير في أرض جمعت أنواع المحاسن. ولا غرابة بعد هذا الجمال إذا توافد عليها الناس من جميع فجاج الأرض بخيلهم ورَجِلهم، حتى إن المسير يتعذر على الناس خصوصًا أيام الآحاد فتضطرب صفوف السيارات وتسير الهُوَيْنا.
ولم يكن يحلو لي إلا الجلوس في حدائقها والسير في جنباتها، خصوصًا غِبَّ المطر الذي يكسبها منظرًا حسنًا وهواءً عليلًا ونسيمًا بليلًا.
وفي وسط أرض قوس النصر مدفن الجندي المجهول، تذكارًا للتضحية التي قامت بها فرنسا في الحرب مع ألمانيا من سنة ١٩١٤ إلى سنة ١٩١٨.
ومما يلفت النظر فتحة في نهاية القبر تتصاعد منها النيران ليل نهار. يحيط بالمدفن الذي لا يرتفع عن سطح الأرض أكاليل الأزهار الكثيرة يُحضِرها من فقدوا أقاربهم في الحرب ولم يعرفوا عنهم شيئًا، وهو رمز لكل جندي فُقِد في ساحة القتال. وهذا القبر محروس بجنديين يقفان أمامه دائمًا، وقد كُتِب على سطح القبر ما ترجمته: «هذا قبر الجندي المجهول الذي قُتِل مدافعًا عن وطنه.»
وكل شخص يزور هذا القبر يخلع قبعته ويقف أمامه خاشعًا خاضعًا، وقد وقفت أمامه ولم أتنبه لذلك فجاء إليَّ الجندي وأرشدني بلطف إلى خلع القبعة فخضعت لإشارته.
وكل من حل هذه المدينة تدعوه نفسه إلى رؤيته، ولذلك تجد السائحين والزائرين يفدون إليه بكثرة عظيمة.
وكل يوم أحد تقوم فرقة من الجيش بموسيقاها تحمل أعلامًا وإشارات كثيرة تقف أمامه وتؤدي التحية العسكرية له ويتبعها كثير من الناس، ثم ترجع بهذه الأعلام والموسيقى تصدح بألحانها المحزنة مخترقة الشوارع، فيكون المنظر مؤثرًا والحزن والسكون والرهبة بادية على وجوه السائرين.
والجندي المجهول يُدفَن في أضخم محل تتجه إليه أنظار السائحين والزائرين، فقد رأيته في رومة في أضخم بناء يحرسه جنديان تغطيه الأزهار والأكاليل، ورأيته في لندن في أكبر معبد وهي كنيسة «وستمنستر» التي خُصِّص أكثرها لدفن مشاهير رجال إنكلترا، الذين لهم الأثر البين في نهوضها أدبيًّا ومادِّيًّا وعلميًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، إكرامًا لهم وإذاعة لمجدهم وتخليدًا لذكرهم.
(١-٤) متحف اللوفر بباريس
لا يقوى مثلي على إبراز ما رآه وشاهده في متحف اللوفر بباريس في صورة تجمع شتاته وتعطي للقراء صورة حقيقية، لأن هناك معاني تقوم بنفس الإنسان وليس في مقدوره أن يلبسها اللفظ الذي يرضاه لها. على أني سأجتهد بقدر ما تسمح لي الحالة في وصف ما شاهدته فيه من التحف والآثار، حتى لا أحرم القارئ من الاطلاع على بعض ما عند القوم من الآثار الخالدة والاهتمام الكبير بحفظ ما تركه السلف للخلف، ليكون درسًا عمليًّا تحتذيه الأبناء فيعملوا مثلهم ويقوموا بمثل ما قاموا به من جلائل الأعمال وعظائم الأمور، وتكون أنشودتهم:
في صبيحة يومٍ قمنا مبكرين قاصدين زيارة متحف اللوفر العظيم، الذي يتحتم على كل زائر باريس أن يفكر في رؤيته قبل كل شيء لأهميته وعظمته واعتباره من أشهر المتاحف والمشاهد في العالم، لاشتماله على كثير من الآثار المهمة المنوَّعة من آثار أغلب الممالك القديمة والحديث التي لها شهرة في التاريخ، فذهبنا لنركب المركبات الكهربائية التي تسير تحت الأرض وهي أشبه بالقطار منها إلى الترام.
ينزل الإنسان إلى المحطة من فتحة في الشارع يحيط بها سياج من حديد قليلًا، معلَّقة عليها خارطة تعين الطرق التي يقطعها القطار تحت الأرض، فقطعنا نحو عشرين درجة في النزول وسرنا تحت قبو من الصيني حتى وصلنا إلى فتاة داخل نافذة الجوازات (التذاكر)، يقدم لها الإنسان الأجرة المطلوبة فتعطيه الجواز (التذكرة) إلى المحل الذي يقصده. ثم سرنا قليلًا منحدرين على درجات سلم آخر حتى وصلنا إلى فتاة أخرى أشَّرت على هذا الجواز، ومنها اجتزنا بابًا إلى محطة نُضِّدت فيها المقاعد، فجلسنا حتى حضر القطار الذي لا يغيب أكثر من خمس دقائق، وإذا وقف القطار فُتِحت أبوابه للركاب ومتى تحرك قُفِلت هذه الأبواب من تلقاء أنفسها وأُدِيرت مزالجها وحدها أيضًا، ثم يسير القطار بسرعة عظيمة.
وجميع المحطات محلَّاة بصور الإعلانات الكثيرة، وبأغلبها دكاكين لبيع بعض الأشياء كالكتب والصور وغيرها، وبها عدة صناديق على هيئة الموازين في المحطات مملوءة ﺑ «الشكولاتة»، وبكل عدة فتحات كُتِب على كل منها ثمن ما يريده الإنسان فيضع الثمن في فتحة من تلك الفتحات، فينحدر ما دفع ثمنه من «الشكولاتة» بعد أن يدير يدًا فيه.
وللراكب في بدء أمره دهشة عظيمة متى خُيِّل إليه أنه يسير تحت الأرض بهذه السرعة، وكيف يكون حاله إذا خرَّ عليه السقف أو فسد الهواء في هذه الأنفاق الكثيرة التي ليس لها منافذ إلا فتحات المحطات، ويبقى عدة أيام بين استغراب ودهشة حتى يألفه. والناس تركب فيه بكثرة فيكون مكتظًّا دائمًا بالراكبين، ولم أتذكر مرة أني ركبت فيه ووجدت بعض مقاعده خالية إلا قليلًا خصوصًا عند الساعة السادسة، وقت خروج العمال من محالِّ أعمالهم، فإن الإنسان لا يقوى حتى على الوقوف بينهم.
وجميع هذه الأنفاق منارة بالكهرباء ليلًا ونهارًا، ومسقوفة من الداخل بالصيني اللامع على هيئة قبو، ويبلغ اتساع هذه الأنفاق في بعض مواضعها كالمحطات نحو اثني عشر مترًا.
وقد عددت درجات بعض السلالم من سطح الأرض إلى المحطة فألفيتها نحو ثلاثين سلمًا، وبعض المحطات بها رافع يصعد فيه من لا يقوى على صعود السلم لعلوه مقابل شيء من النقود.
والناس في المحطات في هرج ومرج خصوصًا عندما يغيرون الركوب من قطار إلى آخر، فإنهم يسرعون في السير رجالًا ونساءً وأطفالًا في أنفاق مختلفة الاتجاهات نازلة وصاعدة، قد يضل فيها الإنسان وإن كانت مرسومة عليها الاتجاهات وقد ضللنا طريقنا مرارًا فيها، وهم يهتمون بتطهيرها دائمًا خوفًا من فساد الهواء حتى تكون صالحة للتنفس وإلا مات تحت الأرض خلق كثير.
وهذه الأنفاق تمر تحت نهر السين في جهات كثيرة منه، فهو آية في العظمة وعمل خطير يدل على المقدرة الكبيرة، فلم يكفهم مشاركة الطيور في سمائها والأسماك في مائها حتى ذللوا باطن الأرض للسير فيها لتكمل لهم المواصلات بأنواعها، ولتسهل لهم الحركة في أعمالهم الكبيرة وتخف الحركة الهائلة فوق الأرض. ولك الحق أن تركب بجوازك هذا جميع الخطوط تتنقل من خط إلى آخر ما دمت تحت الأرض، ومتى ظهرت فوقها بطل عمله.
ما زلنا سائرين تحت الأرض حتى وصلنا إلى محطة قريبة من اللوفر، فصعدنا من باطن الأرض إلى ظهرها من فتحة في الشارع محتاطة بسياج من حديد كأننا بُعِثْنا من قبورنا. وبعد أن سرنا قليلًا لاحت لنا فخامة متحف اللوفر وعظمته.
(١-٥) متحف قصر اللوفر
هذا القصر العظيم كان في أوله مسكنًا لملوك فرنسا، بدءوا في بنائه سنة ١٥٤١ وأخذوا في تحسينه ووسعوا بناياته جيلًا بعد جيل، وكان آخر ملك زاده حسنًا الإمبراطور نابليون الثالث فإنه أوصله بقصر «التولري» الذي أعده لسكنه، حتى بلغت مساحة القصرين معًا في عهده نحو ١٩٥٠٠٠ متر مربع فكانت لهما الشهرة العظيمة، حتى خرب جزء من التولري في إحدى الثورات فلم تهتم الحكومة الجمهورية لإصلاح القصر، ولكنها أبقت منه حديقته الجميلة واهتمت بإصلاحها وجعلتها من متنزهات باريس العامة المشهورة بجمالها وتنسيقها وحُسن أزهارها، حتى صار يُضرَب بها المثل بما فيها من الأشجار الباسقة والحسن والجمال والإتقان تقصدها الأسر للنزهة فيها والتمتع بحسنها في وقت الفراغ من الأعمال.
دخلنا من بابه الأول إلى فناء واسع مستطيل تحيط به أجنحة من القصر، وبعد أن سرنا في هذا الفناء ما يقرب من مائة وخمسين مترًا قابلنا رجلًا يبيع صورًا للمتحف فسألناه عن ميعاد فتحه للزائرين، فأخبرنا أنه لا يُفتَح إلا الساعة العاشرة وكانت الساعة حينئذٍ التاسعة، فاجتزنا هذا الباب إلى ساحة عظيمة أيضًا تحفها مباني هذا القصر في وسطها حديقة أُقِيمت فيها التماثيل المختلفة رمزًا إلى حوادث تاريخية، وتتصل هذه الحديقة بحديقة «التولري» التي مر ذكرها، يفصلهما شارع كبير تمر فيه المركبات والسيارات، فجلسنا على مقعد من مقاعدها نمتع الطرف بالأزهار والأنوار والتماثيل البديعة، حتى حان الوقت فقصدنا الباب الذي تقاطرت عليه أفواج السائحين والمتفرجين، ففُتِح ودخلنا مع الجميع متراصين متساندين، وقد تفرق هذا الجمع بعد سيره قليلًا في نواحي المتحف. وهذا القصر أفخر وأعظم قصور باريس على الإطلاق، بل قيل إنه أوسع قصور الدنيا بأسرها، وقد يهولك منظره عند دخولك إلى أول ردهة منه لما به من العظمة وحُسن الترتيب وفخامة البناء وغرابة التماثيل.
رأينا الطابق الأسفل وبعضه يشمل آثار القسم الشرقي بعجائبه وغرائبه، وهو أقسام منها ما هو خاص بالآثار المصرية القديمة، ومنها ما هو للآثار الرومية والرومانية والفارسية والآشورية وغيرها من الممالك الشرقية القديمة، وجميعها وُضِعت في حُجَر متداخلة يصل الإنسان من بعضها إلى بعض بطرق متعرجة.
وللآثار المصرية بنوع خاص بهجة ورواء دالة بأوضح بيان على ما كان للمصريين من القدح المعلَّى في فنَّي النقش والنحت، وتماثيل يظهر لأول وهلة أنها أحسن تماثيل قام بنحتها ونقشها أشهر النحاتين والمثَّالين، وقد مُلِئت بها عدة حجر سُمِّيَت بأسماء مختلفة، منها قاعة إيبيس وقاعة الأموات لما فيها من الآثار التي تدل على مقدار ما كان يبذله المصريون لحفظ أجسام الأموات وما كانوا يعتقدونه من خلود الروح وبناء القبور العجيبة، وغير ذلك مما يعرفه من اطَّلع على دار العاديات المصرية ولا يتسع المجال لشرحه الآن.
وهناك متحف للصور المجسمة التي صُنِعت في القرون الوسطى، وهو يشتمل على عدة قاعات غاية في الإبداع والاتساع مكتظة كلها بالنفائس من التماثيل المنحوتة من الأحجار، ترمز أغلبها إلى حالات دينية وسياسية.
وعلى الجملة فلكل أمة من الأمم القديمة آثار على أشكال مختلفة وأنواع منوَّعة؛ منها ما هو من البرنز، ومنها ما هو من المرمر، ومنها ما هو من الرخام. والأحجار أغلبها يدل إما على حوادث تاريخية أو أحوال سياسية أو حروب دينية أو ما كان يتخيله هؤلاء من النجوم وحوادثها، فيدلون عليها بتماثيل حسب ما يتخيلون مثل رسم صنع تمثال للزهراء على هيئة فتاة غاية في الإبداع وحُسن الصنع، ومثل إله نهر تبر وُجِد تمثاله في حديقة برجيزي في رومة، وأجمل تمثال لآلهة الجمال في اليونان يُسمَّى «مترف» أجمل ما وُجِد الآن من رسم الآلهة، وغير ذلك من التماثيل التي تمثل تاريخ الرومانيين، وعظمة الفراعنة، مما يقف الناظر أمامها مذهولًا.
وهناك صور وتماثيل تدل على معانٍ مختلفة لا يتسنى لي ولا لغيري وصف بعضها في كتب ضخمة، لأن في هذا القسم ما يشرح حالة الرومانيين من العظمة برسم مشاهير عظماء رجالهم وأحوالهم السياسية والدينية وما لهم من المواقف الشهيرة، ويعيد إلى الذاكرة قوة الآشوريين ورفعة وعظمة المصريين وما وصلوا إليه من النبوغ في فن النحت والتمثيل في الأزمان الغابرة والعصور الخالية، بينما كانت جميع أمم الأرض تائهة في دياجير الظلام الحالك، ليس لها من العلوم والفنون والعظمة ما تساوي شروى نقير بجانب معارف المصريين، فكانت كنبراس عظيم الضوء انتشرت أشعته على جميع الممالك المجاورة لها، فأكسبتها مدنية وحضارة لما أخذته من علومها ومعارفها مما جعلها تسمو إلى الرقي وتسلك سبيل حضارتها.
وهذا المتحف يمتاز عن دار العاديات «الأنتكخانة» في بلادنا بأنه يشمل آثار كل أمم الأرض، فيرى الناظر إليها ما كان للأمم من العظمة، ويمكنه أن يحكم بعض الحكم على أخلاق تلك الأمم في مدنيتها وحضارتها ورقيها وحالتها المعادية والمعاشية.
وفي الطريق العلوي من هذا المتحف قسم الرسومات البديعة، التي قدرها بعضهم بأنها تزيد عن ثلاثة آلاف رسم تُقدَّر قيمة بعضها بنحو عشرين ألف جنيه.
ولما دخلت هذا القسم أخذتني الدهشة وخالطني الذهول، ووقفت حائرًا أفكر وأسائل نفسي: كيف تسنى لفرنسا أن تجمع في هذا القصر تلك النفائس الغريبة للأمم المختلفة؟ وفي أي زمن حصلوا على تلك الصور التي يُخيَّل للناظر إليها أنها حقيقة ولا تنقص غير الحركة والكلام؟ وإن تلك الصور تمثل لك كل ما يخطر ببالك من أحوال الدنيا والآخرة، فقد شغلت عدة حجر من القصر يبلغ طولها نحو كيلومتر، ولا يمكن السائر فيها أن يشاهد ما بها مشاهدة تامة ولو في عدة أيام، لأن جميع الرسامين المشهورين في أمم الأرض لهم بها عدة رسومات وصور نفيسة شتى لمهرة الرسامين الفرنسيين وغيرهم.
وهناك حُجَر تحوي ما للصين من صور ورسومات وأسلحة ومفروشات وآلات طرب وقوارب صغيرة مصنوعة من سن الفيل الدقيق غاية في الجمال، وأوانيَ صينية محلَّاة بأبدع النقوش وأوانيَ بلورية وأقمشة وأحذية صغيرة جدًّا تمثل صغر أرجل الصينيات، وغير ذلك كثير. ومن هذا يُعلَم بعض ما في هذا المتحف من النفائس والذخائر التي تُقدَّر بملايين الجنيهات.
ومن الصور التي تلفت الأنظار صورة يوم القيامة وحالة الناس في ذلك اليوم وما هم فيه من الذهول والكرب، وصورة كليوبترا ملكة مصر المشهورة، وصورة آسية امرأة فرعون تنشل موسى عليه السلام من النيل، وصور دينية تمثل حوادث الإنجيل والتوراة، أو تمثل خيال المصريين على أشكال بديعة أنيقة غاية في الجمال عظيمة التأثير في النفوس، وصور المعارك البرية والبحرية.
وقد أدى بنا المطاف، ونحن مسرعون لنرى بعض الحجر قبل فوات الوقت المحدد، إلى رواق «أبولون» مزينة جدرانه وأسقفه بالذهب والتماثيل الجميلة التي لها روعة في النفس، نُضِّدت فيه الجواهر النفيسة والحلي البديعة داخل ألواح زجاجية، وكذا الأواني الفضية والذهبية التي كانت لملوك فرنسا مما لا يدخل تحت تقدير. وقد رأينا داخل ألواح زجاجية تاجًا مرصَّعًا بالماس والأحجار الكريمة، وبجواره سيف نفيس حُلِّيت قبضته بأحجار الماس الكبيرة وهو لنابليون الأول، ومعه قطعتان من الماس كبيرتا الحجم قد بلغ وزن إحداهما كما هو مكتوب عليها ١٢٠ قيراطًا.
وقد زُيِّن هذا الرواق بصور جميع المشهورين من الرسامين بينهم بعض ملوك فرنسا، وغير ذلك مما يبهر العقول ولا يحيط به وصف.
والخلاصة أن قصر اللوفر وتحفه آية من آيات الجمال وعظمته تفوق كل عظمة. ولم نتمكن من مشاهدة جميع ما يحويه هذا القصر الفخم، لأن هذا يحتاج إلى عدة أسابيع بل إلى شهور وأعوام لمن يريد درسه درسًا فنيًّا وعلميًّا وتاريخيًّا ودينيًّا، ولم نرَ في ساعتين أكثر من الطابق الأول وجناح واحد من الطابق الثاني مع السرعة.
هذا ما أمكنني أن أقدمه إلى القراء وإن كان قطرة من بحر، وما لا يُدرَك جُلُّه لا يُتْرَك كله.
(١-٦) قصر فرساي
فرساي مدينة صغيرة قريبة من باريس، ابتدأت شهرتها على عهد لويس الرابع عشر، فإنه جعلها مقر حكمه الرسمي مدة الصيف، وشيَّد فيها هو ومن أتى بعده من الملوك قصورًا لم تزل أفخم ما شيده الملوك الأوروبيون وأكثرها بهجة وزينة وزخرفة.
وقصر فرساي هو ذلك القصر العظيم الذي يقصده السياح والزائرون من كل فج. ولما اعتزم لويس الرابع عشر تشييده قرن ذلك بالجد والاجتهاد في إبرازه إلى حيز الوجود بسرعة عظيمة، حتى بلغ عدد العاملين في إصلاح الطرق وتنسيق الحدائق والبساتين وإعداد ما يلزم له على ما يقال ٣٦ ألف رجل في اليوم الواحد تساعدهم ستة آلاف من الخيل، إلى أن تم العمل وبرز هذا القصر الفخم شاهدًا لهذا الملك ومن أتى بعده بالقدرة والهمة العالية، وأصبحت له شهرة تاريخية لوقوع كثير من الحوادث المهمة فيه بما هو معروف في كتب التاريخ.
وقد زاد في هذا القصر من أتى بعد لويس الرابع عشر من الملوك عمائر أخرى متصلة به غاية في الإبداع والعظمة، ولذلك كان مجموعة مركَّبة من عدة عمارات.
وقد هُجِر هذا القصر العظيم من عهد الثورة الفرنسية، وكاد يتخرب ويذهب عمل هؤلاء الملوك مع حوادث الزمان وكوارث الأيام، حتى فكر بعضهم في بيعه تفاديًا من تحمل ما يستدعيه ترميمه وإصلاحه من النفقات الباهظة، إلى أن تولى الملك لويس فيليب فرأى أن يرممه ويصلحه وينشئ فيه المتحف التاريخي الباقي إلى الآن، وكان ذلك سنة ١٨٣٢م، فوضع فيه جميع الرسوم التي ترمز إلى حوادث تاريخية، حتى أصبحت المجموعة التي فيه عديمة المثال.
قمنا مبكرين في يوم لنقضيه في مشاهدة هذا القصر وتحفه العجيبة، فركبنا الترام الذي يسير تحت الأرض قاصدين محطة فرساي، ولما وصلنا إليها أخذنا جوازًا (تذكرة) لنركب قطار السكة الحديدية الموصل إليها، فسار بنا القطار في مناظر جميلة تشبه مناظر سويسرا من حيث الارتفاع والانخفاض والهضاب والتلال، ووُشِّيت سفوحها بالأشجار والأزهار والمنازل الجميلة المشيدة فوق التلال، ولذا كان القطار تارة يعلو وأخرى ينحط وطورًا يدخل في نفق.
وما زلنا سائرين نمتع الطرف بهذه المشاهد الجميلة حتى نزلنا في محطة فرساي، وسرنا في الطريق الموصل إليه، وكان هذا اليوم ممطرًا فنشرنا الظلل وسرنا تحتها حتى لاح لنا القصر من بُعْد تعلوه الأبهة والجلال. دخلنا من بابه الخارجي فرأينا سياجًا عظيمًا من الحديد يحيط بفناء واسع يكتنفه جناحان عظيمان من ذلك القصر، في وسطه تمثال لويس الرابع عشر يمتطي جوادًا ضخمًا فوق قاعدة عالية من الرخام والتمثال والجواد من النحاس، فوقفنا في هذا الفناء الواسع المرصوف بالأحجار لنرى عظمته وجلاله وعلو همة من شادوه، وقد صدق فيه قول من قال:
وقد دخلنا من بابه الذي يوصل إلى حجراته مع جم غفير من السائحين والمتفرجين بعد أن دفع كلٌّ منا فرنكين أجرة الدخول، دخلنا حجرات الطبقة الأرضية وفيها شيء كثير من الصور والتماثيل التي لا يمكن حصرها ولا مشاهدة جميعها إلا بعد جهد كبير. ومما لفت نظرنا أن من بين هذه الحجرات إحدى عشرة حجرة بها الرسومات التاريخية من أول مدة شارلمان إلى مدة لويس السادس عشر، ويُسمَّى مجموع هذه الحجرات برواق تاريخ فرنسا، وفي الواقع إن الرسومات التي فيها تمثل حروب فرنسا الشهيرة في المدد المذكورة. وفيها أيضًا رواق الإمبراطورية، وهو يشمل عدة قاعات كالسابقة تحتوي على رسومات الوقائع الشهيرة التي حصلت مدة الإمبراطورية، مثل دخول نابليون الأول برلين واستقباله رؤساء مدينة ويانة، وغير ذلك من الحوادث التاريخية. وفي هذه الطبقة أيضًا حجر التماثيل المجسمة التي تحتوي على كثير من تماثيل رجال الجمهورية والإمبراطورية مما لهم أثر بيِّن في نهوضها مادِّيًّا وأدبيًّا وحربيًّا وسياسيًّا.
وإذا أردت أن ترى عظمة قصر فرساي وأبهته فانظر إليه من حديقته التي سيأتي وصفها، فإنك ترى ما يملأ نفسك رهبة وجلالًا وتقديرًا لهمة ملوك فرنسا، وما كانوا عليه من أبهة الملك والسطوة والمقدرة.
أما من الداخل فلا أبالغ إذا قلت إنه قصر يقل نظيره في أعظم قصور العالم، لم يشاهد السائح زخرفة قصر وعظمة بناء وصورًا وتماثيل مثل ما يشاهد في قصر فرساي، لأن الصناع أفرغوا ما في جعبتهم في زخرفه وتحسينه وتزييته ونقشه، حتى يصح أن يقال فيه: «ليس في الإمكان أبدع مما كان»، فإذا دخلت حجراته الواسعة المزينة بالرسوم والنقوش العجيبة ورأيت ما تحويه من النفائس، شعرت في الحال بعظمة الذين شادوه، ولطالما رأت هذه الحجرات عزًّا وفخرًا في عهد لويس الرابع عشر.
وفي هذا القصر توَّج البروسيون ولهلم الأول إمبراطورًا على ألمانيا كلها، وبه الرسوم الكثيرة التي تدل على انتصار فرنسا على الألمانيين خصوصًا في عهد المغوار نابليون الأول وغيرها من الأمم، مما يصح أن يكون درسًا واضحًا يشرح تاريخ فرنسا وحروبها الكثيرة من الرسوم المجموعة في حجرة الحروب، وقد قُسِّمت هذه الحروب حسب تاريخ وقائعها في غرف خاصة.
فصور الحروب الصليبية في حجرات خاصة بها، وصور حرب القرم كذلك، ومعارك نابليون المشهورة في قسم آخر، وحروب ممالك شمال أفريقية وكيفية أسر الرجال والنساء والأمراء بأزيائهم وُضِعت كذلك في حجرات خاصة بها.
ومن بين هذه الرسوم صورة تمثل ألمانيا جاثية على ركبتيها بذلٍّ وخشوع أمام فرنسا وهولندا مصابة بصاعقة الحروب تئن وتشتكي وإسبانيا وجلة، وقد بلغ من شهرة هذه وذيوعها بين تلك الأمم أنها كانت حسب ما رواه بعض المؤرخين السبب في تألب ممالك أوروبا ضد الملك لويس الرابع عشر.
ومما يُذكَر بالإعجاب والغرابة حجرة المرايا العظيمة، فإن طولها يبلغ ٧٣ مترًا في عرض ١٠ أمتار في ارتفاع ٢٣ مترًا، وهي تطل على بساتين القصر وحياضه وبحيراته من سبع عشرة نافذة كبيرة، تجاه كل نافذة مرآة محلَّاة بالذهب تنعكس فيها صور الزائرين والمتفرجين حتى يُخيَّل إلى الإنسان أنه يسبح في ماء، وقد زُيِّن سقفها بالذهب والصور البديعة التي تشير إلى حوادث تاريخية أو خيالية.
وإذا أشرفت من إحدى تلك النوافذ على الحديقة وبحيراتها وبركتها أطربك هذا المنظر وملأ نفسك سرورًا لا يُقدَّر، وتتجلى لك عظمة القصر وحديقته، ولا يسهل على واصف وصفه، خصوصًا إذا كانت المياه تتدفق من البرك الكبرى ومياه الأنابيب ترتفع في الجو على أشكال غريبة منوعة. ويصل الإنسان من هذه الحجرة العظيمة إلى حجرة نوم لويس الرابع عشر، مفروشة بأحسن الفرش، في وسطها سرير نهاية في الفخامة والزخرف، يفصله عن باقي الحجرة سياج ليس لأحد من الزائرين أن يتعداه، وقد مات لويس الرابع عشر على هذا السرير بعد أن حكم فرنسا زمنًا طويلًا جدًّا. وقد زُيِّنت هذه الحجرة بأبدع النقوش وأفخر التماثيل وثمين الأثاث.
ورأينا في هذا القصر مسرحًا للتمثيل (أوبرا) آية في الزخرف والزينة والعظمة، شيده لويس الرابع عشر وأبدع في زخرفه وموَّه في نقوشه بالذهب، وكسا مقاعدها بالمخمل الأحمر (القطيفة)، وجعل له أروقة تشرف على المسرح. وليس المسرح عرضة للزائرين بل يبحث عنه من يحب أن يراه، ويكافئ الحارس الذي عُهِدت إليه حراسته ببعض الفرنكات حتى يسهل له رؤيته.
وقد رأينا حجرة ماري أنطوانت الخاصة بها ومحل جلوسها وبعض حُجَرها التي أعدتها للحوادث وكيفية تنقلها من حجرة إلى أخرى بحالة لا يمكن للناظر أن يعرفها إلا بالإرشاد، مثال ذلك أنك تجد في نهاية حجرة من حجرها هيئة مكتبة بها كتب قيمة فيتوهم الناظر إليها أنها نهاية الحجرة فإذا بها عدة منافذ خلف هذه المكتبة، وقد استعملتها حين هجم عليها الثوار فاختفت عن أنظارهم مدة طويلة، ولكن ذلك لم يُجْدِها نفعًا فإنها وقعت في أيديهم وقُتِلت كما مر ذكره فيما سبق. وغير ذلك من الحجر والأروقة التي تحتوي على نفائس وتحف لا يتسنى لزائر مثلي وصفها فإنها تجِلُّ عن الوصف.
وطول هذا القصر يبلغ نحو ٤١٥ مترًا، به حديقة لا تُوصَف لجمالها ونضرتها وما فيها من الأزهار والنافورات المتعددة والأحواض الكثيرة، وبها ٦٠٠ بحيرة غاية في الجمال، وبركة يتدفق منها عشرة آلاف متر مكعب من الماء ترد إليها بالآلات البخارية من أمكنة بعيدة، وهم يعلنون عن تدفق الماء منها في ميعاد محدود بصحف باريس، ويكثر أن يكون ذلك كل خمسة عشر يومًا فيتقاطر الناس عليها لمشاهدة ذلك المنظر البديع النادر المثال، لأن خروج الماء منها وظهوره بألوان متعددة وأشكال بديعة يسحر العقل ويحير اللب. ومنظر الحديقة من أعجب وأغرب ما يرى الناظر لا لكبرها واتساعها وإنما لنظامها وجمالها وحُسن أزهارها نُظِّمت على أشكال هندسية يجمع الشكل الواحد عدة ألوان من الأزهار. يحيط بجميع بحيراتها تماثيل مختلفة الصنع والجمال، وعلى منحدراتها يجلس الناس على بساط من الخضرة موشًّى بالأزهار المختلفة كأنها يد رسام خطَّها على قطعة من الورق. ويتصل بهذا القصر قصران آخران، يُعرَف أحدهما باسم «تريانون الكبير» والثاني باسم «تريانون الصغير».
أما الأول فبناه لويس الرابع عشر لإحدى محظياته، وأشهر ما فيه الآن عجلات قديمة فاخرة استعملها ملوك فرنسا الأُوَل في احتفالاتهم العامة والرسمية وأكثرها من أيام بونابرت، وبعضها قد استُعمِل في موكب تتويج نابليون الأول واستُعمِلت أخرى في زواجه، إلى غير ذلك من العجلات المزخرفة التي تدل على الأبهة والعظمة. وأشهر ما فيه برلمان صغير جعله لويس الرابع عشر لاجتماع المجلسين حين الاختلاف في شأن من شئون المملكة، ولكل رئيس من الرؤساء مقعد خاص به، وفي صدر البرلمان عرش الملك البديع الصنع آية في الزخرف والزينة.
وقد جلسنا على مقاعده الفخمة فداخلني الغرور حيث أجلس في محل جلس عليه أحد عظماء فرنسا، وكان ذلك أثناء شرح المترجم لنا ما يحويه هذا البرلمان، ولا يدخله إلا طائفة قليلة من السائحين والزائرين والباقي ينتظر حتى يخرج من دخل، وهكذا تدخل طائفة ويُغلَق الباب ولا يُفتَح إلا بعد انتهائها من الفرجة وفي مقابل ذلك تُدفَع قيمة قليلة من النقود.
وأما التريانون الصغير فهذا قصر شيده لويس الخامس عشر، وكان قصرًا لبعض أفراد الأسرة المالكة، وله حديقة جميلة تُفتَح كل يوم يقصدها المتفرجون، وفي القصرين رسوم وآثار تشير إلى حوادث جمة تاريخية لا تخرج عما وصفناه آنفًا.
ولا يزال قصر فرساي له الشهرة التاريخية في الحوادث الحربية وغيرها، وبه تُعقَد المحالفات والمعاهدات إما على فرنسا أو لها، وآخر معاهدة عُقِدت فيه معاهدة الحرب العظمى بين فرنسا وألمانيا وحلفائهما، ولا تزال مشكلتها معقدة إلى الآن لعدم إذعان ألمانيا لما جاء فيها من الشروط ومحاولة التملص من قيودها، ولا ندري ماذا تتمخض عنه الأيام من مكنون حوادثها، خصوصًا بعد رياسة هندنبرج الذي تنبهت لتوليته أعصاب أوروبا.
وما ذكرته عن قصر فرساي وما به من التحف قُلٌّ من كُثْر وليس الخبر كالعِيان.
(١-٧) قصر الأنفليد
بناء فخم آية في العظمة والفخامة بناه لويس الرابع عشر ليكون مأوى لمن أصابتهم عاهة من الجند أثناء الحروب ولم يكن لهم أهل يعولونهم، أو للذين يفضلون الالتحاق به على الإقامة عند أهليهم، وتجرى عليهم الأرزاق فيه ما داموا أحياء، يدير شئونهم وأحوالهم جنرال عظيم من أقدم القواد في المملكة، يقضون أوقاتهم في حدائقه الواسعة ورحباته الجميلة يتنزهون ويقرءون ما طاب لهم من الكتب والمجلات والصحف، وقد شُيِّدت لهم في هذه الدار الواسعة كنيسة يتعبدون فيها، لهم ما يريدون من أمر الدنيا والآخرة بدون أن يكابدوا أدنى صعوبة. ويُسمَّى هذا القصر الفخم دار «العجزة».
ويشغل هذا القصر مساحة من الأرض لا تقل عن ١٢٧ ألف متر مربع، وقد هُيِّئ لأن يسع نحو خمسة آلاف نفس ولكن لا يجتمع فيه نصف هذا العدد لإيثار بعضهم العيشة الحرة في بلادهم على العيشة في هذا القصر.
وواجهة القصر فخمة فإن طولها يبلغ نحو مائتي متر، وهو ثلاث طبقات زُيِّنت بتماثيل كثيرة ترمز إلى وقائع الحروب التي نُصِرت فيها فرنسا على أعدائها، وبه الآن معرض عظيم القدر والقيمة يقصده السائحون والمتفرجون من جميع جهات الأرض. وبه عدة حجر جُمِعت فيها الأسلحة على أشكال متنوعة متعددة قديمة وحديثة، وما استُعمِل منها في الحروب الفرنسية، والذي غنمته جنود فرنسا في حروبها الكثيرة من المدافع والسيوف، خصوصًا ما غنمه الفرنسيون في الحرب الأخيرة من الألمان، وترى فيها الأسلحة البيضاء المستعملة للهجوم، وهي تشمل البنادق و«الطبنجات» وسائر الأسلحة النارية، كما أنها تحوي الأسلحة البيضاء المستعملة عند جميع الأمم. ويتبع الأسلحة المذكورة عدد الخيل وما كان يستعمله المحارب من الملابس أثناء الحرب من رأسه إلى قدمه مما يمثل حالة الحروب القديمة والحديثة تمثيلًا تامًّا. وبه عدة قاعات بها تماثيل رجال الحروب والقواد العظام بملابسهم الحربية على اختلاف أنواعهم وهيئاتهم وجهاتهم كقواد الجزائر الأوقيانوسية وقواد أمريكا وسواحل آسيا وأفريقية، وغير ذلك مما يعجز القلم عن وصفه. وبه حجرات تشتمل على صور صغيرة تمثل أنواع الأسلحة في الأزمان الغابرة إلى وقتنا الحاضر. ومما يلفت النظر وجود سلسلة من الحديد يبلغ طولها نحو ١٨٠ مترًا استعملها العثمانيون لوقاية جسر مدوه على نهر الطونه أيام محاصرتهم ويانة.
وبالكنيسة التي مر ذكرها في هذا القصر قبر نابليون الأول بطل فرنسا العظيم الذي دوَّخ البلاد وقهر الممالك والعباد، أُقِيمت عليه قبة يهولك منظرها وتروعك عظمتها وتقف أمامها خاشعًا خاضعًا عندما تتذكر ذلك البطل المشهور وأكبر قواد الأرض قاطبة في العصور الحديثة وما قام به من امتلاك الممالك التي كانت تتيه كبرًا وصلفًا، وأذلَّ أكبر الجبابرة من الملوك ودانت له أوروبا بأسرها وتحكَّم فيها كأنها إمارة صغيرة، ولكن بعد زمن صغير زال ملكه وذهب عزه وتهدَّم مجده.
فإن الدهر قد قلب له ظهر المِجَنِّ وأدارت له الأيام ظهرها وأذاقته مرارتها بعد أن تمتع بلذيذها وشهي ثمارها، فوقع أسيرًا في يد الإنكليز على أثر خدعة نصبوها له (والحرب خدعة)، فنفوه إلى جزيرة القديسة هيلانة وبقي بها أسيرًا حتى مات، فنُقِلت رفاته منها إلى هذا القصر الفخم كما وصَّى قبل موته أنه يريد أن يُدفَن في فرنسا المحبوبة بجوار نهر السين، ففعلوا ما أراد وشيدوا على قبره هذه القبة العالية التي تُرَى جوانبها من عدة أماكن بباريس، قد طُلِيت بالذهب. وهي عبارة عن مربع ضلعه ٦٠ مترًا، وفي وسطه قبر نابليون من قطعة واحدة من الحجر طولها أربعة أمتار وارتفاعها أربعة أمتار ونصف. وحول القصر عدة تماثيل بديعة تشير إلى الإصلاحات التي قام بها نابليون الأول، كإعادة النظام وإصلاح الإدارة والمجلس الإداري والصناعة إلى غير ذلك. وبها لوح أحمر من الرخام كُتِب عليه أشهر الوقائع التي قام بها هذا البطل العظيم.
وفي القبة غير قبر نابليون قبور بعض المشاهير من أقربائه. وقد كُتِب على قبره هذه العبارة: «أتمنى أُدْفَن على شواطئ نهر السين بين الأمة الفرنسية التي أحبها كثيرًا.»
وبهذه الكنيسة أيضًا نحو ١٥٠٠ راية غنمها جنود فرنسا في معارك نابليون الأول، وكلها محفوظة في ذلك القصر. كما أن هناك حجرًا كثيرة مملوءة بالملابس القديمة المتعددة الأشكال والأنواع والألوان لملوك فرنسا وأبطالها مما يعجز القلم عن وصفها وعدها.
وقلَّ أن يأتي فرد من الناس في باريس ولا يرى عظمة هذا الأثر العظيم، الذي يملأ النفس عظةً واعتبارًا ويشعره بعظمة الأثر الموجود به ويذكره بحوادث الدهر وعبره.
(١-٨) قصر لكسمبرج
هو قصر بديع تحيط به الحدائق من كل جهاته، وقد وصلنا إليه بعد مشقة لأننا قصدناه راجلين، وبعد هذا كله لم يُصرَّح لنا بدخوله كما لم يُصرَّح لغيرنا، ولذلك حولنا وجهتنا لرؤية متحفه الجميل الذي يُعَد من أبدع المتاحف. فأول ما يرى الرائي في صالاته الخارجة تماثيل كثيرة صُنِعت من المرمر البديع وغيره تشير إلى حوادث كثيرة ومعاني متعددة، كتمثال العدل وتماثيل الإخاء والاتحاد وتماثيل للشجاعة والحروب. وقد أدى بنا المطاف إلى حجر كثيرة متصلة بعضها ببعض فرأينا ما لا يُوصَف، حجر زُيِّنت سُقُفها بالنقوش البديعة وحوائطها بالرسوم الغريبة والأطر المموَّهة بالذهب تحوي صورًا جميلة؛ منها ما يشير إلى بعض الحوادث الحربية، ومنها ما يشير إلى حوادث تاريخية، ومنها صور ربات الجمال اللاتي اشتُهِرن في التاريخ بحوادث دعت إلى رسمهن ليرى الزائر صواحب تلك الحوادث المهمة، ومنها صور تدل على بعض الكواكب وأخرى من خيالات المصورين تشير إلى معانٍ كثيرة ويظن الناظر إليها أنها حقيقية، كلها ناطقة بفضل المثَّالين والرسامين. وهذا المتحف مكتظٌّ بالمتفرجين والسائحين خصوصًا الأمريكان الذين يملئون أنحاء أوروبا، لأني ما دخلت متحفًا أو أثرًا إلا وجدته مملوءًا بهم.
(١-٩) مدفن عظماء فرنسا
بعد أن فرغنا من زيارة متحف قصر لكسمبرج اعتزمنا زيارة مدفن عظماء فرنسا، فسرنا إليه حتى أشرفنا على فناء واسع في نهايته بناء ضخم مرتفع يصعد الإنسان إليه بسلم عريض يبلغ نحو خمسين مترًا، شُيِّدت واجهته على عُمُد ضخمة تشير إلى عظمة البناء وأبهته.
بعد أن صعدنا هذا السلم سرنا على منبسط من الرخام حتى وصلنا إلى بابه، فقابلنا رجل داخل حجرة صغيرة لها نافذة فأخذ منا «فرنكين» وسمح لنا بالدخول، فدخلنا في فناء واسع مرصوف بالرخام مقام على عمد ضخمة سقفه مرتفع جدًّا مزيَّن بالنقوش البديعة مموَّه أكثره بالذهب الوهاج. وقد أُقِيم في صدر هذا المحل مذبح من الرخام الأبيض الناصع، وأُقِيمت عليه وبجوانبه التماثيل التي لا تُوصَف لجمالها، يعلوها تمثال على هيئة فتاة ترمز إلى حرية فرنسا، ويمتد على جوانب هذا المذبح من الجهتين على مسافات طويلة أروقة مزخرفة يجلس فيها الرهبان حين إقامة الصلاة ليلقوا على الناس المواعظ. وقد دُفِن على جوانب هذه الكنيسة الضخمة عدة من عظماء فرنسا في قبور بارزة من الرخام.
وبعد أن متعنا النظر بهذه المناظر الجميلة رأينا على بُعد قومًا مجتمعين على باب ليدخلوا منه إلى رؤية بقية القبور الضخمة فانتظرنا معهم حتى يخرج من دخلوا قبلنا، وما زلنا كذلك حتى فتح الباب رجل سار أمامنا وتبعناه وسرنا في ممشى حتى وصلنا إلى سلم نزلنا منه إلى سرداب طويل مظلم منار بالكهرباء وعلى جانبه القبور داخل حجر مجللة بأكاليل الأزهار قديمة وحديثة مضاءة بالكهرباء كُتِب على كل قبر اسم صاحبه، وقد أخذ الدليل يشرح لنا أسماء أصحاب القبور وما قاموا به من بعض الأعمال التي كانت لها أثر بين في ارتقاء فرنسا أدبيًّا ومادِّيًّا وعلميًّا وحربيًّا، كالفلاسفة والقواد والعلماء والكُتَّاب والشعراء كفولتير وهوجو وغمبتا. وقد دخلنا مدفنًا واسعًا ضم نحو أربعين جثة من عظماء فرنسا وجميعها منارة يراها الإنسان من نوافذ حجر المقابر، إلا أن هذا النفق الطويل الذي يجتازه الناس لرؤية المقابر رطب ذو رائحة تضايق المتفرجين فلا يرغب الإنسان البقاء فيه، وقد خرجت منه وعندي صداع شديد. ولو ضاهينا هذا المدفن بمدفن عظماء الإنكليز الذي سيأتي وصفه لرأيناه أضخم منه بناءً وزخرفًا وعظمة.
(١-١٠) غابات بولونيا
هي حديقة واسعة طارت شهرتها في الآفاق حتى أصبحت مجمع أهل الترف ومتنزه جماعات أهل الحظ واليسار، يقصدونها من سحيق الأقطار ليمتعوا الطرف بمحاسنها الفتانة، الجذابة للنفوس، الساحرة للألباب، يجتمع فيها كل يوم من أهل المدينة والزائرين والسائحين والنازلين بها عدد عديد، يسير أكثرهم في سيارات جميلة بين الأزهار النضرة والشجر الباسق، والخضرة اليانعة، والبحيرات الجميلة التي تمخر بها الزوارق تغدو وتروح حاملة شموسًا تسطع أنوارها فتزيدها حسنًا وبهجة ورواء، بها من الشلالات الصناعية ما يشرح القلب ويسر النفس تتدفق منها المياه فيكون لخريرها هزة في النفس.
ولا عجب بعد هذا الحسن والجمال الوفير إذا توافد الناس على هذا المتنزه بخيلهم ورجلهم فيتعذر السير عليهم في أيام الآحاد، فتُضطَر صفوف السيارات أن تسير الهوينا.
بها دروب كثيرة لا حصر لها تخترق هذه الغابة الكثيرة الأشجار الباسقة، تحتها الأشجار القصيرة والأعشاب الجميلة المنوعة. بها مطاعم وقهوات وبارات أُنشِئت على شواطئ بحيرات جميلة، تسرح بها الحسان كما تسرح الظباء في خمائلها، يُخيَّل إلى السائر فيها أنه في دار النعيم.
وقد قصدنا زيارتها يوم الأحد، فلما وصلتُ إليها رغبت أن أسير راجلًا حتى أمتع الطرف بمحاسنها وأرى شوارعها الجميلة وطرقاتها ومنعطفاتها، وما زلت أمتع نفسي بجمالها الرائع وتنسيقها البديع حتى أدى بي المسير إلى بحيراتها، وهناك رأيت بحيرة ملأى بالزوارق والقوارب تحمل الغانيات يجذفن بمجاذيف تدفع القوارب دفعًا، ويشاركهن في هذا البجع والطيور فيحدثن منظرًا جميلًا، ويبلغ طول بعض هذه البحيرات نحو ١١٥٢ مترًا في عرض مائة، وقد أُقيم في بعض هذه البحيرات جزيرتان فيهما المطاعم ومحال الرقص والألعاب المنوعة والقهوات.
وعلى منحدرات هذه البحيرة وعلى الخضرة الجميلة جلسنا بين الجالسين أمامنا الماء تسير فيه الزوارق حاملة المتفرجين والمتنزهين، وفوق رءوسنا أغصان الأشجار الجميلة يهزها النسيم العليل، وبجوارنا ينابيع الماء تنحدر مياهها فوق الأحجار والصخور ثم تنحدر إلى البحيرات.
وكل زمني الذي قضيته على شاطئ البحيرات وأنا بين استغراب ودهشة، بسبب الحرية المتناهية التي تلحق الإنسان العاقل بالحيوان الأعجم، تجلس الفتيات مع الفتيان والرجال على شواطئ البحيرة مختلطين مستهترين لا يخفن منتقدًا، وليس من ينتقد أعمالهن إلا الغريب الذي لا يعرف أخلاق وعادات تلك البلاد، فإنه كثيرًا ما استوقف نظري مشاهدات يحمر لها وجه الإنسانية خجلًا مألوفة مباحة عندهم، حتى يأتيها الشرطي الموكَّل بالحفظ، فيا لها من إنسانية قد انقلبت إلى وحشية!
ويُخيَّل إليَّ أن فرنسا تسير بهذه الحرية المطلقة إلى هوة سحيقة وستصير بعد زمن ما إباحية، وإذا دام الحال على هذا المنوال انتشرت من باريس تلك الأزياء المغرية التي تنفر منها الطباع السليمة إلى الأمم، خصوصًا الأمم التي تقلد تقليدًا أعمى.
ولقد عجبت كثيرًا من مقدرة رجال فرنسا لقيامهم بالأعمال الجسيمة وخلق النعيم والرفاهية لأهلها، وكيف يعتني أهل باريس بقضاء أوقات فراغهم في اللهو والسرور والجذل والحبور وخروجهم إلى المتنزهات العامة بكثرة، فإن الغابة مع اتساعها وصلاحيتها للسير والجلوس مكتظة بالمتنزهين حتى خُيِّل إليَّ أن جميع سكان فرنسا هجرت منازلها إلى تلك الغابة.
وقد كانت هذه الغابة قبل إصلاحها ملجأ للشريرين وقطَّاع الطرق حتى أعطتها الحكومة لبلدية باريس، بشرط أن تقوم بالنفقات اللازمة لإصلاحها إصلاحًا يعود بالمنفعة على الأمة فقبلت البلدية ذلك وأنجزت ما وعدت، فأصبحت هذه الغابة أحسن متنزهات باريس مع بقائها على هيئة الغابة الطبيعية ولكن شوارعها أصبحت تضارع أحسن شوارع المدن، وقد بلغت مساحتها أكثر من ألفي فدان. وزادت رغبة النساء للتنزه فيها لما يقصدها من أهل اليسار وغيرهم، فتجدها ملأى بهن يتبارين في إظهار جمالهن وخلاعتهن وملابسهن الحسناء.
وصفوة القول أن هذه الغابة في باريس نقطة الجمال وأكبر متنزهاتها، وليس لمدينة من المدن العظيمة ضاحية مثلها، جمعت أنواع المحاسن والجمال وحُسن الانتظام، تتصل بها أعظم الشوارع التي تُعتبَر كمتنزهات عامة، تكثر فيها المقاعد فيجلس الناس عليها لرؤية الغادين والرائحين، ومن لم يرها فقد فاته شيء كثير.
(١-١١) برج إيفل
من غرائب الآثار وأفخمها وأعجبها وأدلها قدرة على براعة الإنسان وعلو همته ورقي فكره «برج إيفل»، فإن منظره يهولك لعظمته وفخامة بنائه وتركيبه أكثر مما يهولك منظر هرم الجيزة الأكبر.
وهو يُعَدُّ الآن من غرائب الصناعة وأجمل آثار التمدين الحالي، بُنِي في سنتين من سنة ١٨٨٧ إلى سنة ١٨٨٩ للمعرض العام الذي أُقِيم في باريس في تلك المدة، بناه المهندس الشهير جورج إيفل فنال من حكومته أعظم مكافأة، وبعد إتمامه نُصِب عليه العلم الفرنسي، وهو لا يزال إلى الآن.
وقد أُقِيم وسط حدائق غناء، يبلغ علوه ٣٠٠ متر أو ألف قدم، وهو أعلى بناء في الأرض، مصنوع كله من الحديد تقريبًا، أُقِيمت قوائمه المنحنية على قواعد ضخمة من الأحجار الكبيرة، يشغل من الأرض مسطحًا أكثر من ١٦٧٠٠ متر مربع، وكل ضلع من أضلاع مربعه ١٢٩ مترًا، ويقال إنه إذا وُزِن حديده لا يقل عن سبعة ملايين كيلوجرام، به خمسة وعشرون مليونًا من المسامير كما علمت. وقد جُعِل ثلاث طبقات يُصعَد إليها إما بدرج أو بالآلة الرافعة «السنسير»، وهي التي يعتمد عليها الناس في صعودهم إلى الطبقات الثلاث، ويمكن أن يصعد بواسطة هذه الرافعة نحو ٢٣٠٠ شخص في الساعة الواحدة، ومثلها للطبقة الثانية، و٧٥٠ للطبقة الثالثة، ويمكن لعشرة آلاف نفس الاجتماع في جوانبه في آنٍ واحد.
وقد أخذت جوازًا من نافذة على بابه ثمنه خمسة فرنكات للصعود لآخر طبقة فيه، ولكل طبقة أجرة خاصة، ولما دخلت حجرة الرافعة وجدتها واسعة تسع نحو ٦٣ شخصًا في المرة الواحدة، وقد اضطرب قلبي وبللني العرق في يوم كان باردًا لمَّا فكرت أني سأصعد إلى هذا العلو الشاهق، ولما امتلأت ارتفعت بنا بسرعة تسير على جانب من جوانب البرج كأنها تسير على قضيب سكة حديدية.
وصلنا إلى الطبقة الأولى التي تبعد عن سطح الأرض بنحو ٥٧ مترًا ومسطح أرضيتها نحو ٤٢٠٠ متر مربع، وهي مفتوحة على مسطح ٩٠٠ متر مربع فيرى الناظر من هذه الفتحة أرض البرج.
وقد شُيِّد في هذه الطبقة عدة أماكن للطعام والقهوات يسع الواحد منها من ٥٠٠ إلى ٦٠٠ نفس، بها دكاكين للبيع والشراء والبارات وحديقة جميلة، وقد نُقِش في أعلى محال هذه الطبقة صور كبار المهندسين الفرنسيين الذين اشتُهِروا في هذا القرن باختراعاتهم، وفي هذه الطبقة دعا جورج إيفل في يوم ٤ يوليو سنة ١٨٨٨ نحو مائة رجل من كبار محرري الجرائد الباريسية لتناول الطعام، وكانوا أول من صعد فيه بعد صناعته.
وتبعد الطبقة الثانية عن سطح الأرض ١١٥ مترًا ومسطح هذه الطبقة ١٤٠٠ متر مربع، ولما أردت الصعود من هذه الطبقة إلى التي أعلى منها راودتني نفسي أن أكتفي بما رأيته، ولكني لما رأيت الرجال والنساء والأطفال يصعدون بدون خوف ولا وجل شجعني ذلك وحب الاطلاع على المضي إلى النهاية، وفي هذه الطبقة البارات والقهوات وبعض الحوانيت مما يُعَد سوقًا صغيرًا.
وكلما وصلنا إلى طبقة غيَّرنا الرافعة بأخرى أصغر منها، لأن البرج شُيِّد على شكل هرمي يستدِقُّ كلما صعدنا فتُستعمَل رافعات مناسبة لذلك، وليس هناك طريق للوصول إلى الطبقة الثالثة وهي قمة البرج غير الرافعة، وكنت أعتقد أن هذه الطبقة لا تسع فوق سطحها سوى واحد أو اثنين، فلما وصلت إليها وجدتها تسع نحو ٦٠٠ نسمة، بها دكاكين أيضًا لبيع الأشياء الجميلة تذكارًا لزيارة هذا البرج، وفي القمة برق بدون سلك (تلغراف اللاسلكي) وبريد.
وهنا تأخذك الدهشة حينما ترى باريس تحت نظرك كأنها خارطة تنظر إليها من جميع نواحيها فيحددها نظرك، وترى الشوارع العظيمة الاتساع تسير فيها الناس والسيارات كأنها طرق نمل، كما ترى نهر السين يخترق باريس كأنه جدول مزرعة يسير متعرجًا فيها، وترى غابة بولونيا العظيمة كأنها حديقة صغيرة والقصور والضواحي الجميلة والمعامل يتصاعد منها الدخان، فيداخلك سرور يملأ نفسك وتود ألا تغادر هذا المكان لتمتع نظرك ببديع المناظر الباريسية الجميلة التي لا يتسنى لك رؤيتها إلا من هذا المكان، والجلوس على قهواته يعده الإنسان من أجمل النزهة وأحسنها فكأنه جالس في السماء أو فوق هامة الجوزاء.
وقد أقامته شركة نالت به امتيازًا لمدة إحدى وعشرين سنة فجمعت نفقاته مدة المعرض وكل إيراده في المدة الباقية ربح خالص لها، فإن عدد الذين صعدوا الطبقة الأولى منه كما قال بعض المؤرخين ١٩٦٨٢٧٨، والثانية ١٢٨٣٢٣٠، والثالثة ٥١٩٣٨٤، فمجموع ذلك أكثر من أربعة ملايين في مدة ستة أشهر.
وعندي أن برج إيفل يُعَد من غرائب آثار الدنيا وعجائبها وأكثر مشاهد الزمان غرابة، ويدل دلالة واضحة على ما لأهل فرنسا من الثروة والغنى في العلم خصوصًا العلوم الهندسية، فهو على الإجمال من أحسن ما جادت به قريحة الإنسان، ولا يمكن لشخص أن يتصور عظمة هذا البرج وكيفية إقامته وما به من الحديد حتى يحضر إلى باريس ويراه بنفسه.
(١-١٢) الملاهي بباريس
الأوبرا وميدانها
إذا سرت في شوارع باريس ورأيت ميدانًا فسيحًا تتفرع منه عدة شوارع مكتظة بالناس والمركبات المتراصة، ورأيت جنديًّا يمتطي جوادًا وتحت إمرته خمسة جنود راجلين؛ فقل هذا ميدان الأوبرا.
لم ترَ عيني طول حياتي مثل هذا الازدحام وتلك الحركة الهائلة التي يقف الإنسان أمامها ذاهلًا خصوصًا من لم يرها من قبل؛ قوم يهرولون وسيارات تمر وعالم يكر ويفر، وآخرون يغوصون من فتحات فيه تحت الأرض، لا يستطيع الإنسان أن يجتازه إلا بعد أن يأمر الشرطي بوقف السيول الجارفة من السيارات، فإذا حول وجهه إلى شارع وصفَّر وقفت حركة السيارات فجأة، وتكوَّن في لحظة جسر عظيم عريض من السيارات وتدفَّق سيل من الناس يقطع الشوارع. ومع هذا الازدحام وتلك الحركة الكبيرة لا تحدث أخطار، وهذا يتبع النظام ومهرة السائقين ومعرفة الناس واجب السير، ومتى أشار الشرطي بمرور السيارات سارت تدب دبيبًا بحركة تسترعي الأنظار.
وقد سرت في هذا الميدان ليلًا حين خفَّت الحركة فرأيت العمال يصلحون بعض جوانبه، ووجدته مرصوفًا بالخشب السميك ولم أتبينه إلا بعد تفرس كبير، لأني لا أعلم أن الميادين تُرصَف بقوالب من الأخشاب المتينة.
وفي هذا الميدان يجتمع الناس على قهوة قريبة من دار الأوبرا تُسمَّى «كافيه ده لابيه» قهوة السلام وهي من أشهر القهوات وأوسعها، يجلس الناس عليها لمشاهدة الحركة في هذا الميدان ويقصدها عصرًا أهل الذوق واللطف من الجنسين، فمنظر هذا الميدان يأخذ بالألباب ويبين عظمة الممالك ومقدار ازدحام المدن الكبيرة بالسكان، وعليها تمر وتجلس غانيات باريس وحسانها. فهو مركز حركة المدينة ونقطة اتصال أعظم شوارعها.
مسرح الأوبرا
في هذا الميدان أُقِيم مسرح الأوبرا وهو بناء شامخ حُلِّيت جوانبه وحيطانه وأعاليه بالتماثيل الكثيرة المتعددة المتنوعة، ابتُدِئ في بنائه سنة ١٨٦٢ ولم يُنتَهَ منه إلا سنة ١٨٧٤، وهو أوسع مسارح العالم وإن كان مسرح «سكالا» بميلانو و«سان كارلو» بنابولي يسع كل منهما أكثر منه لكثرة محالِّهما، إلا أنه أوسع منهما مساحة فإنه يشغل من الأرض ما مساحته نحو ١١٢٣٧ مترًا مربعًا، ولقد أفرغ فيه العقل الإنساني من التحسين والزخرفة قصارى ما يصل إليه، وقد أُنفِق في بنائه مبلغ يُقدَّر كما قال بعض المؤرخين ﺑ ٤٧٠٠٠٠٠٠ فرنك. واجهته التي تشرف على الميدان تشتمل على طبقة أرضية أُقِيمت على سبع حنايا (بواك) يُصعَد إليها من سلم عريض، جميعها محلاة بالصور والتماثيل التي ترمز إلى حالة الشعر والموسيقى والغناء والإنشاد والرقص إلى غير ذلك، وتعلو هذه الطبقة أخرى تشتمل على سبع نوافذ فوق الحنايا السفلى تشرف منها على هذا الميدان العظيم الساطع بالأنوار المتلألئة، ويحيط بهذه النوافذ عمد جميلة تبلغ نحو الثلاثين وأكثرها من الرخام الملون متوَّجة رءوسها بالبرنز المطلي بالذهب الوهَّاج.
وقد صُنِعت الخارجات (بلكونات) أمام هذه النوافذ من الرخام الأخضر، ويعلو هذه الطبقة سياج محلًّى بما يفوق الوصف من الصور والتماثيل المذهبة، ويعلوه قبة عظيمة أُقِيم عليها تمثال إله الشعر ورب الإنشاد. أما داخل المسرح فقد اتفق المؤرخون على أنه أحسن مسرح للتمثيل والموسيقى في الأرض كلها.
لو عُدَّت الأبنية التي تؤثر في نفس الناظر إليها داخلًا وخارجًا لكانت أربعة:
(١) الأوبرا بباريس. (٢) كنيسة ميلانو. (٣) قصر المحاكم في بروكسل. (٤) كنيسة الفاتيكان وقصره برومة. فجميعها من المباني الضخمة العظيمة التي اشتُهِرت عند الخاص والعام.
والممثلون في هذا المسرح يُنتقون من أحسن الممثلين والممثلات وأمهر المغنين والمغنيات، وتمده الحكومة الفرنسية بإعانة سنوية.
ولقد يقف الإنسان أمام وصفه حائرًا لا يتسنى له وصف جماله وآيات حسنه وبهائه، كله أعمدة مذهَّبة ونقوش دقيقة ومقاعد فاخرة وسُقُف تلمع وجدران تسطع وصور تكاد تنطق بلغت غاية المدى من الإتقان والجمال، يرقى إليه الصاعدون على سلم عريض صُنِعت درجاته من المرمر الأبيض، فإذا ما صعد الداخل رأى من كل جانب منه أناسًا يصعدون وينزلون في الفروع الباقية من هذا السلم العجيب حتى إنه ليظن الإنسان أنه في بلاد الجن، وهذا السلم مقام على ثلاثين عمودًا من الرخام.
ومما يزيد الإنسان ذهولًا فخامة ذلك المسرح المذهَّب، رخامه الساطع، زجاجه، يقصده علية القوم من الرجال والنساء بأفخر الملابس وثمين الجواهر.
وبين كل فصل وآخر يخرج الناس للسير في بهو تراه آية في الجمال وحسن البهاء ما وصف مثله الواصفون، كله رخام صقيل وبلَّور نضيد وذهب وهَّاج وأطلس نفيس وتماثيل وصور آلات الموسيقى والغناء بالسقف وسائر الأنحاء بلغت نهاية الزخرف وحدَّ الإتقان، تُعَدُّ من عجائب هذا المسرح من حيث بنائها وزخرفها وتذهيبها وما بها من العمد وسعتها، فإن طولها يبلغ نحو ٤٤ مترًا في عرض ثلاثة عشر في ارتفاع ثمانية عشر مترًا، بها مرايا ارتفاع الواحدة منها سبعة أمتار بجوانبها عمد صغيرة تبلغ العشرين، تختال فيها الغيد الحسان ببديع الأزياء فينسى الإنسان هموم الحياة ومتاعبها ولا يفكر إلا في بديع صنع الباري.
وهذا المسرح يحوي سبع طبقات من المقصورات مكسوَّة جميعها بالمخمل الأحمر، فإذا أُطْفِئت الأنوار ظهرت الألواج محمرَّة كأنها اللهب يدخل النساء فيه لابسات المعاطف، فإذا ما جلسن على مقاعدهن خلعنها فأظهرن جزءًا من ظهورهن وصدورهن فحلَّت محل ضوء الكهرباء.
ومما لاحظته في هذا المجتمع الأدب الكامل والوقار التام تسيل الناس فيه رقة ولطفًا وحُسن ذوق، فإذا ما دخلت المسرح تقدمتك فتاة وأرشدتك إلى مقعدك بلطف ورقة، وهنا يجمل بك أن تقدم لها شيئًا من النقود وإن لم تطلب منك ذلك، وإذا ما دخلت خلال الفصل أرشدتك إلى محلك بضوء كهربائي.
وجميع الرجال يخلعون قبعاتهم (برانيطهم) متى دخلوا المسرح إلا النساء فلهن الحرية التامة في ذلك، وقد علمتُ أن لك الحق أن تطلب إلى السيدة التي تحجب قبعتها نظرك عن رؤية الممثلين نزعها عن رأسها، وهو واجب يقوم به الشرطي إذا عجزت عنه.
ومما يلفت النظر بنوع خاص أنك لا تجد في المسارح أولادًا ولا بنات مع آبائهم وأمهاتهم ولا تسمع دويًّا ولا صفيرًا ولا دقًّا بالعصي والأرجل كالذي نشاهده في مسارحنا، فأخلاق الناس وآدابهم في المجتمعات العامة يصح أن تكون نموذجًا للأخلاق الراقية والآداب العالية.
وعلى الجملة فإنك إذا نظرت إلى حوائط المسرح وما فيه من التماثيل والزخرف والنقوش والجلوس، هالك هذا المنظر وملأ نفسك هيبة واحترامًا لأهل باريس، وعجبت لتفننهم في إتقان ملاذِّهم واعتقدت أنك في عالم آخر لم يخطر لك على بال.
وإذا خرجت تتمشى بين فصل وآخر وجدت في نواحيه قهوات وحانات ومحالَّ للتدخين والمرطبات بأنواعها وغير ذلك مما يريح المتفرج.
ومن حُسن الحظ أني حضرت فيه رواية «تاييس» وقد كنت رأيت تمثيلها في مصر، فرأيت البون شاسعًا والفرق عظيمًا؛ رأيت الممثلين يؤدون أدوارهم في حذق ومهارة غاية في الإتقان والبراعة خصوصًا من أدت دور تاييس، فإنها برعت في إتقان دورها مع جمالها الرائع وحُسن صوتها الرخيم وسلامة التعبير وحُسن الإلقاء وجودة التمثيل، كما أجاد الكاهن كل الإجادة وقد أعجبني منه مثابرته واستمراره على نصح تاييس وإلحاحه عليها في الإقلاع عما هي عليه من الغواية والضلال صابرًا على ما يلاقيه منها من الإهانة والتحقير، حتى ذلَّل ما صَعُب وأمكنه أن يُدخِل مواعظه الحسنة وإرشاداته إلى آذانها ثم إلى قلبها حتى انقادت له واتبعت نصائحه وأقلعت عما كانت عليه من الغواية ووقعت في حبائله، فأصبح يتصرف في قلبها ويلعب به كما تلعب النكباء بالعود، ورجعت إلى الله رجوعًا لا تشوبه شائبة التعلق بزخارف الدنيا ونعيمها، وقد فارقت الحياة وهي في ريعان شبابها فأسف الكاهن على موتها وبكى بكاء مرًّا وظهر أنه كان يحبها حبًّا يقرب من العبادة، كل ذلك مُثِّل بغاية الدقة والإتقان والبراعة حتى ترك ذلك في نفسي أثرًا لا تمحوه يد الأيام.
ولا يزال يرن في أذني إلى الآن صدى صوت تاييس وهي تلتجئ إلى صنم معبودها أن ينجي شبابها وزهرة جمالها من سقوطها في يد هذا الكاهن، وحيرتها بين الرجوع إلى نصائحه ومواعظه وبقائها في ملاهي الدنيا وملاذِّها.
فأين ما رأيته من براعة الممثلين في مسرح الأوبرا مما أراه في مسارحنا؟! فإني لا أكاد أفهم لبعض الروايات مغزى لعجز بعض الممثلين عن القيام بإتقان أدوارهم وعدم وضوح مغازي الروايات التي تُمثَّل، ولا أنكر ما يقوم به بعض الممثلين في مسرح رمسيس من إتقان أدوارهم إلا أن ذلك لا يُعَد شيئًا بجانب ما رأيته هناك.
وأعتقد أنه إذا دام تشجيع الحكومة للممثلين وقام أهل المسارح بما تفرضه عليهم الوطنية واتجهت أغراضهم وميولهم إلى الغرض منه، أدَّوْا خدمًا جليلة للأمة وأثَّروا في أخلاقها تأثيرًا بيِّنًا يفوق وعظ الواعظ وإرشاد المرشدين، فتنتقل الأمة من هذا الانحطاط الخلقي الفظيع إلى درجة الرقي والكمال. وفقنا الله جميعًا إلى خدمة الوطن العزيز!