من باريس إلى لندن
لم يكن من برنامج سياحتي أن أزور إنكلترا، ولذا لم أطلب من قلم الجواز (البسبرتات) في مصر ذلك، ولكني لما وجدت نفسي في باريس وعلمت بفخامة وعظمة معرض «ومبلي» وأن الناس يقصدونه من الممالك السحيقة لمشاهدة ما به من آيات الصناعة والفنون؛ اعتزمت زيارته مهما اعترضني من الصعوبات، فقصدت قنصلية إنكلترا في باريس لآخذ منها جوازًا بالسفر إلى إنكلترا، فامتنعت عن إعطائي جوازًا بادعاء أني لم أطلب ذلك وأنا بمصر فأيست من السفر إلى إنكلترا، ولكني فكرت أن أذهب إلى قنصل مصر في باريس لعلي أجد عنده حلًّا، فلما ذهبت إليه وأعلمته الخبر أشَّر على الجواز بقوله: «لا مانع من ذهابه إلى إنكلترا»، وأخبرني أن أقدمه إلى القنصل الإنكليزي، فلما قدمته إليه لم يتردد لحظة في السماح لي وتقاضى ٣٥ فرنكًا رسم الجواز.
وبهذه المناسبة لا يفوتني أن أثني ثناءً عاطرًا على حضرة المحترم مراد بك قنصل مصر في باريس، لسمو أخلاقه ورقي آدابه ولما يقوم به من الأعمال الجليلة؛ فإنه يمنع كثيرًا من الباريسيات الساقطات اللاتي يحضرن إلى مصر للاتجار بأعراضهن ولا يعطي لهن جوازًا إلا إذا قدمن له سببًا معقولًا يقتنع به، ويساعده في ذلك حضرة المحترم التقي الشاعر الناثر موسى بك رئيس الكتبة هناك، وقد رأيت ذلك بنفسي مرارًا. فلو لم يكن للقنصل فائدة سوى منع هذا السيل الجارف والخطر المحدق عن مصر لكفى ذلك، مع أنها تقوم بتسهيل شئون المصريين وربط العلائق التجارية وحُسن التفاهم والتعارف بين المصريين وغيرهم، ونشر فضل مصر في البلاد التي تجهل مكانتها ورقيها.
ولم يغبْ عن ذهني ما قالته إحدى الكاتبات الفرنسيات: «إننا سنذهب لنأكل عسلًا وجرادًا برِّيًّا»، لما دعاها صاحب الدولة سعد باشا زغلول إلى حفلة شاي أقامها في باريس. فإذا كان هذا حال كاتبة متنوِّرة ملمَّة بأحوال الأمم، فما حال من لم يعلم عن تلك البلاد شيئًا؟ مع أن أهل فرنسا أكثر ارتباطًا ومعرفة بالمصريين من غيرهم لما لهم من المصالح الكثيرة فيها. ولا أنسى مقابلة صاحب السعادة محمود فخري باشا سفير مصر في باريس، فإنه قابلنا ببشاشة ولطف لم أعهدهما في عظيم مثله، وجاملنا أحسن مجاملة وقضى معنا وقتًا طويلًا من زمنه النفيس، فعرفنا منه أخلاقًا يصح أن تكون نموذجًا لأرقى الأخلاق، يقوم بأحسن الخدمات لمصر والمصريين هناك، وينشر فضلها ومكانتها وأحقية استقلالها ولزوم السودان لها بصحف باريس الكبرى.
وهو قوي جدًّا في اللغة الفرنسية ويعرف اللغة العربية ويحفظ كثيرًا من شعرها ونثرها وكذا يحفظ كثيرًا من القرآن الكريم، وله مكانة سامية ومنزلة خاصة بباريس.
ويا حبذا لو قام كل سفير بما يقوم به سفيرا مصر في فرنسا وإنكلترا! حتى يقف العالم على أحوال مصر وحقيقتها ومركزها وما هي عليه من الرقي الذي تستحق به أن تتبوأ مركزها اللائق بها تحت الشمس. وقد سرَت آدابه وأخلاقه إلى جميع موظفي سفارته حتى أصبحوا جميعًا غاية في حُسن الأخلاق والأدب.
ومما يجدر ذكره أني شاهدت جميع مستخدمي السفارات والقناصل في الممالك التي زرتها يلبسون القبعات متى برحوا مكاتب السفارة ويلبسون الطرابيش فيها، مع أنه يجب أن يلبسوا الطرابيش داخل السفارات وخارجها حتى يمثلوا مصر بأعمالهم وأزيائهم فيعرفهم كل من رآهم.
وفي اعتقادي أنه واجب يجب على الحكومة أن تلزمهم بلبس الطرابيش داخل السفارة وخارجها.
هذا، وقد ذهبنا إلى محل كوك لنأخذ منه جواز السفر (التذكرة) إلى إنكلترا ذهابًا وإيابًا فبلغت قيمتها ٢٩٠ فرنكًا، وقد سألنا مستخدميه عن أحسن طريق وأسهلها لعبور بحر المنش بين فرنسا وإنكلترا، فاختاروا لنا الطريق من مدينة «دييب» إلى مدينة «نيوهافن» في إنكلترا وإن كانت المسافة تستغرق نحو ثلاث ساعات، إلا أن السفر منه ليس مزعجًا كالسفر من كاليه إلى دوفر وإن كانت ساعة ونصف ساعة، لأن البحر بينهما شديد الاضطراب والأمواج والأنواء، فاتَّبعنا نصيحتهم.
ولما كان في نيتنا ألا نمكث كثيرًا في إنكلترا تركنا حقائبنا الكثيرة في الفندق الذي نزلنا به في باريس وأخذنا معنا ما يكفينا من الملابس مدة قصيرة، لأن غرضنا زيارة معرض ومبلي والمشاهد المشهورة بلندن.
ثم امتطينا سيارة من فندقنا الساعة العاشرة فوصلنا المحطة وركبنا القطار حيث قام الساعة العاشرة والنصف صباحًا، مخترقًا مروجًا نضرة جلُّها تلال ووديان تجري بها المياه والجداول، بها مراعٍ واسعة ترتع بها الخيل والبقر والغنم ومنازل منتثرة هنا وهناك يتمنى الإنسان أن تكون مسكنًا له طول حياته. ولا أريد أن أعود إلى وصف الأراضي التي يسير بها القطار لأنه قد مر وصف مثلها كثيرًا.
ومقاعد القطار فخمة مريحة، وُضِع على رف كل حجرة من حجره كتابان كبيران ظننت أنهما لأحد الركاب، ولما لم يأخذهما أحد بحثنا فيهما فوجدنا أن بكليهما معلومات جغرافية عن الجهات التي يقطعها القطار وعدد ما يقطع بالكيلومترات بين بلدة وأخرى، وخُرَط لها غاية في الدقة والإتقان توضح مواقع البلدان التي تمر بها وما بها من الفنادق وأجرة المبيت بها ومواقعها، ومعلومات واسعة ترشد المسافر إلى كل ما يريد معرفته. فعجبت العجب كله لعناية الغربيين بما يدل على رقي البلاد وتمدينها وقيامها بما يفيد أهلها والمسافرين والسائحين، ولم أرَ في قُطُر الممالك التي زرتها مثل هذا.
وما زلنا سائرين وسط مشاهد تشرح الصدور وتسر العين وتزيل الهموم والأفراح، تارة نصعد فوق تل وأخرى نهبط واديًا وتارة ندخل في نفق حتى وصلنا إلى مدينة دييب، وهي ثغر فرنسي به ميناء واسعة محفوظ من غوائل البحر برصيف عظيم صناعي وطبيعي، وهذا الثغر مشهور بلطف حماماته البحرية يقصده السائحون من كل فج، وقد دخل القطار بنا إلى الميناء حيث وجدنا السفينة في انتظارنا، ووجدنا البحر هادئًا هذا اليوم فسُرِرنا وحمدنا الله ومنَّيْنا أنفسنا بالراحة لقطع هذا المضيق المشهور باضطرابه وهيجانه. ولما انتظم الراكبون وأخذ كلٌّ مكانه صفَّرت السفينة إيذانًا بالمسير، فاصطفَّ الناس في ممشى السفينة لرؤية المدينة والميناء من البحر فأقلعت وسارت باسم الله مجريها ومرساها، وأخذت تمخر عباب البحر في هدوء وسكون فملأ السرور فؤادي لأني سأصل إلى بلاد طالما تمنيت رؤيتها. وأخذت أتجاذب أطراف الحديث مع صديقي علي أفندي فهمي الرشيدي في أمور شتى وبالأخص عن لندن وما بها من الحركة والزحام وأخلاق الإنكليز في بلادهم، وما نسمعه عنهم من وداعة الأخلاق مما نشاهد عكسه في بلادنا من الفظاظة والغلظة والكبر والغطرسة المملة التي لا تُحتَمل. وما كنت أصدق ما يقال عنهم من أنهم أهل لطف وأدب وأخلاق راقية حتى رأيت منهم من حُسن الأخلاق والآداب فوق ما كنت أظن و«ليس الخبر كالعيان».
وقد لاحظت أثناء سير السفينة أن طيورًا بيضاء كبيرة الجثة تقرب من النسر تتبع السفينة في سيرها حتى وصلنا إلى مدينة «نيوهافن» من أعمال إنكلترا ولم أعرف السبب، إلا أنني استنبطت أنها تتبع السفينة حتى لا تضل طريقها فتصل إلى البر الآخر في زمن قليل. وما زلنا نمتع الطرف والبحر هادئ ليس به ما يقلق الراحة حتى قربنا من مدينة «نيوهافن»، وهنا شعرت بدوار فقاومته مقاومة كبيرة حتى سلمت منه.
وعند وصولنا أخذوا منا الجوازات ليؤشِّروا عليها بما يفيد صحتها والسماح لنا بالمرور، ثم عُرِضت حقائبنا على المفتش بالمكس فلم نلاقِ صعوبة، وقد يكتفي بسؤالنا عما معنا فنجاوبه صدقًا فيخلي سبيلنا. وبعد أن خرجنا من محالِّ التفتيش وجدنا القطار الذي يقلنا إلى لندن منتظرًا فركبناه وقام مسرعًا، وهنا يعجز القلم عن وصف المناظر الجميلة التي مررنا بها من مزارع غاية في التنسيق والترتيب، ومراعٍ ترعى بها أنواع الماشية، وتلال مكسوَّة سفوحها بالأشجار الباسقة، والوديان ذات الجداول الجميلة. وقد أمطرتنا السماء غزيرًا فأوصدنا المنافذ بالألواح الزجاجية، وصرنا نمتع الطرف بالمشاهد التي نسجتها يد الطبيعة، فطورًا تصعد فوق قنطرة وأخرى تهبط واديًا. وما زلنا كذلك حتى أشرفنا على منازل العمال، وهنا يأخذك العجب لعناية الحكومة بتشييد منازل للعمال غاية في النظافة وحُسن الترتيب والنظام والصحة، وقد شُيِّدت على نظام ونمط واحد في حقول ومزارع واسعة، فإنك تجد شوارع طويلة جدًّا مرصوفة تُفتَح فيها أبواب المنازل، أمام كل منزل حديقة صغيرة يفصلها عن الشارع سياج صغير، وكل بيت مركب من ثلاث طبقات أو اثنتين، كل سطوحها بالطوب الأحمر فنراها كأنها مجاميع من الورود الحمراء، فيرى الناظر إليها منظرًا يملأ نفسه سرورًا يرغِّب كل إنسان في سكناها لما بها من الجمال وحُسن الرونق والرواء. وقد سار القطار في هذه المباني الجميلة الصحية ما يقرب من ساعة، حتى خُيِّل إليَّ أن لندرة عبارة عن مساكن للعمال لكثرة ما رأيت منها.
وهنا رثيت لحال العامل المصري الذي يسكن أحط الأكواخ وأقذرها لا يجد مأوى يريحه بعد تعبه الشاق المتواصل، فلا الحكومة تنظر إليه بعين الشفقة والرحمة ولا هو يعرف كيفية نظام حياته، فتراه يقضي سحابة يومه مُجِدًّا في عمله حتى يخيم الظلام فيذهب إلى كوخ لا منفذ فيه إلَّا كُوَّة صغيرة في أعلاه لتصريف الهواء الذي يفسد من تنفسه وأولاده وماشيته فيكاد يختنق، ولا ينجِّيه إلا طلوع الفجر حيث يبدأ عمل يومه.
وما زال القطار يخترق هذه المشاهد الجميلة حتى وصلنا إلى محطة فكتوريا الساعة السابعة مساء، وهي محطة غاية في الأبهة والعظمة.
(١) لندن
وصلنا محطة لندن بعد سفر ثماني ساعات ونصف من باريس إلى لندن عن طريق دييب ونيوهافن، ولما وطئت قدماي أرض أكبر عاصمة في العالم قوة وعظمة وسكانًا، أحسست بأني في بلد صاغتها يد الحضارة الراقية وألبستها ثوبًا قشيبًا، بلاد دوَّخ أهلها الممالك والبلدان وتحكموا في الرقاب واستطالت يدهم إلى أبعد مدى، فأصبحت تُجبَى إليهم الأموال من جميع أنحاء المعمورة، وانتشرت تجارتهم مزاحمة كل أسواق العالم، وقد أحكموا مواصلاتهم برًّا وبحرًا وجوًّا فدانت لهم البلاد والعباد.
رأيت محطتها مكتظة بالمسافرين إلى جهات عدة على أرصفة كثيرة متعددة، والخَدَمة منتشرون في جميع نواحيها يرشدون الضالَّ إلى محل قصده في هدوء وسكون. يقصد المسافر نافذة التذاكر منتظرًا دوره فلا تزاحم بالمناكب ولا ضجة ولا جلبة، ولا جرس يطن ولا صفارة تزعج الناس بصوتها إيذانًا بقيام قطار، ولا حارس يصيح في الناس أن ابتعد عن القطار، ولا غير ذلك مما نسمعه في بعض محطاتنا، بل كل مسافر يبتاع جوازه ويقصد القطار مطمئنًّا عارفًا ميعاد قيامه، ومع هذا الزحام الشديد وتلك الحركة المدهشة لا تجد لها أثرًا يقلق، لأن كل شيء سائر على محور النظام والترتيب.
ولما سرت في أول شارع في لندن هالني ما رأيت من ضخامة عماراتها وارتفاع بنائها ارتفاعًا يناطح السماء تمتد أميالًا غاصَّة بالسلع النفيسة والجواهر الثمينة والحوانيت التي رُتِّبت فيها البضائع ترتيبًا يلفت النظر، ولكن كثرة ما يتصاعد من دخان المصانع والمعامل شوَّه ظاهر تلك العمارات الضخمة فأزال جمالها ورونقها وبهاءها، إلا في مواضع قليلة من لندن لبعدها عن مجرى دخان المعامل.
وما كدت أخطو خطوات قليلة حتى صدتني جماهير السائرين، لأن المدينة يومئذ كانت مكتظة بالألوف التي حضرت من الممالك والبلدان البعيدة لزيارة معرض «ومبلي» الذي طار صيته في الآفاق، فاخترقنا الصفوف واصطدمنا بالمئات والألوف سائلَيْن عن أقرب فندق للمحطة فأرشدنا شخص إليه، فلما دخلناه لم ترق لنا الإقامة فيه، وكانت تديره سيدة فاعتذرنا لها بأنه لا يوافقنا فأخبرتنا بأن هذه فرصة يجب أن تغتنموها لأن كل الفنادق مشغولة بالزائرين للمعرض فلم نصدق قولها، وخرجنا نبحث عن الحجر التي عرفناها قبل قدومنا إلى المدينة نحو ثلاث ساعات فلم نعثر على حجرة واحدة فيها خالية، فرجعنا إلى فندق هذه السيدة ونحن نجر أذيال الخجل ولا نود مواجهتها لرفضنا الإقامة في فندقها، ولكن الضرورة اضطرتنا إلى الرجوع إليها معتقدين أنها ستقابلنا باحتقار وازدراء كما نعهده في أخلاق أهل بلادنا، فلما وصلنا إلى الفندق رحَّبت بنا وهشَّت وبشَّت في وجهنا فأزالت ما علق بنفوسنا من الخجل وأكرمتنا كثيرًا حتى اضطرتنا إلى الإقامة في فندقها مدة إقامتنا في لندن.
وقد يهولك كثرة الحركة في الشوارع فإنك لا تقوى على قطعها عرضًا إلا بمساعدة الشرطي، فمتى أشار بيده إلى تلك الجبال المتحركة من السيارات وقفت فجأة كأنما يده آلة كهربائية متصلة بعجلات السيارات والمركبات، فإذا وقفت حركة السير مرت الناس أفواجًا، ثم يرفع يده مرة أخرى فتعود سلسلة المركبات إلى المسير، ولا يمكن لسائق أن يخالف أوامره مهما كانت حالته ولو سائق الملك. والسيارات ذات الطبقتين (الأمنيبوس) لها كثرة لا تُعقَل فلا تخلو دقيقة من وجود سيارات منها تمر بك، ويركب الطبقة العليا فيها من يريد التفرج على شوارع المدينة.
ولا إخالك تتصور هذه الحركة المروعة مهما وصفتها لك فإنها فوق وصف الواصفين، ولا عجب فإن سكانها يزيد عن سبعة ملايين وهو عدد يزيد عن سكان مملكة برمتها، حتى إنك لو وقفت طول اليوم في بعض الميادين تريد اجتيازها لما وجدت فرصة تمكنك من ذلك إلا إذا أوقفتْ حركة السيارات يد رجال الشرطة. وما الذي يقوله الواصف في مدينة [هي] أعظم مدائن الأرض وأكبرها وأهمها؟! اتصلت بها العمائر الكثيرة من كل جانب حتى أصبحت كأن لا آخرها يُعرَف ولا أول لها يُوصَف، فلو جمعت شوارعها العديدة بعضها إلى بعض لبلغ طولها أربعة آلاف ميل وهي مسافة تزيد عن البُعد ما بين مصر ولندن!
ولما كانت لندن متسعة وحركة الأعمال عظيمة فيها لم يكن بدٌّ من إيجاد طريقة تسهِّل المواصلات وتقوم بإنجاز تلك الأعمال التي لا حصر لها، ولذا شيدوا كثيرًا من محطات السكك الحديدية، من ذلك أربع عشرة محطة كبيرة لشركات مختلفة توصل لندن بالأطراف والجهات، وأكبرها محطة واترلو بها نحو سبعة عشر رصيفًا تقوم منها القُطُر على شكل بديع ونظام جميل يتنقل الناس فيها من رصيف إلى آخر على جسور جميلة يضل فيها المسافر، ولذا يجب عليه أن يسأل العمال الواقفين في مدخلها عن الرصيف الذي يقوم منه القطار الذي يقصده فيرشدونه بلطف، وقد خصصوا عمالًا يقومون بالإجابة عن كل سؤال يُوجَّه إليهم يختص بقيام القُطُر ومجيئها وما يلزم لراحتهم، وبعض هؤلاء العمال لا ينتهي من الأجوبة عن الأسئلة التي تُوجَّه إليه طول اليوم.
وفي لندن من غير هذه المحطات أكثر من ثلاثين محطة أخرى خُصِّصت بهذه العاصمة وقد بُنِيت كلها تحت الأرض، وأنفقت بعض الشركات في حفر السراديب تحت الأرض مبالغ طائلة، وهي تخترق لندن في جميع جهاتها كالشرايين في جسم الإنسان، ويركب في تلك القطر التي تسير تحت الأرض الألوف من الناس كل يوم وقلَّما تجد فيها مقعدًا خاليًا.
وتمتاز هذه السراديب عن سراديب باريس، فإنها متسعة جميلة لا يشعر الإنسان فيها بأقل سآمة كما يشعر في أنفاق باريس، لا تشم هواءً فاسدًا وكأنك سائر فوق الأرض. وأكثر الناس يركبون فيها لبعدها عن جلبة المدينة، ويطهرونها كل يوم حتى تكون صالحة للتنفس والسير فيها براحة تامَّة، ويقول بعضهم: لو فسد الهواء فيها لمات تحت الأرض نحو مليونَي نفس. وبعض هذه السراديب تمر تحت مياه نهر التاميز كما تمر الناس في أنفاق تحته أيضًا سقَّفوها بالحديد، وبنوا لها محطة في كل جانب من جانبي النهر. والمسافر ينزل إلى المحطة في آلة خافضة ورافعة أو على سلم كثير الدرجات، حتى إذا وصلها وجد الناس تحت الأرض بكثرة لا تُعقَل منتظرين ورائحين وغادين كأنهم في يوم حشر أو في مهرجان عظيم. وعلى كل فليس لأمة من الأمم من المواصلات برًّا وبحرًا وجوًّا وتحت الأرض ما لإنكلترا.
ومما يجدر ذكره أنه يحرس الشوارع رجال من الشرطة أقوياء أذكياء ذوو نباهة وذوق، ينظمون حركة السير في الشوارع تنظيمًا يريح السائر خصوصًا في محل تقاطعها حيث يكثر الزحام والناس جميعهم يطيعون إشارتهم، وإذا سألت أحدهم عن محل تقصده أقبل عليك باهتمام وأرشدك إلى ما تريد من غير أن ترى على وجهه علامة ضجر أو ملل، وإذا خانته ذاكرته وضع يده على جبهته وأخرج من جيبه مصوَّرًا (خارطة) ونظر فيه، ثم دلَّك على كيفية السير والوصول إلى محل قصدك. فازداد عجبي لتلك النباهة وهذا الاستعداد، وتذكرت حال الشرطي المصري الذي لا يعرف ما يجاوره من المحال والمساكن وقد تكون في حوزة إشرافه وملاحظته.
وللشرطي الإنكليزي دراية كبيرة فقد يعلم كل شيء يحدث في بلده حتى عن السياسة الخارجية، لأنه في أثناء سؤالنا له عن السفارة المصرية قال: من أين أنتم؟ فقلنا له: من مصر، فقال: لماذا كل هذا الاضطراب وتلك المظاهرات، مع أنكم أصبحتم مستقلين كإرلندا؟! فقلنا له: من أجل الاستقلال التام لمصر والسودان. فلم يجاوبنا وانصرفنا إلى حال سبيلنا.
وقد لا يكون في البلاد الراقية شرطي مثله في روعة المنظر والهيئة، فإن رجاله يُنتخَبون من ذوي القامات الطويلة والأجسام الضخمة، ويُشترَط فيهم أن يكونوا ذوي معارف وخبرة بأحوال البلاد، قولهم مسموع أمام المحاكم في كل حادثة يباشرونها فتكفي شهادتهم لإدانة المذنب، وهو محترم لدى الجمهور يطيعون أوامره فيما هو من اختصاصه.
وقد يدهشك كثرة ما في لندن من النوادي ومحال المجتمعات على اختلاف أنواعها وتعدد أحوالها، لأن لكل طائفة من الطوائف — وهي كثيرة — أمكنة للاجتماع لترقية أحوالهم مادِّيًّا واجتماعيًّا، وهي تُعَد بالألوف عندهم. وقد تُستخدَم هذه الأندية في بعض الأحوال للشئون السياسية.
من غرائب الأندية في لندن نادي السكوت وهو للصم والبكم، ليس فيه كلام يُسمَع ولا جرس يُقرَع، ومن يدخل النادي من المشتركين يضغط على زر كهربائي ينير قطعة من المكان فيُفتَح له، وبنور الكهرباء اصطلحوا على إشارات للتفاهم بينهم، ويدخله الرجال والنساء يلعبون ويتحادثون أحاديث صُمٍّ ويغنون غناء الصُّمِّ.
وبها نادٍ للمعتزلين عن الناس يدخله من ضاقت صدورهم، ولا تُقبَل فيه النساء إلا بعد سن الخامسة والعشرين، وقد جُعِل دوليًّا عامًّا، ولا يؤدي المشترك فيه شيئًا، وهو في بابه لأنه يضم أناسًا من أهل الأرض بأسرها ومن جميع الطبقات الراقية، وفيه طائفة كبيرة من أرباب المكانة والشهرة.
وعندهم نادٍ اسمه نادي «العجل الذهبي»، ونادي «القط الأسود» ونادينا وأعضاؤه من أعاظم الأدباء، ونادي «١٠١»، ونادي «الست الساعات» وهو نادٍ أعضاؤه ستة يدخلون إليه كل يوم الساعة السادسة ويخرجون منه الساعة الثانية عشرة ومع كل واحد منهم كتاب، و«النادي الدائم» وعدد أعضائه مائة يقسمون ألا يبرحوا أماكنهم مهما كلفهم الأمر من المخاطر، حتى إنه حدث يومًا حريق قرب ناديهم فلم يخرجوا منه إلا بقوة رجال الشرطة.
وفي لندن أندية قلَّما تُقبَل فيها النساء، وفيها أندية للراغبات عن الزواج. ومن أنديتهم نادي «اللوبيا السوداء» على مثال نادي نيويورك، وهو مؤلَّف من أربعين عزبًا يجتمعون مرة في السنة، ويضع رئيسه في صندوق أربعين حبة من اللوبياء ومنها واحدة سوداء ويسحب كل عضو حبة، فمن سقطت السوداء في يده حكم عليه قانون النادي بالزواج، والنادي يتكفل بنفقة تزويجه كما يبتاع له أثاث بيته ويقوم بنفقة سفره ثلاثة أسابيع مدة شهر العسل.
وفيها أندية طالبات الزواج على مثال نادي اليابان، يتم بواسطته كل أسبوع مائتا قران، ويتزوج أكثر هؤلاء بالنظر إلى صور خطيباتهم الشمسية. وفيها أيضًا نادي «المنتحرين»، شعاره «بالموت شفاء الأسقام كلها»، ولا تُقبَل فيه النساء ولا العزَب من الرجال. ونادٍ للأرواح يدخله علماء ومحامون وجراحون وباحثون ممن يهتمون بكشف الأسرار عن مخاطبة الأرواح. ونادٍ لمن لا أنوف لهم، ورئيسه مصري أنفه لا يكاد يظهر في وجهه. ونادي «مشوَّهي الخِلقة». ونادي «السوداويِّين» يجتمعون فيه كل أسبوع، وهم عبارة عن حوذِيِّين وسواقين وملاحين، ليتسابُّوا ويتشاتموا ويُظهِروا فضل قرائحهم في علم الطعن والقذف، ومن قصَّر من الأعضاء أو أبدى لطفًا في ألفاظه وحركاته يُغرَّم في المرة الأولى، وفي الثانية يُطرَد من حظيرة أقرانه. ونادي «العبوسين» يدخله من ساءت أخلاقهم، يلتزمون السكوت فيجلس الواحد منهم إلى ناحية يدخن غليونه بدون أن يتكلم. ونادي «قتلة البشر»، وهم يؤْثرون القتل على ثَلْم الشرف، ورئيسهم قتل خمسة وعشرين شخصًا في البِراز! ا.ﻫ.
فانظر — يا رعاك الله — إلى هذه الأندية وغرائبها وتفننهم فيها بما هو معقول وغير معقول.
وقد قال من وصف أندية الإنكليز: «الأندية مرآة صادقة تقرأ فيها عنوان القلب والإبدال الذي طرأ على المجتمع الإنساني والأخلاق على توالي القرون والأعوام.»
وأقدم أندية لندن «النادي البحري الملكي»، أُسِّس سنة ١٦٧٤.
ولا يفوتني أن أذكر أن الجو هناك لا يروق الشرقي الذي ألف الشمس الساطعة والضوء اللامع الصحو، فالمطر هناك لا ينقطع إلا قليلًا، والسماء لا تصفو حتى يرجع إليها ظلامها الدامس، فيجتمع ظلام الجو مع سواد المنازل فيكوِّنان ظلمة لا تسر. تجد البرد صباحًا ومساءً شديدًا، فهو يشبه شتاءنا مع أننا كنا هناك في شهر أغسطس، ولذا تجد بعض الإنكليز يلبسون المعاطف نهارًا وليلًا، وقد شاهدت بعض النساء لا يخلعن معاطف المطر إلا قليلًا. والجو كثير التقلب لا يستقر على حال، فلا تأمن أن يكون الجو صحوًا حتى يتغير بسرعة عجيبة إلى سحاب داكن فتنسكب الأمطار بشدة ومع ذلك فلا تزعجهم كما تزعجنا، لأنهم ألفوه وجعلوا له استعدادًا في لباسهم ومنازلهم وشوارعهم.
(٢) البرلمان الإنكليزي
يقرب من كنيسة وستمنستر بناء ضخم ممتد الأطراف والنواحي له عظمة وجلال، هو مجلس نواب الأمة الإنكليزية ولورداتها، وعظمته لا تخفى على أحد حيث تصدر منه سياسة العالم، فهو مدير دفتها ومحورها الذي تدور عليه وقطب رحاها، وقد أخبرنا سائح زار أكثر ممالك أوروبا أنه لا يوجد برلمان لأمة من الأمم مثله.
وقد شُيِّد على نهر التاميز، ممتدًّا على النهر بواجهة تبلغ ٩٤٠ قدمًا، مزينًا بتماثيل الملوك والملكات من عهد وليم الفاتح إلى عهد الملكة فكتوريا، ويشغل مساحة قدرها ثمانية أفدنة إنكليزية، به ثلاث عشرة ردهة غاية في الجمال والزخرف، ومائة سلم في جهاته المختلفة، وبه نحو ألف حجرة. وتنتهي واجهته في كل من طرفيها بجناح بارز، وما بين الجناحين ينقسم إلى ثلاثة أقسام متساوية تفصلها عن بعضها بروج صغيرة لها منظر فخم يجذب القلوب، ويدل على مقدار اعتناء الأمم الراقية بمحل اجتماع نوابها ليتشاوروا فيما يعود على بلادهم بالخير والبركة وقد نزعوا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين.
لما وصلنا إليه وجدنا السائحين مزدحمين على بابه الخارجي ازدحامًا شديدًا يتعذر معه دخولهم إلا بترتيب ونظام فاصطفَّت الناس على بُعد كبير من بابه، ولما فُتِح سرنا متراصين متكاتفين لا يقدر الإنسان أن ينقل قدمه أكثر من قدم. ولما دخلنا القاعة الأولى رأينا عظمة البناء والنقوش والصور وزخرف السقوف التي تلفت الأنظار لجمالها وبهائها. وما زلنا سائرين متراصين يدفع بعضنا بعضًا فلا يتمكن الإنسان من الوقوف إذا أراد لشدة اندفاع الناس وعدم القدرة على التقدم أو التأخر، نتأمل في نظام الحجر وجمالها وتنسيقها ونقوشها وإبداعها وسعتها، حتى وصلنا إلى حجرة مجلس اللوردات، وهنا ظهرت عظمة البناء وجلاله؛ غُشِّيت جدرانها وأسقفها بالذهب، ونُضِّدت فيها المقاعد مدرَّجة على هيئة «أنفتياترو» مكسوَّة بالجلد الأحمر الناعم، وُضِعت في وسطها منضدة تحيط بها المقاعد، وفي صدر هذه الحجرة عرش الملك يجلس عليه عند الاجتماع، له حسن وزخرف لا مثيل لهما، مُوِّه جميعه بالذهب الخالص وارتفع حتى قرب من السقف، وأمام العرش شبه منبر يصعد إليه من يخاطب اللوردات، وعلى يمين العرش وشماله مقاعد للأمراء والسفراء مرتبة ترتيبًا يليق بمنازلهم وطبقاتهم، وبه عدة مقصورات مرتفعة أُعِدَّت للمدعوِّين وأصحاب الصحف.
وطول هذه الحجرة يبلغ نحو ثلاثين مترًا في عرض أربعة عشر وارتفاعها كذلك، بها اثنتا عشرة نافذة، وقد رُسِم فيها كثير من صور الملوك الذين حكموا إنكلترا ولهم يد في نهضتها. وقد خرجنا من هذه وسرنا حتى وصلنا إلى ردهة واسعة على شكل دائرة مسقوفة بالحجر بها عدة تماثيل مقامة في جوانبها لعظماء رجال الإنكليز، ويتفرع منها عدة طرق، منها طريقان أحدهما للذاهب والآخر للآيب، فسرنا على اليمين في طريق طويل أُقِيمت بحوائطه تخوت زجاجية نُسِّقت بها الكتب الكثيرة التي لا تُعَد ولا تُحصَى وامتدت على مسافة طويلة، منظرها يأخذ بالألباب لكبرها ونظام كتبها وزخرف جلودها، وأكثرها محلاة بالذهب وجلود الكتب بنظام واحد.
وقد دخلنا من باب كبير أوصلنا إلى حجرة مجلس النواب، طولها ثلاثون مترًا في عرض أربعة عشر، وزخرفتها أقل بكثير من زخرف مجلس اللوردات، وللرئيس محل مرتفع في جهتها الشمالية، قد نُضِّدت مقاعد على يمينه جُعِلت للوزراء، وخلفها مقاعد حزب الحكومة، وقد خُصِّصت المقاعد التي على يساره لرؤساء أحزاب المعارضين، وخلفهم أحزابهم. وبجوار الرئيس مقصورات خُصِّصت لكتَّاب الجرائد والأجانب الذين يُصرَّح لهم بالدخول لرؤية المجلس وسماع مناقشاته. وبداخل حجرة مجلس النواب حجرتان؛ إحداهما عن يمين الرئيس والأخرى عن يساره، يُستعمَلان في تعيين عدد الأصوات إذا حصل شك في عددها، فيدخل الأعضاء الذين من رأيهم الإيجاب إلى الحجرة اليمنى والذين من رأيهم السلب إلى الحجرة اليسرى، ويُعَدُّون وقت خروجهم فتظهر نتيجة الأغلبية من غير شبهة.
وقد دُهِشت للفرق العظيم بين حجرة اللوردات وحجرة النواب، فإنها خالية من الزخرف والزينة لا تزيد عن حجرة عادية دارت حولها المقاعد الخشبية الخالية من الفرش، وفي صدرها مقعد للرئيس خالٍ من الزينة والحلية. وقد داخلني شك كبير في أن تكون هذه حجرة مجلس النواب، ولذا سألت كثيرًا حتى تأكدت أنها لهم، فعجبت أشد العجب لمجلس نواب هو أقدم المجالس النيابية عمرًا وأعظمها صولة وهيبة، تنقل الأسلاك البرقية أخباره فتكون لها طنة ورنة وتأثير عظيم في مجرى سياسة العالم أجمع؛ عجبت أن تكون بهذه البساطة الغريبة إذا رآها الغريب لم يصدق أنه مجلس نواب هذه الأمة العظيمة.
وقد سألت عن الحكمة في ذلك فأُخبِرت أنهم لا يريدون تغيير ما كانت عليه قديمًا، وأن النائب يخدم أمته على أية حالة كانت وبأي اعتبار كان، وليس لهم مرتبات ضخمة مثل ما لنوابنا الكرام بالنسبة لإيراد الدولتين ودخلهما، وقد كان النائب عندهم لا يأخذ أجرًا على نيابته.
- (١)
الأول: برج الساعة، تُضاء بالكهرباء حال انعقاد جلسات البرلمان يُرَى منه ليلًا، كما تقام في أعلاه راية ترفرف عليه، وارتفاعه يبلغ نحو ٣١٦ قدمًا، به ساعة من أكبر ساعات الدنيا وأعظمها وأدقها، لها أربعة وجوه قطر كل منها ٢٢ قدمًا ونصف قدم، وطول الرقم قدمان، والمسافة بين الدقائق قدم وربع قدم، وجرسها يزن ١٣ طنًّا إذا دُقَّ سمعه جزء عظيم من لندن مع سعتها، خصوصًا إذا كان الجو ساكنًا، فهي آية في العظمة والغرابة.
- (٢)
برج فكتوريا: يبلغ ارتفاعه ٣٣٦ قدمًا، قد بُنِيت به حجر بطريقة لا تؤثر فيها النار، حُفِظت بها الأوراق والمستندات البرلمانية، وأسفل هذا البرج العظيم مدخل الملك الذي يدخل منه عند فتح البرلمان.
ولقد يُخيَّل إليك وأنت سائر في طرقات البرلمان أنك سائر في شوارع مدينة كبيرة، وله من الخارج روعة في النفس وهيبة وعظمة، لا يمكن أن يصفه واصف مهما بالغ في الوصف، كما أنه لا يدرك دقة ما في الحُجَر من النقوش والتماثيل.
(٣) كنيسة وستمنستر
هي بناء ضخم فخم يشعر الداخل إليه بالعظمة، وهي مشهورة بمدافن الملوك والملكات وعظماء رجال الإنكليز من السياسيين والشعراء والكُتَّاب والقواد والصناع وغيرهم ممن اشتُهِر أمرهم وذاع صيتهم، ولهم عمل عاد على الأمة بالفائدة الأدبية والمادية. وقد رأيت فيما رأيت فيها قبرًا نُثِرت عليه الورود والرياحين والأكاليل هو قبر الجندي المجهول وله عندهم احترام عظيم، فإذا وصل إليه الزائر رفع قبعته ووقف أمامه خاشعًا خاضعًا يعظم فيه الجهاد الوطني والتضحية الكبيرة، يُهدَى إلى قبره كل يوم كثير من الورود والأكاليل، قد كُتِب على قبره ما معناه «هذا قبر الجندي المجهول الذي دافع عن وطنه إلى آخر لحظة من حياته»، وله احتفاء خاص في كل الممالك التي زرتها خصوصًا فرنسا، وقد تكلمت عليه فيما مر. والزائر لهذه الكنيسة يشعر باحترام عظيم لأولئك الأبطال الذين خدموا بلادهم ورفعوها إلى ذروة المجد بأعمالهم العظيمة حتى استحقوا الشرف والتكريم من أمتهم أحياءً وأمواتًا. ومن بين المدفونين هناك من السياسيين «وليم بيت» الذي عُيِّن رئيسًا للوزارة وهو في سن الرابعة والعشرين من عمره، ثم المستر غلادستون وزوجته، وقبر الشاعر ملتون وشكسبير وغيرهم كثير. ومنهم من هو مدفون في فناء الكنيسة وقبره سُوِّي بالأرض، ومنهم من أُقِيمت له تماثيل كاملة، ومنهم من وُضِع في تابوت من الحجر وثُبِّت في الحائط، وهناك تمثال نصفي للقائد العظيم غردون باشا الذي قُتِل في الخرطوم أيام ثورة المهدي، وغير ذلك من العظماء.
ومحل التعبد فيها على شكل صليب يعجب الناظر لجماله وزخرفته وزينته. وقد أكثر الأغنياء من التبرعات لهذه الكنيسة حتى صارت من أغنى الكنائس ولكن صادرتها الدولة في أملاكها كباقي الكنائس، ثم رجعت عن ذلك فيما بعد وأعادت إليها ما سلبته منها.
وينظر الإنكليز إلى هذه الكنيسة بعين التجلة والاحترام، ويكافئون الشخص على أعماله الجليلة بدفنه فيها، ويُعَد ذلك أكبر شرف وأعظم فخار له ولأسرته، ولذا تجد قبور عظماء الإنكليز وأغلب ملوكهم في هذه الكنيسة مرسومًا على بعضها ما يشير إلى صفات امتازوا بها في حياتهم، مثال ذلك تمثال شارل جاكيز فوكس الوزير الكبير، صُوِّر وهو يقضي نحبه بين ذراعي الحرية وعلى ركبتيه ورجليه شارات السلم وتحت قدميه رجل من الأرقَّاء قد أُطلِق من قيود الاستعباد. وهكذا من هذه الإشارات والرموز والمعاني.
وقد وصلنا في مطافنا إلى باب أمامه رجل يأخذ نصف شلن لمن يريد الدخول في حجر خاصة بالملوك ومحال تتويجها وبعض تماثيل لهم ولزوجاتهم، ومن أجمل الحجر وأفخرها محراب أُعِد لصلاة الملك له عظمة وفخامة وجلال، نُضِّدت فيها كراسي من الخشب الجميل ثُبِّتت في الحوائط لها بهجة وتنسيق وترتيب ونقوش ورسوم بديعة، يجلس على كل كرسي منها حاملو نشان «الحمام»، يجتمعون فيه باحتفال عظيم عند حضور الملك، وأمام مقعد كل شخص كتاب مذهَّب جميل. وقبة هذه الحجرة من أبدع ما يرى الناظر؛ سقفها مموَّه بالذهب الوهاج، وبها صور وتماثيل ونقوش وأعلام كثيرة عُلِّقت في وسطها وفي جوانبها تُعَد من أعجب العجائب، وأمام هذه الحجرة مكان مرتفع على شكل مربع صعدنا إليه من سلم بديع، وهناك وجدنا الكراسي العتيقة الخالية من الزخرفة والزينة تُتوَّج عليها ملوك إنكلترا، وقد اتبعوا هذه العادة قديمًا ولم تُغيَّر إلى الآن.
ولم أرَ ازدحامًا وكثرة زوار كما رأيت في هذه الكنيسة، لأننا قد حضرنا قبل فتح أبوابها فتراكمت الناس عليها، وعند فتحها انسابت الجماهير انسياب تيارات المياه القوية فساروا صفوفًا متساندة، متبعين السير بنظام في الطرق المعدة للمرور بين الكراسي الكثيرة، يرى الزائر سلسلة دائرة من الداخلين والخارجين.
وقصارى القول أنها من أعظم الكنائس التي زرتها لوجود كثير من آثار الملوك والعظماء فيها مما يضيق المقام عن شرحه.
(٤) معرض ومبلي
ارتضينا النزول في الفندق الذي لجأنا إليه بعد أن أعيانا البحث والتنقيب، وكانت أجرة المبيت فيه ثمانية شلنات ونصف (٤٢ قرشًا) بما في ذلك تناول طعام الإفطار، وهو عبارة عن بيض مقلي وزبدة ومربى وشاي باللبن وبعض اللحوم لمن يطلب، والإنسان يقبل على الأكل صباحًا بشهية لأن الجو هناك بارد كالشتاء عندنا.
نمنا فيه مستريحين تلك الليلة، وقمنا مبكرين قاصدين رؤية المعرض فسرنا في الشوارع نمتع الطرف بما فيها من محاسن التجارة والصناعة حتى وصلنا إلى المحطة التي يركب منها زائرو المعرض القطار، ومنها أخذنا جوازًا بعد دفع شلنين ونصف بما في ذلك رسم دخول المعرض، وبعد أن ركبنا القطار سار بنا فوق الأرض جزءًا من الزمن وبقية المدة سار تحتها في الأنفاق التي مر ذكرها في المقال السابق، وأجرة دخول المعرض وحدها شلن ونصف، ولما خرجنا من القطار صعدنا فوق قنطرة (كبري) ثم نزلنا وسرنا قليلًا جدًّا حتى وصلنا إلى باب المعرض.
ومبلى ضاحية من ضواحي لندن تبعد عنها بمقدار ثلث ساعة في القطار، فتحت إنكلترا المعرض لزيارة الزائرين يوم ٢٣ أبريل سنة ١٩٢٤، وقد بلغت تكاليف إقامته نحو عشرة ملايين من الجنيهات الإنكليزية، اشترك في إقامته الهند وبعض المستعمرات الإنكليزية والتي تحت الحماية فهو نتيجة اهتمام الإمبراطورية بأسرها. ولقد كانت فكرة إقامة المعرض مختمرة عند الإنكليز قبل الحرب العالمية الكبرى، ولكن اشتعال نار الحرب أخرت تلك الفكرة إلى هذا الوقت. وإذا كان هناك شيء يدل على عظمة الأمم ورقيها فمعرض ومبلي يدل دلالة واضحة على ما لإنكلترا من العظمة وبسطة الملك والسلطان، وضربها في الرقي المادي والأدبي بسهم وافر لا تضارعها فيه أمة أخرى.
فإذا أشرفت على المعرض من ربوة عالية هالك منظره وأدركتك الحيرة وعلمت كيف تقوم الأمم بعظائم الأمور وجلائل الأعمال، جُمِعت فيه كل دلائل الحضارة الحديثة ومقومات العصر الحاضر مما يقف الإنسان أمامه خاشعًا.
دخلنا بابه فرأينا حديقة واسعة جميلة بها أنواع الزهور الزاهية الزاهرة نُسِّقت تنسيقًا بديعًا ورُصِّعت بها الكراسي الخضراء حول بحيرة جميلة المنظر، وله في مدخله طريقان أحدهما على يمين الداخل والآخر على يساره، فسرنا على اليسار وسط جم غفير من الناس كلهم أعين لرؤية ما يذهل العقول فلا تجد أحدًا ينظر إلى الآخر كأنهم في يوم حشر. رأينا مركبات كهربائية تتحرك مستمرة ينتظر الإنسان سيرها بطيئًا فيقفز بسرعة حتى يمكنه ركوبها فتسير به في جهات كثيرة من المعرض، وإذا أراد النزول انتظر إبطاءها ونزل بسرعة كما ركب، وكراسي بعجل يدفعها الخدم يركبها من يتعب من السير أو من لا يقوى عليه، وعجلات مقسمة إلى صفوف بها مقاعد كثيرة يديرها رجل من الأمام تسير بسرعة في طرقات المعرض الممهدة، وعدة زوارق بخارية وغير بخارية في بحيرات جميلة مزدانة بمصابيح الكهرباء والأعلام، فتحدث منظرًا بالليل يسحر العقول، وبها عدة جزر وسط البحيرات تقام بها المراقص والألعاب ليلًا وتصدح بها أنواع الموسيقى وآلات الطرب فتعتقد أنك في مهرجان عظيم جُمِعت فيه أنواع السرور والملاهي.
وقد أُقِيم في ميدان واسع قريب من المدخل بناءان عظيمان، أولهما بناية تحوي الآلات الميكانيكية والهندسية وآلات توليد الكهرباء وأنواع العدد على اختلاف أنواعها وتباين أشكالها، وقد بلغت الدرجة العظمى من الرقي.
وأهم شيء لفت نظري فيها ضخامة آلات توليد الكهرباء وتعددها، لا يعرف أنواعها وأشكالها إلا من له خبرة ودراية بالعلوم الهندسية والميكانيكية. ورأينا عدة مواني بحرية للدولة الإنكليزية، مُثِّلت أحسن تمثيل بها السفن الصغيرة التي تسير بالكهرباء تتبع في سيرها الطرق البحرية تدخل في موانيها وتخرج منها، ورأينا مواني ممثَّلة بالجبس تمخر فيها السفن الحربية والتجارية، وغير ذلك مما يعجز الواصف عن وصفه.
ولكوني لا أعرف أنواع هذه الأدوات ولا يمكنني حصرها، أكتفي بأن أقول إنها تدل دلالة واضحة على ما لإنكلترا من الرقي الصناعي الذي لا تضارعها فيه أمة أخرى. وبهذا المبنى وحده خمسة وأربعون شارعًا، كُتِب على كل شارع رقم يدل عليه وعُلِّقت على بابه ألواح تدل على بعض ما يحويه من الصنائع وغيرها، وبه خيالة (سنما) تُعرَض فيها كيفية سير السفن الإنكليزية ورسوها وخروجها من المواني حاملة أنواع التجارة والصناعة في جميع المحيطات.
ومما يلفت نظر المتفرج في هذا المبنى محل بناء السفن به الآلات الضخمة التي تُستعمَل في بنائها مما يعجب لها من لم يرها من قبل، والآلات الدقيقة كذلك.
وترى عجائب الكهرباء في الكي والغسيل والطبخ والحلاقة كل ذلك من غير أن تديرها يد إنسان، وفيه السكك الحديدية مجهزة على أحسن وأبدع طراز، وترى فيه أكبر القاطرات التجارية. وبه بهو لصاحب الجلالة ملك مصر المعظم فؤاد الأول على أحسن ما رُتِّب ونُسِّق، به أثاث فاخر من الحرير النفيس فارتاحت نفوسنا لرؤيته. وبه أحدث السيارات وأضخمها، وغير ذلك مما لا يتصوره إلا من يراه بعينَي رأسه.
والمبنى الثاني مبنى الصناعة والفنون، به غرائب الصناعة وعجيب ما أخرجته يد الإنسان واستنبطته قريحته على أحدث نظام وأبدع ترتيب، حوى أهم صناعة الإمبراطورية. به تماثيل كثيرة للرجال المشهورين الذين لهم يد في نهضة الفنون والصنائع. وبه قسم الملاهي، ترى مسرحًا جميلًا به زر كهربائي إذا ضُغِط عليه ظهر على المسرح الممثلون والممثلات بأزيائهم القديمة في القرون الوسطى، فترى كيفية التطور الإنساني وما وصل إليه من الرقي. وبه كيفية صناعة الشكولاتة، تُوضَع المواد المكونة لها في آلات فتمر فيها بغاية السرعة، فتظهر من الجهة الأخرى مجهزة كاملة. وبه أيضًا كيفية صناعة العلب، تمر الآلة على صفائح من القصدير فتكوِّن في طرفة عين العلب وأغطيتها وما عليها من كتابة وزخرفة، مما يعجب الإنسان له ويدرك سرعة الآلات في إحداث الأشياء وتجهيزها بسرعة عجيبة. ومن عجائب الصناعة وأدقها نموذج لقصر ملكي، ارتفاعه نحو ثلاثة أمتار، مركب من ثلاث طبقات، حوى داخله كل ما يصح أن يوجد في قصور الملوك من أثاث ورياش غاية في الجودة والزخرف. وبه مكتبة تحوي أكثر من أربعمائة كتاب، لا يزيد حجم الكتاب عن أنملة الأصبع. وبالجملة فيه كل ما يحتاجه ملك في قصره، وقد اشترك في صناعته أكثر من ألف عامل وبعد إتمامه أهدوه إلى ملكة إنكلترا فظهر آية في عالم الصناعة، وكل ما في القصر من الأثاث والفرش والرياش مناسب لحجمه.
ثم خرجنا من هذا قاصدين معرض الهند فشاهدنا بناءً عظيمًا غاية في الفخامة والعظمة، شُيِّد على هيئة جامع من جوامع الهند الكبيرة ذي قباب عظيمة، يدخل الزائر بابًا عظيمًا فيرى فناء صُنِعت به بحيرة جميلة أُحِيطت بالمماشي المبلطة بالأحجار. وإذا سرت بعد المدخل على يمينك رأيت المحصولات النباتية والحيوانية والمعدنية قد اكتظت بها حوانيت هذا المبنى الهائل، وترى الفيلة الضخمة والسباع والضباع والفهود محشوَّة قائمة على أرجلها كأنها حية يرى الناظر إليها جلال قوتها وعظمتها، وداخل هذا المبنى معارض متعددة لكل ولاية من ولايات الهند وبها ما أنتجته من المصنوعات والمحصولات الكثيرة المنوعة.
وصناعة الهند لا حصر لأنواعها؛ ترى الشِّيلان الكشميرية الجميلة على أشكال بديعة، والملابس الحريرية المزركشة، وسن الفيل بحجمه الطبيعي يبلغ طول السن نحو ثلاثة أمتار، والخزف الجميل المزخرف غاية في الإبداع وحُسن المنظر، وأنواع كثيرة معدومة النظير يسرك منظرها وتدهشك صناعتها.
ومما يلفت النظر معرض الشاي، فإن الأشجار نُقِلت من مزارعها إلى المعرض وعُرِضت كما تُعرَض المناظر في المسارح، يتخللها الجانون يبينون كيفية جني أوراقها وتجهيزها وحملها على الدواب لإرسالها إلى الجهات. وهو لشركة إنكليزية رأس مالها ثلاثون مليونًا من الجنيهات كما أخبرنا بذلك مدير المعرض الذي قابلنا بذوق كبير، وقدم لنا كتابًا يحوي معلومات هامة عن الشاي وعما تقوم به الشركة من تنمية زراعته ونشر تجارته.
وأمام هذا المعرض محل واسع عُلِّقت في حوائطه عدة ألواح وتحف جميلة، وقد عُرِض علينا من تلك التحف ما جعلنا نعجب من تقدم صناعة الهند، وقد كُتِب في بعض هذه الألواح إحصاء يدل على نسبة المتعلمين في الهند ذكورًا وإناثًا. وقد علمنا من مديره أن تعليم البنات بها ليس أقل من تعليم الذكور، غير أن نسبة المتعلمين من المسلمين قليلة بالنسبة للأجناس الأخرى، فأسفنا جد الأسف لانحطاط التعليم عند المسلمين في جميع بقاع الأرض، وأن عدد المسلمين الآن من الذكور في جميع المدارس الهندية ثمانية ملايين يُنفَق عليهم سنويًّا اثنا عشر مليونًا من الجنيهات، وهي نسبة قليلة لعدد سكان الهند. وفي المعرض غير ذلك أنواع من الصناعات الجميلة التي لا حصر لها.
ثم خرجنا منه قاصدين معرض «برما»، وهو بناء غريب في بابه ليس له مثيل في بنايات المعرض وليس على شكل المباني المألوفة، له باب واسع بديع زُخرِف بمواد براقة تخطف الأبصار، وبالباب الخارجي عمودان كبيران قد غُطِّيا بهذه المواد البراقة، يصعد هذا المبنى بتدريج غريب طبقات بعضها فوق بعض، كل طبقة أقل مما تحتها بحيث تكوِّن سطحًا صغيرًا مدرجًا، ويصعد هكذا حتى تتكون سبع طبقات تنتهي بشكل مدبب كالمئذنة تُعلَّق بها الأجراس التي تطن وترن عند هبوب الهواء. وكل هذا المبنى من الخشب المخرم البديع المزركش أطرافه ونواحيه، وقد عُرِض فيه أنواع كبيرة أهمها الأحجار الكريمة المستخرجة من بلادها.
وأمام هذا المبنى بناء على هيئة ضريح ينتهي بقبة كبيرة مزينة بأنواع الزينة التي زُيِّنت بها مباني برما، به تمثال من أبدع التماثيل وأجملها وهو تمثال المعبود بوذا، وأمامه تمثال رجل جاثٍ على ركبتيه مادًّا يديه إليه يطلب منه الرحمة والغفران.
وقد اتُّبِع في هذا المعرض أن كل مبنى يقام لمستعمرة من المستعمرات يُلاحَظ فيه أن يكون من نوع ما يسكنه أهل تلك المستعمرة، وفيه تُعرَض جميع حاصلاتها التجارية والزراعية والصناعية والحيوانية والمعدنية، ويحوي غالبًا دارًا للخيالة (السنما) يُعرَض فيها تطور تلك المستعمرة في عاداتها وصناعاتها وتجاراتها قبل الاحتلال وبعده، حتى يدرك الزائر مقدار التقدم والتطور الذي حصل على يد الاستعمار، وما وصل إليه أهلها من الرقي في كل شيء، وترى أيضًا مناظرها الطبيعية من جبال وتلال وأنهار ومعادن وبراكين ومزارع وصناعات. ترى كل ذلك ممثَّلًا في مستعمرة نيوزلنده الجديدة التي فيها البراكين تقذف المياه والطين، وتظهر همجية أهلها قبل الاحتلال فإن صناعتهم أولًا كانت عبارة عن صناعة الخوص وصيد الأسماك ورعي الأغنام، ولكن بعد الاستعمار ظهرت كأحسن دولة متمدينة في صناعتها وتجارتها ورقي أخلاق أهلها وغير ذلك مما يصح أن يكون درسًا وافيًا لأحوال تلك المستعمرة، فالذي يزور معرض ومبلي يدرس أحوال المستعمرات الإنكليزية درسًا جغرافيًّا وافيًا لأنه يرى كل شيء رأي العين. وفي داخل البناية باعة من أهل تلك البلاد يبيعون لك ما تريد ابتياعه.
بعد أن فرغنا من زيارة معرض الهند قصدنا زيارة مباني الحكومة، وبها معروضات وزارة الصحة والحربية والمالية … إلخ، فرأينا في معرض وزارة الحربية بركة واسعة على شكل دائرة قد مُثِّلت فيها القارات والمحيطات تمثيلًا جغرافيًّا، وفي المحيطات تمخر السفن المصغرة التجارية والحربية ذهابًا وجيئة داخلة خارجة من موانئها تندفع بقوة الكهرباء في ذلك الماء فيستهوي لبك هذا المنظر البديع. والسفينة تتبع طريقها حتى تصل الميناء وأنت ناظر إليها كأنك في عالم الخيال، وإذا نظرت إلى كمية السفن التي تقطع المحيطات ترى أكثرها سفنًا المحيط الأطلسي كما ترى أقلها سفنًا المحيط الأعظم، أما المحيطان المتجمدان فليس بهما سفن قاطبة. وقد رأينا صور الوقائع الحربية الكثيرة التي انتصر فيها الإنكليز على غيرهم، كما رأينا أضخم المدافع وأرقى أنواع الطيارات.
ورأينا في وزارة الصحة كثيرًا من أنواع الأمراض في المناطق الحارة وطرق علاجها، والأمراض التي تتولد من كثرة تعاطي خبز الذرة، وكيفية معيشة الناس في الغابات والأحراش والأكواخ.
وقد رأينا في هذا المبنى كيفية سك النقود والمداليات الذهبية وجلاء النقود إذا لحقها صدأ فتعود إلى حالتها الأولى، ورأينا النقود المصرية الذهبية التي سُكَّت باسم صاحب الجلالة ملك مصر فؤاد الأول من القطع ذات الخمسة الجنيهات والجنيهين والجنيه ونصف الجنيه والريال الفضي.
- معرض هنغ كنغ: رأينا فيه كيفية تنقية الأحجار الكريمة، ووضع الصغير منها في خواتم يقوم الصانع بصناعتها أمام الزائرين. ولهم مهارة كبيرة في صناعة أشياء متعددة من الخوص الملون بالأصباغ الجميلة، وقد اشتريت منها سفطًا غاية في الجمال محلًّى بالحرير وبه أقمشة حريرية وعقود مرجانية متعددة الأنواع والأشكال.
- معرض جزيرة سيلان: قد هالنا ما رأينا فيه من الحيوانات المفترسة المصبَّرة وكثير من الصنائع، ومما يلفت النظر فيه كبر أحجار الماس واللؤلؤ، وقد رأينا عقدًا ثمينًا من النوع الأخير قيمته ألفا جنيه كما هو مكتوب عليه، وغير ذلك من الأحجار التي تُقدَّر بآلاف الجنيهات.
- معرض ساحل الذهب: فيه رأينا كيف يُستخرَج الماس من أحجاره وكيف يُعرَف الماس النقي من غيره، وقد تكاثر الناس لرؤيته حتى اضطُرَّ الشرطي أن يسيِّر الناس صفوفًا منتظمة ليروا الصناع الذين يقومون باستخراجه من أحجاره: تُوضَع الأحجار الصغيرة في حوض مستطيل من الخشب المتين مع قليل من الماء، ثم يقف فوق حافتيه رجلان أسودان قويَّا العضلات يهزان الحوض بأرجلهما هزًّا عنيفًا فتسمع لاحتكاك الأحجار صوتًا قويًّا وهما كالراقصَيْن المجتهدين يميلان يمنة ويسرة، ويتصل بهذا الحوض آلة أخرى يقبض عليها رجل يساعدهما في الهز ويمدهما بالماء كلما نقص الحوض.
- معرض السودان الغربي: وأهم ما فيه حاصلات الأشجار وثمرها يشبه اللوز ومنها ما يشبه الحصى أو الزلط مما لا عهد لنا برؤيته، وبه محصولاتهم الصناعية وأزياء رجالهم ونسائهم مما يعجب الإنسان لوجود مثلها في عصر التمدين ومع حكمهم بأمة من أرقى الأمم مدنية وحضارة.
-
معرض السودان المصري: قد عُرِضت معروضاته في بناية من نوع ما يشيده
أهله، وقد كُتِب على بابه «السودان المصري
الإنكليزي»، وبه أنواع ما يُصنَع من الخوص والذرة
والدخن وأزياء الرجال والنساء. ومما لفت النظر فيه
وجعل المتفرجين يجتمعون بكثرة شيئان:
- (١) نقل شجرة القطن في براميل بلوزها الكبير المفتح قد يبلغ طول الشجرة منه نحو مترين، وقد وُضِع خلفها القطن السوداني الناصع البياض، مما جعلنا نقف أمامها باهتين، وقلنا: لهذا تسعى معامل لنكشير في نشر زراعة القطن هناك، وتحض الحكومة الإنكليزية على التمسك به والعض عليه بنواجذها، مما دعاهم إلى إقامة خزان مكوار.
- (٢) عرض خزان مكوار كما تُعرَض المناظر في المسارح، فترى خزانًا ضخمًا هائلًا لم ترَ العين مثالًا له، ذا عيون كثيرة، تجري على سطحه القُطُر الحديدية التي تحمل مواد البناء، وقد صُنِع في طرف منه ممر للسفن الذاهبة والآيبة، وقد بينوا في لوحة فيه الفوائد التي تعود على السودان من تشييده، وأهملوا الضرر الذي يلحق أرض مصر من ذلك. وقد قدروا ما يتدفق منه من المياه وغير ذلك من المعلومات التي جعلت أنظار الزائرين تتجه إليه.
فقلت: أين احتجاج الشعب المصري وحكومته على تمثيله وعدِّه من المستعمرات الإنكليزية؟ وما معنى قبول الاحتجاج حينذاك؟ ربِّ، إن القوي يعتز بقوته فلا يسمع نداء الضعيف ولا يشعر بآلامه! إن العزة لله جميعًا.
-
معرض جنوب أفريقية: به محصولات كثيرة منوعة أشهرها: البرتقال
والتفاح لجماله وكبر حجمه، والماس وكيفية تنقيته
بآلة كبيرة ضخمة مركبة من عدة أجهزة وبيان أدواره
التي يأخذها حتى يصلح للاستعمال. وبه الفحم الكثير
الذي يُستخرَج من مناجمها، وغير ذلك مما لا
يُحصَى. وقد يسرك جدًّا رؤية الماس وهو ينتقل في
الأجهزة. وقد رأينا فيه خارطة أفريقية مصنوعة من
الجبس، وفيها مُثِّلت السكة الحديدية المنوي
إيصالها من جنوب أفريقية إلى القاهرة، مبينًا فيها
مقدار ما أُنجِز منها وقد مُدَّت من جنوب أفريقية
حتى قطعت نهر الكنغ وقربت من بحيرة فيكتوريا
نيانزا. وبالتأمل في هذه الخريطة ترى أن الباقي
يبلغ نحو الخُمس تقريبًا، وهو مُعلَّم بنقط يتبين
للناظر إليها بسهولة.
ومما يجدر ذكره عرض أنواع النعام حيًّا وريشه وبيضه وفراخه، وله حظيرة فيه. ويروق نظرك عرض قطع الماس الكبيرة التي يخطف الأبصار بريقها والكتل الكبيرة الذهبية. وقد بنوا فيه حظيرة للأغنام. وبه خارطة تعرض عليك أهم المصنوعات التي عندهم والمناظر الطبيعية والحدائق الجميلة وكيفية ترتيبها وتنسيقها وزراعتها، مما يجعلك تتصور تلك البلاد تصورًا يقربك من الحقيقة حتى يُخيَّل إليك أنها من أغنى البلاد. ويُعَد من أهم المعارض ومبانيه ضخمة ومحصولاته وتجارته ونظامه وتنسيقه قطعة من عمل أوروبا.
-
معرض كندا: : هو من أهم المعارض التي زرناها صناعة وتجارة
وزراعة وحاصلات، ترى به الشلالات الكبيرة تنحدر
منها المياه بقوة، فإذا رأيت فيها شلالات نياجارا
يغنيك النظر إليه عن الذهاب إلى بلادهم كأنك تراه
رأي العين. رأينا المزارع الواسعة الكثيرة التي
تُعرَض عليك في مناظر جميلة كما تُعرَض في
المسارح، وتروعك كثرة الفواكه بها وكبر حجمها،
وترى غاباتها الكثيرة وجبالها وخلجانها وموانيها
وما يُصنَع فيها من اللحوم وكيفية حفظها وتصديرها
إلى جهات كثيرة، وكيفية صناعة الزبد التي انفردت
بكثرته عن المستعمرات الأخرى حتى صنعوا منها
كثيرًا من تماثيل البقر والخيل بحجمها الطبيعي.
وبه آلات لتنظيف السجاجيد غاية في الغرابة، وقد
شرح لنا أحد العمال كيفية التنظيف بإدارة الآلة
أمامنا فدُهِشنا لتقدم الإنسان في تسهيل أعماله،
كما عجبنا لرؤية آلة قيل لنا إنها تزيل آلام
الصداع بغاية السرعة، ورأينا السُّمُوك الكثيرة
العجيبة طرية كأنها أُخرِجت من البحر الساعة، وهي
تُصدَّر إلى مختلف الجهات.
وقد يعجبك كثيرًا ويسرك كثرة موانيها وجبالها المتوَّجة بالثلوج والسفن المصغرة الكثيرة التي تسير مندفعة بقوة الكهرباء متبعة الطرق البحرية الجغرافية، وكثرة المنازل الجميلة المنتشرة المشيدة على سفوح الجبال تحفها الحدائق الجميلة الغناء، والأحراج والمراعي الواسعة الكثيرة مما يدل على كثرة خيرات تلك البلاد وفخامة مناظرها الطبيعية واجتهاد أهلها في إتقان الأعمال.
وقد كُتِب تحت صورة امرأة في إطار جميل عبارة معناها «كندا مستقلة استقلالًا حقيقيًّا ما دام يمكن لكل شخص أن يعمل حرًّا.»
ومعرضها يُعَد نموذجًا لحسن المعارض وجمالها وتنسيقها ونظامها.
وإذا سألت عماله عن شيء أجابوك بلطف وذوق، وقدموا لك كتبًا تبين لك أحوال تلك البلاد من حيث تجارتها وصناعتها وزراعتها ورقيها مما لا يُعرَف عنه شيء من كتب الجغرافيا.
-
معرض أستراليا: بناء ضخم داخله كثير من أنواع الحبوب التي تعددت
أنواعها وألوانها، غاية في الجودة، وقد رُتِّبت
بهيئة يسهل على الزائرين تمييزها، وقد أحصيت منها
نحو الثلاثين، ولها باجتماعها منظر بهي. عُرِضت
مراعيها الواسعة ترتع بها أنواع الماشية. وبه كثير
من أنواع اللحوم السمينة التي تعطي مثالًا لجودة
المراعي واعتناء القائمين بشأن تربيتها، وتحفظ هذه
اللحوم لمدد كبيرة ويُصدَّر منها كثير إلى جهات
العالم. وقد تعددت به أنواع السموك التي لم أرَ
نظيرًا لها في حجمها ونوعها. وبه مناظر مزارع
واسعة متعددة أُقِيمت بها تماثيل الخيول والأبقار
والأغنام وتماثيل الرجال يستدفئون وسط الغابات على
نيران الحطب أيام الشتاء كهيئاتهم الحقيقية. ولهم
مهارة فائقة لا تقل عن كندا في صناعة الزبد، وهي
من أهم ما يلفت نظر المتفرج، وقد أقاموا منها
تماثيل الأبقار والخيول كما مر ذلك في معرض كندا،
فتقف أمامها مسرورًا بمنظرها الجميل. وتسرك
مناظرها الطبيعية التي لها روعة في النفس، وهي
كثيرة الأشجار والطيور وخرير الماء المنحدر على
الصخور والمنساب بين الغابات.
وقد أُحضِرت أنواع الطيور المصبَّرة والحية، منها ببغاء غاية في الجمال وحُسن الصوت، تهز رأسها ذات اليمين وذات اليسار وفوق وتحت، إذا سمعت كلامها ولم ترها اعتقدت أن الذي ينطق رجل فصيح اللسان، وإذا قربت منها هزت رأسها وقالت لك بصوت فصيح بالإنكليزية: Good bye، وقد اجتمع حولها المتفرجون ليسمعوا كلامها ويروا لعبها.
ومما هو جدير بالذكر آلات جز الصوف فإنها سريعة جدًّا في إزالة الصوف عن جلد الأغنام، وقد انتظرنا كثيرًا لنرى فعلها وقد جُهِّز لها كثير من الخراف ليرى المتفرجون فعل تلك الآلة الغريبة، وهي عبارة عن آلة تُعلَّق بين حاملين على ارتفاع نحو مترين ونصف متر تشبه آلة الحلاقة، يقبض عليها رجل يوجهها على جلد الخراف كيف شاء فتمر عليه مر السحاب فترى الخراف قد خلصت من صوفها الكثيف بسرعة عجيبة.
وبه فواكه كبيرة الحجم، وقد أُحضِرت أشجار البرتقال والتفاح محملة بأثمارها الجميلة التي لا نظير لها إلا في معرض كندا الذي مر ذكره. وقد أُقِيمت تماثيل الجناة وأيديهم ممتدة لقطف التفاح والبرتقال ووضعه في الأسفاط، وتجد كثيرًا من البرتقال والتفاح مبعثرًا تحت الأشجار. وقد ظهرت مزارعها البديعة كما تظهر على المسارح فكان المنظر بهيجًا يسر الخاطر. وقد عُرِضت فيه كتل كبيرة جدًّا من الذهب الخالص تساوي الواحدة منها مئات الجنيهات كما هو مكتوب عليها.
ولهم مهارة كبيرة في كيفية الغوص والبحث عن اللؤلؤ، وقد أُقِيمت التماثيل من الرجال مرتدين ثياب الغوص، شارحين ما يفعله الغائص في البحر عن اللؤلؤ وبيده وفوق جسمه ما يقيه من هجوم الحيوانات البحرية.
ولهم حذق عجيب في صناعة الكاوتش (المطاط) حتى صنعوا منه أبسطة منقوشة بنقوش جميلة كما يُنقَش السجاد.
وتُعَد أستراليا من البلاد الغنية بمحصولاتها ومزارعها وحيواناتها، وداخل هذا المعرض خيالة (سنما) مجانًا، رأينا فيها مناظرها الطبيعية تسحر العقول، وترى كيفية حياتهم الاجتماعية واحتفالاتهم في مواسمهم وأفراحهم، وغير ذلك مما يصور لك أحوال معيشتهم قبل الاحتلال الإنكليزي وبعده.
- معرض الرسوم: رأينا فيه الرسوم وتماثيل القرن العشرين (ورسم الدخول فيه نصف شلن)، رأينا صنعة جميلة يسائل الإنسان نفسه عند مرآها: كيف وصل هؤلاء الرجال إلى جودة هذا الرسم الذي ينطق ببراعة الرسامين والمثَّالين؟! وُضِعت هذه الصور الكثيرة الجميلة الدالة على معاني شتى من شئون الحياة في حجر غَصَّت بها، وقد نُصِبت تماثيل كثيرة الرسامين من رجال ونساء، كما أُقِيم للشعراء والعلماء وكبار الكُتَّاب والقواد العظام الذين لهم يد في نهوض الدولة الإنكليزية، منها ما هو مصنوع من المرمر أو الرخام أو البرنز كلها تشير إلى معانٍ كثيرة حقيقية وغير حقيقية، كل ذلك آية في الإبداع والجمال.
-
الاستديم: بعد أن تناولنا طعام العشاء الساعة السابعة
قصدنا رؤية الاحتفالات التي تقام فيه، وتدل كلها
على ما لإنكلترا من العظمة والقدرة، وكان من حظنا
أن رأينا الاحتفال بتكريم القواد العظام وعرض جميع
أنواع الجنود الإنكليزية في جميع مستعمراتها
بأزيائهم المختلفة التي تناسب تلك البلاد، وبعض
ألعاب أخرى.
إذا عجبت لشيء في حياتك وهالك منظره وأخذ من حواسك مأخذه وملك عليك مشاعرك وأوقعك في حيرة ودهشة، فاعجب لمشاهدة ذلك الاحتفال الذي أُقِيم في الاستديم، فإنك تغيب عن رشدك ويُخيَّل إليك أنك لست في عالم الدنيا.
نظرت إلى الاستديم فرأيت فناءً واسعًا لا يدرك الطرف نواحيه وجوانبه، منخفضًا عن الأرض على شكل دائرة، يحيط به بناء ضخم أُقِيمت عليه الأعلام الإنكليزية، يحيط به أنفتياترو (مدرج) يبلغ ارتفاعه الستين مترًا عن سطح الملعب، قد اكتظ بالناس وحُشِروا فيه حشرًا، وهذا المدرج المحيط بهذا الفناء يسع نحو ١٢٠ ألف نفس تقريبًا. وقد مُثِّلت به ألعاب منوَّعة مدهشة، منها ظهور فتيات حسناوات من ناحية من نواحي الملعب يبلغن نحو مائتي فتاة مقسمات إلى فرق؛ فمنهن [من] تلبس ملابس بيضاء يتدلى من كل ثوب شريط من الخلف عريض تقبض عليه من تسير خلفها، ومنها من تلبس ملابس خضراء وزرقاء وصفراء، وكل فرقة لها ميزة وشارة خاصة، وقد سرن بنظام حتى توسطن الملعب ثم وقفن بهيئة أشكال هندسية جميلة تلفت النظر، وبعد ذلك أتت سيدة كبيرة تحمل مظلة منشورة ووقفت متوسطة الملعب بينهن، وعند ذلك سُلِّطت عليهن الأشعة الكهربائية من جميع نواحي الملعب فظهرت ملابسهن الجميلة بأبدع الألوان والأشكال، فكان المنظر من أجمل ما يرى الناظر، وهنا أخذ التصفيق يصم الآذان بين نغمات الموسيقى والغناء الجميل تردده المغنيات والمغنون من جميع النواحي، مما جعلني كأني في حلم. وبعد برهة أُعطِيت لهن إشارة فسرن منظمات على هيئة دوائر ثم سرن مثنى مثنى، ثم أُعطِيت إشارة أخرى فسرن رُباع رُباع بحركات غاية في الدقة والمهارة، وسرن حيث خرجن جميعهن من باب واحد كل فرقة تحمل علمها يرفرف فوقها بين التصفيق الحاد ونغمات الموسيقى المشجية. وهذه الطريقة التي اتُّبِعت كانت على طريقة حفلات العظماء عند الرومانيين القدماء كما أُخبِرنا بذلك.
وبعد ذلك دخلت فرق من الجنود الملعب رجالًا وفرسانًا مختلفي الأزياء ما بين أبيض وأحمر وأزرق تمثل أزياء الجنود الإنكليزية في جميع مستعمراتها، كل فرقة تحمل علمها وأمامها قائدها، وسار الجميع بنظام حتى أُتِمَّت دائرة الملعب. وهنا وقفت كل فرقة ثابتةً في محلها على هيئة منظمة، ثم أتى قائد فتوسط الملعب ونادى في جميع هذه الفرق مناداة أعقبها إطلاق المدافع ودق الأجراس الضخمة وتصفيق المجتمعين وأزيز المطاود من فوق الملعب، حتى خُيِّل إليَّ أن القيامة قد قامت، وكلُّ نداء منه تحصل حركة عسكرية من جميع أنواع الفرق وتفعل الأجراس والمدافع فعلها. ثم صدحت الموسيقى بالسلام الملكي فوقف الجميع رافعين قبعاتهم، فكان المنظر مؤثرًا جدًّا. ثم عُرِض جميع القواد العظام الذين لهم يد في نهوض الدولة ولهم مواقع مشهودة انتصروا فيها على أعدائهم، سواء أكانوا أحياء أم أمواتًا، فالأحياء ساروا أمام فرقهم والأموات حُمِلت صور نعوشهم على عجلات تكتنفها المدافع، ثم خرج الجميع من الملعب بين التصفيق والتهليل والأناشيد، ولم أرَ نفسي قد تأثرت مثل ما تأثرت من هذا المنظر الذي يدل على عظمة الأمم ورقيها وصولتها ومجدها. وقد أُجرِيت ألعاب كثيرة يعجز القلم عن وصفها.
ومما يزيدك غرابة رؤية معرض الدجاج، فإن عيني لم ترَ مثلها نوعًا وحجمًا، وبيضها كبير جدًّا يناسب كبر حجمها.
وقد رأيت وأنا بمعرض أستراليا امرأة عظيمة الجثة على كرسي يدفعه الخدم، سمعتها تقول لشاب يسير بجوارها راجلًا: «كمان سنتين تنسى العربي»، فلفت نظري إليها هذه اللهجة العربية بين لهجات الأعاجم، فعرفت مني ذلك فنظرت إليَّ وقالت: أأنت مصري؟ فقلت لها: نعم، فقالت: أهلًا وسهلًا. فأنست لها كثيرًا وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث تارة عما يحويه المعرض وأخرى عن أحوال مصر، وطورًا عما رأته من المشقة والتعب في عبور مضيق كاليه، وأنها لو كانت تعلم تلك المشقة ما أتت لزيارة المعرض، فأخبرتها أننا عبرنا المضيق عن طريق دييب ونيوهافن و«لم يحصل لنا شيء مما حصل لك»، فاختارت أن ترجع منه، ثم افترقنا. وقد أكبرتها في نفسي لاهتمامها بزيارة آثار الأمم الراقية، ولو كانت المصريات المتعلمات اللاتي يزرن أوروبا يعنين بزيارة الآثار والمتاحف كما فعلت تلك السيدة المصرية الراقية لتقدمن كثيرًا.
وقد يجمل أن أذكر عبارة مختصرة عامة عن المعرض:
إذا نظرت إلى سماء المعرض نهارًا رأيت المطاود الطائرة تحلق فوق أرضه ذاهبة آيبة، عُلِّقت فيها الإعلانات الكثيرة المدلَّاة إلى الأرض تقرأ فيها ما يهم عن الصناعة والتجارة فتكسب المعرض جلالًا وجمالًا.
وإذا نظرت إلى المعرض ليلًا، رأيت شعلة متقدة من نار تعم جميع أرجاء المعرض من ثريات كهربائية ساطعة مختلفة الألوان ينعكس نورها في بحيرات المعرض وأنهاره، فترى ثريات في السماء وأخرى في الماء، تمخر في تلك المياه الزوارق حاملة الشموس والأقمار، فيأخذك العجب ويوقفك الاستغراب.
وإذا وقفت فوق الجسور الممتدة على البحيرة والأنهار، رأيت وسطها الجزر الصغيرة أُقِيمت فيها المراقص على نغمات الموسيقى المشجية.
وإذا سرت ناحية أخرى، وجدت أنواع الملاهي والمطاعم والقهوات ومحال المرطبات بأنواعها، مما يسهل على الزائرين الإقامة في المعرض طول اليوم وهزيع من الليل.
وفي المعرض مبان لجميع مستعمرات إنكلترا في العالم ما بين صغيرة وكبيرة من نوع ما يسكنه أهل تلك المستعمرات، كما أن جميع الصناع والباعة والمحصولات الزراعية والحيوانية والمعدنية وتجارتها وتماثيل عظماء رجالها وأزياء أهلها وكل ما يمثل حالة بلادهم؛ قد حُشِرت فيها وعُرِضت على المتفرجين بأبهى نظام وأحسن ترتيب فلا يغيب عن الناظر حالة من حالاتهم المعيشية، ولهذا يتسنى للزائر أن يحكم على أهل تلك المستعمرات حكمًا تقريبيًّا إن لم يكن حقيقيًّا.
وقد اختلفت المباني وتعددت أشكالها وأنواعها من حيث كبرها وصغرها وفخامتها وحقارتها تبعًا لأحوال أهل المستعمرات.
ويدهش الإنسان لإقامة هذا المعرض وتنسيقه ونظامه وترتيبه، وفي أي مدة مثَّلوا مباني كل مستعمرة، وكيف نُقِلت هذه الأشياء المعروضة. حقيقةً إن هذا العمل لا يقوى على القيام به إلا أمة عظيمة مثل الأمة الإنكليزية.
إن هذا المعرض يعطي فكرة حقيقية عن حالة الأمة الإنكليزية وقدرتها على القيام بجلائل الأعمال، بل ربما كان الغرض الأسمى منه بيان عظمتها وقوتها وما تملكه من مستعمرات وتقدمها في الصناعة والتجارة والمحاصيل، وإنه صفحة من صفحات مجدها ومظهر من مظاهر قدرتها وعظمتها.
وقد يهولك كثرة المتفرجين، فإنهم يسيرون صفوفًا متراصة في الطرقات متكاتفين، كأنك ترى احتفالًا عظيمًا بفاتح كبير أو حادث خطير، ومع سعته نرى كأن الناس قد اجتمعت في مكان واحد وليس لها طريق إلى الانتقال فهم في هرج ومرج، فترى منظرًا بديعًا لم تشاهد مثله. وقد سرت في هذا المعرض اثنتي عشرة ساعة لم أجلس فيها إلا بمقدار تناول طعام الغداء والعشاء، ومع ذلك لم أشاهد إلا المعارض المشهورة. والذي يريد مشاهدة ما فيه لا يكفيه أقل من أسبوع كما عرفنا ذلك من الدليل، وأما من يريد رؤية المعارض الشهيرة فيكفيه يوم بشرط أن يتبع الخطة التي رسمها دليل المعرض.
وإني معترف بأن الوصف لا يكفي مطلقًا لتصوير شيء عن حالة المعرض وما يحويه من العظمة والجمال والكمال، وأنصح لكل شخص عنده متسع من الوقت والمال يريد أن يقف تمام الوقوف على أحوال العالم وما أنتجته يد الإنسان وما استنبطه فكره من صناعة وتجارة وزراعة؛ أن يذهب لزيارة هذا المعرض الذي لا يسمح الدهر بمثله ولا يكتفي بالوصف، لأنه لا يشفي غلة ولا يصور حالة من حالاته وليس الخبر كالعيان.
(٥) حديقة هيدبارك
من أعظم الحدائق التي زرتها في سياحتي حديقة هيدبارك، فإنها منظمة الشوارع بديعة الترتيب والتنسيق، غُرِست على جانبيها الأشجار الباسقة ونُضِّدت في جوانبها المقاعد الكثيرة التي أُعِدَّت للمتنزهين، تدور حول مظلة الموسيقى كراسي كثيرة بلون الخضرة، والجالس عليها يدفع بنسين. والإقبال على سماع الموسيقى كبير، وقد رأيت رجلًا وهو في حالة السكر يرقص على نغمات الموسيقى ويصيح بأعلى صوته فكان موضع أضحوكة المتفرجين، والشرطي لا يتعرض له. وكنت أظن أنه لا يوجد في بلاد راقية كهذه مثل ما يوجد عند عامة قومنا.
وقد غصَّت هذه الحديقة بالمتنزهين ما بين راكب وراجل، غير أني لاحظت أن عدة طرق يُمنَع فيها مرور السيارات لمجاورتها لمحل الموسيقى حتى لا يترتب على ذلك إقلاق راحة السامعين. وجميع أرضها مغطَّاة بالحشائش والأشجار الضخمة، التي تدعو الناس إلى الجلوس والنوم عليها تحت ظلها الوارف والتمتع بمرآها الجميل. والكراسي غُرِست أرجلها في الحشائش، فالجالس عليها ينظر من تحته الحشائش الخضراء ومن فوقه غصون الأشجار الباسقة، وتجد الأشجار ملتفة بعضها ببعض فتكوِّن شبه غابة. وفي الجهة القريبة من البحيرة يجتمع للتنزه فيها أهل الثروة واليسار، فإذا كان الجو صحوًا رأيت هناك منظرًا بديعًا، ورأيت سيارات متواصلة بها النساء متزينات بأفخر الملابس. ومنظر هذه الحديقة في أيام الصيف يسر النفس ويشرح الصدر لاجتماع الناس فيها بكثرة، وترى حولها دُور الأكابر والأعيان، وكثير من هذه القصور فخم جميل جدير بأن يُزار لمشاهدة ما فيها من آيات الفن والصناعة والزخرف والزينة.
وللناس فيها حرية كبيرة كما لهم في غابات بولونيا بفرنسا، وقد رأيت منها مناظر غريبة تنبئ عن حرية الإنسان الكبيرة وما يأتيه من الأمور المخجلة التي لا تنطبق على الذوق والمروءة والإنسانية، فإذا كانت الحرية لا تجعل الإنسان يحافظ على المميزات التي جعلها الله له فرقًا بينه وبين الحيوان الأعجم، فلا كانت تلك الحرية ولا سطع نورها على أحد. وبعد أن شنفنا أسماعنا بنغمات الموسيقى المشجية سرنا حتى وصلنا إلى بحيرة جميلة واسعة، تمخر بها الزوارق الكثيرة التي تحمل كثيرًا من الناس ويشاركهم في السباحة البط والبجع، ويهب منها نسيم عليل ينعش الأفئدة، وقد رُصَّت على شواطئها المقاعد الكثيرة الغاصة بالمتنزهين.
ولا يفوتني أن أذكر أن الاجتماعات فيها مباحة لكل شخص يريد أن يخطب في أي موضوع ديني أو سياسي، والشرطي لا يتعرض له مطلقًا.
فترى الاجتماعات قائمة فيها في كل ناحية؛ ذاك يطعن في دين من الأديان، وذاك يقبح رأي الحكومة، وآخر يحبذ دين محمد ويذم الأديان الأخرى، وآخر يرى العكس.
والحديقة محاطة بسياج من الحديد لها أبواب كثيرة لمرور الراجلين والراكبين، وقد علمت أن هذه الحديقة كانت قديمًا ملكًا لكنيسة وستمنستر وحولها بعض ملوك إنكلترا إلى غابة ترتع فيها الغزلان والتيتل يصطادها أيام تنزهه، ثم جُعِلت لسباق الخيل والمتصارعين وأقبل عليها الناس للرياضة وترويح النفس، ثم حُوِّلت إلى حديقة غُرِست بها الأشجار والأزهار والحشائش الجميلة حتى صارت أعظم متنزهات لندن.
ويفصل حديقة هيدبارك عن حديقة «جرين بارك» شارع متسع ومبانٍ غاية في الفخامة والجمال، ولها سور طويل سرنا بجواره مسافة طويلة يقصدها كثير من الناس كما يقصدون هيدبارك.
(٦) سوق الخضر
سرت في الجهة الشرقية من لندن فرأيت مباني ليست ضخمة ودكاكين ليس بها سلع غالية فعرفت أنه الحي الفقير بلندن، ووجدت محلًّا ينادي بجودة خضره ورخص ثمنه، وقد كنت لا أعلم أن في بلاد متمدينة راقية ينادون كما ينادَى في أسواقنا فيعيبون علينا ذلك. وقد رأيت ازدحامًا شديدًا على باب حانوت ممتد على مسافة طويلة، فلفت نظري هذا المنظر الغريب وكل شخص يجتهد في الدخول فيه، وقد سألت عن سبب هذا الزحام فعلمت أنهم يزدحمون على محل جعة (بيرة) لرخصها فيه، فكلٌّ يجتهد ليحصل على قدح منها. وقد وجدت رجلًا ينادي بأعلى صوته أن معه آلة رخيصة الثمن جدًّا لسن السكاكين وثمنها ثلاثة بنسات، ومن لم يقتنع بصحة ما يقول فليقدم مبراته ليسنها له بهذه الآلة، فخُدِع صاحبي بقوله وقدم له مبراته فحطم حدها وجعلها غير حادة، فنظر إليه وقال له: هل يصح أن تكون كذابًا؟ فقال له بصوت منخفض لا يسمعه هذا الجمع الملتف حوله: أرجوك ألا تظهر ذلك أمام الناس. فوجد صاحبي نفسه أمام هذا الرجاء عاجزًا عن أن يبوح بشيء يخجل الرجل ويوقعه في اللوم أمام المجتمعين، فانصرفنا مستغربين لوجود أمثال هذا في بلاد اشتُهِرت بالصدق في معاملاتها.
وقد رأيت في الممالك التي زرتها كثيرًا من الدجالين والنصابين والمحتالين يسلبون دراهم الناس بغير حق، كما كنت أسمع أنه لا يوجد شحَّاذ في أوروبا فوجدت كثيرًا منهم فيها، وقد سمعت رجلًا في إنكلترا صحيح الجسم إلا أنه كفيف البصر ينادي بصوت ذليل منكسر ما معناه: «الدنيا فانية ولا يبقى إلا الإحسان»، على أنهم في الحقيقة قلائل جدًّا لا يُذكَرون بجانب من أراه في بلادنا من السيل الجارف المقلق للراحة من الشحاذين، الذين يضايقون المارة ويخجلونهم بكثرة إلحافهم في السؤال.
(٧) أخلاق الإنكليز وعاداتهم
إن ما رأيته من بعض أخلاق الإنكليز مع قصر مدة إقامتي في بلادهم لا يعطيني حكمًا صحيحًا عن أخلاقهم وعاداتهم، غير أنه يمكنني أن أعطي حكمًا تقريبيًّا عن بعض أخلاق وعادات تلك الأمة بقدر ما تسمح به الحالة.
رأيت في بعض من قابلناهم وعاملناهم أنهم ذوو آداب راقية، لا يظهرون الصلف ولا الكبر ولا يصعِّرون خدودهم للناس، مع أنهم لو فعلوا ذلك لكان لهم بعض العذر لقبضهم على نواصي أمم كثيرة وبسط سلطانهم عليها، ومع كل هذا فإذا سألت أحدهم عن شيء أجابك بلطف ورقة يجعلانك تميل إليهم وتود معاشرتهم، لا يكذبون ولا يراءون ولا يلبسون عليك الحق بالباطل (اللهم إلا في الأحوال السياسية).
يسيرون في الشوارع جادين في السير ليصلوا إلى محال أعمالهم، فلا يتلكئون ولا يجلسون على قهوات ولا في حانات إلا وقت فراغهم من أعمالهم في يوم خاص، ولم أرَ قهوة في لندن مدة إقامتي فيها، كما أني لم أرَ جالسًا يتعاطى بعض الشراب إلا قليلًا جدًّا، بل يتعاطاه واقفًا أو جالسًا على كرسي عالٍ يساوي عارضة الرخامة الممتدة أمام البائع بحيث تكون رجلاه مرتفعتين لا تصلان إلى الأرض. وترى عليهم مظاهر الفضيلة بين رجال ونساء وفتيات، ولذا لا تجد للتبرج والزينة مكانًا عندهم، ولا يستعملن الأصباغ ولا التثني في السير كما تفعل النساء الفرنسيات. صادقين في معاملاتهم يحتقرون الكذاب احتقارًا مزريًا مشينًا.
ولقد قص عليَّ أحد أصدقائي أن رجلًا عظيمًا من المصريين ذهب لزيارة إنكلترا وكان معه لفافات تبغ مصرية وهي ممنوعة الدخول عندهم إلا بمكس كبير يُؤخَذ عليها، فلما مر بالمكس وسُئِل هل معك ما يصح أن تدفع عليه شيء كما هي العادة عندهم، فأجاب: كلا، مع علمه أنه يُؤخَذ عليها مكس كبيرة، فلم يتعرض لتفتيشه أحد، فلما نزل في أسرة أخرج لهم بعض تلك اللفافات وقدمها لهم فسُرُّوا منها كما هي العادة عند الغربي إذ يُسَر جدًّا لتدخين اللفائف المصرية، بل هي أكبر واسطة للتعارف، فسألوه: كم دفعت عليها في المكس؟ فأجاب بقوله: إنهم سألوني عنها فأنكرتها، فكان ذلك أكبر سبب لإظهار الاحتقار له وإعراضهم عنه وبعدهم عن حديثه، فاضطُرَّ إلى اللحاق بأسرة أخرى لا تعرف عن كذبه شيئًا.
فانظر — يا رعاك الله — إلى تلك الأخلاق الفاضلة، والصدق أس الفضائل فإذا صدق الإنسان في معاملاته تلاشت بقية الرذائل الأخرى.
وقد نزل معنا في فندقنا شاب إنكليزي أتى من الريف ليرى معرض «ومبلي» ولم يكن قد رأى لندن قبل هذه المرة، فأخبرنا أنه دُهِش للحركة فيها، ومع أنه ريفي كان غاية في الأدب ورقة الحديث، مما جعلنا نعجب به ونكبره في نفوسنا، ومعرفته أننا مصريون لم تغير من رقة طباعه وحُسن حديثه، بل كان يظهر التلطف والود لنا، وكان يود أن يصحبنا في غدونا ورواحنا ولكن أغراضنا كانت تخالف أغراضه فلم نتفق معه.
إن أول خلة يراها القريب من الجمهور العامل من أهل الحرف والصنائع ويلحق بهم الفلاحون، عدمُ اكتراثهم له ونفورهم منه فلا يفرحون لفرحه ولا يحزنون لحزنه، بل لا يُعنَى أحد منهم بشأن جاره ولا يهمه أمر غير أمر نفسه، فكل ذي حرفة يشتغل بحرفته طول يومه ولا يتطلع إلى معرفة شيء غيرها، فالفلاح لا يعرف شيئًا إلا ما آل إليه الحرث والزرع والدرس، والقين لا يدري ما يحدث في بلاده سوى ما يختص برواج سعر الحديد أو كساده … وهلم جرًّا، وهذا هو السر في نجاح أعمالهم.
ومن طبعهم أنه لا يتزاورون كثيرًا ولا يسمر بعضهم عند بعض، ويقومون صباحًا في الساعة الرابعة، وإذا اجتمع المتعارفان منهم وتساءلا فلا بد أن يبتدئ أحدهم بوصف الجو وصحوه أو برده، ثم يخبره بما عرض له من وجع في كتف أو في رجل أو اختلاج في عين، فيقول السامع: يحزنني ذلك جدًّا. ولا يكاد أحدهم يضحك ضحكًا طبيعيًّا، وإنما هو عبارة عن قهقهة ثم يعقبها الكتم والعبوس. ومن طبعهم أنهم لا يحترمون الشيخوخة من حيث هي شيخوخة، ولا يهاب الأولاد والديهم ولا يحنُّ الوالدون على أولادهم كما هو الحال عندنا.
ومن عادة العامة الملاكمة ويقال لها «البوكس»، وقد كانت سابقًا بمنزلة الملهى في اجتماع الناس للتفرج عليها، وفي أواخر القرن الماضي كانوا يتعلمونها في المكاتب.
ومن طبع الإنكليز عمومًا التهافت على الشهرة والنباهة بين أقرانهم بأي سبب كان، ولا سيما في أسباب العلوم والمعارف.
ومنهم من يعتقد بالطِّيَرة والتفاؤل، وظهور روح الميت عند قبره، وهذا الوهم فاشٍ حتى عند عامة سكان المدن.
ومن عادة النساء إذا كلمن أحدًا من الخاصة أن ينحنين له عند كل سؤال وجواب، وعادة الغلمان أن يضعوا أيديهم على رءوسهم، وكذا هي عادة الخادم مع مخدومه عند كل سؤال وجواب. وإذا خاطبوا أحدًا بكلام توبيخ وغيظ قالوا له «سير» بمعنى سيد، حتى إنهم يقولونها عند طردهم كلبًا أو نحوه فيقولون: «اخسأ يا سيدي»، ويستعملونها أيضًا لتعظيم المخاطب وإجلاله. والرجل يقول عن زوجته «معلمتي» والمرأة تقول عن زوجها «معلمي»، وإذا خاطب أحد الخاصة زوجته بلفظ «مدام» كان ذلك إشارة إلى تنافرهما، فخطاب الرضى هو أن يقول لها «يا محبتي» و«يا عزيزتي»، وربما قالوا «يا قلبي»، وأما «يا روحي» فلا تكاد تُعرَف عندهم.
وإذا دخلت على إنكليزي أراك أنه مشغول عنك بما هو أهم من الزيارة وسألك أن تسرع في عرض حاجتك، وعند انصرافك ينهض قائمًا ويرافقك إلى الباب، وليس عند الإنكليز فضول وتكليف على الدخيل فيهم بل ولا على من هو منهم، فلا يرونه في غير وقت الزيارة ولا يتعرضون لما يأتيه، ولا تجد خادمًا يطعن في مخدومه أو خادمة تعيب مخدومتها وإن كانا في شقاء.
وإذا نبغ فيهم إنسان في فن أو صناعة لم يجد من يتصدى لتجهيله أو تخطيئه فلا يُحسَد ولا يُبخَس حقه، بل يجد من ينشطه وييسر له أسباب العلم. ومن عاداتهم حُسن الترتيب والتدبير في الأشغال والمصالح والتوقيت للعمل، فلكل شيء عندهم وقت ولكل وقت شغل فإذا اتفق أن زارهم أحد في وقت الشغل لم يتحاشوا أن يقولوا له: أنسنا بك، ولكن علينا قضاء ما لا بد من المصالح فلا تؤاخذنا وزرنا في يوم كذا، فينصرف عنهم عاذرًا لا عاذلًا.
ومن الخصال المحمودة الحرص على ما يُؤتمَنون عليه، حتى إذا استرجعته بعد سنين أعاده عليك كما تسلمه، بل ربما أزال عنه الوسخ ورده إليك نظيفًا وقال لك وهو معتذر: قد تجاسرت على أن أزلت الوسخ، وأرجو أني لم أسئ فيما فعلت. وينضم إلى ذلك احترامهم للرسائل فلا يفتح أحدهم كتابًا باسم غيره، وإذا زارك منهم زائر فلا يمد يده ولا طرفه إلى ما بين يديك من الصحف، فإذا أراد أن ينظر في كتاب لم يمسه إلا بعد أن يستأذنك.
ومن عاداتهم تنشيط أولادهم على الأشغال وتمرينهم على ما يكسبهم وإياهم الرزق الكافي والمواظبة على الأعمال والصبر على ما يتعاطونه جل أو حَقُر، ولا يقول أحدهم: «إني كبرت عن تعلم شيء» فلا يزالون دائبين كالنمل ما دامت فيهم نسمة تتحرك. ومن أراد أن يكرم نفسه عندهم فليظهر لهم أنه مستغنٍ عنهم ولا يعرض لهم في طلب شيء، وبناء على ذلك يصاحبون من يصاحبون أيامًا وشهورًا وسنين، ولا يسألونه عن مقدار دخله وخرجه ولا يريدون أن يسمعوا ذلك منه إذا ذكره.
ومتى وثق أحدهم بإنسان وعرف منه الجد والأمانة والاستقامة، يأتمنه على زوجته وبناته فيذهبن معه ليلًا ونهارًا بلا مانع. ومن يحضر إلى بلادهم بوصاية من عند معارفهم احتفلوا به وعدوه منهم، وصموا آذانهم بعد ذلك عن سماع ما يقال فيه من الذم.
ومن عاداتهم خطاب خَدَمتهم بالرفق واللين وإن أظهروا عليهم العجرفة، فالمخدومة تقول لخادمتها: «هاتي ذلك الشيء إن أعجبك»، وبعد أن تأخذه منها تشكرها، وربما تباخلت عليها في الأكل والشرب وأرضتها بمثل هذا الكلام الطيب.
ومع هذا الرفق والملاطفة فلا تزال المخدومة متباعدة عن الخادمة ومظهرة لها فرق المقامين، وإذا غضبت عليها فلا تكلمها بكلام يشف عن سفاهة وخروج عن حد الأدب.