في العودة إلى باريس
بعد أن زرنا المعرض وجلنا في بعض شوارع لندن وزرنا ما أمكننا زيارته من المتاحف الآثار، اعتزمنا العودة إلى باريس لنمكث فيها عدة أيام لترويح النفس من وعثاء السفر ثم إلى وطننا العزيز، فقصدنا محطة فكتوريا الواسعة الكبيرة التي مر وصفها، وركبنا القطار الذي يقلنا إلى مدينة نيوهافن حيث الباخرة تنتظر المسافرين إلى فرنسا، فأخذ ينهب الأرض نهبًا تارة ينخفض وأخرى يصعد بنا فوق تلال وروابٍ عالية وطورًا يدخل في نفق، حتى وصلنا بعد ساعة ونصف ساعة إلى نيوهافن. ولا أعيد على القارئ وصف ما مررنا به من نضرة الطبيعة وجمالها الفتان وما يتخللها من جبال وأغوار وأشجار، وما فيها من أنفاق يغيب فيها القطر آونة ويظهر أخرى. وقبل أن ننزل من القطار تسلمنا ورقة بيضاء يكتب كل واحد اسمه فيها باللغة الإنكليزية، وحين مرورنا إلى السفينة أُخِذت منا ورقة أخرى خضراء قدمناها إلى الواقف على سلم الباخرة فسمح لنا بالدخول، ولم أجد محلًا أجلس فيه لكثرة المسافرين فرجوت أحد خَدَمة الباخرة أن يحضر لي كرسيًّا أجلس عليه لأني لا أقوى على الوقوف مدة السفر، فلبى طلبي فأعطيته شلنًا نظير ذلك. ثم أقلعت بنا السفينة الساعة الثانية عشرة صباحًا، وكان الجو في ذلك اليوم متلبِّدًا بالغيوم والريح صرصرًا عاتية، والمطر ينسكب منذرًا بالويل والثبور وعظائم الأمور، والبحر هائج مضطرب، ولذا داخلني الرعب والخوف لهذا الإنذار المرعب.
وبعد أن فارقت السفينة الشاطئ أخذت تلاعبها الأمواج لعب الصوالج بالأكر وأصبح الجو أسود قاتمًا، والأمطار زاد انسكابها حتى غمرت سطح السفينة وتسرب الماء إلى الحقائب وأمتعة الركاب، مما أدخل الرعب والفزع في قلوب المسافرين، وأصبح كل منا لا يقوى على القرار فوق سطح السفينة يترنح الجميع ترنح السكران تبعًا لاهتزازها القوي العنيف، ولا يقوى أحد على الوقوف ولا على الانتقال قدمًا واحدة، بل كل من أراد ذلك يميل يمنة ويسرة ولا يلبث أن يقع أو يصطدم بحاجز من حواجز السفينة، فأخذني الدوار والغثيان مما جعل قلبي يكاد أن يتمزق، واعتقدت أني لا أفيق من هذه الشدة مع أنه لم يلحقني دوار مدة سفري في البحر إلا قليلًا، وما كنت أعلم أن الدوار يكون بتلك الشدة.
وفي بادئ الدوار كانت تجلس بجواري سيدة فأخذت تبتسم وتشدد عزمي وتطلب مني أن أكون أثبت جأشًا، ولكن ما لبثت أن اضطربت وظهر على وجهها الشحوب والاصفرار ثم أخذها الغثيان الشديد حتى تخيلت أنها قذفت خشاشة نفسها، وكان كل شخص منا أمامه وعاء لما عسى أن يحدث مثل ما حدث لنا. وهكذا صار أغلب حال الركاب، وازداد الخطب وعم الفزع والهياج حين اشتد اضطراب السفينة وتعالت الأمواج حتى كادت تعلوها، وأخذ النوتية يهدئون روع المسافرين وما يزيدونهم بهذا إلا اضطرابًا وخوفًا وفزعًا.
وقد كنت أُخبِرت أن سفينة منذ أسبوع جنحت بركابها في هذا المضيق من شدة الأنواء والأمواج، فاعتقدت أن سفينتنا لا تنجو من هذه الأمواج الهائلة فتلحق بأختها فأدركني الجزع والوهن، فانكفأت على حاجز من الخشب وأسندت رأسي عليه مطبقًا عينَيَّ حتى يذهب عني الدوار ولا أرى السفينة التي أصبحت فريسة في يد الأمواج تقلبها كيف تشاء.
حتى كنت أتخيل أن كل موجة تشق لنا وسط المضيق قبرًا ولكنها لا تلبث أن تعلو ظهرها، فكنا بين يأس ورجاء وأخذ كل يفكر فيما ستئول إليه حالته، حتى لاحت لنا من بعد شواطئ فرنسا فحمدنا الله على السلامة ونجاتنا من هذه الكارثة العظمى والمصيبة الدهماء، وبعد وصولنا وجدنا كثيرًا من أهل دييب منتظرين على الشاطئ يهنئون الركاب بالسلامة من هذا النوء الشديد، وقد علمنا أن هذا الإعصار قد خرب جزءًا من شواطئ مدينة دييب، وهذا المضيق الذي لاقينا به تلك الشدة معروف أنه شديد الاضطراب تتعالى أمواجه وتجعل السفر فيه من أصعب الأمور وأشقها، فإذا جاءت الأمواج من البحر الواسع انحصرت فيه لضيقه وعلت بسبب اضطرابه وهيجانه، ولذا كان الدوار فيه لا يُوصَف، ويظن المسافر فيه في كل لحظة أن السفينة ستهبط إلى مقره لكثرة ارتفاعها وانخفاضها وميلها يمنة ويسرة.
وكثيرًا ما عرضت الشركات أن تبني نفقًا تحت مضيق المنش يوصل إنكلترا وفرنسا، لتسهل المواصلات بينهما وتُنجَز الأعمال بسرعة؛ فلم تقبل الحكومة الإنكليزية ذلك لأنه يفقدها مزية كونها جزيرة في البحر محصنة تحصينًا طبيعيًا، لأنها محاطة بالمياه من كل جانب تحميها البوارج الحربية الكثيرة القوية.
وبعد أن وصلنا ونزلنا من السفينة وجدنا القطار المسافر إلى باريس في انتظارنا فركبناه وسار بنا، وأنا أهتز كأنني لا أزال في السفينة لأن التعب أخذ مني مأخذه مدة ثلاث ساعات متواليات.
وقد فاتني الغداء ولم أشعر بجوع، ومع ذلك فإني قصدت حجرة الأكل في القطار وتكلفت تناول الشاي والبسكوت فلم أشعر بلذة ولا طعم، فتركته بعد أن دفعت ثمنه سبعة فرنكات (بالقطع الفرنسي)، وسار بنا القطار يطوي الأرض طيًّا حتى وصلنا الساعة السادسة والنصف مساء، وبذا نكون قد قطعنا المسافة بين إنكلترا وباريس في ثماني ساعات، وقد امتنعت عن تناول طعام العشاء هذه الليلة لشدة ما لحقني من التعب.
ثم مكثنا في باريس عدة أيام امتنعت فيها عن زيارة المتاحف والآثار وتقييد المذكرات حتى أعطي لنفسي بعض الراحة لتستعيد قوتها.
واقتصرت على زيارة بعض إخواني المصريين هناك، وخاصة قنصل مصر في باريس والسفارة المصرية لأتسلم منها خطاباتي لأني جعلتها محطًّا لها قبل حضوري إليها وبعده، وكانت باسم صاحب العزة المهذب عبد السلام بك الجندي فكانت أشهى أيام لديَّ لرؤية أهل باريس وحسن جمالهم وما هم فيه من الأفراح الدائمة والحظ الوفير، وتهافتهم الكبير على انتهاز السرور والملذات كأن البؤس لم يطرق لهم بابًا. وبعد أن انقضت تلك الأيام اللذيذة التي كأنها أحلام نائم اعتزمنا السفر إلى مرسيليا ومنها إلى جنوة لنبحر منها إلى وطننا المفدَّى، بعد أن تركت تلك المشاهد والمناظر القريبة في نفسي أثرًا لا يُمحَى لا يدرك حقيقته إلا من زار تلك البلاد وقصد أن يرى ما فيها، ليعرف ما عند القوم من كل تليد وطريف من الآداب والمجتمعات والمناظر والتحف والآثار.