من باريس إلى مرسيليا وجنوة
كنا قد أخذنا جواز الرجوع من محل كوك في رومة، فلما أردنا العودة ذهبنا إلى محله بباريس لنعلم منه ما تم في حجز محال لنا بالباخرة التي أردنا الرجوع فيها إلى مصر فلم يكن عند موظفيه علم بها، فقال المدير: سأسأل محلنا في رومة وأخبركم بما يتم، فأخبرناه بعزمنا على زيارة معرض «ومبلي» فأخذ عنوان فندقنا بباريس، فلما رجعنا من إنكلترا وجدنا خطابًا منه غاية في الرقة وحُسن الأدب والذوق يخبرنا فيه بالباخرة التي تقوم من جنوة في التاريخ الذي اخترناه وأرقام حُجَرنا، وختم خطابه بقوله: «إنني رهن خدمتكم وأنا عبدكم الخاضع المطيع.»
أخذنا الخطاب باسم السفينة وأرقام حجرنا وأقمنا بضعة أيام بباريس، ثم يممنا محطتها لنركب القطار الذي يقوم منها الساعة الثامنة صباحًا، فسار بنا وأخذ كل منا ناحية لينظر ضواحيها وهو ناءٍ عنها، فأشرفتُ من إحدى نوافذه لأرى فرأيت ما يسر النفس ويشرح الصدر؛ مزارع نضرة، وبساتين أنيقة، وحيوانات ترتع في المراعي الواسعة مع الطيور الداجنة.
وقد يسرك منظر أطفال الفلاحين وهم يركضون وينبطحون على بطونهم فوق ذلك البساط السندسي الجميل، ومنازل الفلاحين هناك مشيدة على نظام صحي مبعثرة وسط المزارع والحقول، تحيط بكل منزل حديقة جميلة مؤلَّفة من طبقة أو طبقتين، مغطاة سطوحها بالطوب الأحمر وهو نظام سطوح جميع منازل أوروبا، لتنزلق الأمطار الكثيرة عنها إلى الأرض.
والقطار يقطع المسافة بين باريس ومرسيليا في نحو اثنتي عشرة ساعة، في ارتفاع وانخفاض وأنفاق وجسور فوق أنهار ووديان ومروج غاية في الإبداع وجمال المنظر لا يمل الناظر رؤيتها. وبعض المنازل تغطَّى سطوحها وجوانبها بالخضرة والأزهار، تحفك الجبال الشامخة المكسوة سفوحها بجميل الأشجار فترى عظمة الجبال وعلوها.
ومما يزيدك غرابة اشتراك المرأة مع زوجها في زرع الحقل وحفظه ورعي الأنعام وقيامها بالتطريز أثناء ذلك، وما كنت أظن أن المرأة في غير بلادنا تشترك مع زوجها بهذا القدر والأجانب يعيبون علينا اشتراك الفلاحة المصرية مع زوجها في مثل تلك الأحوال.
وترى كذلك الغياض الجميلة وجداول المياه المتسربة من الأمطار تدب دبيب الثعابين بين تلك المزارع، وترى بحيرات صغيرة تحفها المنازل والمزارع.
وقد أخذ القطار يجدُّ في السير في تلك المناظر من الوديان والروابي والجبال حتى أشرفنا على مدينة ليون العظيمة، وهي مدينة كبيرة يشطرها نهر الرون شطرين عظيمين، مشيدة على روابٍ عالية، مبانيها من أضخم مباني المدن التي رأيتها، محطتها واسعة جدًّا يدخلها عدة قُطُر ولها عدة خطوط إلى جهات كثيرة، وللمدينة ضواحٍ جميلة.
والطريق من ليون إلى مرسيليا لا يختلف كثيرًا عن المناظر السالفة الذكر، إلا أنها قليلة الخصوبة وبها تلال وجبال جرداء صماء.
وبعد أن قام القطار من ليون أخذ ينهب الأرض نهبًا لا يقف إلا بعد ساعات، وقد يُخيَّل لي أنه لم يقف بين باريس ومرسيليا إلا أربع مرات مع أن المسافة بينهما أكثر من اثنتي عشرة ساعة. وقد لاحت لنا مدينة مرسيليا إذ كانت الساعة التاسعة مساءً، فرأينا منظر الأنوار المتلألئة تأخذ محاسنها بمجامع القلوب، وكلما تقدم القطار إليها غمرتنا أنوار المصابيح حتى وصلنا إلى محطتها الساعة التاسعة والنصف مساءً.
ولما نزلنا في محطة مرسيليا سألنا عن القطار الذي يقوم إلى مدينة جنوة، فأُخبِرنا أنه يقوم الساعة الواحدة والثلث صباحًا فاعتزمنا السفر فيه فأودعنا حقائبنا في مخزن الأمانات، ونزلنا في المدينة لتناول العشاء ولنرى بعض شوارعها ومنازلها وحركة الناس فيها. وبعد أن أكلنا واسترحنا قليلًا سرنا في الشوارع، فرأينا القهوات الواسعة غاصَّة بالنساء اللاتي يزدن عن الباريسيات في تبذلهن حاسرات عن أقفيتهن وصدورهن وسواعدهن بحالة تخجل الناظر إليهن، ولم يكفهن ذلك بل يتعرضن لبعض المارة ممن يلوح عليهم أنهم غرباء.
وقد رأينا حركة الناس في الشوارع ليلًا كبيرة، وقد أدى بنا المطاف في الشوارع إلى عدم الهداية إلى الطريق الموصل إلى المحطة فسألنا عنها، فأرشدنا بعض الناس إرشادًا غير كافٍ وكانت الساعة إذ ذاك الثانية عشرة ونصف، وبذلك سرنا على غير هدًى فاخترقنا شوارع عدة ظهر الفجور فيها بأجلى معانيه فالنساء فيها يعترضن المارة ويمسكن بهم، ولذلك هلعت قلوبنا وخفنا خوفًا شديدًا أدى بنا إلى الإسراع في السير بل إلى الهرولة ثم إلى الركض خوفًا من لحوق الأذى بنا كما توهمنا ذلك، حتى وصلنا إلى الشارع الموصل إلى المحطة بعد أن تصببنا عرقًا، وحمدنا الله على نجاتنا من هذه المصيبة العظمى. ولقد سألنا عن كثرة النساء وتبذلهن في مرسيليا، فأُخبِرنا أن المواني تكثر فيها مثل هذه الأحوال خصوصًا مرسيليا فإنها مشهورة بذلك.
ولما وصلنا إلى المحطة تسلمنا حقائبنا من المخزن وسلمناها إلى رجل من الموظفين فيه ليحضرها لنا وقت مجيء القطار مقابل رضيخة (بقشيش) وكذلك فعل، فلما جاء القطار وركبناه قام بنا في موعده، ومن حُسن الحظ أن حجرتنا لم يكن بها أحد فحمدنا الله على ذلك، لأن السفر طويل يحتاج إلى راحة.
سار بنا القطار ونحن بين النوم واليقظة، ولم تغتمض عيناي لأني أُخبِرت أن في هذه المسافة التي نقطعها ليلًا اجترأ لصوص على المسافرين وقتلوا بعضهم وسلبوا أمتعتهم، فاستعصى النوم عليَّ حتى لاح الفجر فظهر شاطئ البحر والأشجار تحفه والأمواج تنبسط مياهها على بساط من الرمل فيتجعد، فلزمنا النوافذ وإن كان البرد شديدًا لنرى حُسن الطبيعة وجمالها الفتان الذي جعلنا نسبح الله الواحد القهار الذي أحسن كل شيء خلقه.
وما زلنا نشاهد الطبيعة وجمالها، والجبال الشامخة وعلوها، والأشجار الباسقة وارتفاعها، والمنازل البديعة وحُسنها، والحدائق وأزهارها، وشوارع المدن ونظافتها ونظامها، حتى أرسلت الغزالة أشعتها الذهبية على سطوح المنازل الحمراء تغمرها الحدائق الواسعة الغناء.
وقد كنت أسمع بجمال ساحل الريفييرا وتجلي الطبيعة فيه بحسنها وجمالها، فتشتاق نفسي لرؤيته ولو في المنام حتى رأيته رأي العين، رأيت جماله الساحر الباهر تجلت فيه آيات القدرة الإلهية والعظمة الربانية، يقف الإنسان أمام مناظره حائرًا لا يدري ماذا يقول في إبداع الخالق مهما أُوتِي من الفصاحة وقوة البيان، لأن وصفه فوق مقدور الإنسان.
يسير القطار في هذا الساحل متعرجًا تابعًا ساحل البحر في الدخول والخروج، فكان البحر والشاطئ عن يميننا والجبال الشامخة المكسوة بالأشجار والمنازل بحدائقها فوق الروابي وسفوح الجبال عن يسارنا، فلا ندري أإلى اليمين ننظر حيث البحر والأمواج المتكسرة على الشواطئ أم إلى اليسار حيث الجبال الشامخة والأشجار الباسقة، فحرنا بينهما كما يحار الإنسان في اختيار أحد شيئين جميلين، فوقفت بين النافذة وباب الحجرة ألقي نظري إلى اليمين تارة وأخرى إلى اليسار، حتى وصلنا إلى مدينة نيس الجميلة كثيرة الحدائق والمنازل البديعة المشيدة فوق الجبال وسفوحها، ترى الفنادق فوق قنن الروابي وقد نُظِّمت الطرق الموصلة إليها وغُرِست على جوانبها الأشجار مشرفة على البحر من بُعد لعلوها الشاهق، تعطي منظرًا بديعًا يملأ العين نورًا والقلب سرورًا.
وقد اخترقها القطار في سيره فشاهدنا أحسن ما اكتحلت بمرآه العين من المناظر التي لهج الناس بذكرها، وقصد التنزه فيها القريب والغريب لجودة هوائها وجمال مناظرها.
ولبث القطار يحاذي الشاطئ تارة ويمر في نفق تارة أخرى وهنا ننغمس في ظلام حالك يخيف، لكننا لم نكترث به ولم نفزع له بعد أن مررنا في أطول نفق بين إيطاليا وسويسرا. ثم لاحت لنا مدينة موناكو الشهيرة بمبانيها الفخمة وجبالها الشامخة وفنادقها الواسعة، ولم نلبث إلا قليلًا حتى ظهرت مدينة «مونتكارلو» التي يعجز القلم عن وصفها وجمالها وحُسن موقعها وفخامة فنادقها لأنها مصيف لأغنياء العالم، يقصدها السقيم والصحيح فالأول يستشفي بهوائها والثاني يتمتع بجمال مناظرها وحُسن موقعها، لأن جزءًا كبيرًا منها مشيد على جبل ملتوٍ داخل في البحر فيكوِّن لسانًا شُيِّدت المنازل على قُنَّته وسفحه فتشرف على البحر من ثلاث جهات، والجزء الآخر مشيد على الروابي أيضًا تعمر منازله الحدائق الواسعة. وهذه المدينة ومناظرها تشبه كل الشبه مناظر سويسرا وجمالها الطبيعي، وقد وقف القطار بنا فيها مدة طويلة فمتعنا النظر في غضونها بجمال الطبيعة، وعرفنا السر في أنها محط رجال الثروة والخلاعة، يقصدها الناس من جميع أنحاء العالم يفضلونها على كل مدن فرنسا حتى باريس، وهي مشهورة بأنها مركز مقامري العالم يدخلها المثري مملوء الحقائب والجيوب فيخرج منها خالي الوفاض بادي الأنفاض، فيفضل أن يخرج من دنياه على أن يبقى فيها يتجرع كأس الندم ويعض بنانه أسفًا وحسرة على ما فات، يرى نفسه فقيرًا مُعدِمًا بعد أن كان غنيًّا مثريًا، وقد انتحر فيها كثير من الرجال العظام الذين يفضلون الموت على العار، والغانيات الفاتنات اللائي يحضرن إليها ليصدن الأغنياء لا يلبثن أن يقعن في شراك القمار فيفلسن بعد الغنى والثروة فيفضلن الانتحار، وقد أُخبِرت أنه انتحر فيها أكثر من ألف من الرجال والنساء، وهنا تذكرت قول الشاعر المجيد نجيب الحداد:
وبعد أن فارقناها سار القطار مسرعًا حتى وصلنا إلى حدود إيطاليا الساعة الثامنة والنصف صباحًا، فعرضنا حقائبنا على مركز التفتيش كما هي العادة في حدود الممالك، وطلبوا منا أجوزة السفر فسلمناها لهم فعلَّموها بما يفيد السماح لنا بالمرور، كما علَّموا الحقائب بالطباشير حتى لا يتعرض لها أحد بعد ذلك.
وقد ركبنا القطار فسار بنا في مثل المناظر السالفة الذكر، إلا أنه أكثر من دخول الأنفاق وهنا شعرنا بتغير الجو فجأة وانقلب البرد إلى حر ونزعت الشمس برقعها الذي كانت محجبة به في فرنسا وإنكلترا وأرسلت أشعتها الحارة التي كنا نتمناها هناك، كما أننا شعرنا بثقل ملابسنا التي كانت لا تغني عن البرد شيئًا في جو فرنسا وإنكلترا الممطرَين.
وقد كنا نسينا الجو الحار فلم نفكر مطلقًا في أن نشعر بحرارة في جو إيطاليا ومصر، كما ينسى الإنسان في الشتاء حر الصيف.
وقد تغير سير القطار تغيرًا كليًّا، فأصبح بعد السرعة الهائلة يسير بطيئًا يتلكأ في كل محطة صغيرة وكبيرة، إذ يركبه المستحمون في البحر ليصلوا من محطة إلى أخرى قريبة منها، فشعرنا بالمضايقة الشديدة بعد هذا السفر الطويل وإن لم يكن مملًّا، وسار القطار على هذا النحو حتى وصلنا إلى مدينة جنوة في إيطاليا بعد سفر إحدى وثلاثين ساعة لم يتخللها إلا انتقالنا من قطار إلى آخر.
(١) مدينة جنوة
هي مدينة ليست كبيرة ولا ضخمة البناء ولكنها جميلة، أكثرها مشيد على تلال ومرتفعات، فالمنازل على هيئة مدرج عجيب من أسفل الجبل إلى أعلاه، فترى حدائق المنازل كأنها معلقة في السماء يُصعَد إليها بدرجات حُفِرت في الجبل متعرجة حتى يسهل الصعود فيها، فترى لها منظرًا شيقًا جميلًا، وقد صعدت في إحداها فسرت مسافة طويلة حتى تعبت ولم آتِ إلى آخر البناء ففضلت الرجوع على المضي، وكلما صعدت نحو مائة درجة أو أكثر تنتهي بشارع كبير به منازل جميلة وحوانيت عامرة، ومن هذا الشارع تبتدئ درجات سلم آخر تنتهي بشارع آخر، وهكذا حتى يصل الإنسان إلى أعلى بناء شُيِّد فوق القمة، ومن هناك تشرف على منازل جميع جنوة، وجل منازلها على هذا النمط. وقليل من شوارعها مستقيم، فهي تشبه شوارع نابلي في ارتفاعها وانخفاضها، وكلها عامرة بالدكاكين، والحركة بها كبيرة، ويقطع هذه الشوارع أزقة ضيقة منخفضة عن سطح الشارع ينزل إليها الإنسان بعدة درجات تشبه الأزقة القديمة عندنا، إلا أنها نظيفة مرصوفة جميعها بالأحجار، وفي بعض ميادينها تقام سوق الخضر صباحًا فيفد إليها الفلاحون يحملون الخضر والفاكهة وينادون بجودتها وحسنها بأعلى أصواتهم وهنا يقبل عليها الشارون، وقد لاحظت أن القوطة عندهم تُسوَّى بالفاكهة لارتفاع ثمنها.
ولاعتراض الهضاب للشوارع حُفِرت بها أنفاق، بعضها خاص بمرور الناس والبعض الآخر خاص بمرور المركبات الكهربائية. ويحرس هذه الشوارع جنود الفاشست، في كل مسافة صغيرة شرطيان متلازمان لا يفترقان كأنما شُدَّا بحبل، وكلهم شبان يلبسون ملابس سوداء بشريط أحمر على الجنب كما يلبس ضباط البوليس عندنا، والسترة مصنوعة على هيئة «ريديجود» مشقوقة من الخلف، يلبسون قبعة منحنية إلى الأمام، لها طرفان ممتدان من الجانبين، وُضِع في مقدمها تاج، يحملون السيوف والمسدسات، فلفت نظري كل هذا النظام الخاص فسألت عن حكمة المصاحبة والتسليح، فعلمت أنهم يخافون من مهاجمة الاشتراكيين على غرة. وفي مفارق الطرق العامة تقف جنود تخالفهم في الملابس وفي كبر السن وضخامة الأجسام، لا يحملون سلاحًا مطلقًا، ولم أعرف السبب في ذلك.
وعلى الجملة فمدينة جنوة لطيفة جميلة، يصح أن تكون مصيفًا حسنًا لجودة هوائها، ولتشييد بعض منازلها فوق الجبال والهضاب، وأهلها على جانب كبير من الهدوء والسكينة، ليسوا كأهل نابلي في شراسة الأخلاق. ولما وصلنا إلى جنوة الساعة الثانية والنصف بعد الظهر نزلنا في فندق جميل أمام المحطة، فتغدينا فيه وخرجنا لنرى بعض متاحف المدينة وشوارعها، فسرنا حتى وصلنا إلى متحف صغير يُسمَّى «بنجوه»، فيه صور بديعة تمثل حالات حربية ودينية وسياسية كلها غاية في الغرابة وجودة الرسم والتمثيل، سقفه مطلي بالذهب مزخرف ومزين بأبدع زينة، ومن بين هذه الصور صورة ملكة مصر كليوبترا حاسرة عن بطنها وثدييها وقابضة بيدها على ثعبان فمه في حلمة ثديها وهي في حالة غيبوبة شديدة تمثل الهلع والجزع والألم، فكان المنظر مؤثرًا، خصوصًا من يتخيل عظمتها وأبهتها في ملكها وما لعبته من الأدوار مع أعظم رجال السياسة والحكم في رومة، وما كانت فيه من العز ورفعة الجاه حتى كانت تُحمَل على الأعناق في الشوارع فتُرمَى بالأزهار والرياحين من جميع النوافذ، وما أعقب ذلك من خِذْلانها وأفول نجمها في شباب حكمها. ثم خرجنا منه إلى زيارة [كنيسة أوتو نسيانه].
(٢) كنيسة أوتو نسيانه
هذه الكنيسة لها مدخل فخم بسلم عريض تدل على العظمة، مقامة على أعمدة من الرخام الأبيض الجميل وعلى حنايا كثيرة، ولها دواخل كثيرة في الحوائط رُسِم فيها عدة صور مختلفة تشير إلى أحوال دينية قديمة، أو تمثل حالة العذراء ومعها السيد المسيح وهو صغير أو صورته وهو مصلوب والدم يسيل من رجليه. ولها مذبح غاية في الجمال والزخرف والزينة، نُصِبت أمامه الشموع المتقدة ليل نهار. سقفها مموَّه بالذهب الوهاج من أبدع ما رأيته في الكنائس التي زرتها، مرصوفة أرضها بالرخام الأبيض. وهي ليست كباقي الكنائس في الكبر والاتساع، إلا أنها من أعظمها أبهة وزينة.
وفي اليوم الثاني من حلولنا بجنوة أصبحنا قاصدين ميدانها العظيم فأدى بنا السير في الشوارع والتفرج على البضائع وحركة الناس ومراقبة أحوالهم، إلى ميدان فسيح فيه تمثال أحد ملوكها الأبطال «فكتور عمانويل» يمتطي جوادًا فوق قاعدة من الرخام الجميل ماسكًا قبعته بيده، وهو الملك الذي سعى في توحيد ممالك إيطاليا وجعلها مملكة واحدة يحكمها ملك واحد، فوصل إلى ذلك بجده واجتهاده وعزيمته التي لا تفل كما هو معروف في التاريخ.
وأمام هذا تمثال آخر على ربوة عالية هو تمثال الخطيب السياسي المشهور «مازيني»، وهو مقام على باب حديقة تسمى «نجرو» غُرِست أشجارها وأزهارها فوق تل كبير من تلال جنوة، يصعد المتنزِّه إلى أعلاها في طرق متعرجة حتى يصل إلى أعلى نقطة فيها، فأشرفنا منها على سطوح مباني جنوة وحددنا مبانيها بالنظر المجرد، وشاهدنا الجبال العالية التي تحيط بالمدينة من خلفها والمنازل المدرجة من أسفل الجبال إلى أعلاها، فكان المنظر شيقًا تسر له النفس وترتاح لرؤيته العين. وفي هذه الحديقة طيور منوعة منها ما يسبح في جداول تسير بين الصخور، ومنها ما هو في أقفاص، كما توجد بعض الحيوانات الداجنة وغير الداجنة. وبها شلال جميل تنحدر منه المياه بقوة فيُسمَع لها دوي عظيم. وجميع طرقاتها مظللة بالأشجار الباسقة، فيطيب السير والجلوس فيها، فجلسنا على مقاعدها الطبيعية من حجرية وخشبية كما جلس غيرنا من المتنزهين، وفي أعلاها دائرة جميلة دارت حولها المقاعد لجلوس الناس، بها عدة مصورين يأخذون صورة من يريد ذلك تذكارًا لزيارة هذه الحديقة، ثم خرجنا منها معجبين بحسن ترتيبها وتنسيقها فوق هذه الربوة العالية. ويقابلها من الجهة الأخرى حديقة مثلها، فهما يكتنفان الميدان من جهة والمباني والشوارع من الجهتين الأخريين.
ويتفرع من هذا الميدان ستة شوارع عظيمة سرنا في أحدها حتى وصلنا إلى الميدان الكبير، وهو ميدان واسع تحيط به العمائر الضخمة والمباني الفخمة، مثل البورصة ومصرف رومة وغيرهما من الحوانيت الكثيرة المكتظة بالسلع الغالية، وبه «جلاريا مازيني» وهي على هيئة شارع طويل مغطاة بالزجاج، فهي ليست في القامة والعظم مثل جلاريا رومة ونابلي، بها القهوات الفاخرة والحوانيت الغاصة بأنفس السلع.
(٣) خرستوف كلمب ومنزله
مقام لخرستوف كلمب تمثال عظيم في ميدان المحطة يراه الإنسان أول دخوله من باب المحطة إلى المدينة، أُقِيم وسط حديقة صغيرة فوق قاعدة عالية من الرخام الأبيض بزيه القديم، وقد ذكرتني رؤيته أعمالَه العظيمة التي قام بها من كشف «أمريكا» وإيجاد دنيا جديدة عادت على العالم بالفوائد الجمة، فكانت مورد رزق عظيم ومهجرًا لكثير من الممالك التي اكتظت بسكانها فهاجر إليها كثير من أهالي أوروبا وطاب لهم المقام فيها، وتغلبوا على سكانها الأصليين الحمر فاندمجوا فيهم وبتوالي السنين هضموهم فأصبح عددهم قليلًا جدًّا لا يكاد يُذكَر، وهم يشتغلون في أعمال الفلاحة، وقد أصبحت أمريكا بفضل اجتهاد الأوروبيين أغنى ممالك العالم ثروة وتجارة وعلمًا.
فالفضل كله يرجع إلى هذا الملاح الصغير الذي ذاق الألم وتجرع كأس الصبر في سبيل تحقيق فكرته، يقصد ملوك أوروبا يشرح لهم ما يجول بأفكاره ويطلب منهم المساعدة بإمداده بالرجال والأموال، فيردونه خائبًا فيعض بنان الأسف والحسرة نحو عشرين سنة، حتى قيض الله له أحد ملوك إسبانيا فأمده بما يحتاج لسفرته المشهورة، ثم رجع إلى قارة أوروبا مكللة أعماله بالنجاح، فتقاطر زوار العلم على هذه القارة حتى أتموا كشفها. ومع كل هذا فقد قام في وجهه الحساد وجعلوا عمله هذا معلومًا بالضرورة وفي إمكان البعض القيام به، وأعقبت ذلك مناظرة أمام حفل من الناس فكان من رده عليهم أن أحضر إناء فيه ماء وبيضة، وكلف أحد مناظريه أن يجعل هذه البيضة على أحد طرفيها في ذلك الإناء فلم يمكنه ذلك، فأخذها خرستوف كلمب وكسر الجزء المدبب فيها ووضعها عليه فاستقرت، فقال مناظروه: في قدرة كل واحد منا أن يفعل ما فعلتَ، فأجابهم بقوله: ولكنكم لم تفكروا في هذا. ومع ذلك فقد مات مسجونًا ولم تُسَمَّ حتى القارة باسمه، بل سُمِّيت باسم رجل يُسمَّى «أمريك فِسْبُوس» قد كشف سواحل أمريكا الجنوبية. وقد قامت إيطاليا بتكريمه وأقامت له التماثيل العدة، حتى أصبح مفخرة إيطاليا في العالم كله.
وقد شُغِفت برؤية منزله الذي كان يسكنه صاحب هذه النفس التواقة لعظائم الأمور، كما شُغِفت بزيارة منزل دانتي الشاعر الإيطالي المشهور أيضًا، فسرنا من شارع إلى شارع ومن زقاق إلى آخر حتى وصلنا إليه فوجدناه في حي فقير جدًّا بجواره الأزقة والطرقات الضيقة والمباني الحقيرة، وهو منزل صغير لا يزيد طوله عن عشرة أمتار في ارتفاع عشرة أيضًا، واجهته لا تزيد عن خمسة أمتار، بابه مصنوع من الحديد، تعلوه نافذتان صغيرتان ليس به نوافذ غيرهما، وهو الذي كان يسكنه وهو ملاح صغير، ولم نجد من يسهل لنا زيارته من الداخل، ورقم هذا المنزل ٣٧.
وهنا تذكرت أن أعاظم الرجال من الصناع والعلماء والفلاسفة الذين سطعت أنوار معارفهم على العالم فاهتدى الناس بها إلى أمور معاشهم ومعادهم، نبتوا من مثل هذا الكوخ الحقير.
وقد رجعنا إلى فندقنا ونحن مسرورون من رؤية منزل هذا المفكر الجليل، وقد استيقظنا في اليوم الثالث من حلولنا في جنوة وهو اليوم الذي تُركب فيه الباخرة إلى وطننا العزيز، ولم نعمل فيه شيئًا سوى تجهيز حقائبنا وإعداد أنفسنا إلى السفر. وبعد إتمام المعدات ذهبنا إلى الميناء لنعرف محل رسوِّ الباخرة فعرفناه وعرفنا ميعاد قيامها، فاتفقنا مع أحد الحمالين على أن يأتي الفندق الساعة الثالثة بعد الظهر ليأخذ الحقائب إلى الباخرة.
ورجعنا نسير في الشوارع على غير هدى، فرأينا رجلًا في ناحية من شارع يبين للناس ما يهمهم من أمر مستقبل حياتهم بالنظر إلى وجوههم وأيديهم وعيونهم وقامتهم، ويقيد كل ذلك في ورقة عنده ويقدمها لمن يريد معرفة مستقبله مقابل ليرتين، فتقدم إليه شيخ طاعن في السن فأخذ يصوب نظره فيه ويصعده والرجل واقف أمامه كالصنم لا يتحرك، فكان موضع أضحوكة الواقفين فخجل ولما تسلم ورقته وضعها في جيبه، وبعد أن فرغ منه أخذ ينادي بأعلى صوته بأنه يعرف المستقبل بوضوح وهو على مرأى من الشرطي ولم يتعرض له.
ثم ذهبنا إلى الفندق فتناولنا طعام الغداء، وانتظرنا الحمال حتى حضر وحمل الحقائب وسرنا خلفه لقرب الميناء من الفندق ولخوفنا من أنه ربما يكون حمالًا مزيفًا فنرجع من سفرنا بخفَّي حنين، ثم أتى حمالو الباخرة وتسلموها منه ونقلوها إلى حجرتنا مقابل عشر ليرات، وقد انتظرنا قيام الباخرة بفروغ صبر إذ تقوم الساعة الثامنة مساءً.