من نابلي إلى قطانيا
أقلعت بنا الباخرة من ميناء نابلي الساعة السابعة مساء، وربما كانت أعظم ميناء في إيطاليا، وكان موعدها الساعة الخامسة مساء، فظهر لنا جمال المدينة وبرز نورها الساطع المدرج فوق سفوح الجبال والتلال كنظيراتها مما تقدم وصفه في مدن إيطاليا، وبعد أن غادرت الباخرة الميناء ظهر بركان فيزوف بلهبه الأحمر العجيب، وظهر الطريق الموصل إلى قمته بنوره المتلألئ كأن الكهرباء فيه عقود الجمان، قامت بتنظيمه وتمهيده شركة كوك الشهيرة في العالم، فالسياح يقصدون زيارة فيزوف ليلًا ليمتعوا أنفسهم بهذا المنظر البديع خصوصًا أيام الصيف، وليتناولوا طعام العشاء على قمته، وكثير من الأمريكان يفعلون ذلك. وقد ذكرت في رسائلي السابقة ما يقوم به كوك من تسهيل السياحة على السائحين من كل وجه، فله الفضل الجزيل على جميع سائحي العالم.
وفي هذه الليلة هاج البحر وماج فاضطربت الباخرة وأخذ أغلب الركب الدوار، وقد تعبت جدًّا من الدوار فذهبت إلى حجرتي على أن أستريح، ولكني لم أنم لما لحقني من الألم وبعد مدة نمت نومًا متقطعًا حتى الساعة السادسة صباحًا، فخرجت من حجرتي وأخذت أسير في طرقات الباخرة، وإذ ذاك ظهر بركان استرامبولي الذي وصفته فيما تقدم من الرسائل. وبعد تناول الإفطار جلست على كرسي لأكتب مذكراتي إذ حضر حضرة محمود بك عبده، فأخذنا نتجاذب أطراف الحديث في شئون شتى حتى الساعة العاشرة صباحًا، فلاح لنا مضيق مسينا فوقفنا في طرقات الباخرة لنمتع الطرف بجمال جباله العظيمة والأشجار الكاسية سفوحها.
- (١)
رأيت عمودًا من الخشب على الشاطئ يبلغ ارتفاعه نحو ثلاثين مترًا تقريبًا في أعلاه رجل، قد علمت أنه يراقب طول اليوم سمك التونة الذي يكثر وجوده في هذا المضيق، وبالقرب منه على الشاطئ عدة قوارب، فإذا ظهر السمك على سطح الماء عيَّن إلى نوتية القوارب محل ظهوره، فيخرجون بسرعة ويحيطون بهذا السمك الذي لا يستمر محتجبًا تحت الماء، ويضربونه بآلة عندهم جُعِلت لذلك فيغوص تحت الماء ولا يلبث إلا قليلًا حتى يظهر فيضربونه مرة أخرى، ولا يزالون به حتى يميتوه ويخرجوه فيكون لذلك عندهم رنة فرح، لأن جزءًا كبيرًا من الناس تتوقف أرزاقهم على صيده والتجارة فيه، وهذا السمك عظيم الجثة وقد يبلغ طوله نحو خمسة أمتار. وإذا تعب المراقب حل محله آخر، ويكون سخطهم عظيمًا إذا لم يظهر هذا النوع من السمك كما أخبرنا من يعرف ذلك.
وقد رأينا المنازل الجميلة المنتثرة فوق الجبال وسفوحها، وقد جُدِّدت بعد خراب مدينة مسينا بزلزال سنة ١٩٠٦، فمنظرها غاية في الجمال، وكلها مركبة من طبقة أو طبقتين خوفًا من حدوث الزلازل فتؤثر فيها وتهدمها. وقد رأينا بالمنظار المعظم أطلال المنازل التي هدمها هذا الزلزال وجعلها بالية.
وقد غُرِست أشجار الفاكهة وكروم العنب بكمية وافرة على سفوح الجبال وهي تنمو هناك جيدًا. وقد ظهر لنا من الشاطئ الأيسر مدينة رجيو التي مر وصفها عند مرورنا بهذا المضيق ليلًا.
- (٢)
رأيت أن قُطُر السكك الحديدية عندما تصل قادمة إلى هذا المضيق تنزلق بركابها في بواخر أُعِدَّت لذلك، وتسير وسط هذا المضيق الواسع حتى تصل إلى الشاطئ الثاني، ويتبع هذا القطار نحو أربع عربات بركابها وبضائعها حتى يسهل عليهم المسافة ولا يتحملون مشاق نقل الأمتعة إلى البواخر وإخراجها منها، فلا يشعرون أنهم يجتازون بحرًا، ومتى وصلوا إلى الشاطئ الثاني انزلقت هذه العربات إلى القضبان وسارت في طريقها. وقد رأيت بالمصادفة هذه البواخر تحمل العربات سائرة أمام باخرتنا فعجبت لهذا التسهيل الغريب.
أما ركاب الدرجة الثالثة فيُنقَلون إلى الشاطئ الآخر بالبواخر كالعادة المتبعة.
وقد استغرق سير السفينة في هذا المضيق نحو ساعة ونصف ساعة، لم نجلس فيها لنمتع الطرف بمحاسن الطبيعة التي تجلت في هذا المضيق والجبال المحيطة به. وعند الساعة الثالثة والنصف أخذت السفينة تدخل ميناء قطانيا حتى رست على الشاطئ الساعة الرابعة، فنزلنا منها يصحبنا حضرة محمود بك عبده وكنا خمسة، ركبنا عجلة أوصلتنا إلى فندق يُسمَّى «برستول» فأودع القنصل حقيبته فيه وسرنا معًا في أكبر شارع في المدينة يُسمَّى «استسكوري»، وهو شارع متسع تسير فيه المركبات الكهربائية في الوسط، وله طواران واسعان تسير فيهما الناس ذهابًا وإيابًا، وكله غاصٌّ بالدكاكين الحافلة بالسلع والبضائع المنوعة. وقد أدى بنا السير فيه إلى ميدان واسع أُقِيم فيه تمثال عظيم يعلو قاعدة من الرخام، يحيط به عدة تماثيل أخرى ترمز كلها إلى معاني الحرية عندهم، فأخذ أحد أصحابنا صورنا الشمسية لتكون تذكارًا لزيارة تلك المدينة، ثم أخذنا نسير ونتفرج على ما في الدكاكين من البضائع إلى أن وصلنا إلى حديقة تُسمَّى «فلابليني»، فدخلناها فوجدناها غاية في حُسن الترتيب والنظام والتنسيق رُصَّت طرقاتها بالحصى الملون كحديقة الحيوان عندنا.
ويرى الداخل في مدخلها نافورة عظيمة تصب ماءها في بحيرة جميلة دارت حولها المقاعد لجلوس المتنزهين، غُرِست أشجارها وأزهارها على تل مرتفع يسير الإنسان في طرقاتها صاعدًا متعرجًا حتى ينتهي إلى أعلاه، فيرى مظلة الموسيقى غُطِّيت بالزجاج الملون الجميل نُسِّقت حولها الكراسي والمقاعد، وبه تماثيل كثيرة محيطة بفناء واسع، وقد أُخِذت صورنا الشمسية فيه.
وبهذه الحديقة نافورات صغيرة ترمي مياهها على زرع عريض الأوراق على هيئة نقط متفرقة فتسقط عليها وتسيل كأنها اللؤلؤ المنثور، فأوقفنا هذا المنظر الجميل ردحًا من الزمن.
ومن هذا المكان تشرف على سطوح المنازل وعلى الجبل المحيط بجزء من المدينة المكسو سفحه بأشجار الفاكهة المتنوعة، فكان المنظر شهيًّا أغرانا أن نقف نتأمل في محاسنه نصف ساعة. ثم خرجنا من هذه الحديقة عائدين في شوارع أخرى.
وقد أدى بنا السير إلى ميدان واسع يحيط به مبانٍ ليست ضخمة يُسمَّى ميدان «الدومو»، به نافورة وسط حوض تصب فيه وفي هذا الحوض قاعدة مرتفعة عليها تمثال فيل أُقِيمت فوقه صورة مسلة وكل هذا يكوِّن منظرًا غريبًا، وفي هذا الميدان أكبر كنيسة لهذه المدينة.
وقد تبينت وجوه القوم فرأيت أنها في ألوانها أميل إلى وجوه المصريين، نساؤهم بعيدون عن الخلاعة والتبرج كما أنهن لا يستعملن الأصباغ إلا قليلًا.
والحركة في الشوارع ليست مثلها في المدن الإيطالية الكبيرة. والمدينة جميلة، بعض مبانيها على نظام خاص يخالف مباني المدن الإيطالية الأخرى.
ثم رجعنا إلى الباخرة إذ كانت الساعة السادسة والنصف مساء لتناول طعام العشاء، ننتظر قيام الباخرة الساعة التاسعة مساء، وقد تأخرت عن موعدها نصف ساعة، وعند إقلاعها من الميناء وقف الركب في طرقاتها ليرى منظر المدينة من البحر ليلًا، فظهرت بأنوارها الساطعة التي كشفت ربواتها للناظرين، وهي تشبه بعض الشبه مدينة جنوة.
ويجدر أن أذكر بمناسبة تأخير قيام الباخرة عن موعدها أنني رأيت مواعيد القُطُر والبواخر في إيطاليا مضطربة، فلم تقم باخرة أو قطار في ميعاده المحدود إلا قليلًا. وقد سألت حضرة محمود بك عبده عن سبب الإخلال في المواعيد، فأجابني بأن الحالة كانت أشد من هذا بكثير لاضطراب الحالة السياسية حتى صار الإخلال بالنظام من لوازم العمال، وقد تحسنت الحالة كثيرًا أيام موسوليني بعد أن كانت الفوضى ضاربة أطنابها، وكل شخص في إيطاليا الآن يشعر بالتحسين الكبير في كل شيء، ومع هذا فإن بعضهم يقومون في وجهه ويودون إبعاده عن الحكم لأغراض نفسية وحزبية، وقد اتخذوا مقتل «ماتيوتي» النائب الاشتراكي الكبير الذي كان يعارض كثيرًا في سياسة موسوليني سلاحًا يحاربونه به ليصلوا إلى أغراضهم، وقد نجحوا بعض النجاح في ذلك وغيروا نفوس بعض الشعب على موسوليني. وقد رأيت وأنا بمدينة ميلانو التي هي مدينة العمال صورة «ماتيوتي» معلقة على جدران حوائطها مكتوبًا تحتها «ليحي ماتيوتي!» مما يدل على تغير النفوس من حكم موسوليني، وكل هذا وهو قابض على أزمَّة الحكم بيد من حديد ويهدد أعداءه في خطبه بجيشه العظيم. وقد انتشر جنود الفاشست في كل مكان حتى في المحطات يراقبون الناس مراقبة شديدة في الدخول والخروج، يسهلون لهم أعمالهم ويمنعون الغش والرشوة التي لا تزال باقية إلى الآن وإن كانت قليلة جدًّا بالنسبة إلى الحالة الأولى.
وقد حدثت مظاهرات كبيرة ضد موسوليني والفاشست في مدن إيطاليا مثل نابلي وغيرها عندما عثروا على جثة «ماتيوتي» مهشمة، وطلبت امرأته أن تنام بجواره ليلة قبل دفنه، فرجاها الفاشست في أن تمتنع عن هذا خوفًا من تهييج الشعب فقبلت ذلك بعد مشقة كبيرة. ولكن ما لبثت الحالة أن رجعت إلى ما كانت عليه وأمكنه أن يتغلب على أعدائه.
وموسوليني محبوب عند أكثرية الشعب ويعدون أيامه أيام إصلاح ونظام، ولو لم يكن ذلك ما تسنى لموسوليني أن يسيطر على شعب عريق في المجد والتاريخ بقوة جيشه وسلاحه. وقد عرفنا من تاريخ الأمم ما يعزز ذلك الاعتقاد وأن الأمم لا تُحكَم إلا بإرادتها، لأن مدة الظلم قصيرة مقامة على غير أساس وعدل مهما هدَّد صاحبها وأوعد. والتفريق سبب من أسباب طول مدة الظلم، كما أن الاتحاد قوة لا تهي وسبب من أسباب تقلص ظل الظالم.
ونقول إنه لو نزع كل منا ما في صدره من غل وحقد، وباعد ضميره عن بغض الغير وحب الانتقام والتشفي، وجعل غرضه خدمة وطنه خدمة حقة، وتعاون الناس جميعًا في الوصول إلى هذا الغرض؛ لما كان ما نحن عليه الآن من التباغض والتنابذ، والتقاطع والتدابر، حتى فتحنا ثلمات كثيرة في صفوفنا ولجها العدو بسهولة وفرقنا أيدي سبا، وأتى على البقية الباقية من اتحادنا ونحن لا نعتبر ولا نتعظ، بل غشَّى بصائرنا وطمس على قلوبنا حب الانتقام والنكاية، فذهب ريحنا وحقت علينا كلمة العذاب والخِذْلان.
فاللهم قيض لنا من ينقذنا من هذه الهاوية المظلمة، ويهدينا إلى سواء السبيل، حتى لا نُحرَم من إشراق شمس الحرية التي يتعشقها كل كائن حي حتى الطيور في سمائها والسموك في مائها!