من قطانيا إلى الإسكندرية
أقلعت بنا الباخرة من ميناء قطانيا الساعة التاسعة مساءً، فوقفنا في طرقاتها لنرى منظر المدينة ليلًا فظهرت ربواتها العالية مجللة بالأنوار المتألقة تشبه في منظرها العام مدينة جنوة، وما زلنا نراقبها وضواحيها حتى توارت عنا فقصدنا مخادعنا، ونمنا مستريحين حتى أصبح الصباح فرأيت البحر ساكنًا هادئًا فحمدت الله على ذلك، وجلست على كرسي أستقبل نسيم البحر العليل لا أشعر باهتزاز ولا اضطراب. وقد أصبحنا بعد أن أقلعنا من ميناء قطانيا بين السماء والماء لا نرى جبالًا ولا مدنًا ولا جزرًا كما كنا نراها من حين إلى آخر من جنوة إلى قطانيا، لأن الباخرة بينهما كانت تسير قريبة من الشاطئ فكانت تمر بتلك المناظر التي تؤنسنا، أما الآن فلا إذ نحن متوجهون إلى الإسكندرية فلا ترسو الباخرة إلا في مينائها.
وقد كنا كل يوم نتعرف إلى جملة من الركب في الباخرة من المتوطنين مصر وجلُّهم من إيطاليا فكان الاجتماع شهيًّا، وقد أصبحنا كأسرة واحدة نجلس على المائدة ضاحكين مسرورين.
وفي صباح اليوم الثاني لنزوحنا من مدينة قطانيا هب الهواء شديدًا فعلت الأمواج سطح البحر وظهرت الرغوات البيضاء، وتحركت الباخرة وأخذت تعلو وتهبط وتميل يمنة ويسرة، ولكنها لم تخشَ صولة البحر بل أخذت تشق لها طريقًا بين الأمواج الهائلة مما جعلها تندحر أمامها، وهذا ثاني منظر رأيته مخيفًا والأول في بحر المنش، ومع اضطراب السفينة لم يحدث للركب هلع ولا ذعر.
ثم لاحت لنا أشباح جزيرة قنديا الساعة الثانية وما زالت تقترب منا حتى كنا الساعة الثالثة أمامها، فبرزت جبالها الشامخة يتقطع عليها السحاب، وتلالها المرتفعة المكسو بعضها بالحشائش والأشجار.
وقد رأينا منها الجزء الصخري المجاور للبحر الذي ليس به بلاد ولا سكان، وقد علت الأمواج واضطرب البحر أثناء مرورنا بالجزيرة مما غيَّر البحر عما ألفناه في عودتنا، وقد أخبرنا ربان الباخرة أن هذه الأمواج ستهدأ الساعة السادسة مساء وقد كان ذلك، فإنها بعد هذه الساعة أخذت الأمواج في الهدوء والسكينة حتى انمحت عند ذهابنا إلى النوم.
وقد أذكرتني رؤية هذه الجزيرة «فنزيلوس» الذي لعب بسكانها وببلاد اليونان دورًا مهمًّا وأظهر دهاءً كبيرًا، فانتشر ذكره حتى بلغ آذان ملك اليونان فاستدعاه ليكون وزيرًا له ومشيرًا، فنال عنده وعند عامة الشعب منزلة سامية وعاهد الملك على أن يخلص له ويساعده. وقد طرأت على بلاد اليونان حوادث لم يفز فيها كثيرًا، فخرج من بلاده متجولًا في فرنسا وإنكلترا ليجد له جوًّا صالحًا يبذل فيه المساعي ضد تركيا، فتمكن من تحريض إنكلترا عليها حتى يتصيد في الماء العكر، ونتج عن مساعيه وقوع الحرب بين اليونان وتركيا بعد أن أخذ وعدًا صادقًا من إنكلترا بإمداد بلاده بالمال الكافي، ولكن الزمن لم يحقق حلمه إذ تغلب الترك على اليونان وكسروهم شر كسرة تُعَد من أعاجيب الحروب وفنونها.
فلما رأى أن سياسته كانت شرًّا ووبالًا على بلاده فرَّ مع زوجته وابنه إلى فرنسا بعد أن أخذ كثيرًا من المال مما يجعلهم في بحبوحة وخفض العيش، وترك بلاده تقاسي آلام نتيجة أعماله وظهر لهم مقدار البلايا والرزايا التي جرها عليهم، فكرهوه ونقموا عليه بعد الاحترام والتقديس، وساد الاضطراب والاختلال بلاد اليونان وقامت الثورات المتعددة إلى الآن ولا يُعلَم ماذا تكون نتيجة أمرهم.
وقد استمرت السفينة تسير أمام الجزيرة إلى الساعة السابعة ليلًا. وهي شهيرة بتصدير الصابون المسمى باسمها، وكذا العسل والفواكه والزيتون، ولها تجارة كبيرة في هذه الأنواع مع مصر.
ولقد كان أغلب ركاب الباخرة على جانب عظيم من الأخلاق وحُسن الحديث وحب الألفة، يمازح بعضنا بعضًا رجالًا ونساءً فتياتٍ وفتيانًا.
ومما لفت نظري أن شيخًا إيطاليًّا تتدلى لحيته إلى صدره طويل القامة واسع العينين جميل المحيا حلو الحديث، وإن كانت الأيام قد محت سواد شعره، تصحبه ابنته العذراء. هذا الشيخ كان يدعو ابنته للعزف على المعزف (البيانو) وهو يرقص بين الحاضرين على نغماته ويوقعها بفيه، فكان مظهرًا من مظاهر التسلية والمجون، كما أنه كان يتولى العزف ويكلف ابنته الرقص ويدعو بعض الفتيات إلى ذلك، فكانت كل واحدة تقوم بدورها مما جعلنا في سرور عظيم.
وقد كان ذلك موضع الغرابة عندي لأني لم آلف أن رجلًا مهما بلغت به خفة العقل أن يرقص أمام ابنته وهو في هذه السن ولا في غيره، كما أنه لا ينبغي له مهما كانت الظروف والأحوال أن يكلف ابنته الرقص أمامه وأمام الحاضرين، ولكن للقوم عادات وحالات ليست لنا، ولهم حياة في أسرهم لا يسمح الشرقي لنفسه بها، لأنه يعتقد أن ذلك يذهب بجلاله واحترامه أمام أولاده وزوجه، بل يجعلهم يحطمون الفوارق والآداب الواجب اتباعها أمامه، وهذا هو اعتقادي.
وأرى، ولكل شخص رأيه، أن الآداب في الأسر الشرقية أرقى منها في الأسر الغربية.
وفي اليوم الثالث قمت من نومي نشطًا مسرورًا وصعدت فوق ظهر الباخرة فوجدت الهواء بليلًا والنسيم عليلًا فارتاحت نفسي لذلك، لأنه لم يبقَ على الوصول إلى مدينة الإسكندرية إلا هذا اليوم وليلته.
وفي هذا اليوم تعرفت بشاب عراقي يسكن بغداد جاب أكثر ممالك أوروبا، يُسمَّى «جورج يوسف عذاريا»، فقد قضى فيها خمسة أشهر، وهو من الشبان الأذكياء.
وقد حدثني عن العراق من وجهة التعليم فقال إن أهله ليسوا على جانب كبير فيه، وإن الأمية ضاربة أطنابها، وإن جزءًا كبيرًا منهم باقٍ على بدويته، يسكنون الجبال والخيام، بعيدين عن كل مدنية وحضارة وليس عندهم ميل إلى التعليم.
أما الحالة السياسية هناك فبعض أهل العراق يرغبون في بقاء الإنكليز في بلادهم، خوفًا من تطلع الأمم المجاورة إلى بلادهم، خصوصًا الترك وقد ذاقوا مرارة حكمهم القديم، حتى يشتد ساعدهم ويقوون على القيام بشئون أنفسهم ويكوِّنون لهم جيشًا يمكنهم أن ينتفعوا به عند الطوارئ، عند ذلك يسعون في التخلص من الإنكليز واستقلال بلادهم.
فقلت له هيهات أن يتخلصوا من ناب الإنكليز إذا كانت هذه أفكارهم، لأن الإنكليز أعطونا أكثر من ثلاثة وستين وعدًا لم يبروا في واحد منها، ولو بقي جندي إنكليزي واحد في العراق أو في مصر لاعتُبِرتا محتلتين. كما حُكِي عن «جحا» أنه أراد بيع بيته واشترط على الشاري أن يبقى له ملك مسمار في البيت فامتنع الشاري عن شرائه، ولكن كثيرًا من الحاضرين قالوا له: ماذا عسى يصنع هذا المسمار حتى تترك فرصة شراء البيت؟! فاقتنع بكلامهم واشتراه، ولكن جحا كان يزور مسماره كل يوم وقت الغداء والعشاء فيزاحم أهل البيت مزاحمة أضرت بهم، فكلمه صاحب البيت في هذا فأجابه بأنه يتمتع بما له من الحق الذي اشترطه لنفسه، فلا يجد الرجل سبيلًا إلى التخلص منه، ولما ضايقه اضطُرَّ إلى الخروج من البيت وتركه له.
فقال: نحن نعلم ذلك، ولكن ما الحيلة وهم متوغلون في كل شيء؟
فقلت له: أما نحن فلسنا تاركين لهم أمرنا ولو زعموا لأنفسهم أن لهم عندنا ألف مسمار.
وقد حدثني أن أفراد الأمة العراقية لا يرغبون في مفارقة أوطانهم ليروا عجائب أوروبا وأمريكا، ولم يُظهِر الرغبة في ذلك إلا أفراد يُعَدون على الأصابع، ويمكن أن أكون أول شخص ساح هذه السياحة الكبيرة في بلاد أوروبا، وسأنشر ما علمته عن تلك البلاد متى رجعت إلى بلادي حتى أولد فيهم حب الهجرة والسياحة، لأن فوائدها أجل من أن تُحصَر، ولا يعرف ذلك إلا من عالجها وعلم ما فيها من الفوائد الجمة والعلم الغزير والاطلاع الواسع والفضل الكبير.
وهذا الفتى مراسل لجريدة فرنسية وإنكليزية وعربية وجريدة الهلال بمصر كما أخبرني بذلك.
وقد نمنا ليلتنا هذه التي يعقبها صباح الوصول إلى الإسكندرية فرحين مستريحين، ثم قمت مبكرًا فرأيت طيورًا بيضاء تطير قريبة من السفينة، فقلت: يا ألله! كأنها طيور «خرستوف كلمب» التي دلته إلى قرب النجاة والوصول إلى أمنيته، وهي كذلك دلتنا على قرب وصولنا إلى وطننا العزيز المفدَّى. وما وافت الساعة السادسة حتى لاحت لنا من بعد مدينة الإسكندرية، فوقفنا في طرقات الباخرة لنرى منظرها الجميل من البحر وكيفية دخول الباخرة الميناء حتى دخلتها الساعة السابعة صباحًا، وهنا رأيت الزوارق قد أحاطت بالباخرة ناشرة الأعلام المصرية ترفرف فوق الطرابيش الحمراء التي حُرِمنا رؤيتها زمنًا طويلًا، وهي تحمل الأطباء الذين يقابلون ربان الباخرة ليعرفوا منه ما في السفينة من مريض وصحيح، ومعهم ضباط الشرطة يتسلمون أجوزة الركاب ويعلمونها دليلًا على السماح لهم بالنزول من الباخرة مقابل شيء من النقود.
ولما رست الباخرة غصَّت الميناء بالمنتظرين، وأخذت المناديل تلوح من الجانبين ونحن ننظر إليهم. ثم رجعنا إلى داخل الباخرة منتظرين إعلام أجوزتنا، وبعد الانتهاء من ذلك سُمِح للمنتظرين والحمالين بالصعود إلى الباخرة، وهنا اختلط الحابل بالنابل واشتغل كلٌّ بنفسه، وافترق الأحباء الذين اجتمعوا بالباخرة زمنًا، ولبث كلٌّ يشيع الآخر بنظرات تشف عن أسف وانتهاء مدة السرور والاجتماع، ويبحث عن الطرق التي تسهل له الخلاص إلى المكس، وقد يبحث الإنسان عن حتفه بظلفه.
رأيت في مكس الإسكندرية ما لم أره في مملكة من الممالك، رأيت العطل كثيرًا والبحث دقيقًا، لا يكتفي العامل بما يراه أمامه في الحقائب بل يبحث بحثًا دقيقًا في كل ما تحمله من حقيبة وصرة وحذاء، فيقلب ما معك رأسًا على عقب فيفكك أوصاله ويباعد بين أجزائه ويسألك عن الثمن الذي اشتريت به، وإذا لم يرق له الثمن الذي رصدته في قائمة جُعِلت لذلك في المكس أخذ ما معك من الأشياء مبعثرة مفككة مفرقة، وعرضها على مثمِّن بالمكس أُعِد لذلك يحدد لها أثمانًا كما يشاء ويختار. وتمكث في انتظار وأخذ ورد نحو ساعتين حتى تسأم نفسك، وتكره أن تأتي بهدية لأولادك أو أقاربك من المشقة التي لا تراها في غير مكس الإسكندرية، مع قلة الذوق في المعاملة والجفاء في المخاطبة.
والويل لمن لم تكن لديه وصية يحملها لمستخدمي المكس، فإنه يقاسي الآلام ويعاني الصعاب. فإذا خلصت من هذا وقعت فيما هو أنكى لما يُفرَض عليك من ضريبة الحمالين التي لا تطاق والتي لا تتناسب مع عملهم، فإذا لم تسلم بها بادئ ذي بدء مكثت تحاول معهم مستحيلًا وتترقب مجيرًا، يجتمعون عليك كاللصوص فلا تخلص من يدهم حتى تدفع ما طلبوه صاغرًا وإلا حجزوك طول يومك، وتشعر شعورًا تامًّا بأنك لم تصادف طول سياحتك في الممالك والبلدان ما صادفته في ميناء الإسكندرية. وبعد الانتهاء من هذا كله ركبنا أول قطار قام من الإسكندرية إلى القاهرة فرحين بسلامة العودة.
هذه أيها القارئ الكريم نبذة عرضناها على مسمعك الشريف، ونظن أننا قد أبرمنا عليك في مشاهدات قد يكون فيها ما لا يتناسب مع رأيك، ولا يتصل بشعورك، ولا يمتزج بوجدانك، ولكننا رأينا أن نعرض أمامك ما شاهدناه كما يعرض البائع سلعه، لتكون متناول الأنظار فيختار منها الشاري ما يشاء. ونحن وإن كنا نعتقد أن بضاعتنا غير موفورة، ولكن تشجيعًا للعاملين من أهلينا قمنا بهذا الواجب على ضآلته.
وإنا نستودعك داعين الله سبحانه وتعالى أن يوفق كلًّا منا إلى خدمة بلاده بما يستطيع! والله المستعان.