في الباخرة
قصدتُ قضاء العطلة الصيفية في مرابع أوروبا لمشاهدة متاحفها وآثارها وزيارة معاهدها العلمية بقدر ما تسمح الظروف والأحوال.
وقد اعتزمت أن أدوِّن مذكرات مختصرة عن أهم ما أراه في تلك الممالك أثناء سياحتي، حتى لا أحرم أبناء وطني من الاطلاع على ما يهمهم الاطلاع عليه، مقتصرًا على مشاهداتي غير متعرض لذكر تاريخها.
أقلعت بنا الباخرة من الإسكندرية الساعة الثالثة مساء، فوصلنا إلى «سرقسطة» بجزيرة صقلية في اليوم الثالث لإقلاعها، فألقت مراسيها على بعد مائة متر تقريبًا من الشاطئ لضخامتها، ثم جعلت الزوارق تحف بنا لنقل من يرغب في النزول إلى المدينة، وكنت ممن يرغب في زيارة آثارها فدفعت أربعين «ليرة» إيطالية أجرة الركوب والمترجم ذهابًا وجيئة، فعبرنا بقية الميناء إلى الشاطئ في أحد الزوارق. وحين نزولنا تسلَّم منَّا رجل إيصالًا بما دفعنا من الأجرة، وركبنا عجلة أقلتنا إلى أهم أثر في المدينة، وهو جبل ضخم صخري حُفِر داخله إلى مسافة بعيدة تربو على مائة متر بعلوٍّ يختلف ما بين عشرين إلى ثلاثين مترًا تقريبًا، وهو أملس من الداخل، وكلما أوغلت فيه أظلم حتى لا تكاد تبصر شيئًا. وقد حفره الرومان القدماء قبل المسيح ليكون سجنًا لأشد الناس إجرامًا. وقد سألت عن كوة في أعلاه ينفذ منها خيط ضئيل من النور إلى داخله، فقيل لي إن الحارس كان يتسمع منها حديث المسجونين فيعرف نوع الحديث والمتحدثين، فيوقع الجزاء الصارم على كلِّ من يتحدث حديثًا محظورًا لا يتفق مع رغبة الحاكم، ولذا كان يخشى المسجون أن يتحدث إلى صاحبه أي حديث.
ومن مدهشات هذا الأثر أنك إذا دخلته ومزقت أي ورقة تردد صوتها بدوي مزعج. وقد سمعت من بعض المتحدثين أن الإنسان إذا واجه الحائط وتكلم همسًا يُسمَع صوته عاليًا على بُعْد مائة متر. وحدث أنه حين خروجنا سمعنا دويًّا هائلًا وفرقعة مزعجة اضطرب لها كل السائحين، فنظرنا فإذا الحارس يغلق الباب ليعرِّف السائحين أعجوبة من أعاجيب هذا الأثر.
وهذا الحفر غاية في الفخامة والعظمة يهولك منظره من الداخل والخارج، وتراه مكسوًّا بالحشائش الخضراء التي أكسبته رونقًا وجمالًا. وتعلوه دار قديمة جدًّا للتمثيل القديم مقاعدها المدرَّجة منحوتة في الجبل صفوفًا بعضها فوق بعض على شكل دائرة، ينتهي من أسفله بمقاعد وحُجَر صغيرة أُعِدَّت للقائمين بالتمثيل. وهو غاية في الإبداع والإتقان، يُدخِل في قلب الناظر روعة وجلالًا. ثم سرنا بعد ذلك إلى مشاهدة الأنفتياترو «المدرج»، وهو أيضًا منحوت في الصخر على هيئة المدرج الأول، غير أنه يختلف عنه في أن مقاعده تحيط بردهة واسعة.
وقد أخذني العجب لقيام الإنسان في الزمن القديم بهذه الأعمال الجسيمة مع عدم توافر الآلات التي تساعده على القيام بذلك.
وإذا ضاهيت أعمال المصريين القدماء والرومانيين القدماء أيضًا، وجدتَ مدنية الأمتين على جانب عظيم من العظمة والفخامة الدالتين على العلم الواسع والمقدرة الفائقة. ويُظَن أنه كان لهم آلات عجيبة سهَّلت لهم القيام بهذه الأعمال التي يقف الإنسان أمامها حائرًا مذهولًا. وهذه الآلات التي حفرت الجبال وجوَّفتها، وحدَّدت المسلات الهائلة من الصخور وأقامتها، ونقشت على سطوحها الكتابة والرسوم وزيَّنتها؛ لم تصل إلينا أخبارها، إما لأن المؤرخين لم يقيدوها، أو أنهم قيدوها ولكن أبادتها الحوادث وأهملتها الأيام وجر عليها الدهر ذيول النسيان، وبقيت بعض أعمالهم وآلاتهم العظيمة مجهولة، وربما كشفتها الأيام القادمة كما كشفت كثيرًا من أعمال المصريين القدماء وأبرزها الاستكشاف شيئًا فشيئًا.
رجعنا إلى الباخرة بعد زيارة مدينة «سرقسطة» فأقلعت بنا قاصدة مدينة «نابلي»، وسارت تشق عباب البحر غير مكترثة بأمواجه الهائلة، إلى أن وافت الساعة السادسة والنصف مساءً فظهر لنا من بُعْد بركان «أتنة»، ولكوني لم أشاهد بُركانًا قبل الآن، والمصوَّرات الجغرافية لا تبرز صورة صحيحة؛ ذُهِلت لرؤية ذلك البركان، وأمسيت واقفًا أمامه صامتًا كالعابد لا أحوِّل عنه نظري لحظة، أتأمل فيه وفي قدرة الخالق القدير الذي يُخرِج من جوف البحار نارًا ولهبًا.
وكلما قربت منه ازداد ضخامةً وارتفاعًا، وتبينت دخانه المتصاعد الذي لا ينقطع أبدًا، وما زلت أشاهد عظمته وضخامته حتى أسدل الظلام بيننا وبينه حجابًا كثيفًا. ومرَّت السفينة بسرعة الظليم حتى أشرفت على مدينتَي رجيو ومسينا إذ كانت الساعة الثامنة مساء، ولقد بهرني منظرهما بهرًا، ذلك لأنوارهما الساطعة التي تشق الظلام، إلى شوارعهما التي كأنها أسلاك من نور ممتدة إلى مسافات طويلة، مرصعة بأجزاء سوداء هي المنازل مجلَّلة بالأضواء فكان شكلها رائعًا. والمدينتان مشيدتان على سفحَي جبلين يكتنفان المضيق رجيو من اليمين ومسينا من اليسار، تتدرج منازلهما من أسفل الجبل إلى أعلاه. كما أكسبهما روعة وجمالًا وزادهما بهاءً نظام شوارعهما المستطيلة المتوازية الصاعدة من أسفل الجبل إلى أعلاه. وعلى الجملة فإن الكاتب القدير يعجز عن وصف تينك المدينتين ونظامهما وجمال وضعهما واتساع شوارعهما. وقد تساءلت: كيف أمن الناس غائلة هذا البركان فأعادوا تشييد هاتين المدينتين بنظام حديث وترتيب بديع؟! وكيف أمنوا ثَوَرانه مرة أخرى فيكون نصيبهم منه أخيرًا نصيبهم منه أولًا؟! مرت بنا السفينة سراعًا وقد أخذ العجب مأخذه من قلوبنا لعظمة البركان وجمال مدينتيه، ونمنا هذه الليلة ملء الجفون. وفي الساعة الخامسة صباحًا تيقظت على صياح الرفاق وضجيجهم فرحًا وسرورًا، لظهور الباخرة بين رأس «إسبرنتو» وجزيرة «كايري» الجميلة، والتي يعدها السياح جنة الدنيا لما تحويه من الفنادق البديعة التي يقصدها المصطافون والحدائق الغناء التي تحيط بمنازلها الحسناء الشاهقة. ومع أن سكانها قليلون فقد هيئوا فيها أسباب الراحة والهناء لكل مصطاف يقصدها. وبها مغارة تُسمَّى المغارة الزرقاء لزرقة مياهها، ولأن المنغمس فيها يراه الناظر أزرق كالفيروز، ويسير الناس فيها بالزوارق، ويبلغ طول تلك المغارة نحو ١٧٥ قدمًا، وعرضها يبلغ نحو عشرة أقدام، وارتفاع سقفها فوق رءوس السائرين لا يزيد عن أربعة أقدام.
وتظهر جزيرة «كايري» من بُعْد كأنها قاحلة، ولكنك إذا دخلتها ألفيتها جنة عالية قطوفها دانية، آهلة بالسكان، عامرة بالمصطافين والمتفرجين.
ثم ظهر لنا بركان «فيزوف» العظيم حين دخول السفينة خليج «نابلي»، وسنذكره بعدُ عند زيارتنا مدينة «بُومْبي». وفي الساعة السابعة صباحًا ألقت الباخرة مراسيها، فأسرع مندوبو الفنادق إلى الركاب صائحين كلٌّ باسم فندقه، فاخترنا النزول في فندق «ريفييرا»، ولذا سرنا مع مندوبها إلى مكتب التفتيش حيث فُتِّشت حقائبنا، ثم ركبنا سيارة إلى الفندق الذي قصدنا إليه فوجدناه فندقًا جميلًا يشرف على متنزه واسع مستطيل جدًّا، وممتد إلى شاطئ البحر تزينه الأشجار الباسقة والأزهار النضرة، وقد أُقِيمت على أبوابه الكثيرة عدة تماثيل مختلفة الأشكال غاية في الإبداع والإتقان، وبه طرق معبَّدة وملاهٍ متعددة يقصدها الناس زَرَافات ووُحدانًا، ولا يخلو المتنزه من الزائرين أكثر الليل.