مدينة بومبي
ذهبنا إلى المحطة التي يسافر الناس منها إلى مدينة بومبي وأخذنا جوازًا ﺑ «ثلاث عشرة ليرة»، ثم ركبنا القطار فسار بنا يخترق الطريق بين حدائق غنَّاء ومزارع نضرة، طورًا يعلو التلال وطورًا ينخفض وأخرى يدخل في نفق. وقد سار القطار ساعة في كروم العنب العظيمة الواسعة التي لم تر عيني أوسع منها. وليست كروم العنب محمولة على حوامل كما في مصر، بل معلَّقة في عمد قصيرة من الخشب وممتدة إلى ما جاورها من الأشجار الصغيرة، عُلِّقت بها بخيوط غليظة من لفائف النبات والأغصان على مسافات شاسعة لا يدرك الناظر غايتها، عناقيدها مدلَّاة تكاد تلمس فم السائر تحتها. وما زال القطار يجدُّ في السير ونحن وقوف في النوافذ نمتع النظر بهذه المشاهد الجميلة، حتى وصلنا إلى محطة مدينة بومبي بعد سير ساعة وربع ساعة لم يقف القطار في أثنائها إلا مرة واحدة، وهنا ذهبنا إلى حجرة أخذنا منها ورقة التصريح بالزيارة بعد دفع ثلاث «ليرات»، وقد صحبنا مترجم دفعنا له ٢٥ «ليرة» ليرشدنا إلى أهم أماكن الزيارة.
(١) فذلكة تاريخية عن مدينة بومبي
قد كان من أمر هذه المدينة أنه في سنة ٩٢ ميلادية ثار بركان ويزوف المجاور لها، وقذف من الحجارة والطين والحمم والمواد الأخرى الملتهبة المحرقة فوق هذه المدينة طبقة ردمتها وغطتها بسمك يُقدَّر بنحو ٢٠ قدمًا، فهلك في هذا الحادث من الأهالي آلاف، وفر من بقي من سكانها في جهات الأرض حاملين ما خف حمله وغلت قيمته. وقد دُفِنت المدينة وطُمِست آثارها ومُحِيت أخبارها من الأذهان بتقادم الزمان، وبقيت سرًّا مكتومًا في ضمير الدهر لا يعلم الناس عنها شيئًا، حتى حدث في القرن الخامس عشر أن بعض المهندسين كان يقوم بعمل من الأعمال في تلك الجهة فعثر على أساس بناء مدفون، فلم يهتم للبحث عنه ولم يعره التفاتًا. وبعد سنة ١٧٤٨ عثر أحد الفلاحين على بعض أوانٍ منزلية من النحاس وغيره، فتنبهت لذلك الأفكار واتجهت الأنظار إلى ما وراء ذلك، وأخذ الناس يتحدثون بهذا الأثر حتى بلغ ذلك آذان الملك شارل الثالث فأمر بالبحث عن تلك الآثار، وقد استمر العمل أعوامًا عديدة، وكلما وجدوا أثرًا نقلوه إلى متحف نابلي حتى استكشفوها، ولا يزال البحث عنها يكشف منها بقية مبانيها. ويظهر أن فيها بعض آثار لم يصل البحث إلى كشف اللثام عنها.
(٢) شوارع المدينة
أهمها شارعان كبيران، أحدهما يخترق المدينة من الشرق إلى الغرب والثاني من الشمال إلى الجنوب، ويبلغ اتساعه نحو عشرة أمتار، وله إفريزان ضيقان، وأرضه مرصوفة بالحجارة بعضها مستوية منحوتة وبعضها وعر تتخللها حفر كثيرة. وقد سألت المترجم عن ذلك فأخبرني أن الحاكم كان يكلف كل شخص يرصف ما أمام داره، فالغني يُعنَى برصفه رصفًا جيدًا والفقير يهمله.
ويقطع شارعَي المدينة شوارع مستقيمة متقاطعة كما هو الحال في المدن الحديثة، وعند تقابل الشوارع تجد أحجارًا مرتفعة من سطح الشارع ليتمكن المارُّون من العبور عليها عند حدوث الأخطار بحالة تسمح بمرور العجلات. وتلك الشوارع أضيق من الشارع العام وتشبه الدروب عندنا، ويتفرع من هذه الشوارع الضيقة منعطفات تبتدئ من الشوارع وتنتهي ببيت في آخرها.
وقد أرشدنا المترجم إلى منعطف فيه ماخور يدخله الإنسان من باب صغير فيجد طرقة ضيقة مستطيلة قد شُيِّد على جانبيها ست حُجَر، كل حجرة داخلها بناء يشبه مقاعد الفلاحين في القرى على ارتفاع نصف متر، وفي منتهى كل ارتفاع ما يشبه الوسادة، وفي نهاية الطرقة محل مرتفع يقف خلفه من يتقاضى الأجر من الداخلين إلى هذا الماخور، وهو مقفل ممنوع دخوله إلا للسائحين، وكل شوارع المدينة على هذا النظام والترتيب. وقد أعجبنا حمام كبير جدًّا معتنًى به كل الاعتناء، أحواضه مبنية بالرخام الأبيض الجميل على شكل دائرة، وهناك محل أول وثانٍ، وأحواض للماء الساخن والفاتر والبارد، ومحال أُعِدَّت للتدليك، ومقاعد ممتدة بطول الحمام للجلوس عليها، وأمكنة لخلع الملابس مشيدة بالرخام أو الآجر، وكل حجرة قبو، وبالحمام أحواض طويلة سوى التي ذكرناها كالتي تُستعمَل حديثًا في المنازل، وجدرانه وسُقُفه مزينة بالصور والتماثيل البديعة.
(٣) الحوانيت
تُفتَح في الشوارع الكبيرة والصغيرة منها حوانيت كثيرة كان يباع فيها أنواع ما يحتاج إليه أهل المدينة من مأكول ومشروب وملبوس، وجُلُّها بنظام واحد، ولا توجد حوانيت كبيرة. إنما الذي يلفت النظر منها حوانيت السوائل كالخمور والزيوت وغيرها، فإنها تُوضَع في خوابٍ من الرخام أو الخزف كالتي تُستعمَل عند الزيَّاتين عندنا أفواهها في عارضة كبيرة من الرخام بعرض الدكان، والمشتري يقف أمامها يأخذ ما يريد.
ولم نجد في هذه المدينة محلًّا يُستعمَل كقهوة، بل كل شخص يأخذ ما يريده وهو واقف، كما في إنكلترا وأمريكا بلاد العمل الآن، وعلى باب غالب الحوانيت تُستعمَل إشارة تدل على ما يباع فيه.
ومما يُلاحَظ في هذه المدينة أن أحياء الأغنياء والموسرين لا تجد في شوارعها حوانيت ولا محالَّ للبيع والشراء، وهذه الحالة تجدها الآن في أحياء الأغنياء والموسرين عندنا.
(٤) المنازل
مما شاهدته في تشييد منازل الأغنياء منهم أن غالبها يُبنَى خلف الحوانيت، يصل الإنسان منها بطرقة ممتدة من الشارع حتى يصل إلى باب الدار، وليست لها نوافذ على الشارع، يحيط بها سور داخله ردهة واسعة، وحول هذه الردهة حُجَر تُفتَح فيها، وليس بها نوافذ إلا بابها، وتلك الحجر ضيقة لا تزيد عن ثلاثة أمتار في مثلها، مع أن الردهة واسعة جدًّا ليست مسقوفة ليصل إلى المنزل الضوء والحرارة. وفي وسط الردهة فسقية تجتمع فيها مياه الأمطار تسير منها إلى صهريج تحت الدار تُخزَّن فيه إلى أيام القيظ. وفي الردهة يُفتَح باب على حديقة واسعة من الجهة الشمالية غالبًا. وحول الحديقة حجرة للزائرين، وحجرة الأكل وهي أوسعها، وحجرة النوم وهي ضيقة، وبين حجرة الزائرين وحجرة الأكل حجرة الخدم.
وحجرة الأكل غاية في الفخامة بها كثير من الرسوم والنقوش البديعة التي تسر النفس، وتبعث على تناول الطعام بشهية. وفي كل بيت من بيوت الأغنياء حجرة خاصة يقابل فيها رب المنزل السيدات الأجنبيات منعزلة عن حجر الدار، مزخرفة ومزينة بأحسن ما يوجد من النقوش والصور، وتشتمل على صور تحمرُّ لها وجه الإنسانية خجلًا، ومن أجل ذلك قام على بابها حارس لا يسمح للسيدات بدخولها، وقد حاولت بعض السيدات الأمريكيات أن تدخلها فلم تفلح، وخرجنا من هذه الحجرة منا الضاحك ومنا الصاخب ومنا الذاهل من حيوانية الإنسان وانغماسه في الشهوات بحالة تلحقه بالحيوان الأعجم. وبحوائط المنزل دواخل وخوارج تُستعمَل لمنافع متعددة كوضع مائدة الأكل وأواني الشرب والمصابيح، وحُجَر داخل البناء وأخرى يُصعَد لها بسُلَّمين أو يُنزَل لها كذلك مما يشبه تمام الشبه المنازل القديمة بمصر، ومن زار منزل أبي الذهب في حارة الروم بمصر يمكنه أن يدرك حالة المنازل عند الرومان القدماء، غير أن منازلهم عديمة النوافذ من الخارج. وتكثر النقوش والتماثيل حسب ثروة الرجل ومنزلته، وفي منازل الأغنياء عدة صور واضحة ترمز إلى حالة دينية وثنية وخرافات قديمة وزراعية وتجارية.
وقد زرنا منزلًا مستكشَفًا حديثًا أخبرنا المترجم أنه كان لأخوين تاجرين أفرغا فيه جهدهما من حيث الزخرف والبناء وآثاره باقية لم تُنقَل إلى متحف نابلي، لأن كل أثر قيِّم يُنقَل إلى متحف نابلي يُوضَع محله من الصور الحديثة ما يشير إلى الصور القديمة إلا هذا المنزل فإنه لم يُنقَل ما فيه، ولذا عُنُوا بعمل حواجز لآثاره حتى لا تمسها يد السائحين. وفي هذا المنزل حديقة جميلة محاطة بسياج من حديد نُصِب عليه عدة تماثيل وطيور وسباع وتماثيل غلمان صغار غاية في الإبداع والإتقان. وبه حجرة كبيرة زُخرِفت أكبر زخرف، ورُسِم على جدرانها ما كانوا يتعاطونه من المهن بحالة واضحة جدًّا من زراعة وتجارة وحرث ودرس وصيد ورقص، وصور القرابين التي كانوا يقدمونها لآلهتهم، وغير ذلك مما يبين حالتهم الدينية والمعاشية. وقد كثر السائحون في هذا المنزل، وكذا الراسمون وناقلو صوره. هذا وصف بيت من بيوت الأغنياء، أما منازل الفقراء فهي منحطة في كل زمان ومكان، فالمنزل منها يحتوي على حجرتين أو ثلاث عديمة النوافذ حيث تحوي فرنًا ورحًى، وهي عبارة عن قاعدة مرتفعة من الحجر الصلد تعلوها مثلها على هيئة أسطوانية مفرطحة من أعلاها. وتلك المنازل واطئة الأسقف تنتهي بقبو كمنازل الفلاحين في القرى الصغيرة عندنا. هذا ما يقال بوجه الإجمال عن منازل مدينة بومبي.
(٥) المعابد
في هذه المدينة معابد كثيرة أرشدنا إليها المترجم، فيها كثير من الأصنام والتماثيل، ورسومها بديعة باقية واضحة بها كيفية تقديم الذبائح للآلهة. ولهم اعتناء كبير ببيت العبادة الذي تظهر عليه الفخامة والعظمة، وهذا المعبد متسع أُقِيم في صدره مذبح الإله والإلهة معبودَي أهل المدينة، وقد أُقِيم في جهته الشرقية والغربية تمثالان لهما متقابلان يشيران إلى بعضهما البعض. وقد رأينا ثقبًا خلف رأس الآلهة كان يستعمله حكام تلك المدينة للإجابة عن أسئلة الأهالي التي كانت تُوجَّه للآلهة، فتخرج نبرات الكلام من فم الآلهة فيعتقد السائل أنها هي التي تجيبه. وبذا بقيت سلطة الحكام الدينية والزمانية سائدة زمنًا طويلًا.
ومن الآثار التي تستحق الذكر ميدان واسع جدًّا تحيط به المباني من كل جهة، مقامة على بواكٍ من الأحجار الضخمة، وداخل هذه البواكي وخارجها عدة مقاعد، وفي نهايته الشمالية مبنى عالٍ يقف عليه الخطيب ويلقي ما يريد من الأمور الهامة على عامة الشعب، وفي نهايته الجنوبية محل لجلوس الحاكم وأسرته وهو غاية في الأبهة والعظمة.
(٦) دار التمثيل
من الأشياء التي يقصدها السائح ويهتم لرؤيتها في هذه المدينة دار التمثيل، فإنها حُفِرت في الصخر على هيئة دائرة، مقاعدها مدرَّجة من أعلى إلى أسفل، تضيق كلما سفلت حتى تصل إلى دائرة صغيرة. وقد أُعِدَّت في هذه الدار محالُّ للحكام والأشراف والمتوسطين والعامة والخدم، فلا تتجاوز طائفة من هذه الطوائف محالها المعدة لها. وقد شُيِّد فوق هذا الحفر مبانٍ تحيط به فيها يجلس الناس ليروا الممثلين من أعلاه، وهذه الدائرة لا يتجاوزها الخدم وعامة الناس. ويُقدَّر عمق هذه الدار عن سطح الأرض بنحو خمسة وعشرين مترًا تقريبًا، وشكلها يشبه تمام المشابهة المدرج الروماني القديم الذي مر وصفه عند وصف آثار مدينة سرقسطة.
(٧) متحف بومبي
عند إزالة الردم عن مساكن هذه المدينة وجدوا كثيرًا من هياكل الرجال والنساء والأطفال وبعض الحيوانات محجرة، وأنواع الحلى بين ذهبية وفضية مما لا يدخل تحت حصر، وقد وُجِدت هياكل بعضهم في الأزقة بهيئة تدل على الفزع والخوف، وقد شيدوا متحفًا في هذه المدينة نقلوا إليه بعض آثارها فيه. رأينا الرجال والنساء محجرة بالهيئة التي ماتوا عليها عند حلول الحادث، فمنهم النائم على ظهره، والنائم على جنبه، والمنقبض الجسم والمنبسطه، وغير ذلك من الأشكال التي يمكن أن يموت عليها الإنسان، ومثل ذلك بعض الحيوانات والطيور والأبواب الخشبية المتحجرة. وفيه جميع أنواع النقود والموازين والمكاييل والحلي، وغير ذلك مما كان يُستعمَل عندهم من تماثيل العبادات وآلات الدرس والحرث. فسبحان من يرث الأرض ومن عليها!