من لوزان إلى جنيف
أزمعنا السفر من لوزان إلى جنيف فقصدنا محطتها الساعة التاسعة والنصف صباحًا، فسار القطار يخترق مروجًا فيحاء وجنات واسعة تابعًا شاطئ البحيرة في سيره، ووصف هذه المناظر لا يزيد كثيرًا عن أوصافنا التي وصفنا بها أرض سويسرا حين قدومنا إليها. غير أن الجزء الذي قطعناه من لوزان إلى جنيف كان قليل الجبال والتلال، ومما يمتاز به هذا الجزء جمال المناظر والقصور المنتثرة على شاطئ البحيرة هنا وهناك وكثرة الحدائق والجنان حتى مدينة جنيف، وقد وصلنا إليها الساعة العاشرة صباحًا.
(١) مدينة جنيف
مدينة فخمة المباني، متسعة الشوارع، كثيرة الحوانيت، مُشيَّد جزء منها في منبسط من الأرض على ضفاف البحيرة المسماة باسمها، منازلها مستديرة حول البحيرة، حيث تستدق عند خروج نهر الرين منها الذي يشطرها شطرين عظيمين، وقد أُقِيمت الجسور الكثيرة على مجراه لتربط أجزاء المدينة بعضها ببعض. صُنِعت عدة منحدرات في مجرى النهر عند خروجه من البحيرة، يُنتفَع بها في توليد الكهرباء وإدارة بعض المعامل والمصانع، فترى الماء عند انحداره كأنه فيروز ينتثر على الأحجار. وقد امتازت هذه البحيرة بصفاء مائها وزرقته، تمخر فيها الجواري الحسان المزينة جميعها بالأعلام، تحمل السائحين والمتنزهين والمتفرجين الذين يقصدون المدن الجميلة الواقعة على شواطئها، مثل مدينة أفيان وفيفيه ولوزان وغيرها من المصايف المشهورة. ويحيط بهذه البحيرة جبال بهية مجلَّلة قممها بالثلوج الناصعة البياض، والتي تتلون بألوان جميلة زرقاء وخضراء وبيضاء في غضون مرور الشمس عليها، يقصدها أكابر البلاد وأغنياؤها والسائحون، وفي أكثرها قصور لبعض الأغنياء وفنادق جميلة شُيِّدت على قمم الجبال، تستهوي الأفئدة بمناظرها الفتانة وشكلها البديع.
ولا أكذب القارئ إذا تحدثت إليه بذهولي لرؤية هذه المناظر مجتمعة؛ زرقة ماء، وجبال شماء، وثلوج ناصعة بيضاء، وقصور فيحاء، وحدائق غناء.
ولجنيف شهرة كبيرة بمدارسها الجامعة، يقصدها الطلاب من كل الأنحاء، وبها معامل كثيرة لصنع الساعات، وأهلها يتكلمون الفرنسية لمجاورتها لفرنسا. وأعظم متنزهاتها البحيرة وما يحيط بها من آكام وجبال شُيِّدت فوقها القصور، وطرق وُشِّيت بالأشجار، وحدائق رُصِّعت ببدائع الأزهار خصوصًا ما وقع منها على شاطئ البحيرة. وقد أُنشِئ عليها شارع طويل جدًّا عبارة عن متنزه يكتظ بالمتنزهين الذاهبين والآيبين، فيكون لذلك أثر في النفس وراحة في القلب، به أنواع كثيرة من الأشجار ضَخُمت جذورها، واشتبكت فروعها، زُيِّنت جوانبه بأنواع الأزهار والحشائش، ولا غرابة في أن يكون أهل جنيف أهل رقة ولطف وذكاء متوقد.
ولقد شعرنا بتغيير الجو فجأة، حيث انتقلنا من جو لوزان البارد إلى جو جنيف الحار، مع أنها لا تبعد عن لوزان إلا بمقدار ساعة في القطار السريع، ويظهر أن تشييد لوزان على سفح الجبل أكسب جوها برودة.
ولقد داخلني سرور لا يُوصَف لرؤية منبع نهر الرين من نهاية البحيرة المستدَقِّ عند جنيف، حيث أُقِيمت عليه عدة قناطر (كباري) تربط أجزاء شوارع المدينة بعضها ببعض، وبين كل جسرين تكوَّن جزء صغير من النهر يسبح فيه البجع والزوارق البخارية التي تحمل المتفرجين والمتنزهين تغدو وتروح بهم فرحين مسرورين. وقد ركبنا زورقًا اخترق بنا عدة أجزاء منها مارًّا من فتحات القناطر، وقد تكوَّنت في بعض هذه الأجزاء من المياه جزيرة صغيرة، يصل الإنسان إليها من طريق ممتد من أحد الجسور المقامة على النهر، بها متنزه جميل وأشجار باسقة وقهوة جميلة، أُقِيم في وسطها تمثال فخم للعالم الفيلسوف الذائع الصيت «جان جاك روسو».
ومما زاد سرورنا أننا نزلنا في فندق على شاطئ البحيرة (يُسمَّى روجينا)، واخترنا حجرتنا في الطابق الرابع فظهرت لنا البحيرة ليلًا تتلألأ بها الأنوار الساطعة اللامعة، فينعكس ضوءها في الماء كزئبق رجراج أو فضة نُثِرت عليها أحجار الماس، والزوارق تغدو وتروح بالسائحين يجتلون مناظر هذه البحيرة الجميلة التي أبدعت تنسيقها يد الطبيعة.
(٢) عصبة الأمم
في اليوم الذي وصلنا فيه إلى جنيف قصدنا زيارة دار عصبة الأمم، فرأينا بناء ضخمًا فسيحًا يشرف على بحيرة جنيف تزينه حديقة كبيرة فاستأذنا في الدخول فأُذِن لنا، وقد صحبنا في زيارتها أحد مستخدميها العارفين فأرانا الحجرة التي يجتمع فيها أعضاء العصبة ومقاعد محرري الجرائد فيها، والمتفرجون يجلسون خلف محرري الجرائد إذا كانت الجلسة علنية. والحجرة واسعة جميلة المنظر مزيَّنة بالرسوم والنقوش، وفي آخرها الجنوبي مبنى يرتفع قليلًا وُضِعت عليه المنضدة المكسوَّة بالمخمل الأزرق وحولها كراسي أُعِدَّت لجلوس الأعضاء، وقد فُرِشت أرضها ببساط أزرق من لون غطاء المنضدة.
وبدار العصبة مكتبة من أحسن المكاتب نظامًا وتنسيقًا، مباحة لكل من يريد الاطلاع على أنواع العلوم والفنون، صُفَّت فيها المناضد والمقاعد ليجلس عليها بعض المغرمين بالاطلاع ردحًا من الزمن.
وقد رأيت في هذه الدار حجرة واسعة مستطيلة، رُصِّت فيها الكراسي على هيئة مدرج «أنفتياترو» قليل الانحدار، وقد أُعِدَّت هذه للجمعية العمومية لعصبة الأمم لإلقاء الخطب والمحاضرات في الشئون الهامة، يحضرها كثير من ذوي الحيثيات والمقامات الرفيعة، مزينة جدرانها وأسقفها بالصور الجميلة والنقوش البديعة. وقد سألنا مرشدنا عن عدد الدول التي انتظمت في سلكها، فأخبرنا أنها تبلغ نحو أربع وخمسين دولة، ولأربعة وأربعين دولة موظفون بهذه الدار يقومون بشئون دولهم فيها. وقد اتفق وجودنا وقت انصراف الموظفين فرأيناهم يتقاطرون رجالًا ونساء من جميع جهاتها مختلفي الوجوه والألوان والأزياء، فنراهم بادئ ذي بدء سائحين يزورون هذه الجمعية كما نزور، فسُرِرت جدًّا لمشاهدتها، وتذكرت ما يحكم به هؤلاء الأعضاء على الأمم والشعوب المهيضة الجناح، ويقضون فيما يقع بينهم من المشاكل والمنازعات السياسية. وهي مفيدة نافعة إذا تجرد أعضاؤها عن الهوى، وعدلوا وأقاموا الوزن بالقسطاس ولم ينحازوا إلى أممهم ويعملوا لصالح بلادهم فحسب ويقضوا القضاء المبرم على الأمم العاجزة التي لا حول لها ولا قوة فتقع فريسة بين مخالبهم الحادة المهلكة.
وهنا وددت لو كنا مستقلين استقلالًا حقيقيًّا متمتعين بحريتنا حتى نصبح في عداد الأمم الحية الحرة، التي نفضت عنها غبار الذل والهوان ورتعت في بحبوحة العز والهناءة وكسرت قيود الاستعباد، ويكون لنا ممثلون يشغلون محلًّا في دار هذه العصبة ويعملون لخير بلادنا ويدفعون عنا غائلة الأمم القوية الفاتكة.
(٣) جامعة جنيف
واقعة في الجزء المرتفع من المدينة على شمالي البحيرة ونهر الرين، أمامها ميدان فسيح به بعض التماثيل، غير أن بناءها أقل ضخامة من جامعة لوزان. رأينا فيها حجر الدراسة مشغولة بالطلاب والطالبات، ملتفِّين حول منضدة طويلة والمعلم جالس في نهايتها يلقي دروسه بهدوء وسكينة، بحيث لا يُسمَع له صوت خارج حجرته. وبعض الحجر هُيِّئت على نظام مدرج، والطالبات والطلاب مختلطون لا حاجز بينهم حين تُلقَى دروسهم من المعلم.
وقد كان الدرس في هذا اليوم يبتدئ الساعة التاسعة صباحًا، فلما حان الوقت وجدنا الطلاب والطالبات والسائحين والمتفرجين يتقاطرون من كل الأنحاء. وحضور الدرس مباح لكل شخص مقابل جزء قليل من الدراهم، فأردنا أن نأخذ جوازًا بحضور درس من الدروس حتى نطَّلع على نظام التدريس وكيفية الإلقاء، ولكنا أُخبِرنا أن الجواز يُؤخَذ قبل الدرس بيوم.
والجامعة واقعة في حديقة كبيرة جدًّا، في نهايتها الشرقية تماثيل عدة لعظماء رجال السياسة والعلم من أهل سويسرا، وقد كُتِب على كل تمثال منها بعض أعماله العظيمة التي تدل على مقدار ما له من الفضل والهمة في رقي أمته.
وهكذا تعيش الأمم الحية بتمثيل عظماء رجالها لأبنائها حتى يتسنى لهم النسج على منوالهم والاقتداء بأعمالهم، فينشئون على حب الفضيلة والعمل لأمتهم وإنكار الذات وتضحية المصالح الخصوصية بجانب المصالح العمومية، فيسعى الكل متكاتفين متساندين في رفعة أوطانهم وترقية شئونها مادِّيًّا وعلميًّا واقتصاديًّا، فيعيش الأفراد ناعمي البال مطمئنِّي القلب.
ومما يلفت النظر في سويسرا بنوع خاص أن دواوين الحكومة ومصالحها ليس بها حُجَّاب ولا خدم يرشدونك إلى محل رؤسائهم.
ولقد ذهبنا إلى زيارة مصلحة الصحة بناءً على ما كتبه مفتش الحدود بين إيطاليا وسويسرا على الجوازات من ضرورة عرض أنفسنا على طبيب الصحة، فلما ذهبنا إليه لم نجد من يرشدنا إلى حجرة الطبيب الخاص لعدم وجود خدم ولا حجاب ولا سعاة على الأبواب الخاصة بالموظفين، بل يدخل الإنسان دار الحكومة كأنه داخل في محل خالٍ من الموظفين، لأن كل موظف داخل حجرته المغلقة. وما زلنا نتنقل من طرقة إلى أخرى ومن محل لآخر ونسأل من يصادفنا من الناس حتى وصلنا إلى حجرة الطبيب، فاطَّلع على الجوازات وأعطانا شهادة بأننا أصحاء الأجسام.
وقد كُتِب على باب حجرة كل موظف هذه العبارة: «ادخل بدون استئذان»، وحينئذٍ خطر ببالي — والضد أقرب خطورًا بالبال — ما يُكتَب على أبواب الموظفين هذه العبارة «ممنوع الدخول»، كأنه يأتي أمرًا منكرًا داخل حجرته، مع ما يهولك من كثرة الخدم والسعاة الواقفين على بابه. فإذا أردت الدخول في مصلحة من المصالح المصرية لقضاء شأن من الشئون أخافك من يقابلونك من الخدم والسعاة والحُجَّاب، فلا يمكنك مقابلة الرئيس حتى تقابل الحاجب ثم كاتم السر (السكرتير) إلى الانتظار الممل، بل إن لم ينظر الكاتم إليك نظرة عطف ورحمة خرجت في بعض الأحيان من المصلحة بدون مقابلة الرئيس فتتعطل أعمالك ويذهب وقتك النفيس سدى، فتفضل عدم قضاء مصلحتك على ما تراه من الذل والهوان في سبيلها.
فمتى يأتي الوقت الذي يعرف فيه الموظف المصري واجبه، ويحترم حقوق الناس ويسعى في إنجازها، ويعلم أنه ما جلس على كرسيه إلا لخدمة الناس وقضاء مصالحهم، وأنه يأخذ أجره من عرق جبينهم، وتمتنع هذه الكلفة والفوارق الهائلة التي تجعل الهوة سحيقة بين الموظفين والأهلين، ولا تكون مصالح الحكومة كالتكايا يقيم الموظفون فيها بدون إنجاز أعمال الناس؟ والويل لك إذا دخلت مصلحة لم تعرف بها أحدًا! فإنه لا يُقضَى لك أمر ولا يُنجَز لك عمل، وإذا طالبت بحقك سمعت ما تكره، وربما كان ذلك سببًا في أنه لا تُقضَى حاجتك إلا إذا توسلت بالرئيس وكان عادلًا لطيفًا.
وقد عجبت كل العجب من عمل السويسريين ونظامهم في أعمالهم، وإنجازها بالترتيب لا فرق بين قريب وغريب وحقير وعظيم.
وعلى الجملة فقد جمعت سويسرا بين محاسن الطبيعة ومحاسن الأخلاق والنظام في الأعمال.
ولكون هذه المدينة لم تحوِ آثارًا ولا متاحف لم تطب لنا الإقامة فيها كثيرًا، وقد غادرناها إلى مدينة باريس قصبة فرنسا إن شاء الله.