سبحان الذي أعطى!
أولَ مرة جئت فيها إلى باريس، تصورت أني قادمٌ إلى الفردوس؛ الشوارع من البلور، والأرض من الزجاج، وحيطان البيوت من ذهب، والحدائق من شجر الجنة. وتصورت النساء من جنسٍ آخر؛ الجلد زبدة، والدم قشطة، والكلام نغمٌ موسيقي، خليطٌ من أناشيد كاهن فرعوني، ومزامير داود، وتراتيل سماوية للشيخ رفعت. وتصورت نساء باريس بلا فضلات؛ لأن بطونهن بلا أمعاء، وأفواههن للهمسات والقُبلات، وليس للمضغ والطحن وازدراد الفول والكبة النية.
وتصورت أني سأجد في باريس سوقًا رائجة، فأنا شرقي، والشرق ساحر، وأنا أسمَر، والسَّمار مطلوب، ولا بد سأعثر على حوريةٍ آخر شخلعة وآخر دعدعة، والخدود تفاح، والشفايف عجمية، والعيون فناجيل شاي، والخَصر مخنوق ومزنوق، والصوت مبحوح ومجروح، نسوان سبحان الذي صوَّر والذي كوَّر! وسبحان الذي خلق الناس أشكالًا على ألوانٍ كأسنان العبد لله! يا قوة الله، لو التقيت ببنت من عائلةٍ فوشية أو بنت من قبيلة روشيه، فلا بد في فرنسا عائلات!
وحتمًا ولا بد البنت وارثة، ضياع تملك، سيارات تركب، بلاطي فرو تلبس، فرنكات كثيرة تحوز، والود ودي لو تعانقنا وتناغشنا، ويا سلام لو الهوا أصبح سوا؛ فتزوجنا وتناجبنا، وعشنا في التبات والنبات، وخلفنا صبيان وبنات، وربما أتحول إلى كونت أو فونت، وسيعوض الله صبرنا خيرًا، وسأعيد المجد الذي ولَّى، فأنا أيضًا من قبيلةٍ كان عددها يفوق عدد سكان أوروبا، وجَدي الأول كان له شرف الاشتراك في بناء سد مأرب، وجدي الثاني كان رئيس طاقم النجارين الذي صنع عرش بلقيس، وجدي الرابع سار على قدميه من جزيرة العرب إلى جزيرة شندويل بالصعيد غازيًا في سبيل الله، وكان يرحمه الله يعشق أكل الفول والبصل والمخلل، وجاءت منيَّتُه بسبب امتلاء بطنه، ربما، لأول مرة منذ ولادته!
ومن يدري، ربما كانت حكمة إلهية أنني اشتغلت في الصحافة، وأنني سافرت إلى باريس، وأنني سأصير ثريًّا ألمعيًّا لوذعيًّا يشار إليه بالحذاء! ونَدْر على العبد لله أن أقيم تماثيل للعائلة في السوربون وفي ميدان الكونكورد وفي مركز الباجور منوفية!
ولكن كيف الكلام والسلام والعبد لله يعرف مِن الفرنسية مقدار ما تعرفه أمي من آداب اللغة اليابانية! وأول الحب كلمة، وطريق الحب الملاغية، وعلى رأي الشاعر العربي: الحب همسة ثم لمسة ثم موعد فلقاء فكلام فغرام فمأذون فزواج ثم الذي منه!
وانا في الهمس ولا عصفور من عصافير الكناريا، وفي اللمس ولا نشَّال في الموسكي، وفي اللقاء ولا عزرائيل الموت، وانا في الكلام أعوذ بالله؛ في العربي بربند، في الفرنساوي أنا أبكم، ولكن من قال: إن الكلام ضروري والحكاوي لازمة! وعمنا شارلي شابلن مثلًا أدهش العالم بلا كلام، واشتهر بدون حاجة إلى استعمال اللسان، وانا في اللغة الصامتة ولا محمد علي كلاي في الوزن التقيل، وأحد جدودي كان من مواليد قرية الصامتة محافظة أسيوط! وأنا أصلح أستاذًا لآداب اللغة الصامتة في جامعة باريس.
ولكن المشكلة هل أستعمل الصامتة الفصحى أم الصامتة العامية؟ ولو أنني استعملت الصامتة الفصحى، فنهار أبويا أزرق عند الدكتور لويس عوض، ولو استعملت الصامتة العامية، فنهار أبويا أسود عند المجمع اللغوي.
وأنقذني من حيرتي مرور بنت لهلوبة ولا أرنب بري، شعنونة ولا قنفد في براري البصرة، بنت متحركة متكركرة متشنكرة، واتفضلي شاي، لا متشكر! وغمزت لها بعيني فلم تستجب، مسحت بيدي على صلعة راسي من باب التحية والسلام، فساقت التقل على العبد لله، وتصنَّعت الدلال، وتقصَّعت ذات اليمين وذات الشمال، ثم دارت ثم لفَّت، ثم أفلتت، ثم أدبرت، ثم أقبلت آخر حلاوة وآخر انسجام!
وانتهزت الفرصة فغمزت وهرشت، وإذا بالبنت الفرنساوية تطُب في غرام دباديب العبد لله! ودنت واقتربت وسألتني في دلال: هل أنت مريض يا مسكين يا عدمان!
قلت: حاشا لله وما بي إلا مرض حمَّى حبك، وحرارة الشوق إلى قربك.
قالت: ولكنك تكسِر عينك؛ وهذا دليل مرض العين، وتهرش رأسك؛ وهذا دليل على وجود قملة في شعرك!
قلت للست الغندورة الكركورة: أما الرمد، فأعوذ بالله، أما القمل فموجود في الشعر وبكثرة، وهو تراث في العائلة منذ العصر القملي الأول، ولكني غمزت لك من باب الغرام، وهرشت من باب التحية والسلام.
قالت: إذن أنت عاشق ولهان؟ قلت: وواقع لشوشتي في بحر الغرام.
وجرَّتني البنت من يدي جرةً قوية، فوقعت على الفسقية! وصرختْ: أيها الشرقي الطيب.
قلت: عفوًا يا سيدتي، أنا لست من الشرقية، بل من مركز الباجور منوفية، ومن قرية بهناس بالذات، وهي شيء مختلف عن بهناس البلد وبهناس المحطة، ثم أنا لست من النوع الطيب أو المكسور، ولكني فحل منوفي على كيفك، في العراك وفي الهراش أنفع، وعلى حلقات الغرام محسوبك ولا تايسون على حلقات الملاكمة!
وسحبتني البنت الحلوة وعكمتني كشرطي عاكم واحد صايع تحرِّي، وقالت: بنا أيها الغلبان العدمان نغزو باريس؛ نغزوها من اليمين ومن الشمال، ونغزوها من الخلف ومن الأمام، وهتفتُ مسرورًا مبسوطًا من سندبيس إلى باريس: سبحان الذي أعطى! البنت المضروبة اللهلوبة، اتضح للعبد لله أنها تلميذة في السوربون تتعلم، وتسعى للدكترة في علم الأجناس، وتستطيع بنظرةٍ أن تكتشف من سحنة البني آدم إذا كان أصله من العرعر أم من البربر، والبنت رقيقة وقطقوطة وسمباتيك، وتعشق الحياة والحب، وتموت في صنف الرجال.
وسحبتني كالجاموسة إلى الحي اللاتيني (كارتييه لاتان)، وفي مقهًى بسيط دخلنا، وفي زاويةٍ منعزلة جلسنا، وأكلنا صندوق بطاطس مقلية وكسرة خبز لا تصلح لسد رمق طفل من أطفال العروبة السِّمان.
قالت البنت الحلوة وهي تمضغ طعامها كالعصفورة الكركورة دون أن تفتح فمها، وهي مسألة عويصة؛ لأنني أحيانًا أرى أمعاء عويس ابن خالتي إذا هجم على مائدة الطعام! ولكن هذه البنت اللهلوبة تحرك أضراسها دون أن تفتح شفتيها، معجزة لا شك تفوق معجزة الأخوين رايت عندما انطلقا يحلقان في السماء!
المهم، البنت نظرت في وجه العبد لله، ثم حقَّقت ثم دقَّقت ثم حدَّقت، ثم واصلت التحقيق والتدقيق والنظرات، وخُيِّل إليَّ أنها اكتشفت أنني لم أغسل وجهي ذلك الصباح، فاعتذرت لها بأنني من أسرة مصرية لا يغسل أفرادها وجوههم إلا من مياه ترعة الزمر التي تتهادى بالقرب من الأهرام! ولهذا فإن أغلب أفراد عائلتي وجوههم لا يمسُّها الماء؛ والسبب أن مياه ترعة الزمر جفَّت منذ الأسرة الفرعونية الرابعة، ولم يعد فيها إلا طين وضفادع وبقايا أعشاب!
وتجاوزت البنت الحلوة المضروبة تفسيري المادي الجدلي لتاريخ الأسرة، ثم صرخت صرخةً مدويةً وقالت: أنت نادر أيها الإنسان.
قلت وأنا شديد التعجب: أنا نادر! من قال هذا الكلام! إنني من عائلةٍ تجيد عملية النسل وبوفرة، وستجدين في كل بلدٍ عربي عشرات من قبيلة السعدني، بعضهم في الوظائف، وبعضهم صياع، وبعضهم عنده فلوس وبعضهم عنده برد، وبعضهم يقيم في الفنادق، وبعضهم يقيم في السجون، ومن طنجة إلى صنعاء؛ ولهذا مدحنا الشاعر العربي الأموي بهذا البيت المشهور جدًّا: «اكتسبتم شرفًا على شرف بنو سعدان»، وكان يقصد أننا — بهذا الانتشار الخرافي على الأرض العربية — قد حققنا الوحدة دون الانتظار لإعلانها رسميًّا من جانب الحكومات!
أما الشرف الثاني الذي اكتسبناه، فهو هذا التنوع الكمي والكيفي لأفراد العائلة، فمنهم عساكر شرطة وموظفو ضرائب وقضاة محاكم ونشَّالون وقطَّاع طرق، وهذا يعني أن العائلة تمثل تحالف قوى الشعب العامل، فالكل يعمل ويسعى على رزقه حسَب التساهيل والأحوال، ومن حق عائلتي الآن أن يكون لها منبر أو تنظيم أو حزب، لا شيء يُهِمُّ؛ على رأي إحسان عبد القدوس.
وصرخت البنت الحلوة وقالت: عظامُ وجهك أيها الرجل.
قلت: ما لها عظام وجهي؟ إذا كانت هناك بعض الانتفاخات أو بعض النتوءات فهذه من آثار المعارك الشهيرة التي خضتها؛ دفاعًا عن حرية الرأي ضد بعض أصحاب المطاعم الجشعين الذين يصرُّون على تحصيل ثمن وجبات الطعام!
وتأوهت البنت الغندورة وقالت: أنا أدرس السلالات وعلم الأجناس، وعظام وجهك تؤكد أنك ربما كنت الرجل الوحيد الباقي من العصر الحميري!
وطق شرار الغضب من عيني وقلت في ثورةٍ حقيقية: العصر الحميري!
قالت: نعم، أنت بالطبع سمعت عن العصر الجليدي والعصر الحديدي، هناك أيضًا العصر الحميري؛ حين كان الإنسان والحمار سواءً بسواء، ورغم أن علماء الأرض نقبوا كل شبر وفتشوا كل ركن، وقلبوا الأرض والرمل ومياه المحيطات، إلا أنهم فشلوا في العثور على جثةٍ واحدة من العصر الحميري، ثم ها هي الصدفة السعيدة تسوق في طريقي بجثةٍ حية ونموذج متحرك من بقايا العصر الذي ضاع …
وانفشخ فمي عن ابتسامةٍ تهكُّمية عميقة، وقلت: عيبكم أيها الفرنسيون أنكم تدمنون القراءة، ولكنكم لا تنظرون في الواقع الموجود في الحياة، الشخص منكم يتناول إفطاره وعينه على سطور الجريدة، ويده شغالة على ودنه؛ من الطبق إلى فمه، وأحيانًا من الطبق إلى منخاره.
وسر الأبدية أننا دائمو التحديق إما تحت وإما فوق! بعضنا ينظر تحت قدميه في الطريق؛ ليقرأ قصة الحياة مكتوبةً على الأسفلت، أو بحثًا عن فرنك سقط من جيبٍ مثقوب، أو عقب سيجارة لم تأكله النار الوالعة، وبعضنا ينظر فوق باحثًا عن القوة الأعظم؛ طالبًا منا في أدبٍ عظيم: عشا الغلابة عليك يا رب!
وتجاوزت البنت المضروبة فلسفاتي وسنكحاتي وقالت: أسنانك أيها الرجل اللُّقطة، قلت: وما لها أسناني هي الأخرى؟! إذا كنتِ تقصدين السوس الذي ينخر فيها، فهذا بسبب قفزي المستمر من صنف السجاير إلى آخر، وانا اتعلمت من البداية على السجاير الهلب، ثم قفزت فجأةً إلى الكنت والروثمان؛ مما كان سببًا في اضطراب أسناني وتهيُّج السوس عندي، أما إذا كنت تقصدين هبابها وسوادها، فهذا بسبب تعصبي ضد الغرب ومصنوعات الغرب، فأنا لا أستعمل فرشاة أسنان، وأيضًا لأنني لست من السلف الصالح، فأنا لا أستعمل المسواك، ولكني رجل عملي أستخدم عيدان الكبريت، ولما كانت صناعة الكبريت في العالم العربي قد تطورت كثيرًا، وبدلًا من صنع العيدان من فروع الشجر صاروا يصنعونها من الجِلَّة؛ أقصد من روث البهائم، أقصد، أيتها الست الفرنساوية، من تواليت البهائم ولا مؤاخذة!
قالت وهي تدون بعض العبارات على الورق: أنيابك بالذات تؤكد نظريتي تمامًا، وأنك من العصر الحميري على وجه التحديد، ومن أكَلة البرسيم!
قلت وأنا أضحك على خيبة الست الفرنساوية: وهل في ذلك شك؟ إنني منذ ولدتني أمي وأنا نازل أكل في الملوخية والخبيزة والسبانخ، كما أني أيضًا من أنصار الفجل والجرجير والكرَّات، وكلها منتجات برسيمية!
قالت: إذن نظريتي صحيحة.
قلت: بدون شك، لولا حكاية العصر الحميري؛ فهي ليست على ما يرام أيتها الست الخواجاية.
قالت: اسمع، أنا متأكدة مما أقول، نظرياتي في علم الأجناس صائبة ولا تخيب، المهم الآن انتهاز الفرصة، فأنت موجود على قيد الحياة، وأنا أدرس عصرك وأصلك وفصلك، ولكن شكلك يوحي بأنك ستموت عما قريب؛ ولذلك يجب المحافظة عليك؛ ولهذا أيضًا أدعوك الآن إلى بيتي، فلا بد من المحافظة عليك بأي ثمن وبأي وسيلة وبكل سبيل.
وقلت للست الغندورة: وهل في بيتك مستشفى وأدوية وحكيم وفيتامينات تقوية وصودا وراوند؛ لزوم انتظام الهضم وضبط الطبيعة ولا مؤاخذة؟
وردَّت البنت المضروبة: المسألة ليست محتاجة إلى مستشفى ولا دواء، المسألة وما فيها أريدك معي في البيت؛ كي أدخل معك في الفراش، قلت: في الفراش! كده مرة واحدة! قالت: نعم، فقلت: عظيم، ولكن بشرط؛ أن يكون هناك كاسات هواء لزوم ظهري، ولزقة أمريكاني لزوم ضلوعي، وكافور للدهان وحزام صوف؛ كي ألف به جسمي.
قالت: لا شيء من هذا كله أيها الحمار، لا شيء على الإطلاق، وكل ما هناك أنني أريد منك طفلًا …
وقلت للبنت الغندورة الكركورة: يا عيب الشوم، تريدين الزواج مني وأنا رجل ذهبت مع الحجيج إلى بيت الله، ثم إني متزوج من بهانة بنت الأشمر، وعلى سنة الله ورسوله، كما أنني صاحب بنين وبنات. وضحكت البنت الغندورة فخرج نور من بين أسنانها، وعزفت فرقة موسيقى وترية من حلقها، ثم كركرت وقالت: وأنا فقط أريد ولدًا، ولكن لم أفكر في الزواج بك.
فقلت للبنت الغندورة: يا قوة الله! تريدين ولدًا سفاحًا من العبد لله؟ وهَبي أني وضعت لوحًا من الثلج على ضميري، وعصابة سوداء على ذقني، وقطعت تذكرة ذهاب بلا عودة لشرفي، وأنني رضخت وأذعنت لمشيئتك، وأنني وهبتك ولدًا، فما هو موقفك من الجيران وكلام الناس؟ وهل ستزعُمين أنه لقيط عثرتِ عليه عند باب أحد المساجد؟ أم ستقولين: إنه ابن أختك المسافرة لبلاد تأكل الثعابين؟ ثم ولنفرض أن بوليس الآداب تحرَّى وشدك على سجن الاستئناف، ماذا سوف تقولين للقاضي وللبيه المأمور والبيه السجَّان؟
قوَّست البنت حاجبيها وقالت في اندهاشٍ وارتعاش: ولماذا يحدث هذا؟ ألأني رُزقت بغلام؟
قلت: نعم وألف نعم، ولو حدث مثل هذا لواحدة بنت مثل حضرتكم في محافظة أسيوط، لقتلوها وشربوا من دمها، ولو حدث مثل هذا لبنت من مركز إبشواي محافظة الفيوم، لقتلوها فقط.
وقالت البنت الكركورة: عندكم شيء وعندنا شيء آخر؛ عندنا كل شيء ممكن وكل شيء مباح، وفي شهادة الميلاد اكتب اسمه جون واسم أبوه لاشيء، وتتعهده الحكومة إذا عطس وإذا برد وإذا — لا قدر الله — أصابته نزلة معوية من النوع الحاد، وهو في المدرسة بالمجان، وفي الجامعة أهلًا وسهلًا وفي العمل، وكل واحد حسب الذكاوة والاجتهاد، وقد يصبح يومًا رئيسًا للوزراء أو رئيسًا للدولة أو فنانًا أشهر من شارع الشانزليزيه!
قلت: يا أرحم الراحمين ارحمنا، بلادكم بطَّالة وعيشتكم حرام، ومصيركم أسود من قرن الخرُّوب، وإذا كانت شوارعكم مبلطة وأنواركم ملعلطة، وأتوبيساتكم خالية وعمارتكم عالية، فغاية الأمر أن الله يمهل ولا يهمل، وغدًا سيطويكم الطوفان أو تأكلكم الدودة أو يسلط عليكم من لا يرحم، ولا يذر على الأرض من الكافرين إنسانًا.
وقالت البنت اللهلوبة: ما رأيك؟
قلت: في إيه؟
قالت: أريد منك ولدًا، والاحتفاظ بجنسك واجب، وأنت الحمار الوحيد الباقي من العصر الحميري، ولو حدث لك حادث، لا قدر الله، لضاعت من تاريخ البشرية حلقة هامة، ولعلها من أهم الحلقات.
وقلت: على رسلك أيتها البنت الجهولة، إذا كنت تُصرين على أنني من العصر الحميري، فالعصر الحميري موجود الآن وبخير، وكل عائلتي في مركز الباجور منوفية أحياء يُرزقون، والخالق الناطق على هيئتي وشاكلتي، ثم هناك مئات وألوف وملايين مثلي منتشرون في الأرض.
قالت: أنت تبالغ، ولا أظن أن أحدًا مثلك موجود على ظهر الأرض الآن، والعلماء منذ مئات السنين ينقبون الأرض وينبشون القبور؛ بحثًا عن حمار واحد من ذلك العصر، ولكن دون جدوى، وها أنت الآن بعظمك ولحمك وشحمك تسعى بيننا في الأرض، إنني أرتجف من شدة الرعب، وأخشى الآن أن يمر عالم من العلماء فيقع بصره عليك فيستدعي البوليس ويخطفوك مني، وربما وضعوك في متحف اللوفر، أو حددوا إقامتك في مستشفى سان مارك!
وقلت وأنا أنفخ من شدة الغيظ: يا سبحان الواحد القهار! أقسم لك برأس جدي الشيخ معوض أن العصر الحميري إياه قائمٌ ومنتصب، والحركة فيه الآن على قدم وساق، اخطفي رجلك، أيتها الصبية، إلى أي بلد في العالم الثالث أو حيث تعيش أسرتنا، وستجدين ألوف الحمير مثلي؛ تأكل وتشرب وتعمل وتقبض وتسعى وتنام، وستجدين أغلبهم على الكراسي وفي المناصب؛ فمنهم زعماء، ومنهم وزراء، ومنهم علماء أيضًا، وهذا هو العجب العجاب.
وشهقت البنت الحلوة وقالت: علماء! أصدِّقُ كل شيء إلا هذا.
قلت: ما أقوله هو الصدق بعينه، ولكي أزيدَكِ علمًا أقول لك: إن عدد حمَلة الدكتوراه في بلادنا أكثر بكثير من حملة الدكتوراه في باريس.
قالت: هل عندكم علماء في الذرة؟
قلت: نعم، ولا، نعم إذا كان المقصود هو الذرة التي هي من فصيلة الشعير والحنطة، ولا؛ إذا كنت تقصدين الذرة التي كانت لا تتجزأ ثم جاء أينشتاين ليثبت أنها تتجزأ، ثم جاءت المصانع فجزَّأتها بالفعل، وجربتها على البشر في اليابان فمات نصف مليون في لحظة؛ هذه الذرة لا نعرفها ولا نسعى إلى ذلك، وإن كنا في الحقيقة والتاريخ لدينا علماء في الزُّغطة.
قالت: وما هي الزغطة؟
قلت: هذا علم فوق مستواكم، والسبب أنكم تأكلون المسلوق، ونحن نأكل الملفوف والمكبوس والمغموس والمعفوص أيضًا.
قالت البنت وقد سرحت: يا للهول، إنكم أغرب مما كنت أتصور، وهذا يدعوني إلى أن أتمسك بك أكثر، ولا بد أن يكون لي منك طفل يخلِّد سلالتك المنقرضة، ويحيي ذكرك الذي ينبغي أن يدوم، انهض أيها الحمار الخالد واتبعني، وشدتني شدةً قوية فوقعت على الإفريز وانكسرت ساعتي الإبريز، وانطلقت بي إلى حيث تعلم ولا أعلم!