المعرَّش … والمكرَّش
قالت البنت الفرنساوية وهي تتمطع وتتقصع: حدثني أيها الحمار الصغير عن التخطيط في بلادكم وعن المخطِّطين عندكم.
قلت لها: أما عن التخطيط فليس في الدنيا كلها تخطيط مثل الذي عندنا. أما عن المخططين، فكل الشعب يخطط؛ أحيانًا على ورق، وأحيانًا على حجر، وأحيانًا على بلاط، ادخلي أي دورة مياه في بلاد العصر الحميري، ستكتشفين أن كل الرواد تركوا خطوطًا على الجدران وعلى الأبواب؛ البعض يرسم أشكالًا، والبعض يكتب خطوطًا. انظري إلى أي سيارة تمشي في بلاد العصر الحميري، ستجدين خطوطًا ظاهرة عند المؤخرة: «يا ناس يا شر بطلوا قر»، و«ما تبصليش بعينك الرضية، بُص للفلوس اللي مدفوعة فيَّه»، و«الحلوة دي اسمها فوزية»، و«الصبر جميل»، و«سيري بأمر الله»، و«مع السلامة يا أبو وردة».
و«الوزة دي بالشيء الفلاني» في بعض مناطق أخرى من العصر الحميري ستجدين كتابة من نوع آخر: «إلى الأمام يا محروسة إلى الأمام»، و«يا متعاظم، أعظم منك الكاظم»، و«أحسن البلاد فين، بلد الحسن والحسين».
قالت: ولماذا يخططون على الحوائط وعلى السيارات ولا يخططون على الورق؟
قلت: لأن التخطيط على الورق يعتبر في بعض بلاد العصر الحميري نوعًا من أنواع المغامرة، وفي بعض المناطق من العصر الحميري يعتبر التخطيط على الورق جريمة، والورقة المخطوطة يسمونها منشورًا، ومخطِّط المنشور يقدَّم للمحاكمة بتهمة قلب نظام الحكم بالقوة.
قلت: مسألة غريبة! كيف يُتهم بقلب نظام الحكم بالقوة، مع أن كل الذي ارتكبه جريمة التخطيط على ورقة؟!
قلت: جريمة حمل الورقة في بعض مناطق العصر الحميري أخطر من جريمة حمل السلاح، والقاتل في العصر الحميري يعامَل في سجنه معاملةً أفضل من معاملة مخطط المنشور، ويفرَج عنه بنصف المدة إذا كان حسن السير والسلوك. أما مخطط المنشور فهو سيقضي مدة الحكم كلها، ويوم الإفراج عنه لن يغادر السجن إلى الشارع كبقية المساجين، ولكنه سيخرج من السجن إلى إدارة الأمن في بعض المناطق، وإلى المباحث العامة في مناطق أخرى، وإلى مباحث أمن الدولة في مناطق ثانية، وإلى المخابرات في مناطق ثالثة، وقد يخرج إلى الشارع، وقد يعود مرةً أخرى إلى سجنه.
قالت البنت وقد اندهشت وانبهشت: هل يوجد قاضٍ في هذه الأماكن؟
قلت لها: السجن في بلاد العصر الحميري لا يحتاج دخوله دائمًا إلى حكم من القاضي؛ فلدينا في العصر الحميري أبواب أخرى لدخول السجن؛ وذلك تيسيرًا على المواطنين من الذهاب إلى المحكمة والوقوف في قفص الاتهام، واستئجار محامين، وصدور أحكام، ثم استئناف هذه الأحكام، وبدلًا من خوتة الدماغ ووجع القلب، يمكن للمواطن أن يذهب إلى السجن بأمر من المباحث أو بتليفون من المخابرات، أو بكلمة من عضو القيادة القطرية، أو بأمر شفوي من عضو اللجنة الشعبية، أو لمجرد رغبة أبداها الشيخ، وأحيانًا ابن الشيخ.
قالت: ويدخل الشخص السجن من أجل هذا؟
قلت: ويموت فيه أحيانًا، ومن يسأل عنه يدخل السجن هو الآخر.
قالت: وهل هذا الإجراء قانوني؟
قلت: بل هو القانون ذاته؛ فلدينا في بعض بلاد العصر الحميري قوانين شتى؛ قانون الطوارئ، قانون الاشتباه، قانون التحفظ، قانون الاعتقال. وبعض قرارات الاعتقال تصدر أحيانًا وبهذا النص: «يعتقل أفراد جماعة كذا أو تنظيم كذا والمتعاطفون معهم والموجودون عندهم لحظة اعتقالهم»، ويتصادف أن يكون لدى المقبوض عليه لحظةَ اعتقاله عمته بهانة وزوجها سيد أحمد وابنها عبد الشكور، فيلقى القبض عليهم أيضًا ويذهبون في الكازوزة يا وِلداه. في منطقة من مناطق العصر الحميري اتُّهم بعض الوزراء بتدبير انقلاب ضد نظام الحكم.
قالت البنت تستفسر: تقول وزراء!
قلت: نعم، ولعلمك، لم يكن هؤلاء المتهمون وزراء فقط، ولكن كان من بينهم أعضاء في مجلس قيادة الثورة، وقد قُدم بعض هؤلاء المتهمين إلى المحاكمة، وذهب بعضهم إلى المعتقل، أما الذين حوكموا، فقد أُعدم بعضهم وذهب البعض الآخر إلى السجن، أما المعتقلون، فلا أحد يعلم مصيرهم حتى الآن.
قالت البنت وهي تكاد تبكي: ولماذا لم يحتج أهلهم؟ ولماذا لم يلجئوا إلى جمعيات حقوق الإنسان؟
قلت: في العصر الحميري لدينا جمعيات لرعاية الحيوان، أما الإنسان فليس له جمعية حتى الآن؛ باعتبار أن هذا الصنف من المخلوقات يمثل أقلية وسط أغلبية من جميع أصناف الحيوان، ثم إن هؤلاء المعتقلين ليس لهم أهل على الإطلاق.
قالت: تعني أنهم مقطوعون من شجرة؟
قلت: لا أعني هذا بالضبط، ولكن هؤلاء المعتقلين كان لديهم أهل قبل الاعتقال، وبعد الاعتقال اختفى أهلهم بقدرة قادر.
قالت البنت الخواجاية: هل ذهبوا في رحلة سياحية للترويح عن النفس؟
قلت: بل ذهبوا حيث لا يعلم إلا الله، وبعض الحكومات في العصر الحميري تأخذ بالأحوط، وما دام فرد من الأسرة متهمًا بالتآمر، فلا بد أنه من أسرة كلهم متآمرون، ولما كنا نؤمن بنظرية العرق دساس، فلا بد من أخذ الحيطة حتى لا يتكرر نفس الأمر من نفس الأسرة، وطبقًا لهذه النظرية، تلجأ بعض الحكومات في العصر الحميري إلى القبض على أسرة المتآمر الذي ذهب وراء الشمس، بينما تلجأ حكومات أخرى إلى القبض على الأسرة ونسف بيتها من أساسه.
قالت: وإلى أين يذهبون؟
قلت: في السجون مكان لكل مواطن، ومن تضيق به السجون تتسع له المقابر.
قالت البنت وقد داخت وناحت: ولكن لماذا كل هذه الاحتياطات؟ هل كان ينوي هؤلاء المتآمرون إغراق البلاد وإحراق العباد؟
قلت: بل كانوا يريدون ما هو أبشع من ذلك.
قالت: أبشع من ذلك! ما هو هذا الشيء الذي أبشع من إغراق البلاد وإحراق العباد؟
قلت: هناك ما هو أبشع.
قالت: وما هو هذا الأبشع؟
قلت: كانوا يريدون الاستيلاء على الحكم.
قالت: كل هذا من أجل رغبتهم في الاستيلاء على الحكم! وفيها إيه إذا استولوا على الحكم! ربما كانت لديهم برامج أفضل أو حلول للمشاكل أسرع.
قلت: عيبك يا خواجاية، أنك بالرغم من بقائك إلى جواري كل هذه المدة الطويلة، لا تزالين تعيشين خارج العصر الحميري، وتفكرين بعقلية غير عقليته.
قالت: ما الذي تعنيه؟
قلت: الخلاف حول الحكم عندكم يتلخص في خلاف بين البرامج؛ حزب يريد تطبيق الاشتراكية، وحزب يدعو إلى الرأسمالية، حزب ينادي بالتأميم، وحزب يدعو إلى فتح الباب أمام الرأسمال الحر، ويرفع شعار دعه يعمل، دعه يمر؛ ولذلك لا بأس من تداول الحكم في بلادكم؛ ناس تحكم وناس تعارض حتى يأتيها الحكم.
ولكن الحكم في العصر الحميري يختلف؛ الحكم في العصر الحميري هبر على وِدنه، وعلم بلا حدود، ونفوذ إلى آخر المدى، نفوذ لم ينعم به رمسيس أو تحتمس أو جلجامش أو عمر بن الخطاب أو مروان بن عبد الحكم أو هارون الرشيد، وستجدين في بعض المناطق من العصر الحميري خمسين وزيرًا في الحكومة يحملون نفس الاسم، وستجدين في بعض المناطق الوالد رئيسًا للدولة، والابن رئيسًا للرياضة، وابن العم قائدًا للجيش، وابن الخالة رئيسًا للمخابرات، وجوز العمة رئيسًا للمباحث، وأما الميزانية فهي من أسرار العائلة، لا يصح للغرباء أن يطَّلعوا عليها، والحكم في العصر الحميري لذائذ وإطلاق للغرائز، وتقلب في النعيم، ومصمصة في الصميم؛ ولذلك أغلب حكَّامنا يعيشون في حالة الوضع «يا قاتل أو مقتول».
قالت البنت وقد لوت بوزها: إذن فالحكم في العصر الحميري مشغول طول الوقت بحراسة الحكم.
قلت: مظبوط، وأضيف: والذين خارج الحكم مشغولون بالاستيلاء عليه.
قالت: بالرغم من المهالك والقتل والسحل وهدم البيوت؟
قلت: نعم، من أجل الحكم يهون كل شيء وأي شيء. لدينا في العصر الحميري من يقضون الصيف في أوروبا والشتاء في آسيا، ولدينا من يدفع للصحف مليارات من الدولارات لكي يكتبوا عن حكمته وعن عبقريته، عندنا من يُهدي الساعات ومن يهدي السيارات ومن يهدي القصور والعمارات، وعندنا من يسافر ومعه حاشيته، والبعض يسافر ومعه قبيلته، وأحد أبناء العصر الحميري موجود الآن في أوروبا في معيته ألف شخص، وهو في المنفى الاختياري، يصدر جرائد ويدير إذاعة، مع أنه قبل أن يصل إلى السلطة كان أنضف من الصيني بعد غسيله. ولدينا ضباط استولوا على السلطة في بعض مناطق من العصر الحميري، ولم يستمروا في السلطة أكثر من عدة شهور، وأحيانًا أكثر من عدة أسابيع، ومع ذلك يعيشون الآن في أوروبا عيشة هارون الرشيد، الذي كان السحاب الشارد في أنحاء مملكته يمطر في أي مكان، فيحصل على خراجه.
قالت البنت وهي شديدة العجب: ومن أين حصلوا على هذه الفلوس؟
قلت لها: عندنا في العصر الحميري يحصل على الفلوس كلٌّ حسب نيته! وأغلب حكام العصر الحميري، والحمد لله، من أصحاب النيات الطيبة؛ ولذلك يسهِّل الله لهم طريقهم وينجح مقاصدهم.
قالت: نيتهم حلوة وعرفنا، ولكن من أين جاءت لهم الفلوس؟
قلت: لم يسأل أحد حتى الآن هذا السؤال؛ لأن السؤال في العصر الحميري عيب، وأحيانًا مذلة.
قالت: أيها الحمار، دوختني معك، وجرجرتني وراءك، كنا نتحدث في التخطيط، فأخذتني معك إلى متاهات، ما علاقة هذا الذي يعيش في الخارج ومعه ألف مخلوق ونيته الحلوة حققت له ثروة بعشرة آلاف مليون؛ ما علاقة كل هذا بالخطط والتخطيط؟
قلت: إن العلاقة بينهما عضوية وضرورية؛ فكل الذين استولوا على السلطة واغتنوا من فضل الله، خططوا في البداية للاستيلاء على السلطة، ثم خططوا للاستيلاء على الثروة؛ وهكذا كان التخطيط هو الأساس.
قالت: إذن لا يوجد عندكم تخطيط للبناء؛ تخطيط لتحقيق الأهداف.
قلت: يا خواجاية، هذا النوع من التخطيط ليس أكثر منه في العصر الحميري، والعصر الحميري كله مشغول بالتخطيط من أجل بناء الهجمات؛ تمهيدًا لإحراز الأهداف. ولدينا في بلادنا من أجل هذا التخطيط عشرات من الخبراء الأجانب، بعضهم يحصل على دخل سنوي لم يحصل عليه إمبراطور الصين، من بين هؤلاء واحد اسمه البيجالو اشتغل عندنا في عدة مناطق، وبالرغم من دخله الكبير وعيشه الوفير، كان يتكلم مع الحمير تبعنا من طراطيف أنفه، مع أن غاية ما حققه من نجاح هو انتصار فريق حميري على فريق حميري آخر، ولدينا مخطط آخر اسمه السايس، يجلس في المدرج ومعه قراطيس وأقلام، ويظل يخطط طوال المباراة، ومع ذلك ينهزم فريقه من الأوليمبي ويخرج من الكأس على يد السكة الحديد، ولدينا مخطط آخر يشتغل في التهريب وفي التهليب، ويستغل فريق الكورة في التهريب، أحيانًا من بورسعيد وأحيانًا من بورتثماوث، وعندنا مخطط آخر يتقاضى مرتبًا يفوق مرتب أي رئيس جمهورية في بلاد الغرب، ومع ذلك أدى تخطيطه إلى هزيمة منتخبه الذي يدربه والذي يؤهله لكأس العالم: ستة/صفر وخمسة/صفر وسبعة/صفر، وبالرغم من ذلك تنهال عليه المكافآت والإكراميات من كل صوب وحدب.
قالت البنت الفرنساوية: عجايب! ينهزم ويحصل على المكافآت؟
قلت: نعم؛ لأننا من جنس يستوي عنده الموت والحياة، والفوز والخسارة، المهم يستمع المخطط إلى اقتراحات الشيخ أو ينفذ رغبات الأمير، أو يطبق خطة الرئيس، أو يلبي أوامر الوزير، أو يطيع تعليمات الخفير، المهم عندنا هو إشباع مزاج المتنفذين، والمخطط إياه لا يرفض طلبًا ولا يرد متعشمًا ولا يصد أحدًا من أصحاب النفوذ.
قالت البنت الفرنساوية وقد غلب حمارها وخاب أملها: أنت تتكلم عن التخطيط في الكورة، وأنا أتكلم عن التخطيط في الدولة.
قلت: أعوذ بالله من غضب الله، التخطيط في أمور الدولة تجديف وتخريف وتحدٍّ للمشيئة، وأمور الدولة تمشي بالبركة، وتسير على فيض الكريم، والله جاب والله خد؛ هو الشعار المرفوع، واصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب؛ هي الخطة الخمسية، وخد من دقنه وافتلله؛ هي الخطة القومية في العصر الحميري، ولبِّس ده طاقية ده؛ هي الطريقة المثلى في التجارة والاقتصاد، وامشِ قدام عدوك معرش ولا تمشيش مكرش؛ هي حكمة الأمن الغذائي في بعض مناطق العصر الحميري، وكُلِ اللي يعجبك والبس اللي يعجب الناس؛ هي محور الحياة في مناطق أخرى من العصر الحميري. وفي الاقتصاد، نحن نسير حسب نظرية اقتصادية لا تخر المية، نظرية لم يتوصل إليها ماركس، ولم يكتشفها شاخت؛ نظرية يا بخت من نفَّع واستنفع، ومن هذه النظرية الحميرية تتفرع نظريات أخرى كثيرة؛ أهمها نظرية: اطعم الفم تستحي العين، ونظرية تراعيني قيراط أراعيك قيراطين، ونظرية تشيلني وأشيلك، ونظرية من خد وأعطى صار المال ماله. كلها نظريات اقتصادية أثبتت جدواها، وفوائدها مضمونة، وتحت مظلتها نشأ عباقرة أعظم من روكفيلر، وأحدق من هيلتون، وأذكى من الخواجة بتاع كنتاكي فرايد تشيكن.
قالت البنت الفرنساوية مشغوفة وملهوفة: تقول أذكى من كل هؤلاء؟
قلت: وأعظم من هؤلاء أيضًا؛ لأن هؤلاء المليونيرات الخواجات اشتغلوا بالفندقة، أو تاجروا بالنفط، أو افتتحوا محلات لبيع الفراخ، ولكن المليونيرات الحمير لم يتاجروا في شيء، ولم يدخلوا السوق ببضاعة، ولكنهم شالوا وشيِّلوا وأطعموا الأفواه فاستحت العيون، ونفَّعوا الآخرين واستنفعوا بشدة، وصاروا بالشطارة والذكاوة والفهلوة مليارديرات، يُشار إليهم بالحوالات والشيكات ودفاتر التوفير؛ الملياردير الريان والملياردير توفيق عبد الحي والمليارديرة الفولاذية وعشرات من نجوم المال والاقتصاد؛ دخلوا السوق وهم أفرغ من زجاجة كازوزة مرمية في صندوق زبالة، وخرجوا من السوق مثل برميل ويسكي معتق ومحفوظ في قبو تحت مصنع ويسكي في اسكتلندا.
قالت: إذن أفهم من ذلك أنه ليس لديكم وزراء للتخطيط.
قلت: بل لدينا منهم عدد يفوق عدد المشجعين في مباراة الافتتاح في كأس العالم.
قالت: ما هي مهمتهم على وجه التحديد؟
قلت: مهمتهم الأولى هي التخطيط للماضي، بعضهم يؤيد بشدة العودة إلى الوضع الاقتصادي الذي كان سائدًا في عصر سمعان بن كحكوح، والبعض الآخر يعارض هذا الاتجاه بشدة؛ باعتبار أن عصر سمعان بن كحكوح من العصور القديمة؛ ولذلك يطالب هذا البعض بضرورة الالتزام بالقواعد التي كان معمولًا بها في عصر عباس بن فرهود، البعض منهم متمسك باقتصاد الخلافة، والبعض ينادي بتطبيق اقتصاد السلطنة، وهناك قلة قليلة تنادي بالالتزام بأسلوب بيت المال، ولكن هناك اتفاق بين الجميع على أن البركة هي الأساس، وأن الرك على النية؛ باعتبار أن الدنيا في الحقيقة للمسعودين وليست للموعودين، وتجري جري الوحوش غير رزقك ما تحوش، وكل الأنهار تصب في البحر والبحر ليس بملآن، والغنى غنى النفس، والقناعة كنزٌ لا يفنى؛ ولذلك ستجدين مناطق في العصر الحميري أهلها يأكلون البسكويت، ومناطق أخرى أهلها يأكلون الحندويل، ناس تلقى الفلوس في التراب، وناس تلحس التراب، ناس تستورد كبد العصفور والجبنة الركفورد وعُرف الديك الكوكور، وناس تفطر بالدود وتصطاد الغراب للعشاء.
وهي أحوال ناتجة عن تخطيطنا الممتاز، وجهد المخططين تبعنا الأفذاذ، والحمد لله … الحمد لله … الحمد لله الذي لا يحمد — يا خواجاية — على مكروهٍ سواه.
قالت البنت الفرنساوية: يخرب عقلك! حمار عفريت مجنون وصاحب خيال، شوقتني إلى رؤية هذا العصر الحميري، والغريب الأحوال والأطوار، هل تسمح الآن بأن تأخذ بيدي وتخطف رجلك معي للعصر الحميري، بما فيه من أحوال وأهوال؟
قلت: على مهلِك يا خواجاية، فالدخول للعصر الحميري يحتاج إلى تأشيرة وإلى تأمين وإلى تمهيد، وفي بعض المناطق يحتاج إلى تمويل وإلى تحويل، فاصبري حتى الغد فإن الله مع الصابرين.