كوز المحبة انخرم …!
قالت البنت الخواجاية وقد تنعكش شعرها وتبعزق بعضها: أخبرني يا حماري الصغير، كيف تقضون وقتكم الآن وأنتم في فترة الانتظار؟
قلت: أي انتظار؟
قالت: انتظار الحرب، ألم تقل لي إنكم في انتظار الحرب التي إذا نشبت قد تعود بكم القهقرى ألف عام إلى الوراء.
قلت: لا شيء، نحن فقط ننتظر.
قالت: أعرف أنكم تنتظرون، ولكني أسأل كيف تقضون وقتكم في فترة الانتظار، هل لديكم موسيقى مثلًا؟
قلت: الموسيقى عندنا على قفا من يشيل؛ من الطبل البلدي إلى أوركسترا القاهرة السيمفوني.
قالت: ولكن هل تستمعون إليها؟
قلت: نستمع إليها أحيانًا؛ خصوصًا إذا كان يصاحبها غناء.
قالت: وأي نوع من الغناء عندكم؟
قلت: عندنا يا ست هانم غناء على كل لون، عندنا غناء شعبي لزوم أفراح الفقراء وللترفيه عن رواد الأسواق، وقليل يحمل حكمة الشعب الحميري وفلسفته، وكثير غثٌّ ومضروب، ويقدس القيم العالية والعلاقات غير الصحية بين الناس.
والمصيبة أن هذا اللون من الغناء هو الذي فرض نفسه في النهاية، والسبب هو التكنولوجيا.
قالت البنت الخواجاية: كيف؟
قلت: بعد اختراع الراديو كاسيت أصبح الغناء في متناول الجميع، عشرة من الحمير يحصلون على نص قرش حشيش، وعدة كاستات من النوع المضروب، ويسهرون سهرة تمتد حتى الفجر؛ ولذلك ظهر في الآونة الأخيرة مئات المطربين والمطربات، ونشأت أيضًا عشرات الشركات لتعبئة هذه الكاستات، وأصبح لدينا مشاهير من عينة سيد فكري والبحر أبو جريشة والريس بيرة وأم إمام السنجلفية؛ نسبة إلى كفر سنجلف من أعمال مركز الباجور.
قالت البنت الفرنساوية: وهل يتغنون بالحب مثل مادونا؟
قلت: بالرغم من شهرتهم وانتشارهم، إلا أن أحدًا من المستمعين لم يستطع أن يتبين حتى الآن بماذا يتغنون، أو لماذا يغنون؛ فكلامهم بالرغم من أنه هابط فهو أيضًا غامض، لا يعرف له أحد رأسًا من رجلين؛ مثلًا كوز المحبة انخرم، اديله بُنطة لحام، وغزالة شاردة، عاوزة اللي يصطادها، وخد الحبيب قشِّف، ادهنله زيت حار، ومين الأستوك ده؟ اللي ماشي يتك ده.
قالت: ومن الذي يؤلف هذا الكلام؟
قلت: لا أحد يدري، فيكفي الآن اسم المغني، والشرط الوحيد أن يكون متمتعًا بجاعورة من النوع الممتاز.
قالت البنت الفرنساوية: ربما هي موجة جديدة وحركة تغريب مقصودة، هدفها الاحتجاج على ما في المجتمع من انحراف واعوجاج.
قلت: في الحقيقة يا خواجاية، هي حركة تجريد للمعاني وتجريح للذوق، وهي هوجة مثل هوجة الموالد؛ كما أنها نكسة ووكسة وانحطاط وانحدار، وهي، للأسف الشديد، جاءت بعد موجة سبقتها كان الغناء الشعبي فيها يحكي قصص غرام شريفة وعفيفة؛ حسن ونعيمة، وسعد وإنصاف، وأحمد ووجيدة، وكان المغني الشعبي يغني للوطن في أفراحه وفي أتراحه أيضًا؛ غنى السابقون لثورة ١٩ ولثورة يوليو، وساهموا في تعبئة الناس في حرب ٤٨ وفي حرب ٥٦ … والنار ولا العار ولا استعمار في بلدنا و… الله يخلي الجيش وعساكره منصورين، قال يا واد يا عليش خدلك خمس فدادين، طول عمري لابس خيش ما كنت يوم جالعه، ما كنت لاجي العيش والقمح أنا زارعه.
قالت البنت الفرنساوية: ولكن هذا لون من الغناء تحريضي، وظهر مثله إبان الثورة الفرنسية.
قلت: فلتطلقي عليه أي وصف، ولكنه كان غناءً له معنى وله هدف، وكان المغني من دول يبحث عن كلام معقول لأنه لا يستطيع أن يواجه جمهوره في الشارع بكلام من الذي يقال هذه الأيام؛ من نوع: يا مجمع المساطيل يا ليل … و… قالوا الحشيش لألأ، إن كان حلال آدي احنا شربناه، وان كان حرام آدي احنا حرقناه، لازمتها إيه قولة آه ولأ.
قالت البنت الفرنساوية: وهل هذه هي كل الأغاني التي عندكم؟
قلت للبنت الفرنساوية: الأغاني عندنا على قفا من يشيل؛ لدينا أغاني من نوع لولاكي، ومن نوع دنا، وبعض المطربين الآن يغنون بالرومي وبالهندي وبالجريجي، ولدينا مطرب انتحل اسم مطرب هندي؛ لذلك سئم الناس الغناء إلى درجة أن مطربة الشباب في هذه المرحلة رحلت عن دنيانا منذ خمسة عشر عامًا، أما مطرب اللحظة فقد مات منذ ثلاثة عشر عامًا، أما مطرب جميع الأجيال فأطْرَبها حتى سِن التسعين.
قالت: ولكن لماذا ترفض هذه الموجة الجديدة من أغاني الشباب؟
قلت: أنا لا أرفض شيئًا ولكن هم الذين يرفضون، تصوري مطرب شباب يغني لجيله … جيل ١٩٩٠م، فيغني نفس المعاني التي كان يتغنى بها المطربون في جيل ١٩٠٠م: يا حبيبي يللي راح، يا حبيبي ياللي ضاع، يا حبيبي يللي العوازل سلطوه عليه، يا رايح وانا قاعد استناك، يا تقيل وانا مدلوق عليك، يا مصهين وأنا سهران أناجيك … يا مين يجيبلي حبيبي، إن حد شاف حبيبي سلمولي عليه، ساكن قصادي وبحِبُّه، جت واحدة تانية لهفته مني، يا خرابي على بختي المنيل، وادي قسمتي ونصيبي، وفلاح كان ماشي بيهرش من جنب السور … معانٍ وكلمات كانت تصلح أيام الحبرة واليشمك والعربة الحنطور والمشربيات التي تحجب الجمال عن عيون الفضوليين، ولكن الكلمات نفسها ما زلنا نستعملها في زمن أصبح فيه الحب على المكشوف. البنات في الشارع أكثر من الأولاد، وفي التعليم أشطر من الصبيان، وفي الوظائف عِد على قد ما تقدر.
في القاهرة وحدها ألوف من البنات يسكنَّ وحدهن، وفي بيروت يوجد ضعفهن، وفي الدار البيضاء نادرًا ما تجدين بنتًا تعيش مع أهلها بعد سن الستاشر، وفي تونس أغلب البنات هاجرن إلى لندن وباريس، ومع ذلك نتناول الحب في الأغاني بنفس الطريقة التي كنا نتناولها بها عندما كانت غاية الحب أن يختلس نظرة إلى الحبيبة؛ وهي واقفة خلف المشربية، أو نازلة تدلع تملا القلل، وعندما كانت وسائل الاتصال بين المحبِّين معدومة، فلا أجهزة تليفون ولا أجهزة فاكس، وكانت أقصى أمنية للحبيب أن يهرش في شعر راسه وهو فايت على بيت الحبايب، فتدرك الحبيبة أنه يرسل إليها بالتحية والسلام.
أعرف واحدًا من الحمير سافر إلى أوروبا حديثًا، ووقف في النافذة في عاصمة أوروبية كبرى؛ يحملق ويبحلق في بنت خواجاية تقف في نافذة أمامه، ووقع صاحبنا في الحب من أول نظرة، وأراد أن يُعلِمها بحبه، هرش في شعر رأسه، فلما لم ترد السلام بالهرش في رأسها، راح يهرش عمَّال على بطَّال حتى اقتلع بعض شعر رأسه، وبعد أسبوع من البحلقة والهرش، التقى بالبنت على رصيف الشارع، فحدق فيها وراح يهرش ففتحت البنت شنطتها وأخرجت زجاجة دواء وقالت له: خد هذه الزجاجة؛ ففيها دواء يقضي على كل الحشرات التي في شعر رأسك؛ لأن الهرش في الرأس ليس من أدوات الحب في بلادكم، ولكنه في بلدنا أول درجة من درجات الحب.
قالت البنت الفرنساوية: أليس لديكم شعراء؛ يبتكرون المعاني ويحلقون على أجنحة الخيال؟
قلت: كان لدينا من هذا النوع كثيرون، كان أمير الشعراء أحمد شوقي يؤلف الأغاني ويحتضن المواهب الشابة من المطربين، وكان الشاعر أحمد رامي يبتكر المعاني ويخترع المواقف ويحلق على أجنحة الخيال إلى النجوم، وكان علي محمود طه يربط الحب بالحضارة القديمة، وكان محمود إسماعيل يجد صلة بين الغرام والنيل، وكان الشاعر أحمد فتحي يغني للحب على طريقة روميو وجوليت، وجاء بعد هؤلاء الشعراء عشرات من مؤلفي الأغاني، كان لديهم إحساس وعندهم ذوق، وخلفهم ثقافة شاملة وتجربة عريضة؛ مرسي جميل عزيز ومأمون الشناوي ويا أمَّه القمر ع الباب، و… آدي الربيع عاد من تاني. اختفى هذا الصنف الآن، وأصبح مؤلف الأغاني لا يفكر ولا يحس، يؤلف الأغنية وهو في الكافتيريا، وأحيانًا وهو في السيارة، وغالبًا وهو في بوفيه الإذاعة، لم يعد لديهم وقت ينفقونه في التفكير أو في اصطياد المعاني، وأغلبهم لم يقرأ ديوان شعر في حياته، وهؤلاء يتصورون أن المعري كان فقيرًا لا يجد ما يستر جسده، وأن المتنبي كان عرَّافًا يفتح المندل ويوشوش الودع؛ ولذلك لدينا في العصر الحميري ظاهرة لا أعتقد أنها موجودة، في مكان آخر على ظهر الأرض.
تصوري … لدينا يا خواجاية أغنية عمرها ألف وخمسمائة عام، كتبها شاعر مقاتل قضى نصف عمره على ظهر الحصان؛ أغنية تقول:
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم.
قالت: أغنية عمرها ألف وخمسمائة عام وتستمعون إليها في الوقت الحاضر؟
قلت: وسنستمع إليها في المستقبل أيضًا.
ولدينا أغنية عمرها ألف عام، انتشرت انتشار الوباء في حقبة السبعينيات؛ الأغنية تقول:
لدينا أغنية ثالثة عمرها ألف ومائتا عام؛ الأغنية تقول:
والناس تستمع لها وتطرب، ربما لم يفهموا المعنى على وجه التحديد، ربما غمضت بعض الكلمات عليهم، ولكنهم شعروا بإحساسهم الدفين أنها أغان راقية، وتحمل زخمًا من المعاني السامية، فهذا الفتى المحارب كان يُدعى عنترة، وكانت له حبيبة اسمها عبلة، والمعنى الذي جاء في شعره لم يصل إليه أحد من قبله، ولم يرتفع إليه أحد من بعده:
تصوري يا خواجاية وهو في عز المعركة وفي أتون المعمعة تذكر حبيبته؛ بينما السيوف تنهش في لحمه وتصطبغ بلون دمه. ما الذي فعله الشاعر وهو في هذا الكرب العظيم؟ لا شيء سوى أنه تمنى لو أنه طبع قُبلة على السيف الذي ينهش لحمه، لأنه يلمع لمعانَ فم حبيبته التي كانت تمتع بأسنان كاللؤلؤ وفم كخاتم سليمان، وبعد أن مات الشاعر ومضى عليه ألف وخمسمائة عام في التراب، جاء شاعر عابث اسمه حسين شفيق المصري، فأراد أن يسخر من الشاعر القديم فقال:
وفي الحقيقة يا خواجاية، الشاعر العابث لم يكن يسخر من الشاعر القديم، لكنه كان يضيف إليه؛ فالموقف الذي اختاره ولم يتذكر شيئًا فيه إلا حبيبته؛ كان أصعب مائة مرة من الموقف الذي وجد الشاعر القديم نفسه فيه؛ فالشاعر القديم بطل وشجاع، قلبه كالحديد، والحرب عنده متعة والقتال هواية، ولم يدخل معركة في حياته إلا انتصر فيها، ولم يصارع أحدًا إلا قتله، وهو في المعركة كأنه في حوض سباحة أو في كازينو على شاطئ النيل.
أما الشاعر الحديث فهو فلاح قفل يركب حمارته العرجا، ويحاول أن يعبُر بها شريط السكة الحديد، ولكن الحمارة تعثرت وانحشرت حوافرها في الشريط؛ بينما الوابور قادم يطلق صفيرًا وينفث دخانًا ويحمل معه الموت الأكيد، وبالرغم من ذلك تذكَّر الفلاح القفل حبيبته وهو مدرك تمامًا أنه هالك لا محالة، وأنه ضايع في الكازوزة بدون شك، حتى العابثون زمان كانوا يعبثون من خلال الفن، وكانت مواهبهم تساعدهم على ذلك.
أما مؤلفو هذه الأيام فلا فن ولا موهبة ولا وقت عندهم للعبث؛ لأنهم مشغولون طول الوقت، أحيانًا في الإذاعة لإمضاء عقد، وأحيانًا في مكتب بيع أغنية، وأحيانًا في بيت لتحفيظ مطربة لا تعرف القراءة ولا الكتابة.
أذكر أن ملحنًا شهيرًا أسمعني ذات يومٍ قصيدةً من تلحينه، كان المذهب يقول: مر بي، أومأ لي، وبعد أن استمعت إلى الأغنية كاملة، أسند العود على الحائط المجاور وسألني سؤالًا في غاية الغرابة والسذاجة: أومأ لي … يعني ايه؟ وأجبته: أومأ لي … يعني هات سيجارة، وضحكت وضحك هو الآخر. واندهشت؛ كيف يلحِّن كلامًا لا يفهم معناه؟ مع أن التلحين هو مزيد من التفسير للمعنى الذي يحمله الكلام أو يخفيه بين السطور، ولكن كل شيء في العصر الحميري جائز، وكل شيء ممكن، حتى تلحين الكلام الذي لا يفهم الملحن معناه.
وضربت البنت على صدرها وقالت: يخرب عقلك! لقد فهمت الآن من كلامك أنكم حمير صحيح، ولكن أصحاب حضارة، وكان لكم تاريخ من ألوف السنين، وعندكم أغانٍ عمرها ألف وخمسمائة عام … مع أن الإنجليز لا يفهمون لغة أجدادهم التي كانوا يستعملونها منذ أربعمائة عام، وانت يا مضروب ما زلت تحفظ الأغاني القديمة؛ كأنك أنت الذي قمت بتأليفها الآن، لقد شوقتني لرؤية العصر الحميري، فمتى تذهب بي إلى هناك.
فقلت لها: نامي الآن، وغدًا يحلها ألف حلال.
قالت: وإذا لم يحلها؟
قلت لها: اتخمدي ونامي، وغدًا يأتي الفرج مع تباشير الصباح.