الوعد والمكتوب …!
استيقظت البنت الخواجاية مذعورة، وألقت نظرة على ساعة الحائط، ثم برطمت وتعزرنت وسبت الأخضرين، وتحولت فجأة إلى إعصار مدمر، وانطلقت الكلمات من فمها الرقيق كأنها دانات مدفع ميدان، وراحت تجمع ثيابها وتجمع متاعها، وارتدت فردة حذاء وبحثت عن الفردة الأخرى، فلما لم تجدها، شوَّحت ولوحت، وفتحت الباب وخرجت لا تلوي على شيء، على رأي الشيخ طاهر مدرس اللغة العربية، وخرجت وراءها بالشبشب والجلباب، ولحقت بها عند محطة الأتوبيس، وعكمتها من قفاها وجرجرتها على الإفريز، ولكنها عصلجت وصوتت، فالتف حولنا جمع غفير، من صبيٍّ صغير إلى امرأة عجوز دردبيس، ثم جاء العسكري عتريس، ومن قفايا عكمني، وعلى الأرض جرجرني، وبكمية من الشتائم أتحفني، فلما اعترضت على هذه المعاملة الحقيرة والإهانة الكبيرة، اندهش الشاويش لجرأتي، وكاد يجن من شدة وقاحتي، وقال ع القسم لا بد أن تذهب، ومحضرًا لا بد أن تعمل، وسجنًا لا بد أن تدخل، فلما أخرجت له البطاقة وعليها صورتي في منتهى الشياكة والأناقة، قال: طبعًا، هذا لبس نشالين، فلو أنك موظف حكومة، لخرجت من بيتك بالفانلة واللباس، أما ملبوسك إلى وظيفتك، فلن يزيد على شوال بدون أكمام، وفي قدمك مجرد مداس، ولو كنت صاحب دكان، لعانيت من وقف الحال، ولو كنت خريجًا، فأنت منتظر خطاب القوى العاملة، ولكن صورتك في البطاقة كشفت حالك، فأنت متقمش ومتمرمش، وبالطبع معك فلوس، وعندك غموس، وأنت نشال قراري، ولا بد لهفت محفظة الست الأمورة، ولا بد من سجنك لترتاح منك المعمورة، قال قوله هذا واستغفر الله وهبدني قلمًا على قفاي، وركبة في حشاي.
وعلى الفور انطلقت البنت الفرنساوية كالمدفع وهات يا تلطيش في الشاويش، واندهش الشاويش غاية الاندهاش، وحصل في عقله انهباش، وقال مزمجرًا: اضربه علشانك وانتِ ولا على بالك، لا بد أنك زميلته، وفي الحرفة وكيلته، وأنت ولية سوابق، ونهار أبوك غامق، فلما أخرجت باسبورها وعرف هيئتها، انسحب على الفور وقال: عجايب! ظننته من صنف النشال، فإذا هما عاشقان، وفي حاجة إلى موَّال، وها هي البنت تبوسه، وتضع فلوسها على فلوسه، وفي الوقت نفسه ترمقني بعين بصَّاصة، تندب فيها رصاصة.
وانصرف الشاويش، وتفرق الناس، فعدنا إلى البيت، وأكلنا الفول بالزيت، وسألتها على الفطار: ما الذي حوَّلك من ملاك إلى عفريت.
قالت: لعنة الله عليك وعلى اليوم الذي شكلك فيه رأيت! ولد كذاب وأونطجي، وأنت خدعتني وجرجرتني، وبكلامك المهبول أقنعتني، ووعدتني بالذهاب لرؤية العصر الحميري، ولكنني معك منذ عام ولم أشاهد من الحمير إلا أنت، وبذلك صحت نظريتي، فأنت الحمار الوحيد، وما عدا ذلك فهو خطرفة وهلضمة. ومنذ عام وأنا ألف وراك، وأذهب معاك من هنا لهناك، وأنت تهرش مخي بأساطير وخرافات، وتلحس عقلي بحكاياتٍ وروايات.
عام كامل يا نصاب ضيعته من عمري، عام كامل! واستطاع جورباتشوف في زمن مثله أن يحول روسيا من دولة شيوعية إلى دولة رأسمالية، وتم خلاله بناء نفق تحت المانش يربط بريطانيا بأوروبا لأول مرة في تاريخ البشرية.
عام كامل، استقلَّت خلاله ناميبيا، وتطورت فيه قضية السود في جنوب أفريقيا، وسقط فيه حسين حبري مرتين وعاد إلى الحكم مرتين، وأنت تسرع بي بعيدًا إلى عالم حميري ليس له وجود، وإلى ناس حمير ليس لهم مثيل، والمصيبة أني صدقتك، وأنا معذورة على كل حال، فشكلك والحمار سواء، ولكن عقل الحمار أفضل، فهو على الأقل يعرف طريقه، وفي الشغل يفيد فريقه.
قلت للبنت الخواجاية: أما في شكلي والحمار سواء، فهذه حقيقة، ولكني لم أخدعك، بل أنت التي ورايا جريت، وعلشان تتشرفي بصحبتي بكيت، وأنا وعدتك بالذهاب إلى العصر الحميري، وسأذهب بكِ حسب وعدي لكِ، ولكنك يا خواجاية، لا تعرفين أن هناك فرقًا بين الوعد والمكتوب؛ فالوعد من فعل البشر، والمكتوب من صنع السماء العالية، نحن نعِد دون أن نعلم ما هو المكتوب، أحيانًا يتفق الوعد مع المكتوب، ولكن هذا يحدث أحيانًا ولمدة قصيرة، وصحيح أنا وعدتك يا خواجاية، ولكن الوعد غير المكتوب كما شرحت لك من قبل.
أما المكتوب يا خواجاية، فهو كما نراه الآن على الطبيعة؛ العصر الحميري اشتعلت فيه النار؛ البوارج تملأ البحر، ومدافع الميدان تمتد نحو الأفق، والطائرات الشبح تسد عين الشمس، وهناك لغط حول قنابل ميكروبية، وهناك شك حول قنابل ذرية، وإذا قامت الحرب، قد ينتهي العصر الحميري قبل أن تكتحل برؤيته عيناك الجميلة، يا ست البنات.
قالت البنت الخواجاية وهي تكاد تنفجر من شدة الغيظ: إذا انتهى العصر الحميري أو راح في ستين داهية، فلا لوم عليك ولا تثريب؛ لأن هذه ليست هي المشكلة؛ المشكلة يا حماري هي الوقت الذي أضعته، عام كامل وأنا ألف وأدور خلفك، عام من عمري ومن عمر الحياة يا مفتري، البني آدم يعيش على هذه الأرض ربما ستين عامًا إذا كان سعيد الحظ، وبعض الناس ماتوا في سن الأربعين، وكل الجنود ماتوا ما بين العشرين والثلاثين، وأنا أفقد من عمري عامًا كاملًا دون فائدة وبلا أي عائدة.
قلت: يا سبحان الله! طبعك حامي يا خواجاية وأمرك غريب؛ تبكين من أجل عام ضاع من حياتك؛ وفي بلاد الحمير يبددون القرون والدهور ولا نشعر بشيء! هل تسمعين عن جامع نفق شبرا؟ منذ الأربعينيات وناس بذقون تجمع من ركاب التروماي والأتوبيس أموالًا لبناء جامع نفق شبرا؛ لا الجامع ظهر ولا التبرعات انقطعت، ومع ذلك لم يحتجَّ أحد ولم يعترض أحد.
وفي المغرب العربي مشروع مد خط سكة حديد من طنجة إلى الإسكندرية، وقد فكروا في المشروع منذ استقلال الجزائر عام ١٩٦٢م، وقد ألفوا لجنة لدراسة المشروع، ثم ألفوا لجنة ثانية لدراسة مشروع اللجنة الأولى، ثم ألفوا لجنة ثالثة للتفتيش على أعمال اللجنتين، ومنذ عام ١٩٦٢ وحتى عام ١٩٩٠م لا تزال اللجان تتألف، والمشاريع تُعاد، والميزانيات تدبَّر، ولكن بالنسبة لخط السكة الحديد لا حس ولا خبر، ومع ذلك لم يغضب أحد ولم يحتج أحد.
بعض الدول في بلاد الحمير وعدت شعوبها بضرب البيروقراطية، وإشاعة الديمقراطية، وتطبيق الديناميكية، وضرب الاستاتيكية، وبعضها وعد شعبه ببندقية لكل محارب، ودواء لكل مريض، ووظيفة لكل صايع، وبالطو لكل بردان، وعشوة لكل جوعان، ومعاش لكل فلسان، ومضت على هذه الوعود عشرات السنين، ازداد خلالها عدد المرضى وتضاعف عدد المفلسين، وصار البردانين والجوعانين هم حزب الأغلبية، وبالرغم من ذلك لم يغضب أحد ولم يحتج أحد.
وهذا الموقف، يا خواجاية، من الشعب الحميري ليس نتيجة يأس لا سمح الله، ولكن إيمانًا منا بأن الوعدَ غيرُ المكتوب، فالحكومات وعدت، ولكن المكتوب لا يتفق مع الوعد، وأيضًا يا خواجاية … لأن العجلة من الشيطان، وفي التأني السلامة، وفي العجلة الندامة، وتجري جري الوحوش، وغير رزقك لم تحوش، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، ولو عرفتم الغيب لاخترتم الواقع. وهذه الأقوال يا خواجاية قد لا تعجبك، ولكنها عصير حكمتنا من خلال تجربتنا الطويلة في الحياة.
وتصوري يا خواجاية، لو أن مشروع خط سكة حديد الشمال الأفريقي نفَّذوه على الفور، لكان عمره الآن ربع قرن، ترى كم من الأقدام كانت ستُفرم تحت العجلات؟ وكم من النفوس كانت أُزهقت بفعل الاصطدامات والانقلابات؟ وكم من المآسي كانت ستحُل بالبلاد والعباد؟ ولو أن الحكومات نفذت ما وعدت به، لحدث في بلاد الحمير ما لا يُحمد عقباه … على رأي أمواج البورسعيدي؛ فالناس إذا جاعت هدأت، وإذا تعرَّت سكنت، وإذا صاعت انزوت، وإذا مرضت انطوت، أما إذا شبعت وارتوت وتلمضت فيا داهية دُقي؛ سيصبحون آخر افترى وآخر بجاحة، وقد يطالبون بالمزيد، وبعد الحصول على الديمقراطية قد يطالبون بالمشاركة، وقد يفترون أكثر فيطالبون بالمساواة في الحقوق والواجبات.
أعرف ثورة قامت في بلاد الحمير منذ عشرين عامًا، كان لديها في الخزانة فائض أموال يكفي لكي يعيش كل حمار في الأرض الحميرية في مستوى المواطن الإيطالي، ولكن الثورة إياها آثرت التريث، ووعدت الحمير بمستوى يفوق مستوى المواطن السويدي، وبعد مُضي عشرين عامًا على هذا الوعد، انحط مستوى الحمير الذين يعيشون في ظل الثورة إياها؛ حتى صاروا يحلمون بمستوى المواطن السويسي، وبدلًا من عمل لكل مواطن، وحققت الثورة هدفًا آخر؛ هو لجنة لكل مواطن … واللجان في كل مكان؛ بينما الطعام ليس له وجود في أي مكان، ومع ذلك لم يغضب أحد ولم يحتج أحد؛ باعتبار أن كل شيء قسمة ونصيب، وما هو مكتوب على الجبين لازم تراه العين، وأقدارنا بيد السماء القاسية يا نهر البنفسج؛ على رأي عمنا زكريا الحجاوي يرحمه الله.
وعندنا يا خواجاية حزب اسمه حزب البعث العربي الاشتراكي، والبعث معناه إعادة الحياة، ومع ذلك تسبب في قتل الأمة، ولم يضرب من صنف الناس إلا العرب، بدَّد شمل البعض وخرب مصالح الجميع، ومع أنه اشتراكي، إلا أنه بعد عشرين عامًا في السلطة باع القطاع العام وحل اتحاد العمال وقتل كل صاحب رأي، ومع ذلك لم يغضب أحد ولم يحتج أحد؛ على أساس: تهرب على فين يا عبد من المكتوب.
قالت البنت الخواجاية وهي تصرخ: ما لي أنا وهذا الكلام الفارغ! لقد وعدتني أنت بأن أذهب إلى العصر الحميري وأتفرج عليه، ولكنني أنفقت من عمري عامًا ولم نذهب إلى أي مكان، ولم أتفرج على أي شيء، وأضعت من حياتي عامًا دون أن نحقق فيه شيئًا على الإطلاق.
قلت: ما أعبطك يا خواجاية! وما أشد سذاجة حضرتك! أنت منذ وضعت يدك في يدي وأنت تعيشين في العصر الحميري، وعليك أن تلتزمي بقواعده وأن تخضعي لقوانينه، وأنت تغضبين من أجل عام ضاع من حياتك، والعبد لله غادر أرض الحمير ذات مرة لمدة عشر سنوات، وودعت بعض الناس الذين كانوا جلوسًا على القهوة، وعندما عدت بعد عشر سنوات وجدتهم جلوسًا على القهوة في نفس الوضع والهيئة، ولم يندهش أحد منهم لرؤيتي، ولم يسألني أحد منهم أين كنت، وما دمت يا خواجاية أصبحت صديقتي، واخترت الحياة على طريقتي، فلا بد من اعتقاد ما نعتقده، وقبول ما نقبله، واحتمال ما نَحتمِله، وإلا إذا كنت ستعترضين على كل هايفة، وتلطمين في كل نايبة، وتفرَّجي علينا طوب الأرض علشان عام واحد مر من حياتك بدون فايدة أو عايدة؛ فسيكون هذا، يا بنت الفرطوس، فراقًا بيني وبينك.
وعلى الفور على الأرض البنت سقطت، وبدموعٍ غزيرة بكت، وعلى طراطيف صوابعي باست، وقالت أرجوك أتوسل إليك لا تطردني ولا تفارقني، لن أسألك في المستقبل عن أي شيء، ولن أخْوِت دماغك بأي موضوع، سأعيش معك حميرية من جذور الحمير، وستجدني بعد فترة أتفوق على صنف الحمير، لا أسأل ولا أتشكك، لا أغضب ولا أحتج، وسأستمع إلى الوعد ولكني سأخضع للمكتوب.
قلت: خيرًا وبركة، حميرية تعيشين إن شاء الله، حميرية تموتين بفضل الله، حميرية تُبعثين مع صنف الحمير بإذن الله، أما إذا تبرمت أو شكوت أو صرخت أو لطمت، فليس عندي إلا البرطوشة على بوزك.
قالت: خدامتك وجاريتك يا حماري العزيز.
قلت: دعينا الآن من الكلام الفارغ وتعالي إلى الفراش.