خرساء اليمامة!
استيقظت البنت الفرنساوية من الفجرية وقالت: والآن … وحتى يستجيب العراق لمطالب المجتمع الدولي، ويخرج من الكويت بسلام، ماذا تقترح يا سي السيد أن نفعل حتى تحين اللحظة الحاسمة، ونتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟ قلت: سنفعل يا خواجاية كما يفعل الحمير في بلادنا؛ سنقضي الوقت في قزقزة اللب وطرقعة الصوابع، وفي تقليب صفحات الصحف، وفي النوم بعد الظهر، وفي الدردشة بعد العشاء حتى مطلع الفجر ثم النوم حتى العصر.
قالت البنت محتجة: أنت تفعل ذلك … آه، ولكني أنا لا أفعل ذلك ولو انطبقت السموات على الأرض.
قلت للبنت الخواجاية في هدوء: أنتِ طبعًا لن تفعلي ذلك؛ فهذا السيناريو الذي عرضته عليك هو حق الرجال، أما صنف الحريم فلهن روتين آخر؛ سأقدمك لبعض السيدات الحميريات؛ لزوم قضاء الوقت معهن، والدردشة في أحوال الجيران، والنميمة في حق الأصدقاء والخلان، ثم قرطفة الملوخية وتقليب التقلية، وتخليل القوطة المجنونة، وقدح الزبدة المدهونة، وغسل الهدوم المركونة، ثم الاستحمام بالماء الساخن والصابون، ثم دعك الكعوب وطرد القشف المدموك، ثم النوم وانتظار السيد حتى يعود.
قالت البنت الفرنساوية: وهل تتصور أنني سأطبخ لك ملوخية وأقلب لك التقلية ثم أجلس أنتظر تشريفك لكي أقوم لك بدور شهر زاد؟ إذا كنت تعتقد ذلك، فهذا بعيد عن شنبك!
صرخت في وجه البنت الفرنساوية: لقد اتفقنا يا بنت الفرطوس على أنك حميرية تعيشين، حميرية تسلكين، وإلا فسيكون فراق بيني وبينك، وأنا رجل من بلاد الحمير، وأرغب في الحياة مع امرأة من نفس الماركة.
تراجعت البنت الفرنساوية وتنحنحت، ثم بكت ونهنهت، وقالت: لا تلجأ في كل مناسبة إلى سلاحك البتار، ولا تهددني بحرماني من العيش معك أيها الحمار، فأنا اخترت الحياة معك لهدف … هو مشاهدة العصر الحميري، والحياة مع صنف الحمير، وسأحقق هدفي حتى ولو اضطرتني الظروف إلى الحياة معك أيها الحمار، والصبر على ما ابتلتني به الأقدار، حتى قرطفة الملوخية وتحبيشها بكل أنواع الأفاوية والبهار.
قلت: على خيرة الله، اتفقنا، وعلى بركة الله ننفذ الروتين الذي اتفقنا عليه، أنا في السلاملك وانتِ في الحرملك، أنا مع العُمد والأعيان وانتِ مع الهوانم والستات.
قالت البنت تتساءل: معنى ذلك أننا لن نلتقي أبدًا؟
قلت: بل سنلتقي بالتأكيد، وسيكون ذلك في السرير.
قالت البنت الفرنساوية وقد أرعشت حاجبها، وفي حركة تؤكد أن الكلام مش عاجبها: ومتى إذن نلتقي لنتناقش ونتفاهم ونرسم خريطة حياتنا معًا، ونراجع خطواتنا السابقة ونتفق على مسيرتنا المقبلة؟
قلت وأنا أتنحنح وأخبط بيدي على الترابيزة وأتبحبح: ولماذا كل هذا العناء؟ وما جدوى هذا الشقاء؟ إن اجتماعنا سيكون للمناغشة وليس للمناقشة، وماذا تجدي المناقشة مع مثلك؟ وكيف أناقش امرأة والنساء ناقصات عقل ودين؟ وكما قال سيدنا دهمان بن دحبور … المرأة أولها نتن وآخرها نتن! وكما قال بمباز بن كعبور … الشيطان امرأة، والجنة لا يدخلها شيطان!
ونحن في بلاد الحمير لا نناقش صنف الحمير … ولا نستشيرهن، نحن نأمر فنُطاع، ونحكي فيستمعن، ونصمت فيشعلن النار لعمل الشاي والكركديه.
قالت البنت الفرنساوية: معنى ذلك أننا لن نخرج معًا نتمشى على شاطئ النهر ونتناول الإفطار معًا في الكافتيريا، أو نخلع وننزل نبلبط معًا في حمام سباحة؟
قلت للبنت الخواجاية: أمركِ عجيب، وسلوكك شغب، وحتى إذا اضطرتنا الظروف للمشي معًا، فلا بد أن يكون بيني وبينك فرسخ وقيل فرسخان، فالمرأة عورة والرجل الحمش لا يمشي جنبًا إلى جنب مع المعاور، ولكنه يمشي وحده وتمشي المعاور وحدها، لا يقتربان ولا يتكلمان.
قالت البنت الفرنساوية وقد فشخت بقها حتى بانت نواجذها: ولكن أليس هناك احتمال أن يتكلم غريب مع المعاور؟
أجبتها: افرضي أن هذا حدث، وأن الغريب للمعاور همس، فلا ضرر ولا ضرار، ما دمت لا أرى ولا أسمع ولا أدري بما يدور ورائي في الخفاء؛ فالعيب في بلاد الحمير ليس العمل السيئ أو الفعل الشائن، ولكن العيب هو أن يُعرف أو يذاع أو يشاع بين العالمين. في بلادكم أيتها الخواجاية تصنعون كل شيء وأي شيء على البهلي وعلى عينك يا تاجر، وإذا اعتقدتم بأن هذا الشيء عيب، فإنكم لا تفعلونه، وإذا اقتنعتم بالشيء ولو كان عيبًا ارتكبتموه ولو في ميدان عام، وأما عندنا فنحن نصنع كل شيء في الخفاء، فإذا لم يصل إلى علم الناس، فهو حلال بَلال، أما إذا شاع وذاع وتهامس به الناس، فلا بد أن يُراق على جوانبه الدم، حتى يسْلَم ويصبح ويعود نقيًّا كما كان. .
قالت البنت مندهشة: إذن لا جناح على من يزور المعاور في خفية من العيون، ولا عتاب على المعاور إذا مالت هنا أو هناك في السر وبعيدًا عن النور.
قلت للبنت الخواجاية: الله يحب الستر، ومن ستر بني آدم ستره الله يوم القيامة.
قالت: افرض أنني رضيت بشروطك وقبلت الحياة بقيودك، ثم اشتقت إليك وقت جلوسك مع العُمد والأعيان، فكيف أراسلك؟ وأين ألقاك؟
قلت: هذا العمل مكروه، ومن يوافق عليه معتوه، وأنت في عالم وأنا في عالم، فإذا التقينا كان ذلك في الحرملك في وقت معلوم، أما أي اتصال غير ذلك، فهو سعي مذموم، وفعل محموم، ووقت معدوم.
قالت البنت الفرنساوية: أعرف من هذا أنه في بلد الحمير لا تجتمع الآتان والذكور.
قلت: عفارم عليكي يا بنت الفرطوس! لقد صرت حميرية ورب الكعبة، لقد نطقت كلمة آتان كما نطقها عمروش بن جحشان، والأتان هي أنثى الحمار، وهذا دليل على أنكِ على الدرب تزحفين، وحَذْو النعل بالنعل تمشين، أما جوابي عن سؤالك … فلا تجتمع الآتان مع الذكور إلا ساعة المناجاة ولحظة الملاغية، فنحن في الحقيقة لا نعيش في مجتمع ولكننا نعيش في منفصل، كل جنس يعيش وحده؛ كالسجون … عنبر للرجال وعنبر للحريم، التطلع من بعيد مباح، والبصبصة من الشبابيك تجوز، وتبادل الرسائل عبر النبتشية ماشي، ولكن الاختلاط ممنوع، والاجتماع حرام، حسب فتوى الشيخ تمباك بن زربون، ولذلك كل نُكتنا في العصر الحميري جنسية، وكل تفكيرنا في غرف النوم، وكل أعشابنا مقويات، وأكثر الكتب رواجًا في بلادنا هو إعادة الشيخ إلى صباه، وأغلب أغانينا تأوهات وشهقات وحركات لا تليق إلا خلف الأبواب المغلقة والستائر المسدلة.
وفي بلادنا يعشق الحمير صنف المرأة الأوروبية لأنها شخصية، وفي مجلس الرجال تتكلم، إذا دخلت مجتمعًا انحنت الشنبات والصلعات، وإذا أرادت الجلوس قدموا لها الكراسي وعليها الشلتات، وإذا وضعت السيجارة بين شفتيها، تقدموا إليها بالكبريت والولاعات، وتراقص ألف رجل ولا كلمة انتقاد واحدة، وتقبِّل كل رجل يصافحها ولا كلمة عتاب واحدة من بعلها، وتخرج وقت أن تشاء، وتعود وقت أن تشاء، وتقابل في البيت وحدها من تشاء، وترتدي المايوه قطعتين وأحيانًا قطعة واحدة وأحيانًا نصف قطعة، وأحيانًا تنزل البحر زلط ملط، ولكن لا أحد ينظر ولا أحد يبحلق ولا أحد يهتم.
ولكن في بلاد الحمير إذا سارت في الطريق أتان مقشفة، طاردها أكثر من حمار، وغازلها أكثر من جحش، ولقبوها بالباشا، ووصفوها بالقمر، وتعقبوها حتى يحول بينهم وبينها عسكري الدورية أو بوليس النجدة أو ولاد حتتها، وتصبح عركة ولا عركة أبو زيد الهلالي، وهوجة ولا هوجة عرابي، وحرب ولا حرب البسوس.
ويجلس المستوظف عندنا في مكتبه وفكره شارد في امرأة رآها ذات مرة تنشر الغسيل في البلكونة، وأغلب الروميوهات تبعنا يؤلفون الشعر في جوليت شاهدوها مرةً واحدة في أتوبيس نمرة سبعة. أما نسوان الحمير فحدثني عنهن ولا حرج؛ الحمارة منهن تحب ابن الجيران، ممنوع تتزوج من تحب … لا وألف لا، وتجلس في البيت تنتظر ابن الحلال، ويأتيها ابن الحلال، وفي أغلب الأحيان لا يعرفها ولا تعرفه، ويتزوجان وتبدأ المشاكل؛ مشاكل من كل صنف وعلى كل لون، وفي الغالب لا ينفصلان ولكنهما يعيشان مثل ناكر ونكير، بلا حب وبلا مودة، وأحيانًا وبلا حوار، وأحيانًا تقبع الحمارة في بيت الوالد، ولا ترى أحدًا ولا يراها أحد، ثم تقبَل الزواج من أول طارق على الباب … وغالبًا ما يكون في سن جدها، ولكنها تشبثت به كما يتشبث الغريق بالقشة، ولكن بعد عام أو عامين تصبح الحمارة أرملة، وتقضي بقية العمر تنتقل من فراش إلى فراش، أحيانًا تحت يفطة الزواج وأحيانًا بدون!
قالت البنت الفرنساوية: وما لي أنا والتاريخ الأسود لصنف الحمير والحميرات؟
قلت لها: ما دمت أصبحت حميرية، فلا بد من الإحاطة بالتاريخ الحميري كله، حتى تهمدي وتنخمدي وتسكتي وتنكتمي، وإلا … فليس لديَّ إلا البرطوشة وعلى نافوخ حضرتك.
قالت غاضبة: تضربني بالبرطوشة؟
قلت: وما هو أقل من ذلك لو توفرت، ولمعلوماتك يا خواجاية ضرب الزوج لزوجته مشروع، وهو وسيلة من وسائل التأديب والتهذيب، والمحاكم تقره وتوافق عليه؛ باعتبار أن الأدب فضَّلوه على العلم، ولأنه لا يضر صنف النسوان، وكما أكد الفيلسوف عمر الجيزاوي … اكسر للبنت ضلع يطلعلها أربعة وعشرين.
قالت البنت الخواجاية: إلى هذا الحد تحتقرون صنف الحريم؟
قلت للخواجاية: المسألة لا علاقة لها بالاحترام والاحتقار، المسألة يا خواجاية أن بعض الحمير في منطقتنا يعيشون في القرن الخامس، أما الحمير المتطورون فيعيشون في القرن الثامن، وفي بلاد الحمير المتأخرين، يُعتبر وجه البنت عورة، وكعب رجلها عورة، وهي لا ترى زوجها إلا بعد حفلة الزفاف وفي غرفة النوم. أما قيادة السيارة بالنسبة للبنت فهي حرام، ومصير كل سوَّاقة إلى النار، ولأن صوتها عورة فهي تنكتم لا تتكلم مع أحد، وإن كلَّمها أحد لا ترد عليه، وحتى في الجامعة لا تتلقى العلم من أستاذ، ولكنها تتلقى العلم من جهاز تلفزيون، وحتى سائق السيارة يكلمها من قفاه، وهي لا ترد عليه بالكلام ولكن بالإشارة. مع أنه زمان كان يوجد لدينا امرأة في تاريخ الحمير اسمها زرقاء اليمامة، حمت أهلها وقومها من شرور الأعداء، حمت حدودها من الغزو.
زرقاء اليمامة هذه تحولت في هذا العصر إلى خرساء اليمامة، يحدث في بلاد الحمير المتطورة … يحدث ما هو ألعن وما هو أسخم، بالرغم من أننا نعيش في القرن الثامن، إلا أن البنت عندنا تتعرى مثل البنت التي تعيش في القرن العشرين، ولكن دون تجربة ودون عقل، إذا مشت تقصعت كالزمبلك، وإذا وقفت اهتزت كالغصن العيان، وإذا كلمتها أشاحت، وإذا غازلتها نظرت إليك باشمئزاز وقالت يا سِم، وإذا تزوجت تريد أن تسيطر، وهي لا تحب ولكنها تريد أن تمتلك، وفي بلاد القرن العشرين، إذا ما رامت المرأة الغرام مع من تحب، شكرت وحمدت فضل بعلها.
وعندنا يتمنَّعن وهن الراغبات، ويُعرضن وهن المقْبِلات، ويعذَّبن وهن المعذِّبات، مشكلات ولخبطات ولعبكات، وربك عالم بالحاجات والمحتجات.
قالت البنت الفرنساوية وقد سرحت وهجعت: وماذا بعد؟
قلت: لا شيء، تنتظرين في حمى سي السيد حتى السلام، وحسك عينك شباك لا تفتحي، غريب لا تكلمي، باب لا تخرجي، خضار لا تشتري، لحمة لا تقطعي، طلباتك مجابة وحاجتك واصلة لحد عندك، ومهمتك الوحيدة انتظار سي السيد حتى يعود آخر الليل بعد القعدة مع الصحاب والأحباب، وفي الصيف سأجلب لك البطيخ الشليان، والعنب البناتي، والمشمش اللي الهوى هزك يا مشمش، وفي الشتاء سأحمل معي عند العودة ورقة اللحمة وكيس الطرشي البلدي والبرتقال أبو سرة وبرطمان المفتقة لزوم الهلاضيم والتختخة، ولو استمرت الأحوال، ستصبحين كالمحمل … وهِز يا وز، ويا أرض احفظي ما عليكي، وتصبحين مثل رفيعة هانم والعبد لله مثل السبع أفندي، وسيصيبك السكر وضغط الدم والنقرس، لكن كل داء وله دواء، وكل الأمراض دواؤها موجود عند الست عزيزة العمشة؛ حيث العمل جاهز ويمكن ربطه في ذيل قرموط أو دفنُه في تربة ميت.
قالت البنت صارخة: تربة ميت! وعمل! أي عمل هذا وأنا لا عمل لي إلا دراسة السلالات ومعرفة أصل الأجناس، وتخصصي في العصر الحميري بالذات!
قلت: ما حكيته لك الآن هو سر العصر الحميري ولغزه ومفتاحه وسحره ورونقه وعزه، وما دمت أصبحت الآن حميرية، فعليك الغوص في العصر الحميري حتى القاع.
قالت: من أجل العلم كل شيء يهون، وكل أمر مطاع.
قلت: اتفقنا … تعالي الآن إلى الفراش، وغدًا يوم آخر!