أولاد كاليوني!
قالت البنت الفرنساوية وقد نفخها الغيظ فصارت كالبطيخة الصيفي: حجتك سقطت أيها الحمار، وعاصفة الصحراء انتهت، وعمك بوش أعلن أمام العالم كله اندحار العدوان وانتهاء الحرب، ونستطيع الآن أن نذهب إلى العصر الحميري نتمشى ونتمشكح، نتجول ونتحول، نبشر وننكش، وبالتأكيد سنصل إلى جذور العصر الحميري، وسنعرف أصوله وفصوله، وسأصير عالمة يُشار إليها بالبنان، وسأحصل على الدكتوراه والبيلي باه، وستدخل التاريخ معي رغم أنفك؛ باعتبارك الحمار الذي ركبتُه وطفت به العصر الحميري، من أدناه إلى أقصاه.
قلت: نقبك على شونة أيتها البنت الفرنساوية، فزيارة العصر الحميري قبل الحرب كانت صعبة، وبعد الحرب أصبحت مستحيلة.
قالت البنت الفرنساوية وقد أرعشت حاجبها: ها أنت تحاول خداعي مرة أخرى، ولكني لن أسمح لك؛ فالحرب انتهت والمدافع سكتت، والسفر إلى هناك سيكون متعة مشروعة، وستكون زيارة وتجارة، سياحة وصياعة، إذا أردت أن تأتي معي كان بها، وإذا رفضت، أو تماحكت، أو تملعنت، ففي ستين داهية حضرتك، وأستطيع الاستعانة بأي حمار من الذين تعرفت عليهم من خلالك، ولا تنسَ أنني تعرفت على مائة حمار من أقاربك ومعارفك، وكلهم في الحمورية أكثر منك باعًا وأطول منك ذراعًا.
قلت لها: حذار أيتها الفرنساوية أن تفكري في مثل هذا الأمر! إذا أردت الذهاب إلى العصر الحميري، فاذهبي وحدك وطوِّفي وحدك، أما إذا حاولت الاتصال بأحد من أقربائي أو أحد أصدقائي فقسمًا عظمًا لا بد أن أكون بمطوة قرن غزال قاتلك، ومن شعرك على الأرض أجرجرك، حتى أغسل عاري، وأنقذ الشرف الحماري، فنحن يا بنت المديوبة أبناء العصر الحميري الأُصلاء؛ الذين انحدروا من أصلاب حمير حصاوية وحمير مصرية وحمير يمانية، نحظر تمامًا اتصال زوجة حمار بحمير آخرين.
قالت البنت الفرنساوية وقد مطَّت شفايفها ودكت الأرض بكعبيها: عندما أبدأ الاتصال بالحمير الآخرين لن أكون زوجتك؛ سأكون قد حصلت على الطلاق، وسيكون من حقي أن أتصل بمن أشاء وفي الوقت الذي أريد.
قلت للبنت الفرنساوية وأنا أكتم الغيظ في قلبي: أسهل لك الصعود إلى الفضاء بدون صاروخ من الحصول على ورقة الطلاق، وعليك الآن أن تنصتي وتفهمي.
قالت البنت الفرنساوية وهي تشيح بوجهها: أنصت لإيه وأفهم ماذا؟! إنك لا تقول شيئًا يستحق الإنصات، ومن ينصت لك لا يفهم شيئًا.
قلت لها: اسمعي يا بنت الناس، فلنفترق في هدوء كما التقينا.
قالت البنت: عظيم، هذا أول كلام تقوله له معنى.
قلت لها: وبغض النظر عن سلاطة لسانك وسوء ملافظك، فأنا أريد أن أؤكد لك أن دخول العصر الحميري الآن صار مستحيلًا، صحيح أن الحرب انتهت، ولكن الفتنة ازدادت، والعصر الحميري انقسم بعد الحرب إلى قسمين؛ قسم ينتمي إلى عائلة أم المعارك؛ وهؤلاء هم الأشاوس والنشامى والصناديد … والجزء الثاني ينتسب إلى عاصفة الصحراء … وبين القسمين بحور وجبال وهضاب وتلال، وأنت يا بنت المديوبة فرنساوية وخواجاية، وجنسك من المشاركين في عاصفة الصحراء.
قطعت البنت الفرنساوية حديثي وقالت في استعلاء: هذا يسهِّل الأمر؛ فانتسابي لعاصفة الصحراء يجعلني موضع الترحيب والتكريم في نصف العصر الحميري، ويجعلني آخر مهابة واحترامًا في النصف الثاني.
قلت للفرنساوية: هذا تحليل خاطئ سيؤدي في النهاية إلى قرافة سانت تريزا؛ إذا وقعت في أيدي الأشاوس والنشامى فسيمزقون جسمك إربًا إربًا، وسيدقون عظامك قطعة قطعة، وسيشربون دمك نقطة نقطة؛ لأن هزيمة الأشاوس في أم المعارك ستجعلهم يحاولون تحقيق النصر في أخت المعارك أو بنت المعارك أو بنت خالة الست أم المعارك، وسيعتبرون هزيمتك هزيمة للإمبريالية والكمبرادورية والشواشي العليا للبرجوازية، وسيؤلفون الأغاني ابتهاجًا بالانتصار على حضرتك، وستغني أم الإذاعات … الفرنساوية جاتلنا والنصر اتحقق لنا … وسيعقد الفريق البشير مؤتمرًا صحفيًّا في الخرطوم يهنئ فيه الأشاوس على النصر في أخت المعارك، وستهدد موريتانيا بضرب باريس بالصواريخ إذا عاودت إرسال فرنساوية أخرى إلى أرض النشامى.
قالت البنت الفرنساوية: اطمئن، لن أذهب في جولتي في العصر الحميري إلى القسم الخاضع للأشاوس والنشامى، سأكتفي بزيارة القسم الآخر الذي ينتمي إلى عاصفة الصحراء.
قلت للبنت الفرنساوية: إن زيارتك للقسم الآخر لن تؤدي إلى أي خير، وقد تلقين مصيرًا أبشع من المصير الذي تتعرضين له في القسم التابع لأم المعارك.
قالت البنت الفرنساوية: هذا كلام مضحك؛ فكيف يكون مصيري بشعًا عند حمير عاصفة الصحراء تمامًا كمصيري عند حمير أم المعارك؟
قلت: أيتها البنت الفرنساوية، هذا شيء طبيعي ويتفق مع طبائع وسلوك الناس، سيتصور البعض منهم أنك حضرتِ للمنِّ عليهم بعد معروفك الكبير، وسيتصور كل منهم عندما تخاطبينه أنك تشمخين عليهم بأنفك، فإذا لثغتِ لهم لثغاتك الفرنسية … قالوا تكلمنا من طرطوفة لسانها، وإذا ضحكتِ لهم، قالوا تسخر منا لضعفنا وهواننا على الناس … إذا سألتهم أي شيء قالوا جاءت تقبض المعلوم نظير وقوفها إلى جانبنا ساعة الشدة.
قالت البنت وهي تشخط وتنطر: إلى هذا الحد أنتم معقدون؟
قلت: معقدون … هذه كلمة بسيطة؛ فنحن في الحقيقة لا نعاني من عُقد نفسية كبقية خلق الله، ولكننا نعاني من غدد نفسية. ولدينا قصة في تاريخنا مضحكة للغاية؛ إذ يُحكى أن الخليفة نزل النهر للسباحة، فأدركه التعب فكاد يغرق ويجرفه التيار، ولما كان الخليفة وحده، فقد صرخ طالبًا النجدة من الأشاوس أولاد الحلال، وهرع لنجدته فلاح طيب كان موجودًا في أرضه المحاذية لشاطئ النهر، خلع الرجل الشهم هدومه وقفز إلى النهر واستطاع إنقاذ الخليفة وجرَّه إلى البر، ووقف الخليفة على البر عريانًا بلبوصًا؛ يرتعش من شدة البرد، ويبكي من شدة الخوف، وراح الفلاح البائس الغلبان يواسيه ويطيب خاطره، وعندما حدَّق في وجهه اكتشف أنه الخليفة، فقال له: أنت الخليفة؟ حمدًا لله على سلامتك يا مولاي.
قال الخليفة للفلاح: نعم أنا الخليفة وأشكرك بشدة، وسأصلك بجائزة تعينك على الشيخوخة وتقيك غدر الزمان، فقط انتظر حتى أرتدي هدومي وأصلح من شأني وأضع عمامة الملك على رأسي، ثم أدبر لك أمرك مما يجعلك آخر أمان وطمان. فلما ارتدى الخليفة هدومه، ووضع عمامة الحكم على جبينه؛ استل سيفه وقطع رقبة الفلاح الغلبان الذي أنقذه من الغرق ونجَّاه من الموت.
قالت: هذه قصة فردية، وهذا الخليفة مجنون بدون شك، وهذا الفلاح سيئ الحظ.
قلت: هذا هو التفسير الفرنسي للتاريخ، أما التفسير الحميري، وهو الأصدق، فيقول: إن كل الحمير يسلكون سلوك الخليفة، ويا ويل من يراهم في موقف ضعف أو يضبطهم في وضعٍ ذليل أو مُهين! سيضربونه بالأحاذي (جمع حذاء) حتى ولو كان قد عرَّض نفسه للموت من أجلهم، أو باع عياله لإكرامهم، فالأشاوس يكرهون أن يراهم أحد في حالة بعيدة عن الأشْوَسة، فهم يحبون الظهور دائمًا متأشوسين ومتنشِّمين؛ بينما العالم كله ركش؛ ولذلك فوضع طبيعي أن يلقى كل من عاون أو ساعد أو ساهم في نصرة الحمير المستضعفين، طبيعي جدًّا أن يلقى الإهانة إذا ما ذهب في زيارة أو في جولة أو في رحلة إلى بلاد الإخوة الذين كانوا أشاوس، ثم هجم عليهم حمير آخرون أكثر أشْوَسة. إنها مسألة معقدة صحيح، ولكن هذا هو سِلْو أهل العصر الحميري، ومهما حاولنا إفهامك حقيقة أحوالنا فإنك لم تفهمي؛ لأنك لكي تفهمي لا بد أن تكوني حمارة من صلب حمير.
قالت البنت الفرنساوية متحدية: وعلى فرض أنهم سيقتلونني ويمزقونني ويشربون من دمي، فهل سيحدث ذلك في أول يوم من زيارتي للعصر الحميري؟
ولم تنتظر البنت جوابًا ولكنها أجابت بنفسها قائلةً: إذا حدث لي ما تحذرني منه فسيكون ذلك بعد شهر من زيارتي، وربما بعد شهرين، وربما بعد أسبوعين، وسيكون هذا وقتًا كافيًا أدوِّن فيه ملاحظاتي ومشاهداتي وتحليلاتي. وهذا الذي سأدونه سيفتح الطريق أمام العلماء والباحثين لفهم العصر الحميري والغوص في أعماقه، وحتى لو مت بعد ذلك فسأدخل التاريخ من أوسع أبوابه، ولن يُذكر العصر الحميري إلا ويذكروني قبله، ولن يكون للعصر الحميري أي ذكر إلا إذا جاء ذكري معه.
قلت للبنت الفرنساوية: خيبتك يا خواجاية أنك تحسبين الأمور بمقياس عصرك، ولكن الأمور في العصر الحميري تجري بلا مقياس، خيبتنا الحقيقية في العصر الحميري أننا بلا مقياس، وبلا حدود، وبلا ضابط، وبلا رابط، ندخل معركة لا نطلق فيها أي طلقة ونسميها أم المعارك، ندوخ دوخة الأرملة ثم نعلن أننا كنا على موعد مع القدر، ترتفع الأسعار كل يوم في بلادنا لتصل إلى أرقام فلكية، ثم نعلن أننا دخلنا في عام الرخاء، نأكل ضربًا لا يأكله حرامي في مولد، ونصدر عُملة عليها علامة الانتصار، تقوم مظاهرة في مدينة صغيرة فنضربها بمدافع الميدان، ثم نتهم المشتركين فيها بالخيانة، ونؤكد أن كل فرد في المظاهرة حصل على عدة ملايين من الدولارات، مع أن أغلب المشتركين في المظاهرة ينامون من غير عشاء، وأغلبهم كان يهرش في جسده أثناء المظاهرة من وخز الدمامل وتقيُّح الجروح، وأي معارض لنا نتهمه بالخيانة، وكل من يخالفنا الرأي جاسوس، وكل من ليس معنا فهو ضدنا، وليس في الدنيا أصوب من أحكامنا، ولا أحكم من قراراتنا، ولا أشرف من أخلاقنا، ولا أطهر من أرومتنا، وصنفنا خُلق للريادة والسيادة، وحنَّا للضيف، وحنَّا للسيف، وشاعرنا هو الذي قال:
وقال آخر:
كلام وطق حنك ودردشة ورغي عمَّال على بطَّال، لا أحد يستطيع أن يعرف جِدَّنا من هزلنا؛ فنحن نجِدُّ في ساعة الهزل، ونهزل في ساعة الجد. مأساتنا أعمق من مأساة أبناء كاليوني؛ وهي المأساة التي حددها كاليوني نفسُه حين قال … مأساة أولادي أنهم يتكلمون حين يجب أن ينصتوا، وينصتون حين يجب أن يتكلموا. مأساتنا أعمق من مأساة أولاد كاليوني؛ لأن الحمير تبعنا يحاربون حين يجب أن يتفاوضوا، ويتفاوضون حين يجب أن يقاتلوا، إنها سمة حياتنا، وعلامة على جنسنا، نحكم بالحديد والنار ونصدر المجلدات في فوائد الديمقراطية، ننشئ مجالس نيابية ونمنع أعضاءها من الكلام أو المناقشة، فإن تكلموا أو تناقشوا، قدمناهم لمحكمة العيب أو مجلس قيادة الثورة أو اللجان الشعبية، فالأسماء عندنا لا تعني شيئًا، وأبلغ دليل على عبقريتنا أن لدينا مؤسسات متشابهة وأسماء مختلفة، وعندنا في العصر الحميري نظام واحد وشعارات مختلفة، ويتصور الخواجات أمثالكم أن لدينا في العصر الحميري نظمًا تقدمية ونظمًا رجعية، مع أنه لا يوجد على وجه الأرض ما هو أسوأ من النظم الرجعية في بلادنا إلا النظم التقدمية؛ ولذلك إذا ذهبتِ وحدك يا خواجاية إلى العصر الحميري، فلن تفهمي شيئًا ولن تخرجي بشيء، ولن تذهبي إلى هناك مع أحد أقربائي أو أحد أصدقائي؛ لأنني أقسمت بسيدي الطرطوشي أنك لو فعلت ذلك لأقتلك وأشرب من دمك، لا مناص إلا بالذهاب معي، وستذهبين معي بإذن الله ورغم أنفك، وسنطوف بالعصر الحميري كما نشاء وفي الوقت الذي نريده، ولكن سنختار الوقت المناسب عندما تهدأ الأمور، وتطيب النفوس، ويضيع الأثر السيئ الذي تركته عاصفة الصحراء في حربها مع أم المعارك.
قالت البنت الفرنساوية وقد بدأت تنصت وتفهم أيضًا: ومتى يكون ذلك يا حماري العزيز؟
قلت: في الجزء الثاني بإذن ربي، وأعدك يا خواجاية بأن نتجول في العصر الحميري كعَّابي وعلى مهلنا وبراحتنا، ومن طنجة إلى صنعاء.
قالت البنت الخواجاية وقد بدا عليها الاقتناع: آه يا حماري العزيز … غلبت ولم يغلب حماري، وسأصبر وأنتظر، وأرجو أن يصل العصر الحميري قريبًا إلى حالته الطبيعية؛ لكي نتمكن من التجوال معًا … من طنجة إلى الشارقة، ومن عطبرة إلى القنطرة، ومن الكوفة إلى الشلوفة، ومن تونس إلى خان يونس، ومن اليمامة إلى وادي سلامة؛ لنشاهد كل شبر في العصر الحميري، ونلمس كل حجر في العصر الحميري، ونتكلم مع أكبر عدد من الحمير من أبناء العصر الحميري؛ هذا وعدٌ عليَّ ومكتوب أيضًا … وبإذن واحد أحد سنجوب العصر الحميري معًا في يوم في شهر في سنة … قولي إن شاء الله … قوليها ولو بالفرنساوي … فالسماء مفتوحة تقبل كل الدعوات بكل اللغات!
وإلى اللقاء في الجزء الثاني بإذن واحد أحد.