الكفاية والعدل!
وركبنا ترامًا تحت الأرض، تخيلوا ترامًا يمشي تحت الأرض وفوقنا البيوت والسيارات والبني آدمين، واندهشت البنت لدهشتي فقالت: ألا تحفرون الأرض في بلادكم؟ قلت: نعم نحفرها باستمرار، وستجدين في كل شارع ألف حفرة وحفرة، واسمها العلمي مطبَّات؛ ولذلك ستجدين في كل مدينة مائة ألف أعرج وأعوج! ولأنها حفريات أثرية، فنحن نحافظ عليها بكل ما نملك، ولدينا كل المخترعات وكل المنتجات، ولكنها في بلادنا تختلف تمامًا عما هو موجود في بلادكم.
مثلًا عندنا تليفونات لا تتكلم، وعندنا ترومايات لا تسير، وعندنا جرائد لا تنشر ما تريد، ولكنها تنشر ما يريده البيه الرقيب أحيانًا والبيه المعلِن أحيانًا، وعندنا حكومات يخدمها الجمهور، ولكنها لا تخدم أحدًا، وعندنا أحزاب تتاجر بالكلام والبرامج والوعود، وعندنا شرطة لا تقبض على الجناة ولكن على الضحية، وعندنا مائة ألف دكتور في العلوم والفنون والآداب وتسعون مليون أميٍّ، وعندنا جاموس على قفا من يشيل وبقر على ودنه، ومع ذلك فكيلو اللحم بثلاثمائة ليرة في بيروت وعشرة جنيهات في القاهرة.
قالت البنت وهي مندهشة: والجو هل هو جميل؟
قلت: حدِّثي عن الجو ولا حرج … عندنا جو منور والعقل ضلام، على رأي عمك بيرم التونسي، وعندنا حرارة يا خسارة، وبرود أجسام، وألف مليون زلمة، لكن أغنام.
قالت: جعلتني أشتاق لرؤية بلادكم، ما أعظم أن يعيش الإنسان في عصرٍ منقرض! لو رزقني الله بطفلٍ منك سآخذه إلى موطنه الأصلي؛ ليرى العصر على الطبيعة.
قلت ونحن جلوس معًا في شقتها، أقصد في حجرتها: هل هذه الحجرة فقط هي كل ما تستأجرين؟
قالت: بالطبع، فأنا لا أحتاج لأكثر من هذا … غرفة كبيرة، حمام في الركن، مطبخ في الركن الآخر، والسرير هناك، ومقعدان لزوم الجلوس والمسامرة.
قلت: وكلكم كذلك؟ قالت: بالطبع، باريس مكتظة بالناس، وكل فرد ولا بد أن يكون له مسكن، سألتها: لا بد؟ قالت: بالطبع لا بد وألف بد، هتفت من شدة السخط: يا سبحان الله! أنتم أيها الخواجات تصنعون قوانين ما أنزل الله بها من سلطان. عندنا في العصر الحميري فرد واحد يسكن في قصر، وعشرة يسكنون في حجرة، وفي الحجرة الواحدة زوج وزوجة وأولاد، وسعداء الحظ الذين لا يملكون حجرة، أمامهم الأرصفة؛ ففيها متَّسع للجميع، وأنت تعرفين الرصيف بالطبع، والجو في بلادنا حارٌّ جاف صيفًا، وما أحلى البرطعة على الرصيف في ليالي الصيف!
وقالت البنت: ما أحلى النوم على الرصيف! فهؤلاء يستمتعون بحريتهم أكثر بالأرض من تحتهم والسماء من فوقهم، فلا جدران ولا سقف، هل هم الهيبيون؟
قلت: هم رصيفيون، وهم سبقوا الهيبيين بكثير، الفرق الوحيد أن جماعة الرصيفيين فعلوا ذلك رغمًا عنهم، بينما الهيبيون فعلوا ذلك بمزاجهم، ولكن الوسائل واحدة؛ الأسمال البالية، والسجاير المعطرة، والفلس الدائم، وفقدان الوعي، وعدم المشاركة في أي شيء؛ كما أن النتيجة واحدةٌ؛ الضياع، ولا شيء إلا الضياع.
قالت: هم فلاسفة إذن؟
قلت: في بلادنا نطلق عليهم لقب مفالسة، ومفردها مفلس، ومصدرها إفلاس!
قالت: إذن كلكم في بلادكم تستمتعون بهذه الحرية؛ كلكم أحرار، يا للحظ السعيد!
قلت: للأسف لسنا جميعًا، ولكن البعض منا فقط؛ لأن النوم على الرصيف يحتاج إلى عضلاتٍ لكي تدافع عن رصيفك، ويحتاج إلى نقودٍ لرشوة عسكري الدرك.
قالت: عسكري الدرك! وما هو عسكري الدرك؟ قلت: اختراعٌ حميري ربما لم تصلوا إليه بعد، ففي كل شارع في بلادنا عسكري درك مهمته حماية أصحاب المساكن من أصحاب الرصيف، ولكنه فقَد الاهتمام بوظيفته مع مرور الزمن، وتفرَّغ لبيع الرصيف لمن يرغب من المفالسة.
سألتني: طيب، والذين يرفضون الدفع؟
قلت: هؤلاء انسحبوا في هدوءٍ إلى المقابر.
قالت: ماتوا؟
قلت: بل هم أحياءٌ يرزقون، ولكنهم ذهبوا وسكنوا المقابر.
قالت: مع الموتى؟
قلت: بالضبط، الأم تطبخ طعامها فوق شاهد المقبرة، ويموت الشخص الذي يسكن المقبرة فينزل عدة درجات ليستقر تحتها!
قالت: ما أعمق حكمتكم! وما أعظمكم من حكماء! ألغيتم الموت عندما سكنتم مع الموتى، أرجوك لا تصرح بهذه الأسرار لأحدٍ غيري … سأهزُّ العالم عندما أصدر كتابي عن العصر الحميري، سأُحدث تحولًا في العالم أخطر بكثيرٍ من التحول الذي أحدثه أينشتاين بنظرية النسبية، وسأدخل التاريخ بنظرية الحميرية.
قلت للبنت الجهولة: دخلنا مرةً أخرى في النظريات؛ بينما أنا أتكلم عن حقائق موجود بينك وبينها ساعتان بالطائرة إلى المغرب العربي، وأربع ساعات إلى ليبيا، وسبع ساعات إلى الخليج … هل تسمعين بالفجيرة؟
قالت: فواجرا؟ تقصد كبد الأوز البري؟
قلت: أنا لا أقصد الفواجرا، أقصد الفجيرة على شاطئ الخليج.
قالت: وماذا؟
قلت: بها كل متناقضات العصر تجسدت وتبلورت على أرضها، فيها ألف مواطن ومائة مليون دولار ميزانية كل عام.
قالت: لا بد أنهم أثرياء وسعداء.
قلت: بل هم أثرياء وتعساء.
قالت: كيف؟
قلت: عندهم فلوس وليس عندهم مجتمع، ولديهم رأس مال ولكن ليس لديهم أدوات إنتاج، ورغم المال والغنى فلديهم فقراء ولا فقراء الهند.
قالت: وهل أنت من الفجيرة؟
قلت: لا، أنا من الفقيرة، أقصد من دميرة.
قالت: وهل دميرة أسعد من فجيرة؟
قلت: ليست أسعد ولا أسوأ، ولكن الفجيرة فيها غنًى وفيها فقر، بينما الدميرة فيها فقر وفيها أفقر، ومركز دميرة مساحته أكبر من مساحة الفجيرة عشر مرات، ومع ذلك فعلى رأسه عمدة يأكل يومًا ويصوم عدة أيام، ويلبس مرةً ويتعرى عدة مرات.
قالت: ولماذا لا يأخذ معونة من الفجيرة؟
قلت: وكيف يأخذها وهو لا يستطيع السفر إلى هناك، لأن السفر إلى هناك يحتاج إلى تأشيرة وإلى كفيل؟ وحتى عندما يأتي أهل الفجيرة إلى بلادنا لا يذهبون إلى مركز دميرة، ولكنهم يذهبون إلى ملهى البجعة وكازينو الليل، قالت: الليل؟ ذكرتني بالليل وما في الليل، فهيا ننعم بالليل وما في الليل أيها الحمار الطيب.
وفي الليل قالت: ما مكان بلدكم على الخريطة؟ قلت: لا مكان لها على الإطلاق، فهي موجودة وغير موجودة، وأهلها أحياء وغير أحياء، وأهلها جميعًا من أبناء العصر الحميري؛ كما يحلو لحضرتك أن تطلقي عليه، قالت: غريبة! لم أكن أعلم أن هناك بلادًا من العصر الحميري لا تزال تحيا في القرن العشرين.
قلت: ومن قال لك إنها تحيا في القرن العشرين؟ ربما تكون في القرن العشرين قبل الميلاد، وربما تكون في القرن العشرين قبل التاريخ، وقبل الجغرافيا وقبل علوم الجبر والحساب، ومع ذلك فالأحوال ليست سيئة إلى هذا الحد، والأمور ليست متدهورة إلى هذه الدرجة، والحياة ليست هكذا ظلامًا في ظلام كما كانت الدنيا في البدء.
قالت: إذن لديكم نقط مضيئة وإنجازات رائعة؟ قلت: بالطبع.
قالت: حدِّثني عنها أرجوك، فلا بد أن إنجازاتكم الحميرية فاقت كل وصف.
قلت: عندنا اختراعات لا أظن أن مثلها عندكم، ولا أظن أنكم سترون مثلها عما قريب.
قالت: اضرب مثلًا، قلت: لقد حدثتك من قبل عن اختراع عسكري الدَّرَك الذي كانت مهمته في الأصل حماية أصحاب المساكن من أصحاب الأرصفة، ثم نسي المهمة فتفرغ لبيع الأرصفة. وعندنا اختراع اسمه المخبر، وهو جدع طويل وعريض، كف يده مثل المطرقة، إذا لكش به رجلًا على قفاه انكفأ الرجل على وجهه، وإذا لكشه على وجهه انكفأ الرجل على قفاه، إنه التجسيد الحي لشعار الكفاية والعدل؛ يكفيه على وجهه؛ وهذه هي الكفاية، ويعدله على قفاه؛ وهذا هو العدل، ومهمته السعي في الليل يجوس خلال الديار، يعكم كل من يلقاه في الطريق؛ خصوصًا إذا كان من النوع المتقمل أو المتأمل؛ فالأول جربان، والثاني سرحان. ثم هو حريص على أن يعكم أي امرأة في الطريق بعد العاشرة مساءً، حتى لو كانت في طريقها لشراء دواء لابنها المصدور، أو رغيف لابنها الجائع، فالشرف فضَّلوه على الأدب، والأدب فضلوه على العلم، والأمن فضلوه على الجميع!
وهو في آخر الليل يسحب صيده؛ عيالًا يمارسون أعمالًا حرة، ورجالًا بلا عمل، وأعمالًا بلا أمل، وأفندية بلا نفوذ أو فلوس، ويربِط الجميع في حبلٍ؛ تعبيرًا عن اتحاد قوى الشعب العاطل، ثم يسحب الجميع إلى الحجز، هل تعرفين الحجز؟
قالت: بالطبع أنا أعرف الحجز، إذا كنت مسافرًا فلا بد أن تحجز مكانًا، وإذا أردت أن تدخل المسرح فلا بد أن تحجز مقعدك قبلها بعدة أيام.
قلت: لا، ليس هذا هو الحجز في بلادنا؛ الحجز في بلادنا شيء مختلف، الحجز في بلادنا غرفة بلا باب ولا شبَّاك، عارية تمامًا، أرضيتها أسفلت، وحيطانها زفت، وفي كل ركن جيش من الأكلان؛ وهو يشرب دم البني آدم ولا يشبع، ويأكل لحمه ولا يبشم. وفي هذا الحجز يمكن لأي عسكري شرطة أن يلقي أي مواطن عددًا من الأيام، مع أننا جميعًا — أبناء العصر الحميري من المحيط إلى الخليج — نعيش في ظل سيادة الأخ العزيز؛ القانون!
قالت البنت وهي تتلوى: ولكن كيف تسير الأمور هكذا وعندكم قانون؟
قلت: لا بأس، ففي بلادنا كل شيء ممكن وكل شيء جائز وكل شيء معقول، والحجز موجود، والقانون موجود، وبينهما تعايش سلمي! وهما يسيران على خطين متوازيين ولن يلتقيا … القانون في الشرق، والحجز في الغرب، والناس في بلادي لا تغضب، ولا تأسف، ولا اعتراض لديهم ولا مانع، فكل ما خلق الله له حكمة؛ حتى السجن والظلمة والكي بالنار.
قالت وقد بدا الحزن عليها: إذن الحجز هو السجن؟
قلت: بالعكس، السجن شيء، والحجز شيء آخر؛ فالسجن من اختراعاتكم؛ لأن السجن اختراع حضاري؛ فالسجَّان مسئول عن طعام المسجون وعن علاجه وعن حياته، وعن يوم محدد لإطلاق سراحه، ولكن الحجز اختراع حميري؛ فلا أكل ولا كساء ولا علاج ولا إفراج أيضًا، إلا إذا رقَّ قلب حضرة البيه المأمور والبيه الضابط والبيه المخبر.
قالت وقد بدا عليها الأسف: طيب، وإذا لم ترقَّ هذه القلوب جميعًا ومات الرجل المسكين في الحجز؟
قلت: ولا حاجة، الله جاب، الله خد، والموت حق، وهو مكتوب على الجبين، ولكل أجلٍ كتاب، والذي يموت في الحجز كالذي يموت في الوجد، كلاهما مات عندما تلقَّى استدعاءً من السماء، فلا العشق مسئول، ولا حضرة الضابط مسئول، فأقدارنا بيد السماء القاسية يا نهر البنفسج؛ على رأي عمنا زكريا الحجاوي طيَّب الله ثراه.
قالت: وهل مات زكريا الحجاوي؟
قلت: البقية في حياتك.
قالت: وهل مات في الحجز؟
قلت: بل مات في الدوحة، وبعد أن داخ السبع دوخات.
وبدا عليها أنها لم تفهم وإن كان الحزن قد بدا على وجهها بشكل أوضح، فقلت لها: لا تحزني على عمك زكريا؛ لأن الموت عندنا غير الموت عندكم، فإذا كان الموت عندكم هو نهاية لحياة هي في الأصل جميلة ولذيذة، فالموت عندنا هو خلاص من حياةٍ هي في الواقع تأديب وتهذيب وإصلاح؛ ولذلك لم نحزن لموت عمك زكريا الحجاوي؛ لأن الميت ما أسعد حظه! والحي يا أسفى عليه!
•••
تمطت البنت ثم تنهدت ثم عطست ثم كحَّت، ثم قالت في صوت مبحوح مسلوخ: يا لك من شقي؛ جعلتني أسرح خلفك في القرون السحيقة، وأخذتني من يدي في جولة رهيبة عبر دروب مدن دالت وشوارع اندثرت، أجلستني مع أصنافٍ من البشر انقرضت، ولكنك على أي حال أشهد لك بأن روحك خفيفة، ودمك أخف من روحك، وعقلك أخف من الجميع.
قلت للخواجاية الدلوعة: كلامك معقول وقولك مقبول، لولا أني أختلف معك في شيءٍ واحد؛ فأنا بالفعل روحي خفيفة ودمي أخف، ولكن عقلي خفَّ وشفَّ حتى اختفى تمامًا وصار بلا وجود. والحق أن عقلي معذور يا حضرة البنت الحلوة؛ لأن الأمور في العصر الحميري تجعل العقول تختفي وتزول. وقالت البنت مستنكرةً: ولماذا؟ أنت حمار وتعيش في العصر الحميري، فلماذا الغضب والاحتجاج؟
قلت: هذا صحيح يا أيتها البنت الفرنساوية، ولكن الأمر المحير أنني ما دمت حمارًا والكل حمير والعصر أيضًا حميري، فلماذا يكون بيننا المدير وبيننا الوزير، ومنا السفير ومنا الفقير، ومنا الثريُّ الأمثل والفقير الأحول، وفينا المحتاج ومدير الإنتاج؟ هل دخلت يومًا حظيرة حمير فوجدت أحدهم لا يجد تبنًا والآخر يبعثر تبنًا وشعيرًا على صنف الأتان؛ وهي أنثى الحمار؟ هل وجدت حمارًا صاحب عمارة وكل السكان حمير؟ هل رأيت حمارًا مسجونًا وحمارًا سجَّانًا في أي إسطبل أو في أي موقف حمير؟
سرحت البنت وهمست: يا للأعاجيب! إن ما تقوله صحيح، لم أشهد في حياتي حمارًا يركب أو يأمر حمارًا، ولكن الحمير في الهوى حمير، وكلامك هذا يجرنا إلى سؤالٍ آخر؛ هل لديكم قضاء كما لدى الآخرين؟
قلت: يا سيدتي كل شيء موجود وكل شيء حاضر، وإذا كان لديكم قضاء فلدينا قضاء وقدر، وإذا كان لديكم حكومات فلدينا عكومات، مهمتها عكْم كل حمار ينهق في وجهها أو يرفس في ظهرها! ثم لدينا اختراع حكومي لا أظن أن أحدًا قد توصل إليه؛ ففي بلادنا لا تسأل الحكومة المواطن كيف يحيا وليس لديها أي اهتمام بالحمار المواطن ما دام يعيش، ولكن إذا مات أي حمار جربان أو عدمان، نشطت جميع أجهزة الحكومة تسأل وتدقق وتفتش وتحقق؛ لتعرف كيف نفَق الحمار، وسيحضر على الفور مفتش الصحة وضابط المباحث وعشرة من المخبرين الكرام.
سألتني البنت: وما السبب؟
قلت: لأن المواطنين الحمير في بلادنا كلهم متهم حتى تثبت إدانته.
وقالت: عندنا موجود أيضًا مع فارقٍ بسيط؛ هو أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
قلت: نعم أعلم ذلك، ولكن هذا مبدأ لا يصلح للمجتمع الحميري.
قالت: وعلى ذلك فالحياة قاسية والمعيشة لا تطاق؟
قلت: بالعكس؛ فالحياة آخر سبهللة وآخر صهللة، فالناس تتكاثر كالدبان وتتوالد كالدود عن طريق الانقسام، والشمس مرعرعة، والسماء صافية، والجو آخر حلاوة وآخر طلاوة، والناس آخر رضا وآخر انسجام، واللي مكتوب على الجبين يا قلبي لازم تشوفه العين.
قالت: إذن فأنتم مبسوطون مسرورون وآخر مزاج وانشكاح.
قلت: تمام.
قالت: هذا إذن يثبت أنكم أنقياء، لم تخالط دماءكم أيةُ عناصر غريبة، فلا هكسوس ولا تتار ولا فرس ولا رومان ولا أتراك ولا جريج استطاعوا التأثير فيكم.
قلت: بالعكس، بل نحن الذين أثرنا فيهم، وكانوا يأتون إلينا في البداية مختلفين تمامًا، ولكنهم في النهاية يخرجون حميرًا بإذن الله.
قالت: لو صح كلامك لصار هذا كشفًا تاريخيًّا عظيمًا، قلت: هناك مثل واضح يثبت صحة ما أقول، عندك الأتراك مثلًا، عندما جاءوا إلينا بقيادة عمك سليم كانوا أقوى ناس في الأرض وأعظم صنف بشر على وجه البسيطة، وعندما خرجوا من عندنا كانوا الرجل المريض في أوروبا والرجل الميت في آسيا والرجل المتسول في بلاد الحمير.
قالت: وما السبب؟
قلت: السبب نحن … ينظر إلينا الآخرون فيعجبون ثم يتحول الإعجاب إلى حبٍّ والحب إلى هيام والهيام إلى عشق، ثم يقلدون ثم يتصورون أنهم حميرٌ مثلنا، ولكنهم يفشلون لأن الحمورية وَقْف علينا؛ ولأنهم حمير تقليد بينما نحن الأصل.
قالت بعدما استمعت وانكشعت: أعتقد أنني الآن أستطيع أن أنال درجة الدكتوراه بامتياز، لو أنني قدمت هذه المعلومات إلى جامعة السوربون.
قلت: ولكني لم أنتهِ بعد مِن سرد العصر الحميري السابع.
قالت: إذن عندك أمثلة أخرى يا حماري العزيز.
قلت: العلة أبلغ الأمثلة وأعمقها؛ لأنه مثل معاصر.
قالت: قل أيها الحمار العبقري … إن هذه أول مرة أرى فيها حمارًا وعبقريًّا في الوقت نفسه، ولكن دعنا الآن نأخذ قسطًا من الراحة؛ لكي نعاود الحديث في الصباح.