لك هادا … والشاويش حمدان!

قالت البنت العصفورة الكركورة: أعتقد أنك تبالغ يا حماري العزيز … قلت: بالعكس، بل أنا متواضع، والحقيقة أسوأ من هذا بكثير، فمثلًا، نحن نعيش في رقعة أرض واحدة، ونتكلم لغة واحدة، ونعبد إلهًا واحدًا، ومع ذلك، فكل عشرة أمتار نحتاج إلى تأشيرة دخول، وتغيير عملة، وإقامة من دوائر الشرطة، وأحيانًا نحتاج إلى كفيل، قُطر واحد من أقطار العصر الحميري يسمح لأبناء العصر الحميري بالدخول دون تأشيرة دخول، ولكنه إذا أراد أن يخرج فعليه أن يحصل على تأشيرة خروج!

ولدينا فوق ذلك عشرات الرؤساء، وعشرات الملوك، وعشرات الأمراء، وبعض السلاطين! ولدينا حكومات ووزراء ومئات اللوائح والقوانين! وزمان في بلادنا خرج رجل بسيط فقير مندهش على الدوام، اسمه ابن بطوطة، خرج من طنجة بلاد الله لخلق الله، وذهب إلى تلمسان، ومن تلمسان إلى الجزائر، ومن الجزائر إلى صفاقس، ومن صفاقس إلى طرابلس، ومن طرابلس إلى سيوة، ومن سيوة إلى الإسكندرية، ومن الإسكندرية إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى غزة، ومن غزة إلى القدس، ومن القدس إلى دمشق الشام، ومن دمشق الشام إلى بغداد، ومن بغداد إلى الحجاز، ومن الحجاز إلى البحرين، ومن البحرين إلى مسقط، ومن مسقط إلى صنعاء، ومن صنعاء إلى عدن، ومن عدن إلى الصومال، ثم عاد من حيث جاء، ولم يستوقفه أحد، ولم يفتشه أحد، ولم يسأله أحد إبراز الهوية أو الجواز، ونزل في كل مكانٍ أهلًا وسهلًا، آخر مراحب وآخر احترام، ولقد تم هذا منذ ألف عام، قبل حلول العصر الحميري الذي نحياه الآن، ترى أيتها الست الكركورة الغندورة، ماذا يحدث الآن لو جاء ابن بطوطة آخر وأراد أن يلف بلاد العرب، وأن يزور أبناء الأرومة والعمومة الأعزاء؟ وإذا حدثت معجزة ونجا بجلده من طنجة، فسيقضي بقية العمر في سجون صفاقس، فإذا نجا من صفاقس فسيموت حتمًا في تخشيبة محافظة الإسكندرية، فإذا استطاع أن ينجو من كل هذا، فسيقضي نحبه قبل أن يستطيع الحصول على تأشيرة دخول للخليج، فإذا حصل عليها قبل الموت، فلا بد له إذا أراد أن يتاجر أو يكتب أو يؤلف كتابًا، أن يبحث لنفسه عن كفيل!

قالت: هذا في بلادكم، أما في بلادنا فالأمر يختلف.

قلت: أبدًا، الحال من بعضه، ونحن وأنتم في الهموم سواء؛ فأوروبا دولة واحدة، ودين واحد، واقتصاد واحد، ومطامع واحدة، ومع ذلك عشرون دولة، وعشرون حكومة، وعشرون صنفًا من أصناف العملة، وعشرون جواز سفر، وعشرون خيبة بالويبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

•••

قالت البنت الكركورة: خيَّبك الله! اكتشفت أنك من العصر الحميري، فاكتشفت أنت أنني من فصيلتكم، ورغم أنني غير مقتنعة إلا أنك جعلت الفار يلعب في عبِّي، ولكن بالرغم من ذلك، فأنا مصممة على أن أنجب لك طفلًا، فأنا ما زلت متأكدة من أنك الحمار الوحيد الباقي على قيد الحياة.

قلت: أما ذلك فدونه ضرب الرقاب، ليس بسبب عفَّتي وتمنُّعي لا سمح الله، ولكن بسبب عجزي وشيخوختي، فأنا حمار صحيح، ولكني حمار عقيم … عقيمٌ يا كركورتي.

وفي الصباح الباكر أيقظتني البنت الحلوة بعد أن قرصتني وزغزغتني، وقالت: لقد شوَّقتني لرؤية بلادك أيها الحمار العجوز، فلا بد أن الهدوء يرفرف على ربوعها، والطمأنينة تسكن في قلوب جموعها، ولا بد أن كل شيء وأي شيء هادئ وعلى ما يرام.

قلت للست الغندورة: ومن أين هبط عليك هذا التصور العجيب؟

قالت وهي تتقصع وتتمطع: ما دمتم حميرًا، فلا شيء لديكم إلا الأكل والنهيق.

قلت: هذا صحيح أيتها الست الكركورة في عالم الحمير، أما في عالم الحمير البني آدمين، فالأمر يختلف؛ ففي بلادنا حرب أهلية على ودنه، ومذابح ولا مذبحة محمد علي في القلعة لصنف المماليك.

قالت: مماليك! تقصد ملوك؟

قلت: لا، أقصد مماليك، وهم صنف من البشر اشتريناهم، نحن الحمير، بفلوسنا، وأطعمناهم من قوتنا، وربيناهم، وعلمناهم، ثم نصَّبناهم ملوكًا علينا، فضربونا ضرْب غرائب الإبل، واستنزفونا ولا استنزاف أمريكا في كوريا، واستمروا حكَّامًا علينا لمدة ستمائة عام دون أن يكونوا معتنقين بديننا، أو ملمِّين بلغتنا، أو عارفين بأحوالنا!

قالت البنت مندهشة: ولكن لماذا لم تثوروا ضدهم ولم تنقلبوا عليهم؟

قلت: حدثت ضدهم ألف ثورة، ولكنها لم تكن من جانبنا، ولكن الثوار كانوا من صنف المماليك أيضًا، بينما كنا نحن نشاهد ونتفرج، وننتظر من يغلب لنؤدي له الجزية، ونمنحه ولاءنا صاغرين!

قالت: كيف؟

قلت: لأن حكمتنا هي عصير تجاربنا، ولدينا شعار نعمل به جميعًا، شعار يقول: اللي يتجوز أمي أقول له: يا عمي! ولدينا مثل يقول: إن لقيت بلد بتعبد عجل حِش واديله!

قالت: وهل جميع الناس كانت تحش وتديله؟

قلت: في الواقع لم يكن جميع الناس، ولكن بعضهم فقط؛ فقد انقسم الناس إلى قسمين؛ ناس تحش وتديله، وناس تحشش وتديها!

فقالت: تحشش! تعني أنهم كانوا يحشون كثيرًا؟

قلت: لا، فالذي يحش اختار موقفه، وقرر أن ينتظم في الصف، وأن يلتزم بالموافقة؛ ليصبح في النهاية مواطنًا صالحًا ترضى عنه الحكومة وأجهزة الأمن، أما الذي يحشش، فقد آثر أن ينفصل، ليس عن النظام، ولكن عن العصر، فهو يختار العصر الذي يريد أن يعيش فيه، في الماضي، في المستقبل، كل حشَّاش حر يختار الزمن الذي يريد أن يعيش فيه، ويختار المكان الذي يريد أن يقيم فيه.

قالت: ولكن كيف يستطيع أن يحقق أمنيةً عزيزة يتمنى كل إنسان أن يحققها لو استطاع؟

قلت: المسألة بسيطة، ما على الحشاش إلا أن يختار، ثم يشفط من الجوزة شفطة، ويكون أفضل وأسرع لو استطاع أن يكتم الأنفاس، وعلى الفور سينتقل إلى المكان الذي يريد والعصر الذي يختار!

قالت: يا لكم من مخترعين ليس لكم مثيل! اخترعتم أشياء لم تصل إليها حتى أحلامنا وانتقلتم في سرعة الصاروخ، ليس من مكانٍ إلى آخر، ولكن من عصرٍ إلى آخر، لقد حققتم معجزة بكل المقاييس.

قلت: عندنا من هذه الاختراعات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولكن فلنؤجل هذا الحديث الآن فلكل حادثٍ حديث، لقد كان حديثنا عن الحرب الأهلية المشتعلة عندنا، والمذبحة الشغالة في بلادنا ولا مذبحة المماليك. كان لدينا بلد اسمه لبنان، وكنا جميعًا نحب لبنان، ونموت في لبنان، ونعشق لبنان وجبال لبنان ومزارع لبنان وعيون الماء في لبنان وعرقي لبنان، وكان لبنان متميزًا وله وضع خاص، كان منتجعًا لأثرياء بلدنا، ومتنفَّسًا لأحرار بلادنا، ومنطقة حرة للمذاهب والمبادئ والآراء، حتى جاء رجل من أبنائه فأحاله إلى خرائب وأنقاض، رجل واحد اسمه شمعون، وهو حليوه وعايق وغندور ومنفوش على الفاضي وعلى المليان ولا الديك الرومي الجربان، ولقد حاول أن يهدم لبنان مرتين، مرة في عام ١٩٥٨م، وكان يومها رئيسًا للبلاد، في تلك الأيام نجح شمعون في شق البلاد إلى بلدين وشعبه إلى شعبين، ورفع الأخ السلاح في وجه أخيه، والابن في وجه أبيه، وسالت دماء وأُزهقت أرواح، وتحول لبنان على يديه إلى خرائب وأنقاض، ثم حاول مرةً أخرى أخيرًا، ونجح هذه المرة فيما كان يتوق إليه، وتحول لبنان بالفعل إلى خرائب وصار مأوى للبوم والغربان.

قالت البنت الفرنساوية: أنت تقصد شمعون بيريز؟ قلت: أنا أقصد شمعون كميلز، ويختصرون الاسم في لبنان ويسمونه كميل، وقد حمل لقب الرئاسة مرتين، وفي النهاية كان صاحب وزارتين، كان وسيمًا يصلح مانيكانًا في حي البيجال في باريس، أو صاحب بيت في ساحة البرج في بيروت، ولكنه أخطأ الطريق واشتغل بالسياسة، وأصبح شمعون بين الساسة كما صار شولح بين الأنبياء!

قالت البنت: عجيبةٌ أموركم، وأعجب منها أحوالكم، إذا كان قد حاول تدمير لبنان في العام ١٩٥٨م، فلماذا انتخبتموه وزيرًا لوزارتين في العام ١٩٧٥م؟

قلت: عيبك الوحيد أيتها البنت الفرنساوية أنك تدرسين العصر الحميري على الورق ولا تدرسينه في الطبيعة، فنحن يا بنت الأبالسة لا ننتخب حكامنا ولا نختارهم، ولكنهم يحطُّون على رءوسنا كما المصيبة، وينزلون بنا كما الكارثة، ويجلسون على الكراسي كما المآسي، ولا فكاك منهم إلا بعمك المنقذ عزرائيل!

لوت البنت الفرنساوية بوزها وكشرت عن أسنانها، وقالت: أعوذ بالله، إذن أنتم لا تعرفون الانتخابات؟

قلت: بل نحن أكثر مخاليق الله إجراءً للانتخابات، ونتائجها دايمًا معروفة بإذن الله ٩٩٫٩٩٩٪.

قالت: وتستخدمون الكمبيوتر في معرفة النتائج؟

قلت: بل نستخدم اختراعًا أحدث؛ هو الكِذْبيوتر والتزويوتر!

قالت: الكذبيوتر! لم أسمع به من قبل.

قلت: ولن تسمعي به على الإطلاق، إنه اختراع جديد وقْف علينا، وله قدرة فائقة على حصر الشاردة والواردة، وهو يضع في خانة الذين قالوا: نعم، حتى الشجر والحجر، وأحيانًا يضيف الموتى والمومياوات التي في متحف الآثار.

قالت البنت منشكحة: يا لعمق حضارتكم! ويا لرفعة أفكاركم! تحترمون الموتى فتشركونهم في أمور دنياكم، وتسألونهم عن هوية حكَّامكم، هذا سلوك متحضر، ليس له مثيل على ظهر الكرة الأرضية الآن.

قلت: في الواقع نحن نسلك هذا السلوك ليس احترامًا للموتى، ولكن احترامًا للحكام الأحياء، فنحن نريد لحكامنا أن يبدءوا حكمهم ومعهم تفويض من كل الأمة؛ أحياءً وموتى، حاضرين وغائبين، مقيمين ومسافرين، موافقين ورافضين!

قالت: وهل يوافق القاضي على هذا الأمر؟

قلت: وما علاقة القاضي بهذا الأمر؟

قالت: أليس القاضي هو الذي يشرف على عملية فرز الأصوات؟

قلت: حاشا لله! إن الذي يشرف على عملية الانتخابات هو الشاويش حمدان.

قالت: ومن هو الشاويش حمدان؟

قلت: لا، هذه مسألة عويصة تحتاج إلى تفكير، وهي أيضًا تحتاج إلى وقت لكي يقرأ الصمدية؛ حتى يكفيه شر الشاويشية والضباط النوبتجية، فإلى الصباح يا فرنساوية، إلى حيث الكلام المباح والمستباح!

وفي الصباح استيقظنا على موسيقى ناعمة، وألحان حالمة، وقالت: وعدتني يا حماري العجوز أن تحدثني عن الشاويش حمدان.

قلت: نعم أيتها الست الخواجاية، إن الشاويش حمدان عصب الحياة عندنا، ومحور الحياة في بلادنا، وهو من دم ولحم مثل حالي وحالك، ولكن يميزه الكرش البارز كأنه امرأة حبلى في توءم … وله قفا عريض يصلح للمصافحة! وكما قال عمك بيرم التونسي شاعرنا الشعبي يرثي شاويشًا مات يُدعى غانم، قال بيرم التونسي طيَّب الله ثراه: وانشال سي غانم مرابعة بعد ندب كفاه، ولطم كان يستحقه في حياته قفاه! ثم له بعد ذلك ذراعان اللهم صل على سيدنا النبي كأنه يأكل مع عميان! أو هو في الحقيقة يأكل بالمجان، ويصبح له هذا الحق — الأكل بالمجان — ما دام على ذراعه ثلاثة أشرطة من القصب أحيانًا، ومن المخمل أحيانًا، وحبذا لو زينت الأشرطة نجمة، ويا داهية دقي لو زينها تاج، وستجدين هذا الشاويش في بلادنا في كل مكان؛ في المطار، في الشارع، في المحكمة، في المدارس، في الجامعات.

قالت بنت المهروشة: وهل يذهب الشاويش إلى الجامعة ليتعلم؟

قلت: بل يذهب ليعلم المتعلمين كيف يكون الأدب والنظام، ففي بلادنا شيء اسمه حرس الجامعة، وكأن الجامعة متهمٌ يُخشى هروبه ولا بد له من حرس؛ كأنها حرامي ولا بد للشاويش من مراقبته حتى لا يركن للفرار!

قالت: وهل يعلِّم الشاويش الطلبة النظام والأدب أثناء المحاضرات؟

قلت: بل أثناء المظاهرات، ووسيلته في التعليم سهلة وبسيطة، في البداية يعالج الأمر بالعصا، فإن أفلحت كان بها، وإلا فبالقنابل والرصاص، ولكن خطره الحقيقي ليس الفطور وهو يفكر في أمر تدبير العشاء، ومع ذلك فنحن لا نشعر بأننا موجودون فعلًا على قيد الحياة؛ لأن الحي يرزق، وأغلبنا يعيش ولا يرزق، وبذلك أثبتنا بطلان الوجودية وبطلان المبدأ الذي قامت عليه! ثم ما هي الماركسية؟ أليست هي التي قالت: إن رأس المال هو نتيجة فائض القيمة؟ أي: هو الفارق بين أجر العامل المدفوع وجهده الحقيقي الذي بذله في إنتاج السلعة، لقد أثبتنا أيضًا أنها مجرد كلام فارغ ووقت ضائع، وأثبتنا أن رأس المال نتيجة الرشاوى والسمسرة والعمولات.

قالت: يا سلام! إذن عندكم مصنع رشاوى وشركات سمسرة ومعامل عمولات؟

قلت: بالعكس، المصانع عندكم، والمعامل لديكم والشركات في بلادكم، ولنا نحن الرشوة والسمسرة والعمولة، وأيضًا لدينا الحكمة الخالدة: اللي يطعم الفم لازم تستحي منه العين.

قالت: لم أفهم مرادك.

قلت: هل تسمعين بشركة لوكهيت؟

قالت: بالطبع، إنها شركة مشهورة ومصالحها في كل المعمورة.

قلت: وهل عرفت ما حدث منها ولها في الفترة الأخيرة؟

قالت: بالطبع، وسمعت أنها رشت الحكام في أفريقيا، ورشت رئيسًا للوزراء في اليابان، حاكموه بعد أن ثبتت عليه التهمة، فعزلوه وسجنوه، وعلى البرش أجلسوه.

قلت: عفارم عليكي يا فرنساوية، ولكن هل تعلمين أنها في الأصل شركة حميرية وبعد ذلك أمريكية؟

قالت: لم أسمع بهذا من قبل.

قلت: هذه هي الحقيقة؛ فهي في الأصل نشأت في الصحراء، وكانت تنتج البغل والحمار والبعير، وكان إذا ذهب مندوبها إلى الصحراء وباع صفقة لأحد المشايخ، قدم المندوب للشيخ بعض المال، وكان الشيخ يسأل: وما هذا؟ فيرد المندوب «لك هادا»، فيقبل الشيك ويشكر، واشتهرت الشركة باسم «لك هادا»، فلما انتقلت الشركة إلى الغرب، وتحولت من صناعة الدواب إلى صناعة الحرب، حدث لاسمها تحريف، ومن بعد لك هادا صار اسمها «لوكهيد».

قالت: صحيح، ما أشد التطابق بين الاسمين!

قلت: وهذه الشركة تبيع لنا وتدفع لبعضنا رشاوى وتدفع لبعضنا عمولات، وهؤلاء أصبحوا ولا أوناسيس بتاع اليونان ولا روتشيلد بتاع فرنسا.

قالت: يا لك من حمار نابغة! تتعقب أصول الأشياء، وتقدم لها الأدلة الدامغة، ولكنك لم تحدثني عن القضايا الفكرية والأمور الفقهية التي تشغل بال الفقهاء والعلماء في بلاد ما بين البحر والصحراء.

قلت: آه، صحيح، ولكن لكل مقامٍ مقال، ولكل حادثٍ حديث، فأمهليني أيتها البنت الحلوة إلى الغد، وتعالي الآن ننام، فقد تبدَّد مني الجهد وهدَّني السهر والسهد.