المجوس والجاموس!
استيقظت المرأة الخواجاية المجنونة من النجمة وقالت للعبد لله: احكِ لي أيها الحمار عن مشاكلكم الفقهية وقضاياكم الفكرية.
قلت: للمرأة المضروبة: هكذا على غيار الريق، وبلا حتى شفطة شاي أو طبق فول؟!
انقمصت البنت وضربت بوزها شبرين، اقتربت منها وسألتها عن سبب زعلها.
قالت: أيها الحمار تصفني بالسخافة وتنطقها في وجهي وتقول: «فول»! ضحكت من قولها، فاشتد غيظها وصرخت بأعلى الصوت: معلون أبو الدراسة وملعون أبو العلم؛ أنا أصاحبك رغم أنفي، وأرافقك رغم وجهك الملخبط وسحنتك المقلوبة، وأظافرك التي لم تعرف المقص منذ عقدين من الزمان، وأنا أفعل ذلك خدمة للحقيقة وخدمة للعلم.
ولكن يبدو أنكم حمير بالفعل لا تقدرون العلم ولا تحترمون العلماء. طيبت خاطر البنت وقلت وأنا أمسح على شعرها وأربِّت على كتفها: «فول» بالإنجليزي غير فول باللغة الحميرية، الفول عندنا ليس صفة ولكنه اسم لطعام شعبي، هو في الحقيقة أخطر على شعبنا من الغزو العسكري والفكري والاقتصادي، وإذا كنتم تأكلون الزبد واللبن في الصباح … فنحن نفطر على الفول، ولا يزاحمنا في أكله إلا صنف الحمير والبغال، وهو صحيح مغذي ومفيد ويربي مجانص وعضلات، ولكنه مأكول دواب لا مؤاخذة، وليس بمأكول بني آدمين وصنف الحيوان لأنه أصدق من صنف البني آدمين؛ فهو يأكله حاف وبقشره، ولكننا، نحن، نتفنن في طبخه، فنأكله مرة بالزيت والليمون البنزهير، ومرة بالزبدة، ومرة نخدِّع له بالقوطة وفص الثوم، حتى الذين يأكلونه بالزيت يلوِّنون في أصناف الزيت، البعض يأكله بزيت فرنساوي، والبعض الآخر يفضله بالزيت الحار، والمرضى يعدون منه أطباقًا اسمها الفول النابت، والبعض يأكله أخضر مع الجبنة، ويطلق عليه اسم الفول الحراتي.
قاطعتني البنت وقالت: هل تلقي عليَّ محاضرة في طبق الفول.
قلت: فليكن الأمر كذلك، وحتى تفهمي سبب بلادتنا وتناحتنا، هل تعرفين التناحة؟
أجابت البنت: تاناحا، هذا اسم شركة متعددة الجنسيات مثل توشيبا وتويوتا … أليس كذلك؟
قلت: بل هي صفة من صفاتنا، ومعناها التربسة، أحيانًا يتربس الواحد من صنفنا فلا تعرفي له رأسًا من رجلين، نسأله عن الشارع الفلاني فيقول: هه! مع أنه استمع إلى السؤال واستوعبه، ولكن حالة التناحة حطت عليه فيفقد القدرة على تقدير الأمور، تسأله فيسألك، تأمره فيتربس كما الفحل الجربان، ولكن لماذا التربسة؟ بسبب تفاعل الفول مع البصل الأخضر مع العيش الآلي؛ حيث تتصاعد الأبخرة وتلقي بغلالتها على عقل الإنسان، ويتربس ويصبح كما الجاموس البري بالتمام والكمال.
قاطعتني البنت اللهلوبة وقالت: لا تسرح بي أيها الحمار التعبان، احكيلي عن قضاياكم الفقهية والفكرية … فأنا متشوقة وشديدة الرغبة في اكتشاف أعماق العصر الحميري وقضاياه.
ولما كان ما باليد حيلة، ولا بد من الحكاية والرواية، فتوكلت على الذي لا ينام، وحكيت كما شهر زاد للسلطان شهريار: أول شيء يا ست يا خواجاية، عندنا مسألة فقهية صعبة للغاية ومزمنة أيضًا، وعمرها الآن حوالي ألف ومائتي عام، المسألة في كلمتين: هل يُنقض وضوء من يحمل على كتفه قِربة فساء ويدور بها بين الناس في الأسواق؟
قالت البنت وقد انتبهت وابتهجت: أولًا ما هو الوضوء؟
قلت: الوضوء يا ست الخواجاية هو تطهير للبدن قبل الصلاة، وقد فرضه علينا الإسلام، وعلَّمنا إياه الرسول الكريم، ونحن نتوضأ كل يوم خمس مرات، ولكن أحد الفقهاء المتبحرين في العلم توقف مرة، وبحث مرات، وفكر ألف مرة، ثم ألقى بالسؤال المعجزة، هل ينقض وضوء من يحمل على كتفه قربة فساء؟
قالت البنت: ولكن ما هو الفساء؟ فأنا لم أسمع به بعد.
قلت: الفساء يا حلوة هي مادة كيماوية بفعل تفاعل البصل مع الثوم مع الفول مع الكرَّات مع السمك البلطي مع الشاي الأسود المخروط، ومن خلال هذا التفاعل تحدث قذائف أقوى مفعولًا من القنبلة الذرية، وتشيع روائح في الجو محرمة دوليًّا شأنها شأن الغازات السامة وقنابل النابالم.
سألت البنت: ولكن من الذي يطلِقها؟
قلت: يطلقها الرجل الذي تناول الأطعمة إياها التي ذكرتها لك من قبل.
قالت: آه، أتقصد غازات؟
قلت: هي غازات بالضبط، ولكن غازاتنا تختلف عن غازاتكم؛ غازاتكم هي نتيجة لأكل الشيكولاتة والجاتوه، ولكن غازاتنا أعوذ بالله.
يقال: إن بهانة الحجاوي جدة العبقري زكريا الحجاوي وزوجها برعي السعدني جد العبد لله؛ استطاعا وحدهما صد الغزو الصليبي على دمياط في العصر الوسيط.
قالت: إذن فأنت من أسرة محاربة ومن طبقة عسكرية لها تاريخ!
قلت: الحقيقة أن جدي برعي لم يكن عسكريًّا، ولكنه كان فلاحًا، وجدة الحجاوي لم تكن مجاهدة، ولكنها كانت تصطاد السمك من بحيرة المنزلة، وذات صباح كانا يتريضان على الشاطئ عندما لمحا قِطع الأسطول الفرنساوي تقترب من البر، وفي الحال قاما بتشليح ملابسهما وأطلقا بعض الغازات في الجو فمات كل العساكر الفرنساوية، وارتدَّت الغزوة الصليبية، ونجت مصر بفضل هذا الاختراع الجهنمي الغريب.
ضحكت البنت وأرعشت حاجبها رعشةً وقالت: ولكن كيف يحمل الإنسان الفساء على كتفه ويمشي به في الأسواق؟
أجبتها: العالم الجليل تبعنا تصور في قعدة انسجام أنها ما دامت غازات فمن السهل تعبئتها في زجاجات، ولما كان اختراع الزجاجات لم تعرفه البشرية بعد، فقد تصور أنه يمكن تعبئة الفساء في قِرَب، ولكنه لم يرهق نفسه في اكتشاف الطريقة التي يمكن عن طريقها توصيل الفساء إلى القربة.
قالت البنت الفرنسية: ممكن استخدام مواسير أو خراطيم، ويستحسن أن تكون من البلاستيك.
قلت وأنا أضحك من جهل الحمارة الفرنسية: في ذلك الزمان لم يكن هناك بلاستيك.
قالت: أعرف، ولكن يوجد دائمًا بدائل، بوص، قمع ورق، المهم أن تملأ القربة بالفساء، قلت: الحقيقة أنه لم يتعب نفسه، ولكنه ألقى بالسؤال فأحدث نفس الأثر الذي يُحدِثه إلقاء قنبلة ذرية على مدينة آهلة بالسكان.
قالت البنت المرمر: وهل توصلتم إلى حل؟
قلت: حتى الآن لم يشاهَد رجل واحد يمشي بين الناس في الأسواق؛ وهو يحمل على كتفه قربة فساء، ولكن السؤال لا يزال مطروحًا، وحلقات البحث والدرس لا تزال تبحث الموضوع، والمعركة لا تزال على أشُدِّها بين الفقهاء والعلماء.
ومطَّت البنت شفتيها ولعقت بلسانها وقالت: إذن ليس لديكم مشاكل فكرية حديثة أو قضايا فكرية عصرية؟
قلت: فَشَر مرة وألف فشر؛ لدينا الآن مشكلة آخر موضة وآخر صيحة من صيحات العصر، عندك مثلًا مشكلة الشورت الشرعي، وهل ينزل إلى ما تحت الركبتين، أم يطول إلى أصابع القدمين؟ عندك مثلًا مشكلة الدولار وبيعه في السوق السوداء؛ هل هو حرام أم حلال؟ أغلب الفقهاء قالوا: إنه حلال؛ خصوصًا إذا كان الصرف يدًا بيد، وهؤلاء الفقهاء هم الذين يتاجرون في السوق السوداء بالأخص الأمريكاني، أما الفقهاء الذين يشتغلون بشركات توظيف الأموال، فقد حللوا الإتجار بالعملة سواء يدًا بيد أو شيكًا بشيك، أو تحويلًا بتحويل، وعندك مثلًا وجه المرأة؛ هل هو عورة؟ وهل يجوز كشفه للغرباء، أم إخفاؤه تحت خيمة من القماش؟ وعندك مثلًا أغنية «من غير ليه»؛ هل هي حرام أم حلال؟ أغلب الفقهاء يقولون: إنها حرام، ولعن الله مؤلفها وملحنها ومطربها وسامعها إلى يوم الدين، عندك مثلًا المسرح، أغلب العرفاء، أقصد الفقهاء، مصرُّون على أنه من صنع الشيطان، لدرجة أنهم هجموا مرةً على مسرح ونسفوه بالقنابل.
قالت البنت: تقول: بالقنابل؟!
قلت: آه، بالقنابل والمتفجرات.
قالت: المسرح مجال الثقافة والفنون والجمال، فكيف تعالجون المسرح بالمفرقعات؟
قلت: هذه هي معجزات العصر الحميري، عندنا كل شيء ينتهي بمتفجرات، تأكلين طبق فول الصبح تقضين النهار كله في إطلاق متفجرات، نختلف في السياسة فنحمل السلاح، نختلف في الرأي فنهجم على الخصم بالسيارات الملغومة وبطلقات الرصاص، عندنا في العصر الحميري صحفي يصدر مجلة في أوروبا يمشي محاطًا بحرس يحمل الرشاشات، عساكر الشرطة عندنا تحمل بنادق بعيدة المدى، وتقف بها في الشارع وكأنها في ميدان القتال، حتى في أعيادنا يحتفل الأطفال بفرقعة البمب، وحتى في أفراحنا يطلق المعازيم النار، وغالبًا يقتلون العريس أو العروسة، وهي أحيانًا تكون خدمة لأحدهما أو لكليهما على حدٍّ سواء.
قالت البنت المهتمة بالمعرفة والحريصة على اكتشاف أصل الأشياء: إذن أنتم كما هو واضح من أصل مجوسي، وحبكم للنار دليل على أن عقلكم الباطن يدفعكم للعودة إلى الجذور والارتداد للأعماق.
ولأول مرة أقوم بسؤال البنت الفرنساوية، قلت لها على الفور: تقولين: من أصلٍ مجوسي؟
قالت: نعم.
قلت: للأسف الشديد حضرتك ذكرت الحقيقة، ولكنك أخطأت في حرفٍ واحد، فالواقع أننا من أصل جاموسي، ولذلك نفعل عكس ما يفعله البني آدمين على خط مستقيم، في بلادكم مثلًا كل التسهيلات للتاكسي، وكل القيود على الملاكي؛ لأن التاكسي خدمة عامة، والملاكي للفشخرة والمزاج، عندنا كل التسهيلات للملاكي، كل التعقيدات للتاكسي، ليه؟ لأن سواق التاكسي عامل حقير، بينما صاحب الملاكي راجل ألاجة، صاحب فلوس أو صاحب نفوذ، واحترامه واجب، وتسهيل الأمور لسعادته ضروري من أجل التقدم والبناء، عندكم مثلًا كل شيء يمكن إرساله بالبريد، تدفع فلوس الكهرباء بالبريد، تدفع فاتورة التليفون بالبريد، تدفع ضريبة الحكومة بالبريد، عندنا لازم تقف في طابور، ويشتمك الموظف، ويلزقك الفرَّاش على قفاك، ويكون المخرج الوحيد أمامك هو دفع رشوة؛ لكي يسهلوا لك عملية دفع الفلوس! أنا أدفع وأنا الذي يُشتم ويُضرب ويهان!
شهقت البنت الفرنساوية ونهقت وقالت: يا سلام! لم أكن أعرف أنكم على هذه الدرجة من الحضارة والسمو والارتقاء، تدفعون فلوسًا وتقبلون الإهانة، تدفعون فلوسًا وتدفعون رشوة لدفع الفلوس؛ هذه مرتبة في إنكار الذات لم يعرفها جنس من البشر قط، اللهم إلا عندما جاء السيد المسيح … وقال: من ضربك على خدك الأيمن أدِر له خدك الأيسر، منتهى التضحية والصبر والعفو في وقت واحد، صدقني أيها الحمار، إنني الآن أكاد أصيح من شدة الفرح والسعادة والانبساط، لقد عثرت بك على كنز لا يفنى، وسأفتح لجنسك فتحًا جديدًا في مجال الجغرافيا والتاريخ … والكيمياء أيضًا؛ باعتبار أن الفساء الذي لم تتوصلوا إلى طريقةٍ لتوصيله إلى القِربة … مادة كيماوية غازية، ومع ذلك يمكن لو حدث لقاء بين الحضارتين، حضارتنا وحضارتكم، الوصول إلى حل أمْثَل للمشكلة كلها؛ نوصل لكم الفساء إلى القربة، ونخترع لكم أداةً تحملها وتدور بها على الأسواق، وعندئذٍ لا يكون هناك حاجة للسؤال؛ لأن الأداة التي سنقوم باختراعها لا تصلي، وهي لذلك لا تحتاج إلى وضوء، وهكذا لا يكون للسؤال أي محل من الإعراب.
وهتفت من أعماقي: يا بنت المديوبة، عثرت على حل المشكلة التي أرهقتنا كل هذه القرون. صحيح لماذا يحمل الإنسان قربة فساء ويدور بها على الأسواق؟ لماذا لا يحملها حمار، أو جمل، أو جحش، أو سيارة جيب من النوع الذي استعمله الرواد في غزو القمر؟ أخيرًا آن لنا أن نفطر ونشرب الشاي، ثم بعد ذلك نعود إلى الحكايات والروايات، وما أكثرها في بلاد العالم الحميري!