الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا

عن ابن أبي أُصيبعة، وابن خِلِّكان، والقِفطي، وعن دائرة المعارف البريطانية

(١) الدور الأول

نقل «أبو عبيد عبد الواحد الجوزجاني» — تلميذ الشيخ الرئيس أبي علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا — جملةً عنه يَذكر فيها تاريخ حياته، وهذا نصُّ كلام الشيخ الرئيس:
إن أبي كان رجلًا من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام «نوح بن منصور»، واشتغل بالتصرُّف، وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يُقال لها خرميثن من ضياع بخارى، وهي من أمهات القرى، وبقُربها قرية يقال لها أفشنة. وتزوج أبي منها بوالدتي،١ وقطن بها وسكن، ووُلدتُ منها بها، ثم ولَدت أخي.

ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت مُعلِّم القرآن ومعلم الأدب، وأكملت العشر من العمر وقد أتيتُ على القرآن وعلى كثيرٍ من الأدب، حتى كان يُقضى منِّي العجب.

وكان أبي ممَّن أجاب داعي المصريين ويُعدُّ من «الإسماعيلية»، وقد سمع منهم ذكر «النفس» و«العقل» على الوجه الذي يقولونه ويَعرفونه هم، وكذلك أخي، وكان ربما تذاكَرا بينهما، وأنا أسمعهما وأُدرك ما يقولانه ولا تقبله نفسي، وابتدآ يدعواني أيضًا إليه، ويُجريان على لسانهما ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الهند، وأخَذ والدي يوجهني إلى رجل كان يبيع البقل ويقوم بحساب الهند حتى أتعلم منه.

ثم جاء إلى بخارى «أبو عبد الله الناتلي»، وكان يُدعى المُتفلسف، وأنزله أبي دارنا رجاء تعلُّمي منه، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردُّد فيه إلى «إسماعيل الزاهد»، وكنت من أجوَد السالكين، وقد أَلفتُ طُرق المطالبة ووجوه الاعتراض على المجيب على الوجه الذي جرت عادة القوم به.

ثم ابتدأتُ بكتاب «إيساغوجي» على الناتلي، ولما ذكر لي حد الجنس أنه: «هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جوابٍ ما هو.» فأخذت في تحقيق هذا الحدِّ بما لم يُسمَع بمثله، وتعجَّبَ منِّي كلَّ العجب، وحذَّر والدي من شغلي بغير العلم، وكان أي مسألة قالها لي أتصورها خيرًا منه، حتى قرأتُ ظواهر المنطق عليه، وأما دقائقه فلم يكن عنده منها خبرة.

ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي، وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق، وكذلك «كتاب إقليدس» فقرأت من أوله خمسة أشكال أو ستة عليه، ثم توليت بنفسي حل بقية الكتاب بأَسرِه.

ثم انتقلت إلى «المجسطي»، ولما فرغتُ من مقدماته، وانتهيت إلى الأشكال الهندسية، قال لي الناتلي: «تولَّ قراءتها وحلها بنفسك، ثم اعرضها عليَّ لأبين لك صوابه من خطئه.» وما كان الرجل يقوم بالكتاب، وأخذتُ أُجلُّ ذلك الكتاب؛ فكم من شكل مُشكل ما عرَفه إلى وقتِ ما عرضتُه عليه وفهَّمتُه إياه.

ثم فارقني الناتلي متوجِّهًا إلى «كركانج»، واشتغلت أنا بتحصيل الكتب من الفصوص والشروح، من الطبيعي والإلهي، وصارت أبواب العلم تَنفتح عليَّ.

ثم رغبت في «علم الطب»، وصِرت أقرأ الكتب المصنَّفة فيه. وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة حتى بدأ فضلاء الطب يقرءون علي علم الطب، وتعهَّدتُ المرضى، فانفتح عليَّ من أبواب المعالَجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه وأُناظر فيه، وأنا في هذا الوقت من أبناء ست عشرة سنة.

ثم توفَّرت على العلم والقراءة سنةً ونصفًا، فأعدتُ قراءة المنطق وجميع أجزاء الفلسفة، وفي هذه المدة ما نمتُ ليلة واحدة بطولها، ولا اشتغلت في النهار بغيره، وجمعتُ بين يديَّ ظهورًا، فكل حُجة كنت أنظر فيها أثبت مقدمات قياسية، ورتَّبتُها في تلك الظهور.

ثم نظرت فيما عساها تنتج، وراعيتُ شروط مقدماته، حتى تحقَّقت لي حقيقة تلك المسألة. وكلما كنتُ أتحير في مسألة أو لم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس، تردَّدت إلى الجامع وصلَّيتُ وابتهلت إلى مُبدع الكل حتى فتح لي المنغلق وتيسَّر المُتعسِّر، وكنت أرجع بالليل إلى داري وأضع السراج بين يديَّ وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة، ومتى أخَذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيرًا من المسائل اتَّضح لي وجوهها في المنام. ولم أزل كذلك حتى استحكم معي جميعُ العلوم، ووقفتُ عليها بحسب الإمكان الإنساني، وكل ما علمتُه في ذلك الوقت فهو كما علمته الآن لم أزدَد فيه إلى اليوم، حتى أحكمتُ «علم المنطق» و«الطبيعي» و«الرياضي».

ثم عدلت إلى «الإلهي»، وقرأتُ كتاب «ما بعد الطبيعة»، فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرَضُ واضعه، حتى أعدتُ قراءته أربعين مرةً، وصار لي محفوظًا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيستُ من نفسي، وقلت هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. وإذا أنا في يومٍ من الأيام، حضرت وقت العصر في الوراقين، وبيد دلال مجلدٌ ينادي عليه، فعرَضه عليَّ فرددتُه رد مُتبرِّم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي: اشترِ مني هذا فإنه رخيص، أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاجٌ إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب «أبي نصر الفارابي» في «أغراض كتاب ما بعد الطبيعة».

ورجعتُ إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب، بسبب أنه كان لي محفوظًا على ظهر القلب، وفرحتُ بذلك، وتصدَّقت في ثاني يوم بشيءٍ كثيرٍ على الفقراء شكرًا لله تعالى.

وكان سلطان بخارى في ذلك الوقت «نوح بن منصور»، واتفق له مرضٌ حار الأطباء فيه، وكان اسمي اشتهر بينهم بالتوفُّر على القراءة، فأجروا ذكري بين يديه وسألوه إحضاري، فحضرت وشاركتهم في مداواته، وتوسمتُ بخدمته، فسألته يومًا الإذن لي في دخول دار كتبهم ومطالعتها وقراءة ما فيها من كتب الطب، فأذن لي. فدخلت دارًا ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضدَّة بعضها على بعض، في بيتٍ منها كتب العربية والشعر، وفي آخر الفقه، وكذلك في كل بيتٍ كتُب علم مفرد، فطالعت فهرست كتب الأوائل، وطلبتُ ما احتجتُ إليه منها، ورأيت من الكتب ما لم يقع اسمه إلى كثير من الناس قط، وما كنت رأيته من قبل ولا رأيته أيضًا من بعد. فقرأت تلك الكتب، وظفرت بفوائدها،٢ وعرفتُ مرتبة كل رجل في علمه، فلما بلغت ثمانيَ عشرة سنة من عمري فرغت من هذه العلوم كلها، وكنتُ إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدَّد لي بعده شيء.

وكان في جواري رجلٌ يقال له أبو الحسين العَروضي، فسألني أن أصنِّف له كتابًا جامعًا في هذا العلم، فصنفتُ له «المجموع» وسميتُه به، وأتيت فيه على سائر العلوم، سوى الرياضي، ولي إذ ذاك إحدى وعشرون سنة من عمري.

وكان في جواري أيضًا رجلٌ يقال له أبو بكر البرقي، خوارزمي المولد، فقيه النفس، متوحِّد في الفقه والتفسير والزهد، مائل إلى هذه العلوم، فسألني شرح الكتب له، فصنفتُ له كتاب «الحاصل والمحصول» في قريب من عشرين مجلدة، وصنفت له في الأخلاق كتابًا سميته كتاب «البر والإثم»، وهذان الكتابان لا يوجدان إلا عنده فلم يعد يَعرفهما أحد يَنتسخ منهما.

ثم مات والدي، وتصرَّفتْ بي الأحوال، وتقلَّدتُ شيئًا من أعمال السلطان، ودعتْني الضرورة٣ إلى الارتحال عن «بخارى» والانتقال إلى «كركانج»، وكان «أبو الحسين السهلي» المُحبُّ لهذه العلوم بها وزيرًا، وقدمت إلى الأمير بها، وهو «علي بن مأمون»، وكنتُ على زيِّ الفقهاء إذا ذاك بطيلسان وتحت الحنك، وأثبتوا لي مشاهرة دارة تقوم بكفاية مثلي.
ثم دعت الضرورة إلى الانتقال إلى «نسا»، ومنها إلى «باورد»، ومنها إلى «طوس»، ومنها إلى «شقان»، ومنها إلى «سمنيقان»، ومنها إلى «جاجرم» رأس حدِّ خراسان، ومنها إلى «جرجان»، وكل قصدي الأمير «قابوس»،٤ فاتفق في أثناء هذا أخذ قابوس وحبسُه في بعض القلاع وموته هناك. ثم مضيتُ إلى «دهستان» ومرضتُ بها مرضًا صعبًا، وعُدت إلى «جرجان»، فاتصل «أبو عبيد الجوزجاني» بي، وأنشأت في حالي قصيدة فيها بيت القائل:
لما عظمتُ فليس مصرٌ واسعي
لما غلا ثمني عدمتُ المُشتري

(٢) الدور الأخير

روايات مختلفة

أكثر ما بقي من ترجمة الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا منقول عن صاحبه «أبي عبيد عبد الواحد الجوزجاني» الذي لازَمه مدة غير قليلة منذ هبط الشيخ الرئيس مدينة جرجان، ونحن موردون هنا شيئًا من روايات أبي عبيد مما جاء في الكتب المعروفة:

كان بجرجان رجلٌ يقال له «أبو محمد الشيرازي» يحبُّ هذه العلوم، وقد اشترى للشيخ دارًا في جواره وأنزله بها. وأنا أختلف إليه في كل يوم أقرأ «المجسطي» وأستملي المنطق، فأملى عليَّ «المختصر الأوسط» في المنطق، وصنَّف لأبي محمد الشيرازي كتاب «المبدأ والمعاد» وكتاب «الأرصاد الكلية»، وصنَّف هناك كتبًا كثيرةً كأول «القانون» و«مختصر المجسطي» وكثيرًا من الرسائل، ثم صنَّف في أرض الجبل بقية كتبه.

ثم انتقل إلى الرَّي، واتصَلَ بخدمة «السيدة» وابنها «مجد الدولة»، وعرَّفوه بسبب كتب وصلت معه تتضمَّن تعريف قدره، وكان بمجد الدولة إذ ذاك غلبة السوداء، فاشتغل بمداواته، وصنَّف هناك كتاب «المعاد»، وأقام بها إلى أن قصد «شمس الدولة» بعد قتل «هلال بن بدر بن حسنويه» وهزيمة عسكر بغداد.

ثم اتفقت أسبابٌ أوجبت الضرورة لها خروجه إلى «قزوين»، ومنها إلى «همدان»، واتصاله بخدمة «كذبانويه» والنظر في أسبابها.

ثم اتفق معرفة «شمس الدولة»، وإحضاره مجلسه بسبب قولنج كان قد أصابه، وعالجه حتى شفاه الله، وفاز من ذلك المجلس بخُلَع كثيرة، ورجع إلى داره بعدما أقام هناك أربعين يومًا بلياليها، وصار من ندماء الأمير.

ثم اتفق نهوض الأمير إلى «قرمسين» لحرب «عناز»، وخرَج الشيخ في خدمته، ثم توجه نحو «همدان» منهزمًا راجعًا.

ثم سألوه تقلُّد الوزارة فتقلدها.

ثم اتفق تشويش العسكر عليه، وإشفاقهم منه على أنفسهم، فكبَسوا داره وأخذوه إلى الحبس، وأغاروا على أسبابه، وأخذوا ما كان يملكه، وسألوا الأمير قتله فامتنع منه، وعدَل إلى نفيه عن الدولة طلبًا لمرضاتهم. فتوارى في دار الشيخ «أبي سعيد بن دخدوك» أربعين يومًا، فعاود الأمير شمس الدولة القولنج، وطلب الشيخ فحضر مجلسه، فاعتذر إليه الأمير بكل الاعتذار، فاشتغل بمعالجته، وأقام عنده مُكرَّمًا مُبَجَّلًا، وأُعيدت الوزارة إليه ثانيًا.

ثم سألته أنا شرح كتب «أرسطوطاليس»، فذكر أنه لا فراغ له إلى ذلك في ذلك الوقت، «ولكن إن رضيتَ مني بتصنيف كتاب أُورد فيه ما صحَّ عندي من هذه العلوم بلا مناظرة مع المخالفين، ولا اشتغال بالرد عليهم، فعلت ذلك.» فرضيتُ به.

فابتدأ بالطبيعيات من كتاب سماه «كتاب الشفاء»، وكان قد صنَّف الكتاب الأول من «القانون». وكان يجتمع كل ليلة في داره طلبة العلم، وكنتُ أقرأ من الشفاء، وكان يُقرئ غيري من القانون نوبة، فإذا فرغنا حضر المغنُّون على اختلاف طبقاتهم، وهُيئ مجلس الشراب بآلاته، وكُنَّا نشتغل به.

وكان التدريس بالليل لعدم الفراغ بالنهار، خدمةً للأمير، فقضَينا على ذلك زمنًا.

ثم توجه «شمس الدولة» إلى «طارم» لحرب الأمير بها، وعاوده القولنج قرب ذلك الموضع واشتدَّ عليه، وانضاف إلى ذلك أمراض أُخر جلَبها سوء تدبيره وقلة القَبول من الشيخ، فخاف العسكر وفاته، فرجعوا به طالبين «همدان» في المهد، فتوفي في الطريق في المهد.

ثم بويع ابن شمس الدولة، وطلبوا استيزار الشيخ، فأبى عليهم، وكاتب «علاء الدولة» سِرًّا يَطلُب خدمته والمصير إليه والانضمام إلى جوانبه.

وأقام في دار «أبي غالب العطار» متواريًا، وطلبتُ منه إتمام كتاب «الشفاء»، فاستحضر أبا غالب وطلب الكاغد والمحبرة فأحضرهما، وكتب الشيخ في قريب من عشرين جزءًا على الثمن بخطه رءوس المسائل، وبقي فيه يومين حتى كتب رءوس المسائل كلها بلا كتاب يحضره ولا أصل يرجع إليه، بل من حفظه وعن ظهر قلبه، ثم ترَك الشيخ تلك الأجزاء بين يديه، وأخذ الكاغد، فكان ينظر في كل مسألة ويكتب شرحها، فكان يكتب كل يوم خمسين ورقة حتى أتى على جميع الطبيعيات والإلهيات، ما خلا كتابَي «الحيوان» و«النبات».

وابتدأ بالمنطق، وكتب منه جزءًا، ثم اتهمه «تاج الملك» بمكاتبته «علاء الدولة» فأنكر عليه ذلك، وحثَّ في طلبه، فدل عليه بعضُ أعدائه، فأخذوه وأدوه إلى قلعة يقال لها «فردجان»، وأنشأ هناك قصيدة منها:

دخولي باليقين كما تراه
وكلُّ الشكِّ في أمر الخروج

وبقي فيها أربعة أشهر.

ثم قصد «علاء الدولة» همدان وأخذها، وانهزم «تاج الملك» ومرَّ إلى تلك القلعة بعينها، ثم رجع «علاء الدولة» عن همدان، وعاد «تاج الملك» و«ابن شمس الدولة» إلى همدان، وحملوا معهم الشيخ إليها، ونزَل في دار «العلوي»، واشتغل هناك بتصنيف المنطق من كتاب «الشفاء»، وكان قد صنَّف بالقلعة كتاب «الهدايات» و«رسالة حي بن يقظان» وكتاب «القولنج». وأما «الأدوية القلبية» فإنما صنَّفها أول وروده إلى «همدان».

وكان قد تقضى على هذا زمان، و«تاج الملك» في أثناء هذا يُمنِّيه بمواعيد جميلة.

ثم عنَّ للشيخ التوجه إلى «أصفهان»، فخرَج مُتنكِّرًا وأنا وأخوه وغلامان معه في زيِّ الصوفية، إلى أن وصلنا إلى «طبران» على باب «أصفهان»، بعد أن قاسينا شدائد في الطريق، فاستقبَلَنا أصدقاء الشيخ ونُدماء الأمير «علاء الدولة» وخواصُّه، وحُمل إليه الثياب والمراكب الخاصة، وأُنزل في محلة يقال لها «كونكنيد» في دار «عبد الله بن بابي»، وفيها من الآلات والفُرُش ما يحتاج إليه.

وحضر مجلس علاء الدولة فصادف في مجلسه الإكرام والإعزاز الذي يَستحقُّه مثله، ثم رسم الأمير علاء الدولة ليالي الجمعات مجلس النظر بين يديه بحضرة سائر العلماء على اختلاف طبقاتهم والشيخ في جملتهم، فما كان يُطاق في شيء من العلوم.

واشتغل في أصفهان بتتميم كتاب «الشفاء»، ففرَغ من المنطق والمجسطي، وكان قد اختصر «أوقليدس» و«الأرثماطيقي» و«الموسيقى»، وأورَد في كل كتابٍ من الرياضيات زياداتٍ رأى أن الحاجة إليها داعية. أما في المجسطي فأورد عشرة أشكال في اختلاف المنظر، وأورد في آخر المجسطي في علم الهيئة أشياء لم يُسبق إليها، وأورد في أوقليدس شبهًا، وفي الأرثماطيقي خواصَّ حسنة، وفي الموسيقى مسائل غفَل عنها الأولون. وتمَّ الكتاب المعروف بالشفاء، ما خلا كتابَي النبات والحيوان فإنه صنَّفهما في السنة التي توجَّه فيها علاء الدولة إلى «سابورخواست» في الطريق، وصنَّف أيضًا في الطريق كتاب «النجاة». واختص بعلاء الدولة، وصار من نُدمائه، إلى أن عزم علاء الدولة على قصد همدان، وخرَج الشيخ في الصُّحبة، فجرى ليلة بين يدي علاء الدولة ذكرُ الخلل الحاصل في التقاويم المعمولة بحسب الأرصاد القديمة، فأمَر الأميرُ الشيخَ الاشتغال برصد هذه الكواكب، وأطلق له من الأموال ما يحتاج إليه، وابتدأ الشيخ به، وأَولاني اتخاذ آلاتها واستخدام صناعها، حتى ظهر كثيرٌ من المسائل، فكان يقع الخلل في أمر الرصد لكثرة الأسفار وعوائقها، وصنَّف الشيخ بأصبهان «الكتاب العلائي».

وكان من عجائب أمر الشيخ أني صحبتُه وخدمته خمسًا وعشرين سنة، فما رأيته — إذا وقَع له كتاب مجدَّد — ينظر فيه على الولاء، بل كان يقصد المواضع الصعبة منه والمسائل المشكلة، فينظر ما قاله مصنفه فيها، فيتبيَّن مرتبته في العلم ودرجته في الفهم.

وكان الشيخ جالسًا يومًا من الأيام بين يدَي الأمير — وأبو منصور الجبائي حاضرٌ — فجَرى في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره، فالتفت أبو منصور إلى الشيخ يقول: «إنك فيلسوف وحكيم، ولكن لم تقرأ من اللغة ما يُرضي كلامك فيها.» فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، وتوفَّر على درس كتب اللغة ثلاث سنين، واستهدى كتاب «تهذيب اللغة» من خراسان من تصنيف «أبي منصور الأزهري»، فبلَغ الشيخ في اللغة طبقةً قلَّما يتفق مثلها، وأنشأ ثلاث قصائد ضمنها ألفاظًا غريبة من اللغة، وكتب ثلاثة كتب؛ أحدها على طريقة «ابن العميد»، والآخر على طريقة «الصابي»، والآخر على طريقة «الصاحب»، وأمر بتجليدها وإخلاق جلدها، ثم أوعز إلى الأمير، فعرض تلك المجلَّدة على أبي منصور الجبائي، وذكر: أنَّا ظفرنا بهذه المجلَّدة في الصحراء وقت الصيد فيجب أن تتفقَّدها وتقول لنا ما فيها، فنظر فيها أبو منصور وأشكل عليه كثيرٌ مما فيها، فقال له الشيخ: إن ما تجهله من هذا الكتاب فهو مذكور في الموضع الفلاني من كتُب اللغة، وذكر له كثيرًا من الكتب المعروفة في اللغة كان الشيخ حفظ تلك الألفاظ منها، وكان أبو منصور مُجزفًا فيما يورده من اللغة غير ثِقة فيها، ففطن أبو منصور أن تلك الرسائل من تصنيف الشيخ، وأن الذي حمله عليه ما جبَهه به في ذلك اليوم، فتنصَّل واعتذر إليه. ثم صنف الشيخ كتابًا في اللغة سماه «لسان العرب» لم يُصنَّف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض حتى تُوفي، فبقي على مسودته لا يهتدي أحدٌ إلى ترتيبه.

وكان قد حصل للشيخ تجارب كثيرة فيما باشره من المُعالَجات، عزَم على تدوينها في كتاب «القانون»، وكان قد علَّقها على أجزاء، فضاعت قبل تمام كتاب القانون.

من ذلك أنه صدع يومًا، فتصور أن مادة تريد النزول إلى حجاب رأسه، وأنه لا يأمن ورمًا يَحصل فيه، فأمر بإحضار ثلج كثير ودقه ولفه في خِرقة وتغطية رأسه بها، ففعل ذلك حتى قويَ الموضع وامتنع عن قبول تلك المادة وعُوفي.

ومن ذلك أن امرأة مسلولة بخوارزم أمرها أن لا تتناول شيئًا من الأدوية سوى الجلنجبين السكري، حتى تناولت على الأيام مقدار مائة مَنٍّ، وشُفيت المرأة.

وكان الشيخ قد صنَّف بجرجان «المختصر الأصغر» في المنطق، وهو الذي وضعه بعد ذلك في أول «النجاة»، ووقعت نسخة إلى شيراز، فنظَر فيها جماعة من أهل العلم هناك، فوقعت لهم الشبه في مسائل منها، فكتبوها على جزء، وكان القاضي بشيراز من جملة القوم، فأنفذ بالجزء إلى «أبي القاسم الكرماني» صاحب «إبراهيم بن بابا الديلمي» المُشتغل بعلم التناظُر، وأضاف إليه كتابًا إلى الشيخ أبي القاسم، وأنفَذهما على يدَي ركابيٍّ قاصد، وسأله عرض الجزء على الشيخ واستيجاز أجوبته فيه، وإذا الشيخ أبو القاسم دخل على الشيخ عند اصفرار الشمس في يومٍ صائف، وعرض عليه الكتاب والجزء، فقرأ الكتاب وردَّه عليه وترك الجزء بين يديه وهو ينظر فيه والناس يتحدَّثون، ثم خرج أبو القاسم، وأمرني الشيخ بإحضار البياض وقطع أجزاء منه، فشددتُ خمسة أجزاء، كل واحد منها عشرة أوراق بالربع الفرعوني، وصلينا العشاء، وقدم الشمع، فأمر بإحضار الشراب، وأجلسني وأخاه وأمَرنا بتناول الشراب، وابتدأ هو بجواب تلك المسائل، وكان يكتب ويشرب إلى نصف الليل، حتى غلبني وأخاه النوم، فأمَرنا بالانصراف، فعند الصباح قُرع الباب، وإذا رسول الشيخ يَستحضرني، فحضرته وهو على المصلى وبين يديه الأجزاء الخمسة، فقال: «خذها وصِر بها إلى الشيخ أبي القاسم الكرماني، وقل له: استعجلت في الأجوبة عنها لئلا يتعوَّق الركابي.» فلما حملته إليه تعجَّب كل العجب، وصرف القيج، وأعلمهم بهذه الحالة، وصار هذا الحديث تاريخًا بين الناس.

ووضع في حال الرصد آلات ما سُبق إليها، وصنَّف فيها رسالة، وبقيتُ أنا ثماني سنين مشغولًا بالرصد، وكان غرضي تبْيين ما يَحكيه بطلميوس عن قصته في الأرصاد، فتبيَّن لي بعضها.

وصنَّف الشيخ كتاب «الإنصاف»، واليوم الذي قدم فيه السلطان مسعود إلى أصفهان نهَب عسكره رحْل الشيخ، وكان الكتاب في جملته وما وقَف له على أثر.

وكان الشيخ قويَّ القوى كلها، وكانت قوة المُجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب، وكان كثيرًا ما يشتغل به، فأثَّر في مزاجه، وكان الشيخ يَعتمد على قوة مزاجه حتى صار أمره — في السنة التي حارَب فيها علاء الدولة «تاش فراش» على باب «الكرخ» — إلى أن أخَذ الشيخ قولنج، ولحرصه على بُرئه إشفاقًا من هزيمة يُدفع إليها ولا يتأتَّى له المسير فيها مع المرض، حقَن نفسه في يوم واحد ثمان كرَّات، فتقرَّح بعض أمعائه، وظهر به سحج، وأُحوج إلى المسير مع علاء الدولة، فأسرعوا نحو «إيذج»، فظهر به هناك الصرع الذي قد يَتبع علة القولنج، ومع ذلك كان يدبِّر نفسه ويحقن نفسه لأجل السحج ولبقية القولنج، فأمر يومًا باتخاذ دانقين من بذر الكرفس في جملة ما يَحتقِن به وخلطه بها طلبًا لكسر الرياح، فقصَد بعض الأطباء الذي كان يتقدَّم هو إليه بمعالجته، وطرَح من بذر الكرفس خمسة دراهم لستُ أدري أعمدًا فعله أم خطأً لأنني لم أكن معه، فازداد السحج به من حدَّة ذلك البذر، وكان يتناول المثرود يطوس لأجل الصرع، فقام بعض غلمانه وطرح شيئًا كثيرًا من الأفيون فيه، وناوله فأكله، وكان سبب ذلك خيانتهم في مالٍ كثير من خزانته، فتمنَّوا هلاكه ليأمنوا عاقبة أعمالهم.

ونُقل الشيخ كما هو إلى أصفهان، فاشتغل بتدبير نفسه، وكان من الضعف بحيث لا يقدر على القيام، فلم يَزل يُعالج نفسه حتى قدر على المشي وحضر مجلس علاء الدولة، لكنه مع ذلك لا يتحفَّظ، ويُكثر التخليط في أمر المُجامعة، ولم يبرأ من العلة كل البرء، فكان يَنتكس ويبرأ كل وقت.

ثم قصد علاء الدولة همدان فسار معه الشيخ، فعاوَدتْه في الطريق تلك العلة، إلى أن وصَل إلى همدان وعلم أن قوته قد سقطت وأنها لا تَفي بدفع المرض، فأهمل مُداواة نفسه وأخذ يقول: «المدبِّر الذي كان يُدبِّر بدني قد عجز عن التدبير، والآن فلا تنفع المعالجة.»٥ وبقيَ على هذا أيامًا ثم انتقل إلى جوار ربه.
وكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة، وكان موته في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وولادته في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة.٦

هذا آخر ما ذكره أبو عبيد من أحوال الشيخ الرئيس.

قال ابن أبي أصيبعة أن قبره تحت السور من جانب القِبلة من همدان، وحكى عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير في تاريخه الكبير أنه تُوفي بأصفهان، وقيل بل نُقل إلى أصفهان ودُفن في موضع باب كونكنيد.

ولما مات ابن سينا من القولنج الذي عرض له قال فيه بعض أهل زمانه:

رأيتُ ابن سينا يُعادي الرجال
وبالحبس٧ مات أخسَّ الممات
فلم يشفِ ما ناله ﺑ «الشفا»
ولم ينجُ من موته ﺑ «النجاة»٨

علمه وفلسفته

كان الشيخ الرئيس في نشاط قلبه وذكائه وقواه العقلية، وفي ملازمته لقصور الأغنياء، أشبه بأرستيبس منه بأرسطو.

وهو — في استرساله بالقول وبخفة قلبه وتفاخُره وحبِّه للملاذِّ — على طرفي نقيض مع ابن رشد الذي كان أنبل أخلاقًا وأشرف عقلًا.

والصُّدف هي التي جعلت طب ابن سينا متَّبَعًا في كليات أوربا في القرن الثاني عشر إلى القرن السابع عشر، وهي التي ستَرت بسحابة كثيفة أسماء أسلافه من أرهاط الطب والفلسفة العربية كالرازي وعلي وأبي مروان عبد الملك بن زهر وغيرهم، وإن كانت أعمال الشيخ الرئيس لا تختلف من حيث الأصول عن أعمال أسلافه، لولا أنهم اتبعوا مذهب جالينوس وابن سينا اتبع مذهب أبقراط المعدَّل بطريقة أرسطو.

أما طب ابن سينا في كتابه «القانون» فيختلف عن طب الرازي في كتابه «الحاوي» بطرقه الأكثر سعةً وبسطًا، وربما كان ذلك ناشئًا عن تعمُّق ابن سينا في المنطق، وبذلك نال لقب «الرئيس».

وقد اختلفوا في قيمة «القانون» وأهميته، فمنهم من عدَّه خزانة الحكمة، ومنهم من أنزله إلى منزلة الورق الفارغ، ومن هؤلاء ابن زهر.

ويَعيبون القانون لما فيه من كثرة أنواع خواص الأجسام البشرية، ولما فيه من الإبهام في الكشف عن الأمراض. ويَنقسم القانون إلى أقسام خمسة: الأول والثاني منها يَشملان علم وظائف الأعضاء «الفسيولوجيا» وعلم الأمراض «باثولوجيا» وحفظ الصحة «الهجين»، وفي الثالث والرابع يأتي بحث وسائط المُداواة، وفي الخامس وصف العلاج وتركيبه. وفي هذا الأخير شيء من ملاحظات ابن سينا وتجاربه الخاصة.

والرئيس لا يَختلف عن زملائه في أمر تعداد أعراض الأمراض، ويقال إنه دون عليٍّ في الطب العملي وفي التشريح. وابن سينا هو الذي أدخل في نظريات الطب الأسباب الأربعة المنسوبة إلى طريقة المشَّائين من أتباع أرسطو. والظاهر أنه لم يكن ذا علم خاص بالتاريخ الطبيعي والنباتات.

كان «القانون» عام ١٦٥٠ لا يزال متَّبَعًا في كليات «لوفان» و«مونبليه»، وكانت شهرة صاحبه بالفلسفة في القرون الوسطى بين الأوربيين دون شهرته بالطب بكثير، وإن طريقة «ألبرتس ماجنس» وخلفائه مدينة لابن سينا في كثير من معادلاته ودساتيره.

وإن الشيء النافع من تاريخ المنطق ناتجٌ من تعاليمه من حيث علاقتها بطبيعة الأفكار المجرَّدة ووظيفتها، على أنه وإن كان «بروفيري» هو الذي نبَّه الشرق والغرب إلى هذه المسألة، فإن العرب كانوا أول من اقترب من الحقيقة فيها تمام الاقتراب.

أما في الفلسفة فيرى الشهرستاني أن ابن سينا جدير بأن يكون نموذجًا لفلاسفة الإسلام، وأن حملة أبي حامد الغزالي على الفلسفة وأهلها لم يكن المقصود بها على الحقيقة غير ابن سينا. ومِن هذا يُمكننا أن نعلم مكانة الشيخ الرئيس بين الفلاسفة المسلمين.

إن مذهب ابن سينا في الفلسفة مأخوذ على الأغلب عن أرسطو، وممزوج بآراء المشَّائين وأصولهم، وتكاد تكون هذه الفلسفة لاهوتية.

مثال ذلك أنه يقول في تأييد رأيه بضرورة كون العالَم حادثًا: أن الموجودات كلها — ما سوى الله — مُمكنة الوجود بالطبع، وتكون واجبة الوجود بفعل المُبدع الأول. وبتعبيرٍ آخر أن مُمكن الوجود قد يكون واجب الوجود.

وتَستغرق نظرية «العلم» جزءًا مهمًّا من تعاليم ابن سينا؛ فهو يرى أن للإنسان نفسًا عقليةً ذات وجهَين: يتجه أحدهما نحو الجسم، ويعمل كالعقل العملي بمساعدة الهيئة الظاهرة العليا؛ والوجه الآخر معرَّض لقبول الصور العقلية والحصول عليها، والغرض من ذلك أن تكون النفس العقلية عالَمًا معقولًا تصدر عنه صور الكائنات ونظامها العقلي.

وليس في الإنسان إلا أنه ذو قابلية صالحة للحصول على العقل الذي يُساعده العقل العامل، وفي استطاعة الإنسان أن يؤهِّل نفسه ويعدَّها لذلك التأثير بأن يُزيل الموانع التي تحول دون اتصال العقل بالظَّرف الصالح لاستيعابه، وهو البدن.

أما درجات هذا العمل في تحصيل العقل، فهي أربعة في إحصاء ابن سينا، وهو لا يتبع في هذا أرسطو، بل يأخذ بأقوال المفسِّرين من اليونان؛ فالدرجة الأولى هي درجة «العقل الهيولاني»، وتكون بالقوة لا بالفعل، كحالة الطفل الذي لم يُباشر تعلُّم الكتابة وفيه الاستعداد لها بالقوة. والدرجة الثانية درجة «العقل بالملَكة»، كحالة الطفل الذي تعلَّم مبادئ الكتابة وسلَك بها سبيل النمو المؤدية إلى الإمكان الكامل، وهذا العقل الذي بلَغ من التدريب نصف الطريق يفيد الظن ويبعث الأمل، وإن لم يكن بعدُ قد صار علمًا حقيقيًّا. وإذا ما وصلت قوة الكتابة إلى حدِّ الكمال، فتلك الدرجة هي درجة «العقل العامل» السالك سبيل العلم والبرهان. وإذا صارت الكتابة عملًا دائمًا للشخص وملَكةً باقية يرجع إليها حينما يريد فهذه حالة «العقل التام».

إنَّ هذا العمل بمجموعه أشبه بتدرج النور إلى الجسم الذي فيه قابلية الاستنارة، ومع ذلك فإن للتوصُّل إلى العقل العامل — وبالتعبير الديني: للاتصال بالله وملائكته — درجات متعدِّدة من حيث القابلية والاستعداد، وقد تكون قوة هذه القابلية والاستعداد على درجة من الشدة في الميل إلى القرب (الحب) بحيث تتجاوَز مبلغ الطاقة في ارتقائها إلى مرأى الحقيقة بقوة قدسية، وبهذه الطريقة حاولت الفلسفة أن تفسر النبوة وهي أصل من أصول الإسلام على أن تأثير العقل العامل لم يكن مقتصرًا عندهم على الإنسان فقط، بل هو المنشأ العام أيضًا لصُور هذا العالم.

•••

اجتهد ابن سينا في مواضع كثيرة أن يُلبس عقائد الدين لباسًا عقليًّا، وخصوصًا في مبحث النُّبوات والخوارق وفي باب القدرة الأزلية.

وهو يُعزِّز أقواله في أزلية النفس بمناقشات وَردت بين أقوال أفلاطون، ويبين أن إرسال الرسل نتيجةٌ لمقدمات الإيمان بالإله ذي السلطان العقلي والهيمنة الأدبية، وما كانت هذه المعجزات الظاهرة إلا برهانًا على قدسية الرسالة الإلهية؛ ذلك لأنَّ الإنسان في حاجة قبل كل شيء إلى أن يكون ذا نظر صحيح في حقيقة الأشياء، ثم إلى قوة قادرة على استخراج الحقائق الناصعة، وذلك حرصًا على سعادة المجتمع البشري واحتفاظًا ببقائه. ولو كان من الضروري أن توجد للعيون جفون وأهداب، فمن الضروري كذلك أن يقوم في الناس نبيٌّ يعظهم ويُبرهن لهم على أنه لا إله إلا الله، ويُرشدهم إلى شرائع ونظامات، ويدعوهم لعمل الخير، ويُرغِّبهم بالجزاء في الدار الآخرة.

الإلهام والوحي إنما يَهبطان على البشر لسعادتهم، والمعجزات هي برهان صاحب الوحي على وحْيه، وكما أن للنفس في الحالات العادية تأثيرًا على أعضاء الجسم فإنَّ لها أيضًا حالات سامية تستطيع معها أن تبلغ منزلة النفس التي ليست هيولانية، تلك النفس القوية على اختراق العالم الغير مقاوَم، وإن اتِّصالها هذا بالعالم الآخر اتصالًا غير عاديٍّ هو من المعجزات التي لا يدركها العقل العادي. وبذلك يُصبح كثير من الأشياء الغامضة مرئيًّا لصاحب تلك النفس، حتى كأنَّ هناك شعاعًا من نور ينصب على المجهولات وهي في حالك الظلام، فيكشف لها حقيقتها، وقد ينصب تصوره نحو تلك المُكاشَفات فتظهر للروح الدنيا في شكل الصور والأصوات، وذلك هو الجمال الملاكي الذي يُدركه المُشاهِد، والكلام المطرب الذي ينقله الصوت السماوي إلى سمعه.

على هذه الكيفية أراد ابن سينا — كما أراد أسلافه الفلاسفة — أن يوفَّق بين أنواع الفلسفة العقلية وبين مُعتقَداته الدينية. ولكن حُججه تسقط بسقوط المبادئ التي كان يبني عليها، ويظهر سقوطها للباحث بجلاءٍ من هجمات أبي حامد الغزالي على مقاصد نظرياته ونتائجها.

مصنفاته

  • القانون (في الطب): أربع عشرة مجلدة، صنَّف بعضه بجرجان وبالرَّي، وتمَّمه بهمدان.

  • الحواشي على القانون.

  • الأدوية القلبية: مجلدة، صنَّفه بهمدان، وكتب به إلى الشريف السعيد أبي الحسين علي بن الحسين الحسيني.

  • القولنج: مجلَّدة، صنفه وهو محبوس بقلعة «فردجان»، ولا يوجد تامًّا.

  • تعاليق مسائل حنين: في الطب.

  • قوانين ومعالجات طبية.

  • مسائل عدة طبية.

  • مقالة في تعرُّض رسالة الطبيب.

  • مختصر في النبض (بالفارسية).

  • السكنجبين.

  • الهندبا.

  • التدارك لأنواع خطأ التدبير: سبع مقالات، صنَّفه لأبي الحسن أحمد بن محمد السهلي.

  • الموجز: مجلدة.

  • الموجز الصغير (في المنطق): وهو الذي في أول النجاة.

  • المختصر الأوسط: مجلدة، صنَّفه في جرجان لأبي محمد الشيرازي.

  • الموجز الكبير.

  • القصيدة المزدوجة (في المنطق): نظمها للرئيس أبي الحسن سهل بن محمد السهلي، في «كركانج»، وهي التي أثبتناها بعد هذه الترجمة.

  • رسالة في أن علم زيد غير علم عمرو.

  • المنطق بالشعر.

  • الإشارة إلى علم المنطق: مقالة.

  • مفاتيح الخزائن (في المنطق).

  • تعقُّب المواضع الجدلية: مقالة.

  • غرض «قاطيغورياس».

  • مختصر أوقليدس: يظنُّ ابن أبي أصيبعة أن هذا الكتاب هو المضموم إلى «النجاة».

  • الأرثماطيقي: مقالة.

  • مختصر في أن الزاوية التي من المحيط والمماس لا كمية لها.

  • الزاوية: رسالة صنَّفها في جرجان لأبي سهل المسيحي.

  • بيان ذوات الجهة: مجلدة.

  • عكوس ذوات الجهة: مقالة.

  • الحدود.

  • حدُّ الجسم: مقالة.

  • اللانهاية: مقالة.

  • النهاية واللانهاية.

  • رسالة في أن أبعاد الجسم غير ذاتية.

  • الأرصاد الكلية: مجلدة، صنَّفه في جرجان لأبي محمد الشيرازي.

  • الآلة الرصدية.

  • كيفية الرصد ومطابقته مع العلم الطبيعي: مقالة.

  • مقالة في آلة رصدية: صنفها في أصفهان عند رصده لعلاء الدولة.

  • الأجرام السماوية: مقالة.

  • قيام الأرض في وسط السماء: صنفه لأبي الحسين أحمد بن محمد السهيلي.

  • الممالك وبقاع الأرض: مقالة.

  • هيئة الأرض من السماء وكونها في الوسط: مقالة.

  • خواص خط الاستواء: مقالة.

  • المدخل إلى صناعة الموسيقى: غير الموضوع في النجاة.

  • إبطال أحكام النجوم: مقالة.

  • تأويل الرؤيا.

  • رسالة الطير: مرموزة.

  • الشبكة والطير.

  • الكيمياء: رسالة إلى الشيخ أبي الحسين سهل بن محمد السهلي.

  • فصول في النفس وطبيعيات.

  • المبدأ والمعاد (في النفس): مجلدة، صنفه في جرجان لأبي محمد الشيرازي.

  • مقالة في النفس: تُعرف بالفصول، ولعلَّها الرسالة السابقة.

  • شرح كتاب النفس لأرسطو: يقال إنه من «الإنصاف».

  • مناظرات في النفس: جرت له مع أبي علي النيسابوري.

  • الحزن وأسبابه.

  • العشق: رسالة ألَّفها لأبي عبد الله الفقيه.

  • القوى الإنسانية وإدراكاتها.

  • القوى الطبيعية: رسالة إلى أبي سعيد اليمامي.

  • الأخلاق: مقالة.

  • البر والإثم (في الأخلاق): مجلدتان، صنفه للفقيه أبي بكر البرقي، ولم يوجد إلا عنده.

  • عشر قصائد وأشعار: في الزهد وغيره، يَصف بها أحواله.

  • القصائد: في العظمة.

  • خطب وتمجيدات وأسجاع.

  • رسالة إلى أبي سعيد بن أبي الخير الصوفي في الزهد.

  • عهد: عاهَد الله به لنفسه.

  • تدبير الجند والمماليك والعساكر وأرزاقهم وخراج الممالك.

  • المجموع: مجلدة، صنفه وهو في الحادية والعشرين من عمره لأبي الحسن العروضي من غير الرياضيات، ويُسمى الحكمة العروضية.

  • الإنصاف: شرح فيه كتاب أرسطو، وأنصف فيه بين المشرقيين والمغربيين. ضاع في نهب السلطان مسعود، وكان في عشرين مجلدة.

  • الشفاء: ثمان عشرة مجلدة، جمع جميع العلوم الأربعة فيه، وصنَّف طبيعياته وإلهياته في عشرين يومًا في همدان.

  • اللواحق: شرح الشفاء.

  • النجاة: ثلاث مجلدات، صنفه في طريق سابورخواست، وهو في خدمة علاء الدولة.

  • الإشارات: مجلدة.

  • الحاصل والمحصول: صنَّفه ببلده في أول عمره للفقيه أبي بكر البرقي في قريب من عشرين مجلدة، ولم يوجد إلا نسخة الأصل.

  • عيون الحِكمة: يجمع العلوم الثلاثة.

  • أقسام الحكمة.

  • تقاسيم الحكمة والعلوم: مقالة.

  • الهداية (في الحكمة): مجلدة، صنَّفه وهو محبوس في قلعة «فردجان» لأخيه علي.

  • الحكمة المشرقية: لا يوجد تامًّا.

  • بعض الحكمة المشرقية: مجلدة.

  • العلائي: فارسي في مجلدة، صنفه في أصفهان لعلاء الدولة بن كاكويه.

  • المعاد: مجلَّدة، صنفه في الرَّي للملك مجد الدولة.

  • القضاء والقدر: صنَّفه في طريق أصفهان عند خلاصه وهربه إليها.

  • المباحث: مجلدة.

  • حي بن يقظان: رمزًا عن العقل الفعال، صنفه وهو محبوس في قلعة «فردجان».

  • الجوهر والعرض.

  • رسالة في أنه لا يجوز أن يكون شيءٌ واحدٌ جوهرًا وعرضًا.

  • الإشارات والتنبيهات: هو آخر ما صنَّف في الحكمة وأجوده، وكان يضنُّ به.

  • ما يوصل إلى علم الحق.

  • دانش مايه (أصل العلم): فارسي.

  • الخطب التوحيدية: في الإلهيات.

  • تحصيل السعادة: مقالة تُعرف ﺑ «الحُجج الغر».

  • تعاليق: علقها عنه تلميذه أبو منصور بن زيلا.

  • الرسالة الأُضحوية: في المعاد، صنَّفها للأمير أبي بكر محمد بن عبيد.

  • الحكمة العرشية: كلام مُرتفع في الإلهيات.

  • جواب لعدة مسائل.

  • فصول إلهية: في إثبات الأول.

  • مسائل جرت بينه وبين بعض الفضلاء في فنون العلم.

  • تعليقات استفادها أبو الفرج الطبيب الهمداني في مجلسه وجوابات له.

  • أجوبة سؤالات سأله عنها أبو الحسن العامري: أربع عشرة مسألة.

  • عشرون مسألة: سأله عنها بعض أهل العصر.

  • جواب مسائل كثيرة.

  • جواب ست عشرة مسألة لأبي الريحان البيروني.

  • عشر مسائل: أجاب عنها أبا الريحان البيروني.

  • المباحثات: سؤال تلميذه أبي الحسن بهمنيار بن المرزبان وجوابه له.

  • مقالة إلى أبي عبد الله الحسين بن سهل بن محمد السهيلي في أمر مشوب.

  • رسالة إلى علماء بغداد يسألهم فيها الإنصاف بينه وبين رجل همداني يدَّعي الحكمة.

  • رسالة إلى صديق يسأله الإنصاف بينه وبين الهمداني الذي يدَّعي الحكمة.

  • الرد على مقالة الشيخ أبي الفرج بن الطبيب.

  • التذاكير: مسائل.

  • جواب يتضمن الاعتذار فيما نُسب إليه من الخطب.

  • رسائل بالفارسية والعربية ومخاطبات ومكاتبات وهزليات.

  • رسائل إخوانية وسلطانية.

  • خطب الكلام.

شعره

أُثرت عن الشيخ جملة صالحة من الشعر تمازجه الحكمة، وتتخلل ألفاظه الغضة أزاهير الخيال المُنير. وأبعد شعره مقصدًا وأكثره انتشارًا على ألسنة قراء العربية هذه القصيدة الآتية في النفس:

هبطت إليكَ من المحلِّ الأرفعِ
ورقاءُ٩ ذات تعزُّز وتمنُّعِ
محجوبة عن كلِّ مُقلة عارف
وهي التي سفرت ولم تَتبرقعِ
وصلت على كرهٍ إليكَ وربما
كرهتْ فراقك وهْي ذاتُ تفجُّعِ
أَنِفت وما أَنِست فلما واصلَتْ
أَلِفت مجاورة الخرابِ البلقَعِ
وأظنها نسيَتْ عهودًا بالحمى
ومنازلًا بفراقها لم تَقنع
حتى إذا اتصلت بهاءِ هبوطها
في١٠ ميم مركزها بذات الأجرعِ
عَلقت بها ثاء الثقيل فأصبحَت
بين المعالم والطلولِ الخضَّعِ
تبكي إذا ذكَرت ديارًا بالحمى
بمَدامع تهمي ولما تقطعِ
وتظل ساجعة على الدِّمَن التي
درست بتكرار الرياح الأربَعِ
إذ عاقها الشركُ الكثيف وصدَّها
قفص عن الأوج الفسيح المُربعِ
حتى إذا قَرُب المسير إلى الحِمى
ودنا الرحيلُ إلى الفَضاء الأوسع
سجعَت وقد كُشف الغطاءُ فأبصرت
ما ليس يُدرَك بالعيون الهجَّع
وغدتْ مُفارقة لكل مخلَّف
عنها حليف التُّرب غير مشيَّعِ
وبدت تُغرد فوق ذروة شاهق
والعلم يَرفع كل مَن لم يُرفَعِ
فلأي شيء أُهبِطت من شامخ
سامٍ إلى قعر الحضيضِ الأوضَعِ؟
إن كان أرسلها الإله لحكمة
طُويت عن الفَطِن اللبيب الأروَعِ
فهبوطها إن كان ضربةَ لازب
لتكون سامعة بما لم تسمَعِ
وتعودُ عالمةً بكل خفية
في العالمين فخرقها لم يُرقَعِ
وهي التي قطَع الزمان طريقها
حتى لقد غربت بغير المطلعِ
فكأنها برق تألَّق بالحِمى
ثم انطوى فكأنه لم يلمَعِ

وقال في الشيب والحكمة والزهد:

أما أصبحت عن ليل التصابي
وقد أصبحْتَ عن ليلِ الشباب؟
تنفَّسُ في عذارك صبحَ شيب
وعسعس ليلُه فكم التصابي؟
شبابك كان شيطانًا مريدًا
فرُجِّم من مشيبك بالشهابِ
وأشهب من بُزاة الدهر خوَّى
على فودي فألمأ بالغراب١١

•••

عفا رسم الشباب ورسم دار
لهم عهدي بها مغنى رباب
فذاك ابيضَّ من قطرات دمعي
وذاك اخضرَّ من قَطْر السحاب
فذا ينعي إليك النفس نعيًا
وذلكمُ نَشورٌ للرَّوابي
كذا دنياك ترأبُ لانصداع
مغالطةً وتَبني للخراب …

•••

ويَعلق مُشمئز النفس عنها
بأشراك تعوق عن اضطرابِ
فلولاها لعجلتُ انسلاخي
عن الدنيا وإن كانت إهابي
عرفتُ عقوقها فسلوتُ عنها
فلما عفتُها أغريتها بي …
بليتُ بعالم يَعلو أذاه
سوى صبري ويَسفل عن عتابي

•••

وسيل للصواب خلاط قوم
وكم كان الصواب سوى الصواب!
أخالطهم ونفسي في مكان
من العلياء عنهم في حجاب
ولستُ بمن يُلطخه خلاط
متى اغبرَّت أناث عن تراب
إذا مالحَّت الأبصار نالت
خيالًا واشمأزَّت عن لباب

وقال في فلسفة العمر:

يا ربع نكَّركَ الأحداث والقِدَمُ
فصار عينك كالآثار تتَّهمُ
كأنما رسمُك السر الذي لهمُ
عندي ونأيُك صبري الدارس الهَدِمُ
كأنما سفعة الأُثفيِّ باقية
بين الرياض قطًا جونية جثمُ١٢
أو حسرة بقيَتْ في القلب مُظلمة
عن حاجة ما قضوها إذ هم أَممُ
ألا بكاه سحاب دمعه همع
بالرعد مُزدفر بالبرق مبتسم؟
لِمَ لم تَجُدها سحاب جودها دِيَم
من الدموع الهوامي كلهنَّ دم؟
ليت الطلول أجابت مَن به أبدًا
في حبِّهم صحة في حبهم سقَمُ
أو علَّها بلسان الحال ناطقةٌ
قد تُفهم الحال ما لا تُفهم الكَلِمُ
أما ترى شيبتي تُنبيك ناطقة
بأن حدِّي الذي استدلقته ثَلِمُ؟
الشيب يوعد والآمال واعدة
والمرء يغترُّ والأيام تَنصرمُ
ما لي أرى حِكَم الأفعال ساقطة
وأسمع الدهر قولًا كله حِكَمُ؟
ما لي أرى الفضل فضلًا يُستهان به
قد أُكرم النقص لما استُنقص الكرَمُ؟
جوَّلت في هذه الدنيا وزخرفها
عيني فألفيتُ دارًا ما بها أرَمُ
كجيفة دوَّدت فالدود منشؤه
فيها ومنها له الأرزاء والطُّعَمُ!
سيان عندي إن برُّوا وإن فجروا
فليس يَجري على أمثالهم قلَمُ
لا تحسدنَّهمُ إن جدَّ جدُّهم
فالجد يجدي ولكن ما له عِصَمُ
ليسوا وإن نعموا عيشًا سوى نَعَم
وربما نعمت في عيشها النَّعَمُ
الواجدون غِنًى العادمون نُهًى
ليس الذي وجدوا مثل الذي عدموا
خُلِّقت فيهم وأيضًا قد خُلطت بهم
كرهًا فليس غنًى عنهم ولا لهمُ
أُسكنتُ بينهم كالليث في أجَمٍ
رأيتَ ليثًا له من جنسه أجمُ!
إنِّي وإن بان عني مَن بُليتُ به
في عينه كمَهٌ في أذنه صممُ
مميَّز من بني الدنيا يُميِّزني
أقلُّ ما فيَّ ليس الجل والعظمُ
بأي مأثُرة ينقاس بي أحد؟
بأي مكرمة تَحكينيَ الأُمَمُ؟
أمثل عُنجهة شوكاء١٣ يلحق بي
أم مثل شغبر حشٍّ عَرضه زبمُ؟١٤
فذا عجوز ولكن بعد ما قعَدت
وذاك جود مساع الملك متهمُ
إنِّي وإن كانت الأقلام تَخدمني
كذاك يخدم كفِّي الصارم الحذمُ
قد أشهد الرَّوع مرتاحًا فأكشفه
إذا تناكَر عن تياره البهمُ
الضرب محتدم والطعن مُنتظم
والدم مُرتكم والبأس مُغتلم
والحق يافوخُه من نَقعهم قترٌ
والإفك فسطاطه من سفكهم قتمُ
والبيضُ والسمر حمرٌ تحت عِثْيَره
والموت يحكم والأبطال تَختصم!
وأعدَلُ القَسم في حربي وحربهمُ
منهم لنا غنْمٌ مِنَّا لهم غُرمُ
أما البلاغة فاسألني الخبير بها
أنا اللسان قديمًا والزمانُ فمُ
لا يَعلم العلم غيري مَعلمًا علمًا
لأهله أنا ذاك المَعلم العَلَمُ
كانت قناة علوم الحق عاطلة
حتى جلاها بشرحي البند والعلمُ
نُبيد أرواحهم بالرعب نقذفه
فيهم وأجسادهم بالقضب تَلتحمُ
ماتت إنالة ذا الدهر اللقاحَ على
عزائمي وأسفتُ بي لها الهيَمُ
لو شئتُ كان الذي لو شئتُ بُحْتُ به
ما الخوف أسكَتَ بل أن تُلزم الحشَمُ
ولو وجدتُ طلاع الشمس متسعًا
لحطَّ رحل عزيمي كنت أعتزمُ
ولو بكَتْ عزماتي دونها الحشم
ولم يعمَّ سبيلي نحوها العمَمُ
وكانت البيض ظلفًا للغُمود له
وقد تباعل عرض الخيل والحكمُ
وظنَّ أن ليس تحجيل سوى شعر
وأن للخيل في ميلادها اللجمُ
وغُشِّيَت صفحات الأرض معدلة
فالأسد تَنفر عن مرعى به غنم
لكنَّها بقعة حفَّ الشقاء بها
فكلُّ صاغٍ إليها صاغر سدمُ …

وقال في طريق الحياة:

هو الشيب لا بدَّ من وَخطِه
فقرِّضه واخضبْه أو غطِّه
أأقلقكَ الطلُّ من وَبله؟
جزعتَ من البحر في شطِّه
وكم منك سرَّكَ غصنُ الشباب
وَريقًا فلا بدَّ من حطِّه
فلا تجزعَنْ لطريق سلكْتَ
كم انبتَّ غيرك في وسطه!
ولا تجشعَنَّ فما أن يُنال
من الرزق كلٌّ سوى قسطه
وكم حاجة بذلَتْ نفسها
ففوَّتها الحرص من فرطِه
إذا أخصب المرء من عقله
نَشا في الزمان على قحطِه
ومَن عاجل الحزم في عزمِه
فإنَّ الندامة من شَرطه
وكم ملق دونها غيلة
كما يُمرَط الشَّعر من مشطِه
إذا ما أحال أخو زلَّة
على العذر فاعجل على بسطِه
وما يُتعب النفس تمييزه
فلا تعجلنَّ إلى خلطِه
ووقِّر أخا الشيب والحَ الشباب
إذا ما تعسَّف في خبطِه
ولا تبغِ في العذل واقصد فكَمْ
كتبتَ قديمًا على خطِّه
وكم عانَدَ النُّصح ذو شيبة
عناد القَتاد لدى خرطه
تراه سريعًا إلى مطمع
كما أنشط البكر عن نشطِه
وكم رام ذو ملل حاشم
ليَغصب حلمي فلم أُعطِهِ
وذي حسد أسقطته لقَى
فما يأنف الدهر من لقطِه
يُحاول حطِّيَ عن رتبتي
قد ارتفَع النجم عن حطِّه
يظلُّ على دهره ساخطًا
وكم يَضحك الدهر من سخطه

وقال في الحب والحياة والكرم:

قفا نجزي معاهدهم قليلًا
نُغيث بدمعنا الرَّبع المحيلا
تخوَّنه العفاة كما تراه
فأمسى لا رسوم ولا طلولا
لقد عِشنا بها زمنًا قصيرًا
نُقاسي بَعدهم زمنًا طويلًا
ومَن يَستثبت الدنيا بحال
يَرُمْ من مستحيلٍ مستحيلًا
إذا ما استعرَض الدنيا اعتبارًا
تنحَّى الحرص عنها مستقيلًا

•••

خليلي بلِّغ العُذال أني
هجرتُ تجمُّلي هجرًا جميلًا
وأني من أناس ما أحلنا
على عزم فأعقبْنا نزولا
مآقينا وأيدينا إذا ما
همَين رأيتنا نعصي العذولا
وقفتُ دموع عيني دون سعدى
على الأطلال ما وجَدت مسيلًا
على جفني لسُعدى فرض دمع
أقمتُ له به قلبي كفيلًا
عقدتُ لها الوفاء وإنَّ عقدي
هو العقد الذي لن يَستحيلا
وكم أخت لها خطبَت فؤادي
فما وجدت إلى عُذري سبيلًا

•••

أعاذل لست في شيء فأَسهِب
مدى الملوين أو أقصر قليلًا
فلم ترَ مثل ما قلبي ألوفًا
ولم ترَ مثل ما أذني ملولا
وعذْل الشيب أولى لي لو انِّي
أطقتُ وإن جهدت له قبولًا!
أجلْ قد كرَّرت هذي الليالي
على ليلي زمانًا لن يزولا
أُتنكر ذرءةٌ لما علتْني
تَزين كزينة الأثر النصولا؟
يُعيِّرني ذبولي أو نحولي
كسيت الذبل والجسد النحيلا
كما أن الحفيش أبا وجيم
يُعيرني بأن لستُ البخيلا
يقول: «مبذر» ليغضَّ منِّي
يعدُّ علو ذي كرم سُفولا
متى وسعت لقصدي الأرض حتى
أُبرِّز أو أنيل به جزيلا؟
يقول به انخراقُ الكف جدًّا
وكم خرق رقعتُ به مُنيلا
فجُلْ خُلل الأصابع منك واجهد
عسى أن لا تطوف ولا تنولا
بفُحْش أن مالَك فوق مالي
نفائس ما تُصان بما أذيلا
حكاك غباءٌ ما أفناه بذلي
يُباع ببعض ما تَحوي كميلا
يُحذِّرك الأحبة وقْع كيدي
فلستُ بذاك مذعورًا مهولًا
سقطت عن اعتقادي فيك سوءًا
فطب نفسًا ولا تفرَق قبيلًا
فأما أن أَرُعْك بغير قصدي
فقدمًا روَّع الفيل الأفيلا

وقال في النفس والحكمة:

هذِّب النفس بالعلوم لترقى
وذر الكلِّ فهي للكل بيتُ
إنما للنفس كالزجاجة والعلم
سراجٌ وحكمة الله زيتُ
فإذا أشرقتَ فإنك حيٌّ
وإذا أظلمتَ فإنك مَيْتُ

وقال في هذا المعنى:

خير النفوس العارفات ذواتها
وحقيقُ كميات ماهياتها
وبما الذي حلَّت وممَّ تكوَّنت
أعضاء بِنْيتها على هيئاتها
نفس النبات ونفس حسٍّ رُكبا
هلا كذاك سماتُه كَسِماتها؟

•••

يا للرجال لعظْم رُزءٍ لم تزَلْ
منه النفوس تخبُّ في ظلماتها

وشكى إليه الوزير أبو طالب العلوي آثار بثر بدا على جبهته، ونظم شكواه شعرًا وأنفذه إليه، وهو:

صنيعة الشيخ مولانا وصاحبه
وغرس إنعامه بل نشء نعمته
يَشكو إليه أدام الله مدته
آثار بثر تبدَّى فوق جبهته
فامنُن عليه بحسم الداء مغتنمًا
شكر النبي له معْ شكر عترته

فأجاب الشيخ الرئيس عن أبياته، ووصَف في جوابه ما كان به برؤه من ذلك، فقال:

الله يشفي ويَنفي ما بجبهته
من الأذى ويُعافيه برحمته
أما العلاج فإسهال يُقدِّمه
ختمت آخر أبياتي بنسخته
وليرسل العلق المصاص يَرشف من
دم القذال ويُغني عن حجامته
واللحم يَهجره إلا الخفيف ولا
يُدني إليه شرابًا من مدامته
والوجه يَطليه ماء الورد معتصرًا
فيه الخلاف مدافًا وقت هجعته
ولا يُضيِّق منه الزرَّ مختنقًا
ولا يَصيحنَّ أيضًا عند سخطته
هذا العلاج ومَن يعمل به سيرى
آثار خير ويُكفى أمر علته

وقال في حساده:

عجبًا لقوم يحسدون فضائلي
ما بين غيابي إلى عذالي
عتبوا على فضلي وذمُّوا حكمتي
واستوحشوا من نقصهم وكمالي
إنِّي وكيدُهم وما عتبوا به
كالطود يَحقر نطحة الأَوعال
وإذا الفتى عرَف الرشاد لنفسه
هانت عليه ملامة الجهال

وقال في ذلك:

أكاد أجنُّ فيما قد أَجنُّ
فلم ير ما أرى إنس وجِنُّ
رُميت من الخطوب بمُصميات
نوافذ لا يقوم بها مجَنُّ
وجاوَرني أناس لو أريدوا
على منفتِّ ما أكلوه ضنُّوا
فإن عنَّت مسائلُ مشكلات
أجال سهامهم حدس وظنُّ
وإن عرضت خطوب مُعضلات
توارَوا واستكانوا واستكنُّوا!

وقال في شكوى الزمان:

أشكو إلى الله الزمان فصرفُه
أبلى جديد قُواي وهو جديد
محن إليَّ توجَّهت فكأنني
قد صرتُ مغناطيس وهي حديد!

ومن قوله في الخمريات:

صبَّها في الكأس صرفًا
غلبتْ ضوء السراج
ظنَّها في الكأس نارًا
فطفاها بالمزاج

ومنه:

نزَل اللاهوت في ناسوتها
كنزول الشمس في أبراج يوح
قال فيها بعضُ مَن هام بها
مثلُ ما قال النصارى في المسيح
هي والكأس وما مازجها
كأبٍ مُتحد وابن ورُوح

ومنه:

أساجية الجفون أكلُّ خُود
سجاياها استعرْنَ من الرحيق؟
هي الصهباء مخبرها عدو
وإن كانت تُناغي عن صديق

ومنه:

شربنا على الصوت القديم قديمة
لكل قديم أول هي أول
ولو لم تكن في حيِّز قلت إنها
هي العلة الأولى التي لا تُعلَّل!

ومنه:

قم فاسقنيها قهوة كدم الطلا
يا صاح بالقدح الملا بين الملا
خمرًا تظلُّ لها النصارى سجدا
ولها بنو عمران أخلصت الولا
لو أنها يومًا وقد ولعت بهم
قالت: ألست بربكم؟ قالوا: بلى!

وصيته

من كلام الشيخ الرئيس وصية أوصى بها صديقه أبا سعيد بن أبي الخير الصوفي، قال:

ليكن الله تعالى أول فكر له وآخره، وباطن كل اعتبار وظاهره. ولتكن عين نفسه مكحولة بالنظر إليه، وقدمها موقوفة على المثول بين يديه، مسافرًا بعقله في الملكوت الأعلى، وفيه من آيات ربه الكبرى. وإذا انحط إلى قراره، فليُنزِّه الله تعالى في آثاره، فإنه باطنٌ ظاهر، تجلَّى لكل شيء بكل شيء:

ففي كل شيء له آية
تدلُّ على أنه واحد

فإذا صارت هذه الحال له ملَكةً انطبع فيها نقش الملكوت، وتجلى له قدس اللاهوت، فَأَلف الأُنس الأعلى، وذاق اللذة القصوى، وأخذ عن نفسه من هو بها أولى، وفاضت عليه السكينة، وحقَّت له الطمأنينة. وتطلَّع على العالم الأدنى اطلاع راحم لأهله، مستوهن لحيله، مُستخفٍّ لثقله، مستحسن به لعقله، مستضلٍّ لطرقه. وتذكر نفسه وهي بها لهجة، وببهجتها بهجة، فتعجب منها ومنهم تعجُّبهم منه، وقد ودعها وكان معها، كأنه ليس معها.

وليعلم أن أفضل الحركات الصلاة، وأمثل السكنات الصيام، وأنفع البر الصدقة، وأزكى السر الاحتمال، وأبطل السعي المراءاة.

ولن تخلص النفس عن الدرن ما التفتَت إلى قيل وقال، ومناقشة وجدال، وانفعلت بحال من الأحوال.

وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما يَنفرج عن جناب علم. والحكمة أم الفضائل، ومعرفة الله أول الأوائل، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يَرفعه.

ثم يقبل على هذه النفس المزيَّنة بكمالها الذاتي، فيَحرسها عن التلطُّخ بما يشينها من الهيئات الانقيادية، للنفوس المادية، التي إذا بقيَت في النفس المزينة، كان حالها عند الانفصال كحالها عند الاتصال؛ إذ جوهرها غير مشاوب ولا مخالط، وإنما يدنسها هيئة الانقياد لتلك الصواحب، بل تُفيدها هيئات الاستيلاء والسياسة والاستعلاء والرئاسة. وكذلك يَهجر الكذب قولًا وتخيُّلًا، حتى تحدث للنفس هيئة صدوقة، فتصدق الأحلام والرؤيا.

وأما اللذات فيستعملها على إصلاح الطبيعة، وإبقاء الشخص أو النوع أو السياسة. أما المشروب فأن يَهجر شربه تلهيًا، بل تشفيًا وتداويًا. ويُعاشر كلَّ فريق بعادته ورسمه، ويَسمح بالمقدور والتقدير من المال، ويركب لمساعدة الناس كثيرًا مما هو خلاف طبعه.

ثم لا يُقصِّر في الأوضاع الشرعية، ويعظِّم السنن الإلهية، والمواظبة على التعبدات البدنية، ويكون دوام عمره — إذا خلا وخلص من المعاشرين — تُطربه الزينة في النفس والفكرة في الملك الأول وملكه، وكيس النفس عن عيار الناس من حيث لا يقف عليه الناس.

عاهد الله أنه يسير بهذه السيرة، ويَدين بهذه الديانة، والله ولي الذين آمنوا وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١  قال ابن خِلِّكان: اسمها ستارة.
٢  اتفق بعد ذلك احتراق تلك الخزانة، فتفرَّد أبو علي بما حصَّل من علومها، وكان يقال إن أبا عليٍّ توصل إلى إحراقها لينفرد بمعرفة ما حصله منها ويَنسبه إلى نفسه.
٣  كان قبل ذلك يتصرَّف هو ووالده في الأحوال ويتقلَّدان للسلطان الأعمال. قال ابن خلكان: «ولما اضطربت أمور الدولة السامانية خرَج أبو علي من بخارى إلى «كركانج»، وهي قصبة «خوارزم»، واختلف إلى خوارزم شاه علي بن مأمون بن محمد …»
٤  هو الأمير شمس المعالي قابوس بن أبي طاهر وشمكير بن زياد بن وردان شاه الجيلي، أمير جرجان وبلاد الجبل «طبرستان».
٥  قال ابن خِلِّكان بعد هذا: «ثم اغتسل وتاب، وتصدَّق بما معه على الفقراء، وردَّ المظالم على مَن عرفه، وأعتق مماليكه، وجعل يَختم في كلِّ ثلاثة أيام ختمة، ثم مات.»
٦  وفي ابن خِلِّكان أن ولادته كانت في شهر صفر سنة سبعين وثلاثمائة، وتُوفي يوم الجمعة من شهر رمضان سنة ثمانٍ وعشرين وأربعمائة.
٧  انحباس البطن من القولنج الذي أصابه.
٨  «الشفاء» و«النجاة»: كتابان من تأليفه. قال ابن خلكان: وكان الشيخ كمال الدين بن يونس رحمه الله تعالى يقول: إن مخدومه سخط عليه واعتقَله ومات في السجن، وكان يُنشد هذين البيتين.
٩  الحمامة.
١٠  نسخة: من.
١١  بزاة: جمع بازي، وهو طائر معروف. خوى: مال. الفود: ناحية الرأس. ألمأ: ذهب بالشيء. وطار غراب الرجل: أي شاب. يقول: إن بازيًّا أشهب من بزاة الدهر مال على ناحية رأسي وذهب بسواد شعري.
١٢  يقول: إنِّي أنظر بَعدهم إلى رسم ربعهم بعد أن نأوا عنه، فأجد آثار القدر بين الرياض كأنها طير القطا السود متلبدة بالأرض.
١٣  العُنجهية: الجفاء والكِبر. شوكاء: خشنة الملمس.
١٤  الشغبر: ابن آوى. الحش: مُجتمِع النخل. زبم: متفرق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤