منطق المشرقيين

تصنيف:

الرئيس أبي علي ابن سينا

وما جمعنا هذا الكتاب لنُظهره إلا لأنفسنا — أعني الذين يقومون مِنَّا مقام أنفسنا — وأما العامة من مُزاوِلي هذا الشأن، فقد أعطيناهم في «كتاب الشفاء» ما هو كثير لهم وفوق حاجتهم.

المصنف

بسم الله الرحمن الرحيم

بالعزيز الحكيم أثق، وعليه أتوكل

الحمد لله أهلٌ أن يُحمد لعزته وجبروته، ونسأله التوفيق لنَيل مرضاته والرأفة عنده، وأن يُصلي على أنبيائه الهادين، وخصوصًا على المصطفى محمد وآله الطاهرين.

المقدمة

وبعد، فقد نزعَت الهمَّة بنا إلى أن نجمع كلامًا فيما اختلف أهل البحث فيه، لا نلتفت فيه لفْت عصبية أو هوًى أو عادة أو إلف، ولا نُبالي من مفارقة تظهر مِنَّا لما ألفه مُتعلمو كتب اليونانيين إلفًا عن غفلةٍ وقلة فهم، ولما سمع مِنَّا في كتبٍ ألفناها للعاميِّين من المتفلسفة المشغوفين بالمشائين الظانين أنَّ الله لم يَهدِ إلا إياهم ولم يُنِل رحمته سواهم. مع اعترافٍ مِنَّا بفضل أفضل سلفهم١ في تنبُّهه لما نام عنه ذووه وأستاذوه، وفي تمييزه أقسام العلوم بعضها عن بعض، وفي ترتيبه العلوم خيرًا مما رتَّبوه، وفي إدراكه الحق في كثير من الأشياء، وفي تفطُّنه لأصول صحيحة سرية في أكثر العلوم، وفي إطلاعه الناس على ما بيَّنها فيه السلف وأهل بلاده، وذلك أقصى ما يقدر عليه إنسان يكون أول مَن مدَّ يديه إلى تمييز مخلوطٍ، وتهذيب مُفسد. ويحق على مَن بعده أن يلموا شعثه، ويرموا ثلمًا يجدونه فيما بناه، ويفرعوا أصولًا أعطاها. فما قدر من بعده على أن يفرغ نفسه عن عهدة ما ورثه منه، وذهب عمره في تفهُّم ما أحسن فيه، والتعصُّب لبعض ما فرط من تقصيره، فهو مشغول عمره بما سلف، ليس له مهلة يراجع فيها عقله، ولو وجدها ما استحلَّ أن يضع ما قاله الأولون موضع المفتقر إلى مزيد عليه أو إصلاح له أو تنقيح إياه.

وأما نحن، فسهل علينا التفهُّم لما قالوه أول ما اشتغلنا به، ولا يبعد أن يكون قد وقع إلينا من غير جهة اليونانيين علوم، وكان الزمان الذي اشتغلنا فيه بذلك ريعان الحداثة، ووجدنا من توفيق الله ما قصر علينا بسببه مدة التفطُّن لما أورثوه. ثم قابلنا جميع ذلك بالنمط من العلم الذي يُسميه اليونانيون «المنطق» — ولا يبعد أن يكون له عند المشرقيين اسم غيره — حرفًا حرفًا، فوقفنا على ما تقابَل وعلى ما عصى، وطلبنا لكل شيء وجهة، فحق ما حق وزاف ما زاف.

ولما كان المشتغلون بالعلم شديدي الاعتزاء إلى «المشائين» من اليونانيين كرهنا شَقَّ العصا ومخالفة الجمهور، فانحزنا إليهم، وتعصَّبنا للمشائين؛ إذ كانوا أَولى فِرَقهم بالتعصُّب لهم. وأكملنا ما أرادوه وقصَّروا فيه ولم يَبلغوا إربهم منه، وأغضَينا عما تخبَّطوا فيه وجعلنا له وجهًا ومخرجًا، ونحن بدخلته شاعرون وعلى ظلِّه واقفون. فإن جاهرنا بمخالفتهم ففي الشيء الذي لم يُمكن الصبر عليه، وأما الكثير فقد غطَّيناه بأغطية التغافل. فمن جملة ذلك ما كرهنا أن يقف الجهال على مخالفة ما هو عندهم من الشُّهرة بحيث لا يشكُّون فيه ويشكون في النهار الواضح، وبعضه قد كان من الدقة بحيث تَعمش عنه عيون عقول هؤلاء الذين في العصر؛ فقد بُلينا برفقة منهم عاري الفهم كأنهم خُشب مسنَّدة يرون التعمق في النظر بدعة ومخالفة المشهور ضلالة، كأنهم الحنابلة في كتب الحديث، لو وجدنا منهم رشيدًا ثبَّتْناه بما حققناه، فكنا نَنفعهم به، وربما تسنَّى لهم الإيغال في معناه فعوَّضونا منفعة استبدوا بالتنقير عنها.

ومن جملة ما ضنَنا بإعلانه عابرين عليه، حقٌّ مغفولٌ عنه يُشار إليه فلا يتلقى إلا بالتعصب؛ فلذلك جرينا في كثيرٍ مما نحن خبراء ببجدته مجرى المساعدة دون المحاقة. ولو كان ما انكشف لنا أول ما انصبَبْنا إلى هذا الشأن لم نبدِ فيه مراجعات مِنَّا لأنفسنا، ومعاوَدات من نظرنا، لما تبينا فيه رأيًا ولاختلط علينا الرأي وسرى في عقائدنا الشك وقلنا لعل وعسى. لكنكم أصحابنا تعلمون حالنا في أول أمرنا وآخره، وطول المدة التي بين حكمنا الأول والثاني، وإذا وجدنا صورتنا هذه فبالحريِّ أن نثق بأكثر ما قضيناه وحكمنا به واستدركناه، ولا سيما في الأشياء التي هي الأغراض الكبرى والغايات القصوى التي اعتبرناها وتعقَّبناها مئين من المرات. ولما كانت الصورة هذه والقضية على هذه الجملة، أحبَبنا أن نجمع كتابًا يحتوي على أمهات العلم الحق الذي استنبطه مَن نظر كثيرًا وفكر مليًّا ولم يكن من جودة الحدس بعيدًا، واجتهد في التعصب لكثير فيما يخالفه الحق فوجد لتعصُّبه وما يقوله وفاقًا عند الجماعة غير نفسه، ولا أحق بالإصغاء إليه من التعصب لطائفة إذا أخذ يَصدق عليهم فإنه لا ينجيهم من العيوب إلا الصدق.

وما جمعْنا هذا الكتاب لنُظهره إلا لأنفسنا — أعني الذين يقومون مِنَّا مقام أنفسنا — وأما العامة من مُزاولي هذا الشأن، فقد أعطيناهم في «كتاب الشفاء» ما هو كثيرٌ لهم وفوق حاجتهم، وسنُعطيهم في اللواحق ما يصلح لهم زيادةً على ما أخذوه. وعلى كل حال فالاستعانة بالله وحده.

(١) في ذكر العلوم

إن العلوم كثيرة، والشهوات لها مختلفة، ولكنها تنقسم — أول ما تنقسم — قسمين:

علوم لا يصلح أن تجري أحكامها الدهر كله، بل في طائفة من الزمان، ثم تسقط بعدها، أو تكون مغفولًا عن الحاجة إليها بأعيانها برهةً من الدهر ثم يدلُّ عليها من بعد.

وعلوم متساوية النسب إلى جميع أجزاء الدهر، وهذه العلوم أَولى العلوم بأن تُسمى «حكمة».

وهذه منها «أصول»، ومنها «توابع وفروع». وغرضُنا ها هنا هو في الأصول. وهذه التي سميناها توابع وفروعًا، فهي كالطب والفلاحة وعلوم جزئية تُنسب إلى التنجيم وصنائع أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها.

وتنقسم «العلوم الأصلية» إلى قسمين أيضًا، فإن العلم لا يخلو: إما أن ينتفع به في أمور العالم الموجودة وما هو قبل العالم، ولا يكون قصارى طالبه أن يتعلمه حتى يصير آلة لعقله يتوصل بها إلى علوم هي «علوم أمور العالم وما قبله». وإما أن ينتفع به من حيث يصير آلةً لطالبه فيما يروم تحصيله من العلم بالأمور الموجودة في العالم وقبله.

والعلم الذي يُطلب ليكون آلة، قد جرت العادة في هذا الزمان وفي هذه البلدان أن يُسمى «علم المنطق»، ولعل له عند قوم آخرين اسمًا آخر، لكنَّنا نؤثر أن نسميه الآن بهذا الاسم المشهور.

وإنما يكون هذا العلم آلة في سائر العلوم؛ لأنه يكون علمًا مُنبِّهًا على الأصول التي يحتاج إليها كل مَن يقتنص المجهول من المعلوم باستعمال للمعلوم على نحو وجهة يكون ذلك النحو وتلك الجهة مؤديًا بالباحث إلى الإحاطة بالمَجهول، فيكون هذا العلم مُشيرًا إلى جميع الأنحاء والجهات التي تَنقل الذهن من المعلوم إلى المجهول، وكذلك يكون مُشيرًا إلى جميع الأنحاء والجهات التي تُضلُّ الذهن وتوهمه استقامة مأخذ نحو المطلوب من المجهول ولا يكون كذلك. فهذا هو أحد قسمَي العلوم.

وأما القسم الآخر، فهو ينقسم أيضًا أول ما ينقسم قسمين؛ لأنه إما أن تكون الغاية في العلم تزكية النفس مما يَحصل لها من صورة المعلوم فقط، وإما أن تكون الغاية ليس ذاك فقط، بل وأن يعمل الشيء الذي انتُقشت صورته في النفس.

فيكون الأول تتعاطى به الموجودات، لا من حيث هي أفعالنا وأحوالنا لنعرف أصوب وجوه وقوعها مِنَّا وصدورها عنَّا ووجودها فينا. والثاني يَلتفت فيه لفت موجودات هي أفعالنا وأحوالنا، لنَعرف أصوَب وجوهِ وقوعها مِنَّا وصدورها عنا ووجودِها فينا.

والمشهود من أهل الزمان أنهم يُسمُّون الأول «علمًا نظريًّا»؛ لأنَّ غايته القصوى نظر. ويُسمُّون الثاني منهما «عمليًّا»؛ لأن غايته عمل.

وأقسام «العلم النظري» أربعة؛ وذلك لأن الأمور إما مخالطة للمادة المُعينة حدًّا وقوامًا، فلا يصلح وجودها في الطبع في كل مادة ولا يُعقل إلا في مادة معينة، مثل الإنسانية والعظمية، وإن كانت بحيث لا يَمتنع الذهن في أول نظره عن أن يحلها كل مادة فيكون على سبيلٍ من غلط الذهن، بل يحتاج الذهن ضرورة في الصواب أن ينصرف عن هذا التجويز ويعلم أن ذلك المعنى لا يحلُّ مادة إلا إذا حصل معنًى زائد يهيئها له، وهذا كالسواد والبياض، فهذا من قبيل الموجودات والأمور.

وإما أمور مخالطة أيضًا كذلك، والذهن وإن كان يُحوج في صحة تصوُّر كثير منها إلى إلصاقه بما هو مادة أو جارٍ مجرى المادة، فليس يمتنع عنده وعند الوجود أن لا يتعين له مادة، وكل مادة تصلُح لأن تُخالطه ما لم يمنع مانع، وليس يحتاج في الصلوح له إلى مُمهِّد يخصصه به، مثل الثلاثية والثنائية من حيث هي متكونة، وتعرض الجمع والتفريق، ومثل التدوير والتربيع، وجميع ما لا يفتقر وجوده ولا تصور إلى تغير مادة له، وهذا قبيل ثانٍ من الأمور والموجودات.

وإما أمور مباينة للمادة والحركة أصلًا، فلا تصلح لأن تُخلط بالمادة، ولا في التصور العقلي الحق، مثل الخالق الأول تعالى، ومثل ضروب من الملائكة، وهذا قبيل ثالث من الموجودات.

وإما أمور ومعانٍ قد تُخالط المادة وقد لا تخالطها، فتكون في جملة ما يخالط وفي جملة ما لا يُخالط، مثل الوحدة والكثرة والكلي والجزئي والعلة والمعلول.

كذلك أقسام العلوم النظرية أربعة، لكل قبيلٍ علم.

وقد جرت العادة بأن يُسمى العلم بالقسم الأول «علمًا طبيعيًّا»، وبالقسم الثاني «رياضيًّا»، وبالقسم الثالث «إلهيًّا»، وبالقسم الرابع «كُليًّا»، وإن لم يكن هذا التفصيل متعارَفًا. فهذا هو العلم النظري.

وأما «العلم العملي»، فمنه ما يعلم كيفية ما يجب أن يكون عليه الإنسان في نفسه وأحواله التي تخصه، حتى يكون سعيدًا في دنياه هذه وفي آخرته، وقوم يخصُّون هذا باسم «علم الأخلاق».

ومنه ما يعلم كيف يجب أن يجري عليه أمر المشاركات الإنسانية لغيره، حتى يكون على نظام فاضل، إما في المشاركة الجزئية وإما في المشاركة الكلية. والمشاركة الجزئية هي التي تكون في منزل واحد، والمشاركة الكلية هي التي تكون في المدينة.

وكل مشاركة فإنما تتم بقانون مشروع، وبمتولٍّ لذلك القانون المشروع يُراعيه ويعمل عليه ويحفظه. ولا يجوز أن يكون المُتولي لحفظ المقنن في الأمرين جميعًا إنسانٌ واحدٌ، فإنه لا يجوز أن يتولى تدبير المنزل من يتولى المدينة، بل يكون للمدينة مُدبِّر ولكل منزل مدبر آخر؛ ولذلك يحسن أن يفرد «تدبير المنزل» بحسب المتولي بابًا مُفرَدًا، و«تدبير المدينة» بحسب المتولي بابًا مفردًا. ولا يحسن أن يفرد التقنين للمنزل والتقنين للمدينة كلٌّ على حدة، بل الأحسن أن يكون المقنِّن لما يجب أن يراعى في خاصة كل شخص، وفي المشاركة الصغرى وفي المشاركة الكبرى، شخصٌ واحدٌ بصناعة واحدة، وهو «النبي».

وأما المتولي للتدبير، وكيف يجب أن يتولى، فالأحسن أن لا نُدخل بعضه في بعض، وإن جعلت كل تقنين أيضًا بابًا آخر فعلت ولا بأس بذلك، لكنك تجد الأحسن أن يفرد العلم بالأخلاق والعلم بتدبير المنزل والعلم بتدبير المدينة كلٌّ على حدة، وأن تجعل الصناعة الشارعة وما ينبغي أن تكون عليه أمرًا مفردًا.

وليس قولنا «وما ينبغي أن تكون عليه» مُثيرًا إلى أنها صناعة ملفَّقة مُخترَعة ليست من عند الله، ولكل إنسان ذي عقل أن يتولاها، كلا، بل هي من عند الله، وليس لكل إنسان ذي عقل أن يتولاها، ولا حرَج علينا إذا نظرنا في أشياء كثيرة — مما يكون من عند الله — أنها كيف يَنبغي أن تكون.

فلتكن هذه العلوم الأربعة أقسام العلم العملي، كما كانت تلك الأربعة أقسام العلم النظري.

وليس من عزمنا أن نورد في هذا الكتاب جميع أقسام العلم النظري والعلم العملي، بل نُريد أن نورد من أصناف العلوم هذا العدد نورد منه «العلم الآلي»، ونورد «العلم الكلي»، ونورد «العلم الإلهي»، ونورد «العلم الطبيعي الأصلي»، ونُورد من العلم العملي القدر الذي يحتاج إليه طالب النجاة. وأما العلم الرياضي فليس من العلم الذي يُختلف فيه.

والذي أوردناه منه في «كتاب الشفاء» هو الذي نورده ها هنا لو اشتغلنا بإيراده، وكذلك الحال في أصناف من العلم العملي لم نُورده ها هنا، وهذا هو حين نشتغل بإيراد «العلم الآلي» الذي هو «المنطق».

(٢) في علم المنطق

الفن الأول في التصور والتصديق، المقالة الأولى في مقدِّمات التصور

نريد أن نبين أنا كيف نسلك من أشياء حاصلة في أوهامنا وأذهاننا إلى أشياء أخرى غير حاصلة في أوهامنا وأذهاننا نَستحصِلها بتلك الأولى.

والأشياء التي تحصل في أوهامنا وأذهاننا لا بدَّ لها أن تتمثَّل في أذهاننا فنتصورها، وحينئذٍ لا يخلو إما أن نكون قد تصورنا منها تصوُّرًا لا يَصحبه تصديق، أو نكون تصورنا منها تصورًا يصحبه تصديق. والتصور الذي لا يصحبه تصديق مثل تصورنا معنى قول القائل «إنسان»، وقولنا «الحيوان الناطق المائت»، وقولنا «هل نمشي؟» والتصور الذي يصحبه التصديق هو مثل تصورنا قول القائل «الأربعة زوج» إذا صدقناه أيضًا فإنه لا محالة مما يجب أن يعتقد صدقه فيكون قولنا «الأربعة زوج» مما يتقدَّم فيتصور معناه، فإذا حصل لنا التصور حصل لنا التصديق به. لكن التصور هو المقدم، فإن لم نتصوَّر معنًى ما، لم يتأت لنا التصديق به. وقد يتأتى التصور من غير أن يقترن به التصديق.

فيَحصل لنا من جميع ما اقتصَصناه أن المعاني التي نتصوَّرها قد يتعدى في بعضها التصور إلى التصديق، وقد يتعدى إلى أنحاء أخرى لا مدخل لها في العلوم. وإذا كان الأمر كذلك فإن الأشياء التي نسلك إلى تحصيلها في أوهامنا وأذهاننا، أو عقولنا أو نفوسنا، وعلى أي لفظ أردت أن تعبر، إما أن نروم بذلك حصول تصورها لنا فقط، أو نروم حصول تصديقٍ مِنَّا بالواجب فيها. فإذا أردْنا أن نبين أنَّا كيف نطلب ما نستحصله في نفوسنا، فإما أن نبين كيف نستحصل تصوُّرًا أو كيف نستحصل تصديقًا.

ولا شك أن الطريق الذي به يحصل التصور يليق به أن يكون مباينًا للطريق الذي به يستحصل التصديق. ومن عادة الناس أن يُسموا ما يحصل به التصور «قولًا شارحًا» أو «قولًا» بحسب الاسم، فمنه ما يُسمونه «حدًّا» ومنه ما يسمُّونه «رسمًا». ومن عادتهم أن يسموا ما يحصل من التصديق «حُجَّة»، فمنه ما يسمُّونه «قياسًا» ومنه ما يسمُّونه «استقراءً» أو غير ذلك.

ولما كان التصور قبل التصديق، فيجب أن يكون الكلام في تعليم «القول الشارح» قبل الكلام في تعليم «الحجة»، وأن يُفرَد في كل واحد منهما كلام لا يخلط بالآخر، وما لم تَستوفِ الأولى منهما بالتقديم لم يتعرض للأولى منهما بالتأخير، فإن من يفعل ذلك يركب قبيحًا من التشويش. ولأنَّ كل قول شارح وكل حجة فهو مؤلَّف من معانٍ وألفاظ، وكلٌّ مركَّب من أشياء، فليس يتمُّ العمل به على الحقيقة إلا من جهة الإحاطة بما ركبت منه من جهة ما هو محتاج إليه في أن تُركب عنه حاجة بالذات، فكذلك يلزمنا إن كُنَّا طالبين مثلًا بالحد والحجَّة أن نحيط أولًا بالأشياء التي منها يُركَّب، لا من كل جهة، بل من الجهة التي صلح لها أن يركب منه الحد والحجة، وسنُشير إلى تلك الجهة.

فهذا العلم الذي يدلُّ على كيفية السلوك المذكور هو العلم الآلي والمنطق.

وموضوعه: المعاني من حيث هي موضوعة للتأليف الذي تَصير به موصلة إلى تحصيل شيء في أذهاننا ليس في أذهاننا، لا من حيث هي أشياء موجودة في الأعيان كجواهر أو كميات أو كيفيات أو غير ذلك.

فإن التفتْنا إلى كونها جواهر أو كميات أو كيفيات أو غير ذلك، فإنما يكون ذلك — إذا كان لكَونها أشياء من ذلك — أثرًا وحكمًا في الجهة التي لها يصلح أن يكون جزءًا من قول شارح أو حُجة.

(٣) في اللفظ المفرد والمعنى المفرد

اللفظ الدال المفرد؛ هو اللفظ الذي لا يريد الدال به على معناه أن يدلَّ بجزء منه البتة على شيء، وإن كان قد يجوز أن يدلَّ بجزء منه على معنًى. مثل قولنا: «الإنسان»، فإنه إذا أريد أن يدلَّ به على معنى «الحيوان الناطق» لم يدلَّ حينئذٍ بشيء من أجزائه على شيء. ومثل قولنا: «عبد شمس»، فإنه إذا أريد أن يدلَّ به على شخص معين، من حيث هو شخص معيَّن، لا من حيث يُراد أن يُقال فيه عبد الشمس، لا يكون حينئذ دلالة يُراد بعبد وشمس، بل لم يَلتفت إلى ما يدلُّ عليه عبد وشمس في حالة أخرى.

وإذا لم يُرد باللفظ دلالة لم يكن دالًّا؛ لأن معنى قولنا: «لفظٌ دالٌّ» هو أنه يُراد به الدلالة، لا أن له في نفسه حقًّا من الدلالة.

والمعنى المُفرد: هو المعين من حيث يَلتفت إليه الذهن كما هو، ولا يلتفت إلى شيء منه يتقوم أو معه يحصل، وإن كان للذهن أن يَلتفت وقتًا آخر إلى معانٍ أخرى فيه ومعه، أو لم يكن.

(٤) في الكلي والجزئي

إذا كان نفس تصور المعنى المفرد لا يَمنع الذهن — إلا بسببٍ خارج من نفس تصوره إن اتفق — عن أن يقال ويُعتقد لكل واحد من كثرة أنه هو، فهو كلي. مثل معنى «الإنسان» فإنه من الحق أن يقال لكل واحد من الكثرة أنه إنسان ويعتقد في الذهن أنه إنسان. ومثل معنى «شكل يُحيط به عشرون قاعدة مثلثات» فإنه لا مانع أن يعتقد الذهن أشياء كثيرة كل واحد منها هو شكل يحيط به عشرون قاعدة مثلثات، وإن تعذَّر مؤداه. ومثل معنى «الشمس» — لست أقول هذه الشمس — فإنه لا مانع في نفس تصوره أن يكون كثرة يقال لكل واحد منها شمس ويحد حد الشمس، فإن منَع عن ذلك مانع فليس نفس التصور.

وأما إذا كان نفس التصور مانعًا من ذلك، فهو الجزئي. كتصورنا معنى قولنا: «زيد»، أي شخص بعينه مُشارًا إليه، أو «هذا الشكل العشريني»، أو «هذه الشمس»، كان نفس التصور مانعًا من ذلك، فإن هذا المشار إليه لا يكون إلا ذلك المُعيَّن، وكذلك في الشكل أو الشمس.

(٥) في المحمول على الشيء

إذا قيل لشيءٍ من الأشياء أنه كذا، فكذا محمول عليه، سواء كان قولًا مسموعًا أو كان قولًا معقولًا باطنًا.

وليس من شرط المحمول على الشيء أن يكون معناه معنى ما حُمل عليه، حتى يصحَّ قول القائل: «الإنسان بشر» ولا يصحُّ قوله: «الإنسان ضحاك»، بل شرطه أن يكون صادقًا عليه وإن لم يكن هو هو؛ لأنه ليس يعني بقوله: «الإنسان ضحاك» أن الإنسان من حيث له مفهوم الإنسانية هو الضحاك من حيث هو ضحاك، فإن هذا كاذب، فإنه ليس البتة الإنسان هو الضحاك بالمعنى من هذه الجهة، بل معناه: الشيء الذي يُقال له إنسان ويفهم له صفة الإنسانية، لذلك الشيء أيضًا صفة الضحاكية. فالإنسان هو الضحاك؛ لأن الموضوع — الذي بالطبع موضوع — إنما هو واحد من كل جهة، وليس هذا الموضوع هذا الذات العامة، بل الشيء الخاصي حدًّا، والمعنى بحسب هذا الاعتبار هو الإنسان وهو الضحاك.

ولم يُحسن من ظن أن الذات تعرض لها حالان أو صفتان أو عرضان فتصير إنسانًا وضحَّاكًا، فيكون هذا الموضوع لهما. فإن الذات مطلقًا غير موضوعة لتخصيص، وإذا خُصِّصت فتُخصَّص ببعض أمثال الإنسان والضحاك، والكلام في ذلك كالكلام في الإنسان والضحاك، بل الذات من أحوال ذلك الخاصي، وهو في خاصيته شيء وفي كونه ذاتًا شيء، ومن حق هذا أن يحقِّق في العلم الكلي.٢

والذي نكتفي به ها هنا أن قولنا «الإنسان ضحاك» معناه أن الشيء الذي هو الإنسان هو أيضًا ضحاك، فله أنه إنسان وله أنه ضحاك، إذ له الإنسانية والضحاكية. على أنه يجوز أن يكون ذلك الشيء المخصص هو الإنسان نفسه، أو الضحاك نفسه، أو ثالثٌ له خصوصية ما ثم له معها أنه إنسان وأنه ضحاك. وأما كيفية هذا بالتحقيق والتفصيل فلتذكر في العلم الكلي.

وإذا كان كذلك فكل شيء تحمل عليه أمور مختلفة المفهومات فله أشياء وأمور مقترنة به: إما أجزاء من هويته وماهيته وحقيقته، وإما لوازم أو عوارض لها قد لا تلزم.

وكل محمول على شيء من الأشياء ليس مطابقًا لذاته، فهو إما مقوِّم وإما لازم وإما عارض.

فالمقوِّم: هو الشيء الذي يدخل في ماهيته فتَلتئم ماهيته منه ومن غيره.

واللازم: هو الذي لا بدَّ من أن يوصف الشيء بعد تحقُّق ذاته، على أنه تابع لذاته، لا على أنه داخل في حقيقة ذاته.

والعارض: هو الذي قد وُصف به الشيء، إلا أنه ليس يجب أن يوصف به الشيء دائمًا.

ويَشترك المقوم واللازم في أن كل واحد منهما لا يفارق الشيء.

ويشترك اللازم والعارض في أن كل واحد منهما خارج عن حقيقة الشيء، لاحق بعدها.

مثال المقوِّم: كون المثلَّث شكلًا، بل الإنسان جسمًا. ومثال اللازم: كون المثلَّث مساوي الزوايا لقائمتين، وخواص أخرى من النسبة له إلى أشياء غير متناهية هي غير متناهية لا يجوز أن تكون شروطًا في ماهيته لأنها غير متناهية، مثل كونها نصفًا من مربع وثلثًا من آخر وربعًا من آخر، وكذلك أشياء أخرى من أحوال المثلَّث لا نهاية لها. ومثال العارض: شيب الإنسان وشبابه وغير ذلك من أحوالٍ تَعرض له. وكل شيء بسيط في الحقيقة والماهية فلا مقوِّمات له،٣ ولا يَلتفت إلى ما يقولون ويساعدهم عليه في العلم الظاهر.

(٦) في عدد دلالة اللفظ على المعنى

أصناف دلالة اللفظ على المعنى ثلاثة: دلالة المطابقة، ودلالة التضمُّن، ودلالة الالتزام؛ وهو النقل من طريق المعنى.

أما دلالة المطابقة فمثل ما تدلُّ لفظة «الإنسان» على الحيوان الناطق.

وأما دلالة التضمُّن فمثل دلالة الإنسان على الحيوان وعلى الناطق، فإن كلَّ واحد منهما جزء ما يدلُّ عليه الإنسان دلالة المطابقة.

ودلالة الالتزام مثل دلالة المخلوق على الخالق والأب على الابن والسقف على الحائط والإنسان على الضاحك، وذلك أن يدلَّ أولًا دلالة المطابقة على المعنى الذي يدلُّ عليه أولًا، ويكون ذلك المعنى يصحبه معنًى آخر، فيَنتقل الذهن أيضًا إلى ذلك المعنى الثاني الذي يُوافق المعنى الأول ويَصحبه.

وتشترك دلالة المطابقة ودلالة التضمُّن في أن كل واحد منهما ليس دلالةً على أمر خارج عن الشيء.

وتشترك دلالة التضمُّن ودلالة الالتزام في أن كل واحد منهما مقتضى الدلالة الأولى.

(٧) في أصناف دلالة المَحمول على الموضوع

كل محمول يدلُّ على موضوع، فإما أن يدلَّ على كمال حقيقته كما هو، لا يفلت عن دلالته شيء من المقوِّمات له، بل يدل على جميعها بسبيل التضمُّن، وعلى الذات بسبيل المطابقة إن كانت الذات ذات أجزاء حقيقية، وهذه الدلالة هي المخصوصة عندنا باسم «الدالة على الماهية» أو «الدال على ما هو الشيء».

فإن كان المحمول لفظًا مفردًا، فهو اسم الشيء. وإن كان المحمول ليس لفظًا مفردًا بل هو قولًا، فهو حدُّ الشيء. مثاله: «الإنسان»، فإنه اسم للطبيعة المشتركة بين أشخاص الناس التي لا يَفصلون عنها إلا بأمر عارض، أو «الحيوان الناطق» وهو حدُّ تلك الطبيعة.

فأما إذا قيل: «ضحاك بالطبع»، فقد دلَّ على غير الماهية؛ لأنه يدلُّ عليه من حيث أنه لازم له. وإذا قيل: «حساس ناطق» فقد دلَّ على مساوٍ ولكن لم يدلَّ على الماهية؛ لأن مفهوم «الحساس» على سبيل المطابقة هو أنه شيء ذو حسٍّ فقط، ومفهوم «الناطق» هو أنه شيء ذو نُطقٍ فقط. فإن دلَّ ذلك على معان أخرى من حيث يعلم أن الحساس لا يكون إلا جسمًا ذا نفس، وكذلك الناطق، فذلك دلالة على سبيل الالتزام لا على سبيل التضمُّن.

فالدلالة الأولى للحساس الناطق مخلية عن الجسمية والمُتغذية والمتحركية وغير ذلك، لا تتضمَّن شيئًا من ذلك؛ فلذلك ليست هذه الدلالة على الماهية والذات — من حيث هي تلك الماهية والذات — دلالة مطابقة بل دلالة الالتزام. وأما «الحيوان» فاسمٌ موضوعٌ للجملة المُجتمعة من المقومات المشتركة للإنسان مع غيره، فإذا أردف ﺑ «الناطق» تخصَّص وتم.

وإما أن لا يدلَّ على ذلك، فيدل حينئذٍ إما على مقوِّم، وإما على لازم، وإما على عارض.

(٨) في أصناف الدلالة على الماهية

أصناف الدلالة على الماهية ثلاثة:

أحدها على سبيل الخصوص والانفراد، مثل دلالة «الحيوان الناطق» على الطبيعة المشتركة بين أشخاص الناس.

وإما على الشركة، مثل: «الحيوان»، فإنه لا يدلُّ على ماهية الإنسان ولا على ماهية الفرس. ولكن إذا طلبت الماهية المشتركة لها، فسأل سائل: «ما هذه المتحرِّكات من الإنسان والفرس والطائر؟» فقيل: «الحيوانات»، كانت الدلالة واقعة على كمال حقيقتها المشتركة.

وإما على سبيل الانفراد والشركة معًا، مثل: «الإنسان»، فإنه ماهية لزيد وحده ولزيد مع عمرو بالشركة. وذلك لأنَّ زيدًا ليس يَنفرز عن عمرو بمعنى مقوم، بل بأحوال عرضت لمادته، لو توهم فقدانها لم يجب أن يكون فقدانها بسبب فقدان زيد وفساده على ما تحقَّق في العلم الكلي، وليس انفرازه كانفراز الإنسان عن سائر الحيوانات بأمر مقوم لجوهره.

وأما هل بعض ما يَنفرز به على القبيل الأول، وبعضه على القبيل الثاني، فليترك إلى العلم الكلي. فلا يضر المنطقي تسليمه والبناء عليه، لو كان ما يبنى عليه موجودًا مُسلِّمًا بالحقيقة.

ومن عادة الناس إذا حقق عليهم أن يسمُّوا القسم الثاني «جنسًا» للمُشتركات القريبة فيه نحو ما لها من الاشتراك، وأن يسموا كل واحد من المشتركات القريبة منه «نوعًا» له، فيكون كل واحد من الجنس والنوع مفهومًا بالقياس إلى صاحبه.

ومن عادتهم أن يسمُّوا القسم الثالث «نوعًا»، لا على نحو ما تُسمى المشتركات في الجنس نوعًا، بل بالقياس إلى الأشخاص التي تحتها من حيث إنها تدلُّ على ماهية أشياء لا تفترق بأمر مقوم، حتى لو لم يكن فوقه معنًى جامع جمعًا جنسيًّا يصير بسببه نوعًا بذلك المعنى كان في نفسه نوعًا بهذا المعنى.

(٩) في المقومات

المقوِّم: إما أن يكون من الشيء جنسًا له، أو جنس جنسٍ له، وكذلك حتى ينتهي. وإما أن لا يكون كذلك، بل لا يزال يكون جزءًا من حقيقته أو حقيقة جنس له، إن كان للشيء جنس لا يعود في وقتٍ من الأوقات. فإن ترقَّيت جنسًا ليس مثلًا يكون بالقياس إلى جنس الشيء جنسًا، وبالقياس إلى الشيء مقومًا غير جنس، بأن يكون بالقياس إلى كل جنس وإن علا غير جنس. فهذا لا يَخلو إما أن يكون مساويًا بتقويمه لأعلى جنس الشيء ذي الجنس، أو يكون أعلى منه، أو يكون أخص منه. ولا يجوز أن يكون أعلى منه وأعم ومقومًا له؛ لأنه حينئذ إما أن يكون وحده دالًّا على ماهية مشتركة لما جعل أعلى الأجناس فيكون أعلى الأجناس ليس أعلى الأجناس، أو يكون ليس وحده كذلك بل مع غيره فيكون حينئذٍ لأعلى الأجناس جنس وهذا مُحال.

فإذن يجب أن يكون تقويمه إما مساويًا وإما أخص. فإن كان أخص يميَّز به بعض ما تحت أعلى الأجناس من بعض في ذاته عما يشاركه في أمر مقوم، وإن كان مساويًا يميز به أعلى الأجناس عما يشاركه في لازمٍ عام وهو الوجود. فإنه سيُبين في العلم الكلي أن الوجود لا يعم الأشياء كلها عموم المقوم لها الداخل في ماهيتها. وكيف كان فإنه صالح للتمييز الذاتي، وهو الذي جرت العادة بتسميته ﺑ «الفصل».

فقد آل الأمر إلى أن المحمولات المقومة إما أجناس، وإما أنواع، وإما فصول. أعني الأنواع بحسب المعنى الثاني مما سُمي النوع به. ومن المعلوم أن الشيء ربما كان جنسًا لشيء ونوعًا لشيء، مثل: «الحيوان» فإنه نوع من الجسم وجنس للإنسان، وينتهي إلى نوعٍ سافل وجنسٍ عال. وأما ما ذلك هو في كل باب فيهما فغير محتاج إليه في المنطق.

فالجنس: هو الكلي الدال على ماهية مشتركة لذوات حقائق مختلفة.

والنوع بمعنى: فهو الكلي الموضوع للجنس في ذاته وضعًا أوليًّا.

وبمعنى آخر: فهو الدال على ماهية ما يَختلف بالعدد فقط.

والفصل: هو الكلي الذي يُميِّز به كلي عن غيره تميُّزًا في ذاته.

(١٠) في اللازمات

يجب أن نضع وضعًا مقرَّرًا أن اللوازم التي تلزم الشيء وليست مقوِّمة له، إما أن تكون للشيء عن نفسه كالفردية للثلاثة، أو من خارج الوجود للعالم. وأن الشيء الذي لا تركيب فيه، لا تلزمه لوازم كثيرة معًا لزومًا أوليًّا، بل إنما يلزمه اللزوم الأولي منها واحد، ويلزمه غيره بتوسطه، لزوم الضحاك مثلًا للإنسان بعد لزوم المتعجب بعد لزوم المدرك له.

وكل لازم فإما أعم، مثل كون مربعة فردًا للثلاثة، سواء كان بوساطة لازم أعم كالفردية أو بغير وساطته. وإما مساوٍ، مثل لزوم كون مربعة تسعة للثلاثة. وأيضًا قد يلزم الشيء الذي لا تركيب فيه معنًى أعم منه ومعنًى أخص منه، لكنه قد يكون أحدهما يتوسط الآخر. إما الأعم يتوسط الأخص، فعلى ما وصفنا من أن الأخص يلزمه الأعم. وإما الأخص يتوسَّط الأعم، فإن الأعم إذا اقترن بالأخصِّ حصل ثالث أخص من الأعم له حكم مُفرَد. وأيضًا فإن اللازم الذي ليس أعم قد يكون قسيمة وقد يكون معنًى غير قسيمة. والمعنى الذي ليس بقسيمة معروف. وأما اللازم الذي هو القسيمة فهو أن يكون المعنى العام يلزمه أن يكون في تحصيله أحد الأقسام لا بدَّ منها، مثل الفرد يلزمه أن يكون إما ثلاثة وإما خمسة، ذاهبًا إلى غير نهاية، أو واقفًا عند نهاية. وبعض أنحاء القسيمة اللازمة يكون أوليًّا، وبعضه غير أوَّلي، فإن قسيمة الفرد مثلًا إلى ثلاثة وخمسة قبل قسيمته إلى ذي مربع أقل من العشرة بالفرد الأول، وذي مربع أكثر من ضعف العشرة بأول مركب من عددين أولين. وإذا كان المعنى العام جنسًا كانت آخر القسيمة الأولى هي الفصول. وكما تُعتمد بالمعنى العام تُمثل معنًى ثالثًا أخص من الجنس الثاني مثولًا أوليًّا، وهو لا محالة النوع؛ ثم اللوازم التي تلزم بعدها تكون بعد ما يقوم النوع.

ولما كان الشيء البسيط لا يَقتضي معنًى خاصًّا أوليًّا إلا اقتضاءً واحدًا، فإذا كان المعنى الجنسي بسيطًا لم يقتضِ الاقتضاء الأوَّلي إلا قسيمة واحدة، فلا يجوز أن ينقسم بالفصول قسيمة حقيقية. ثم يَنقسم قسيمةً أخرى بفصول أخرى مداخلة لتلك الفصول، إلا أن يكون المعنى الجنسي مُركَّبًا، ولا يبعد أن يَنقسم مثل انقسام الحيوان في أمثلتهم إلى ناطق وقسائمه، ومرة أخرى إلى مائت وقسائمه، إن كانت القسيمتان في هذا المثال فصليتين كلاهما، ولا مناقشة في الأمثلة.

(١١) في العوارض الغير اللازمة

هذا مثل كون الإنسان شابًّا مرة وشيخًا مرة، وكونه متحرِّكًا مرة وساكنًا مرة. فبعض هذه من الطبع ومن الإرادة مثل ما قُلنا، وبعضها من أسباب خارجة مثل المرض ومثل ما يَلحق من الألوان بسبب الأهوية. وأيضًا بعد هذه مُطاوَلة كالشباب والشيب، وبعضها سريعة المفارقة كالقيام والقعود. وبعضها يوجد في غير النوع مثل الحركة قد تكون في الإنسان وغيره، وبعضها خاصة به مثل الاستشاطة غضبًا بالإنسان.

وقد توجد من هذه محمولات، فيقال مثلًا للإنسان: شاب وشيخ ومتحرِّك وساكن وأبيض وضاحك.

(١٢) في اللاحق العام والخاص

اعلم أن كل معنًى لا يُقوِّم الشيء، وهو قد يوجد له ولغيره، فإنه قد جرت العادة بأن يُسمى «عرضًا عامًّا»، سواء كان لازمًا أو مفارقًا.

وكل ما كان فيما لا يقوم، ولا يوجد إلا للشيء، فقد جرَت العادة بأن يُسمى «خاصة»، سواء كان لكله أو بعضه، ولازمًا أو مفارقًا.

فتكون أصناف العام أربعة: اللازم للشيء كله، ويكون لغيره. واللازم لبعض الشيء كالأنوثة لبعض الناس، وقد يكون لغيره. والعارض للشيء كله، وقد يكون لغيره. والعارض لبعض الشيء، وقد يكون لغيره كالمتحرِّك لبعض الحيوان.

وتكون أصناف الخاصة ثلاثة: اللازمة للجميع دائمًا، واللازمة للبعض دائمًا كالضحك بالقياس إلى الحيوان، والذي لا يلزم ولا يكون إلا للشيء وحده كالضحك بالفعل أو كالبكاء بالفعل للإنسان.

(١٣) في أصناف تركيبات المعاني المختلفة في العموم والخصوص وغير ذلك

إنه يجب أن يقبل مِنَّا أن المعنيين المختلفين في العموم والخصوص قد يتركبان على وجوه: من ذلك أن يكون المعنى العام مما يَلزمه قسيمة ما لزومًا أوليًّا، يَفتقر في أن يحصل له بعض أجزاء القسيمة، فإذا اقترن به الفصل تهيَّأ حينئذ أن يكون موجودًا، ويكون ذلك الاقتران ليس يَقتضي مفهوم أحد المقترنَين حتى يكون أحدهما لازمًا للآخر في مفهومه، بل إنما يلزمه في أن يكون موجودًا. مثال ذلك: إذا قلنا «الجسم» وعيَّنا شيئًا من الجواهر له أبعادٌ ثلاثة على الوجه الذي يصحُّ من غير زيادة، أو شرط حذف زيادة، فإن هذا المفهوم لا يُمكن أن يحصل موجودًا إلا أن يكون على أحد أقسام القسيمة التي تلزمه، وأن يكون مثَلًا نباتيًّا أو حيوانيًّا أو جماديًّا بلا حدٍّ ما هو أدق تفصيلًا منه، مثلًا أن يكون ذا نفس ناطقة، ومفهوم «ذا نفس ناطقة» هو أنه شيء لا يُدرى ما هو بحسب هذا المفهوم، له نفس ناطقة، وليس يدخل في هذا المفهوم أن يكون جسمًا أو غير جسم، ولا يلزم ذلك هذا المفهوم، وإن كان يعلم أنه لا يصح أن يكون في الوجود إلا جسمًا، ولو كان داخلًا في مفهومه أو لازمًا لنفس مفهومه ما احتيج إلى شيء من الأشياء يكون هو الجامع بين النفس الناطقة وبين الجسم، ليَحصل منه شيء موجود له نفس ناطقة. كما لم يحتجْ في اقتران الثلاثية والفردية إلى جامعٍ يَجمع بينهما يجعل الشيء الذي هو ثلاثة فردًا، بل نفس معنى الثلاثية في مفهومه يَقتضي أن يكون له معنى الفردية، والشيء إذا حصل له معنى الثلاثية فقد حصل له معنى الفردية من نفسه لا بسبب شيءٍ غيره.

وأما تعلق النفس الناطقة بالجسمية فبسبب، وكذلك تعلُّق سائر الصور بموادِّها سواء كان جائزًا لها أن تُفارق أو غير جائز، وإن كان لبعضها نصيب في وجود البعض، لكنه سيظهر أن ذلك ليس بسبيلِ اقتضاء المفهوم، بل على سبيل اقتضاء الوجود، وبين مقتضى المفهوم ومقتضى الوجود فرق.

وكذلك لا تجد صورة من الصور مأخوذة على بساطتها بنفس مفهوم يَقتضي أن يفهم منها حصول المادة لها، وإن وجب من خارج مفهومها واعتبار وجودها أن تكون لها مادة يجب عنها إذا فرضت ذات وجود أو يجب لها من غيرها، اللهمَّ إلا أن تأخذ الصورة لا بسيطة، بل من حيث تركيب يَعرض لها مع المادة، فحينئذ لا تكون المادة لازمةً لمفهومها، بل متضمنة في مفهومهما، وليس كلامنا في مثل ذلك.

ولقائل أن يقول: إنك إذا قلت «ناطق» أو قلت «خفيف مُطلق» — أما أولهما فعند إيرادك فصل مثل «الإنسان»، وأما ثانيهما ففي إيرادك فصل مثل «النار» — فإنك قد أشرت إلى طبيعة الجنس؛ لأنك إذا قلت «ناطق» عنَيت به أنه ذو نفس ناطقة، وإذا قلت «خفيف مطلق» عنَيت به أنه ذو قوة في الطبع محرِّكة إلى حدٍّ فوق حدود الأجسام المتحرِّكة بالاستقامة. وإذا قلتم أنه ذو نفس ناطقة فقد قلتم أنه «ذو شيء هو كمال في جسم طبيعي» إلى من شأنه أن يعقل المعقولات، وكذا وكذا. وإذا قلتم أنه «ذو قوة» فقد قلتم أنه ذو مبدأ حركة لما هو فيه، وهو جسم لا محالة.

فحينئذٍ نجيبه بأجوبة: من ذلك أنه إذا قال «شيءٌ له أو فيه كمالٌ في جسمٍ طبيعيٍّ» لم يلزم من مفهوم هذا أنه نفسه ذلك الجسم الطبيعي، بل لا يمنع مفهوم هذا أن يكون هذا الشيء فيه شيءٌ هو أيضًا في غيره الذي هو جسم طبيعي، وهما معًا، أو هو فيهما معًا، لكنه كمال بالقياس إلى أحد الشيئين اللذَين هو فيه.

وأيضًا لو كان يوجب ذلك لكان على سبيلٍ ما بالعرض.

وأيضًا فإن ذات النفس وذات كل قوة شيءٌ، وكونهما كمالًا وحالًا لشيء شيءٌ من لواحق ذاته. وإذا حدَث عن النفس بمثل هذا اللاحق بقولٍ مساوٍ كان رسمًا له لا حدًّا، وإنما يَحصل للحيوان الفصل المنوَّع له إلى الإنسان بانضمام ذات النفس إلى ما تَنضم إليه انضمامًا أوليًّا، ثم تتبعه توابع النفس ولواحقه، وهو من حيث تلك التوابع واللواحق — إذا كانت مساوية — مخصوص لا مفصول، فإذا عُني بالناطق ذو كمال جسم بصفة كذا فقد أورَد رسم الإنسان وخاصة الحيوان لا فصله، لكنا نعجز عن تحديد القُوى البسيطة، وإنما نرسمها بالضرورة رسمًا، فلا يُمكننا أن لا نَلتفت إلى موضوعاتها وإلى ما يلزمها في الوجود، فنقول أنها تُؤخذ في حدودها موادها. وأما القوى إذا أُخذت مركَّبة على النحو الذي أشرنا إليه فيما اشتغلنا به لم يصلح أن تؤخذ منها الفصول؛ لأنها مأخوذة بعد حصول القوة والصورة من حيث الحصول، مثل النطقية فإنها حالة ذي النطق من حيث له الذات التي تُسمى لها ناطقًا.

ومما يُشبه هذا القسم المذكور، بل هو داخل معه في المعنى العام، ما يكون من جمعٍ عارض للشيء، يكون له ولغيره مع الشيء الموضوع له أو لازم له في وجوده، وليس في ماهيته، يكون لاجتماعهما حكم اجتماع جديد ليس يَقتضيه مفهوم أحدهما، مثل المُجتمِع من الأنف والتقعير،٤ ومثل المُجتمِع من السواد والبياض الذي هو البلقة، ومثل المُجتمِع من إفادة الوجود والبياض لذي التبْييض، فإن الوجود صفة للأشياء ذوات الماهيات المختلفة ومحمول عليها خارج عن تقويم ماهياتها، مثل البياض والسواد، لا يختلف بحسب اختلاف الموضوعات إلا في شيء بعد الوجود، ولا يَلتفت إلى أقاويل فيها خارجة عن هذا المذهب، وليست صفة تقتضيها أصناف هذه الماهيات، بل فائض عليها من مبدأ. وكذلك إفادة الوجود، فإذا اقترن البياض بصفة الوجود كان بياضَ موجود، وإذا اقترن به إفادة الوجود كان ذلك بالقياس إلى المبدأ الفاعل تبييضًا، وهو القياس الذي بالذات، فكان بالقياس إلى المبدأ القابل من حيث يُعتبر حال حدوث الوجود فيه تبييضًا وهو من حيث الإفادة بالعرض؛ لأنه تبْييض من حيث الاستفادة، لكن الإفادة والاستفادة مُتلازمان معًا. وأما من حيث قياسه إلى نفس البياض فمعنًى معقول زائد على معقول البياض على معقول الإفادة، ليس يتبع أحدهما مفهوم الآخر في نفسه، بل بحسب وجوده ولا اسم له.

وقد يكون من هذا الباب ما يكون فيه العام لازمًا من خارج الموضوع، ويكون منه ما هو غير لازم، وقد يكون فيه كل واحد من المُجتمِعَين أعمَّ من الآخر من جهةٍ دون جهة، مثل اجتماع البياض والحيوان، وربما كان المُجتمِعان ليسا أحدهما محمولًا في الطبع والآخر موضوعًا، بل من حق كل واحدٍ منهما أن يكون محمولًا على شيء واحد في الطبع، مثل اجتماع الإقدام والعقل في الشجاع، ومثل اجتماع العفة والشجاعة والتدبير في العدل.

والذي يفترق فيه هذا القسم والقسم الذي ذكرنا أنه نحو اجتماع الجنس والفصل، ليس هو أن العام في الجنس لا يتحصل موجودًا بالفعل إلا بالخاص، ولا أن أحدهما ليس تابعًا لمفهوم الآخر، ولا أنَّ اجتماعهما بأسباب من خارج؛ وذلك لأنه قد يكون من هذا القسم الثاني ما يكون العام متقوِّمًا بالذات بالخاص، مثل البياض بالقياس إلى الإنسان والفرس، فإنه ليس يَجوز أن يتحصَّل بالفعل إلا في شيء من الإنسان والفرس وسائر أجزاء القِسمة التي تقع له بالقياس إلى موضوعاته، ومع ذلك فإنهما يجمع بينهما جامع هو خارج من المجموعَين، وإن كان قد يكون طبيعة ملازمة لهما فإنه قد يكون غير كل واحدٍ منهما، ثم ليس ولا واحد منهما يتبع مفهوم الآخر، لكن الفرْق بينهما أن العام في المعنى الجنسي جارٍ مجرى الموضوع، ويُشتقُّ من المادة وما يَجري مجراه. والخاص المضاف إليه هيئة وصورة يُتصور بها الموضوع، فيقوم منهما ثالثٌ قيامًا طبيعيًّا. وأما في هذا المعنى الثاني فإن العام هو الهيئة والصورة للخاص، والخاص هو المتصور بالعام، أو كلاهما هيئة وصورة لشيء ثالث.

ولو أن آخذًا أخَذ ما يجري مجرى الموضوع (كالإنسان مثلًا أو العدد) بجعله العام لخاص ما تحته (مثل الرجل أو المنقسم بمُتساويَين)، فقال: «إنسان رجل»، أو قال: «عدد منقسم بمتساويين»، لم يجد الخاص هو الذي سبق إلى العام فأفرزه إفرازًا أوليًّا، بل يجده عارضًا له بعد لحوق المخصَّص الأَوَّلي. كالرجل فإنه إذا استكملت الإنسانية بما تستكمل بما يعرض لها عارض مزاج مع استكمالها أو بعد استكمالها تصير به رجلًا كما يعرض له أن يصير شيخًا أو يعرض للمادة التي تتكون منه، لا من حيث هي موضوعة للصور الأولية التي بها تكون إنسانًا، بل من حيث اقترانها بسبب آخر. وكذلك العدد يلحقه أول ما يلحقه في تخصيصه أنه يكون اثنين أو أربعة أو ستة، ثم ما يلزم ما خصَّصه لزومًا في مفهومه أن يكون منقسمًا بمتساويين وأن تكون أشياء بحسب الاعتبارات التي له لا نهاية لها بالقوة كلها لازمة. وإذا لم يكن هكذا، وكان دعوانا هذا في المثالين غير صحيح، فليقضِ المنطقيُّ في الإنسان أنه جنس للرجل وفي العدد أنه جنس لما يخصص بما أوردناه، فإنه لا مناقشة في الأمثلة. وليقض أنهما ليسا بجنسَين إن كان دعوانا في المثالين صحيحًا، وليُحصلوا من ذلك أن النحو الذي ادعيناه في المثالين ليس على النحو الذي يجري عليه ما ندَّعيه في اجتماع طبيعيتي الجنس والفصل، ثم ترك العهدة في الأمثلة علينا بعد أن يَعرف جهة الفرق.

والمعنى الجنسي إذا لحقه معنًى فصليٌّ لم يخلُ إما أن يكون ذلك الفصل يجعله بحيث لا يلزمه من المحمولات التي ليست له في حد جنسه إلا لوازم تلزم ذلك الفصل وتأتي بعده، وعوارض تلحقه من أسباب خارجة يجوز أن تتوهَّم غير لاحقة، فيكون قد قوَّم ما هو نوع الأنواع، وإما أن لا يكون فعل ذلك بعد، فيكون قوَّم نوعًا هو أيضًا جنس. وهذا ضرب من تركيب معنًى خاص وعام متقسِّم إلى قسمين.

والضرب الثاني أن يكون أحد التركيبَين يلزم الآخر في مفهومه، فلا يكون ذلك التركيب بسبب من خارج مثل تركيب الثلاثية مع الفردية، وهو تركيب الموضوع ولازم ماهيته، وقد يتَّفق أن يركب على أن يقدَّم الأخص منهما على الأعم، فيقال: «ثلاثةٌ فرد». وهذا من الجنس الذي يُسميه بعض الناس «هذيانًا» لأنه بحسب الإبهام غير جيد التركيب إذ كان لا ثلاثة إلا فردًا، مثل قول القائل: «إنسانٌ جسم». وأما إذا قال: «الثلاثة فرد والإنسان جسم» لم يعد هذا هذيانًا عندهم، بل إخبارًا عن بيِّن بنفسه، وليس عكس هذا يُعدُّ هذيانًا مثل قولهم «فردٌ هو ثلاثة» إذ كان الفرد قد يكون غير ثلاثة. ويفارق هذا الأولين من حيث بيَّنا. ويُفارق الجنسي منهما بأن العام لا حصة له في تقويم الموجود القائم بالفعل القيام الأوَّليَّ، فإن الثلاثية تتقوَّم أول تقوُّمها بما تقومه، ثم يكون العام من لوازمها، ولا يكون للفردية مدخل في تقويمها الأوَّلي ولا في تقويم المركَّب منهما إلا كما يُقوِّم الجزء الكل، ويكون للثلاثية مدخل في تقويمها من غير جهة تقويم الجزء الكل، فإنه يكون بنفسه علة لوجود الجزء الثاني، فإنه إذا حصل للثلاثية وجودٌ كفى ذلك في وجود الفردية والمركب منهما، وليس كذلك إذا حصل للناطق وجود، بل يحتاج إلى سبب آخر يجمع بينهما فيُقوِّمان المركَّب كما يُقوَّم الجزء فقط، وليس أحدهما متقومًا في نفسه أولًا، ثم يلحقه الثاني لحوق شيء لشيء متقوِّم، بل إنما يَحصل الشيء المتقوم التقوُّم الأَوَّلي باجتماع منهما جميعًا، فيجب أن تكون هذه الحقائق متصوَّرة.

(١٤) في تركيب أحوال المحمولات بعضها مع بعض

المحمولات بعضها أول وبعضها غير أول، وقد يستعمل لفظ «الأول» في هذا الموضوع على معانٍ ثلاثة: فيقال «أول» ويُعنى به الشيء في كونه محمولًا على الشيء بنفسه، و«أول» في العقل مثل حملنا أعظم من الجزء على الكل. ويُقال «أول» ويُعنى به القياس إلى محمولٍ ثانٍ يُحمل على الشيء بغلبة المحمول الذي يقال له «أول»؛ مثل كون الإنسان أولًا من شأنه أن يتعجَّب، ثم من بعد ذلك كونه من شأنه أن يضحك، والأول الحقيقي من هذا الباب هو الذي ليس بينه وبين الموضوع واسطة البتة، وهذا هو الذي يستحق أن يقال له «المحمول على الشيء بذاته ولما هو»، لست أعني المحمول في جواب ما هو، بل المحمول على الشيء — لا بسبب شيء من صفاته وأحواله، بل بسبب ذاته ولأنه هو — مثل «الضحاك» المحمول على «الإنسان» لا من جهة أنه إنسان حتى تلقى الإنسانية من غير واسطة، بل لأجل أن الإنسان مميِّز مُتعجِّب فلذلك هو ضحاك، فهو للإنسان بتوسط صفة له، تلك الصفة تقتضيه ولولاها لما وجب أن يكون ضحَّاكًا، ولا يبعد أن يظن ظانون أن كل ما هو أول بهذا الاعتبار فيلزمه أن يكون أولًا بالاعتبار الأول. ويقال «أول» ويعنى به الشيء الذي ليس يُحمل على الشيء بتوسط شيء أعم منه يكون من حقه أن يكون محمولًا على ذلك الأعم، ثم على الشيء. ولا نجد محمولًا أولًا على هذه الصفة إلا الجنس والفصل والخاصة، وخاصةُ الفصل المساوية في عداد الخاصة والعوارض واللوازم التي لا تَستغرق الجنس مثل الأنوثة والذكورة لأنواع الحيوان. وأما جنس الجنس وفصل الجنس مثل: «ذي النفس الحساسة» للإنسان، وخاصة الجنس مثل: «المُشتهي» و«اللامس»، والعرض العام للجنس، فإن هذه ليست بمحمولات أول، فإنها تُحمل على الجنس وتبقى محمولات ما بقيت طبيعة الجنس موجودة في أي نوع كان، وإن لم يكن النوع المتكلم فيه موجودًا فلا تكون محمولة على طبيعة النوع أولًا، وهي محمولة على طبيعة الجنس من غير انعكاس، فهي محمولات على الجنس أولًا، وما كان منها مقوَّمًا فإنما يقوِّم طبيعة الجنس أولًا، ثم تنضاف إليها فصول فتقوم طبيعة الأنواع.

فإن قال قائل: «إن طبيعة الفصل علَّة لطبيعة الجنس، وما لم تصل إلى الشيء العلة لم تصل المعلولة»، فهذا القائل يوجب أن يكون أعلى الأجناس محمولًا أوليًّا بهذا المعنى الذي نحن فيه، فإنَّا لسْنا نذهب في استعمال الأول إلى هذا الأول، بل إلى ما أشرنا إليه. وإذا قايسنا الجنس وفصله صادَفنا الفصل هو المحمول المُقوِّم للجنس، لا الجنس للفصل، وإن كان يصح حمل الجنس على الفصل فليس على سبيلٍ مُقوم، بل على سبيلٍ مُتقوَّم، والمقومية في المحمولات أخص من المحمولية. وإذا كانت مقومة الفصل أولًا للجنس فمحموليته أولًا على الجنس، وإذا كانت عليه أولًا فهي على النوع غير أول بهذا المعنى. وإذا حَملْنا الجنس على الفصل ثم حملنا الفصل على النوع نكون قد أدخلنا لا محالة الفصل بين الفصل والنوع وما هو بالمتقوم في الحمل أولًا، فنكون قد أدرْنا من حيث لم نشعر.

وأما لوازم الفصل وخواص الفصل التي هي أعم من النوع إن كان فصل مثل المنقسم بمتساويين الذي هو أعم من الزوج، ولنفرضه الآن مثلًا نوعًا من العدد، ثم كان له خاصة مثل كونه ذا نصف أو ذا ربع الضعف، فإنها لا تخلو إما أن تعم الجنس فتكون من المحمولات التي ليس أولًا، وإن لم تُعمِه فهي من جملة لوازم النوع الغير العامة للجنس. وأما مقوِّمات الفصل إن كان ذلك موجودًا فإن كانت أجناسَ فصول مثلًا، مثل ما يظن من أن المدرك جنس للحساس أو الناطق، فإنها تَفصل لا محالة ما هو أعم من ذي الفصل. فهي إذن داخلة في جملة فصول الأجناس فتكون أجناس الفصول فصول الأجناس، ولا تكون أولية. وفصول الفصول إن كانت أعم فهي في حكم أجناس الفصول، أو مساوية فهي في حكم الفصول وأولية، وأنت تعرف من هذا أجناس الخواص والأعراض وفصولها إن كانت موجودة. وكما أن المحمول الأول قد يقال على وجوه، فكذلك المحمول على الشيء بذاته ولما هو يقال على وجوه، ولسنا نحتاج في هذا الموضع إلى أن نَعدَّ وجوهًا لا تُناسب هذا الموضع فيقال محمول بذاته، ومن طريق ما هو لما يكون داخلًا في ذات الشيء وماهيته سواء كان مقولًا في ماهيته أو داخلًا في جملة المقول في ماهيته على أنه جزء له. ويُقال محمول بذاته من طريق ما هو للأمر الذي لا يحتاج الشيء في أن يوصف بذلك، وإن كان عارضًا له إلى شيء غير ذاته أو غير خاصة من خواص ذاته، ليس يحمل عليه لأجل شيء أعم منه حمل «المتحرِّك بالإرادة» على «الإنسان» بسبب أنه حيوان، ولأجل شيء أخص منه حمل قبول «الكتابة» على «الحيوان» بسبب كونه إنسانًا. ويقال محمول بذاته ولما هو إذ كان أولًا بالمعنى الثاني من معاني الحمل الأول. وقد يُقال محمول بذاته لأجل أنه ليس يحتاج الشيء في أن يُحمل ذلك عليه أو على بعضه إلا إلى تهيؤٍ فيه ليس يحتاج في أن يكون له ذلك التهيؤ إلى أن يصير بالفعل أخص منه، مثل الكتابة بالفعل للإنسان. ويُفارق الضرب الثاني مما يُقال عليه اللفظ المذكور بأن هذا له بحسب اعتبار التهيُّؤ، وذلك بحسب اعتبار الوجود بالفعل، وهذا هو أحد أجزاء القسيمة التي تكون لازمةً للشيء بذاته على الضرب الثاني، مثل المُفرَد والزوج مثلًا للعدد، ومثل الكتابة والأمية للإنسان. إلا أن بين هذَين المثالين فرقًا، فإن المتهيئ للفردية هو طبيعة العدد مجرَّدة في العقل، وأما العدد الذي هو فرد فهو بالضرورة ودائمًا هو فرد. وأما الثاني فإن التهيؤ فيه باعتبار الطبيعة الموضوعة في التجريد العقلي وفي الوجود خارجا أيِّ جزئي كان منها، فإن كان واحدًا من الكتابة والأمية يتهيأ لها الإنسان الموجود أي إنسان كان. والأمور العامة تكون لها فصولها المقسَّمة، وعوارض أنواعها وخواصِّها مقولة عليها وبذاتها، ومن طريق ما هو على هذا الاعتبار. وجميع هذه كيف كانت. والمَحمولات التي لا تُقوِّم الشيء وتعرض لا لسبب شيء أعم يخصُّ باسم الأعراض الذاتية أي اللواحق الذاتية، وهي غير المحمولات الذاتية في المعنى لأن المحمولات الذاتية قد تقال على غير هذا المعنى. وإذا قيل لهذه أعراض فليس يُعنى به العرَض الذي يوضع بإزاء الجوهر، بل يُعنى به العرضي. وأما العرض الذي بإزاء الجوهر فله حدٌّ أو رسمٌ غير هذا، وليس يُعنى به العرض الذي هو أحد الخمسة الذي من حقه أن يُسمَّى عرَضًا عامًّا، فإن هذا أيضًا يقال على الخاصة المساوية وعلى الخاصة التي هي أقل، مثل الكتابة للإنسان والحيوان. وهذه المعاني يجب أن تكون محققة محصلة.

(١٥) في أصناف التعريف

التعريف: هو أن يَقصد فعل شيء إذا شعر به شاعر تصوَّر شيئًا ما، هو المعرف. وذلك «الفعل» قد يكون كلامًا، وقد يكون إشارةً.

والتعريف الذي يكون بالكلام: إما أن يكون بكلام لا واسطة بينه وبين ما يتصوَّر من جهته، على النحو الذي يتصور من الكلام، فيكون ذلك على سبيل دلالة اللفظ على معناه … وإما أن يكون بكلام بينه وبين ما يتصور من جهته واسطة، ويكون ذلك على سبيل دلالة لفظ وصْف الشيء ونعته عليه، فيدلُّ اللفظ دلالته اللفظية على معنى، فإذا دلَّ على ذلك دلَّ بتوسط ذلك المعنى على المعنى المقصود بالتصوير؛ لأنَّ الذهن من شأنه أن ينتقل من ذلك المعنى وحده أو مع قرينة إلى المعنى المقصود بالتصوير. وذلك المعنى في أول الأمر إما أن يكون من قبيل ما يحمل على الشيء، أو من قبيل ما لا يحمل على الشيء، لكنَّ تصوُّره ملتزم لتصور الشيء، فإذًا تصوُّر ذلك المعنى يُمثل في النفس المعنى الذي يلزمه، مثل تصور «الأب» عند ذكر «الابن»، وتصور «المحرِّك» عند ذكر «المُتحرِّك» عند من يُصدِّق أن لكل متحرِّك محرِّكًا.

وهذا القسم، وإن دخل فيما نحن بسبيله من وجه، فيجب أن يفرد لفظ «التعريف» لما يكون المقصود به تمثيل الشيء في الذهن من جهة محمولاته، وأما الذي يتمثل تابعًا لتمثُّل من غير أن تكون العادة جارية بأن يُراد في تمثيله وتصويره تمثيل ذلك، وإن كان يتمثَّل ويتبع، فليُفرَد له اسم آخر.

والتعريف الذي يكون بالمَحمولات، فقد يكون بمحمول مُفرد، إذا كان ذلك المحمول خاصًّا بالشيء، وقد يكون بمحمولات تُركَّب معًا. وكل واحد قد يكون بمحمول مُقوِّم وقد يكون بغير مُقوِّم، بل لازم أو عارض.

والتعريف بالعارض لا يَليق إلا في زمانٍ ما ولشخصٍ ما. وأما المعنى الكلي فليس تلحقه العوارض إلا بالعرَض وبسبب أشخاصه الجزئية. وأما كون الشيء بحيث يَعرض له ذلك العارض فهو أمرٌ لازم غير عارض.

فالمعاني التي تتناولها العلوم: هي المعاني الكلية وما يجري مجراها ويدخل في حكمها. فيَبقى إذن أن التعريف المفرد أو المركب بحسب العلوم إما أن يكون بمقوم أو لازم. و«التعريف المفرد بالمقوم» هو تعريف الشيء بفصله، فإن الجنس مشترك فيه لا يشير إلى ما هو نوعه، فلا يقع به تعريف نوعه بوجه من الوجوه وحال من الأحوال، وإن توهَّم بعض الناس أنه قد يقع به تعريف ما. وبالجملة إن التعريف يقتضي التخصيص لا غير. و«التعريف المُفرَد باللازم» هو التعريف بالخاصة، فإن حال اللازم العام في أنه مشترك لا يشير إلى جزئياته حال الجنس.

و«التعريف المركب بالمُقوِّم» هو الذي إذا وجدت شرائط نقولها كان حدًّا مُحقَّقًا، وإن تساوى وفُقد بعض الشرائط كان حدًّا خداجًا، أو كان جزء حد.

و«التعريف المركَّب لا من المقوِّم الصرف» هو الذي إذا وجَد شرائط نوردها كان رسمًا مُحقَّقًا، وإن نقصه بعضها كان رسمًا خداجًا.

وكل تعريف مركَّب مساوٍ ومن مُقوِّمات فهو «حدٌّ تام»، أو جزءُ حدٍّ وحدٌّ خداج. فإن المُقومات محقَّقة الوجود للشيء وبينة له، فإنها أجزاء لماهيته، ومُحال أن تدخل ماهيته في الذهن ولم تدخل معه أجزاؤه ومُقوِّماته، فإذا دخلته أجزاؤه ومقوماته كانت حاصلة معه في الذهن، وليس كل حاصل في الذهن متمثِّلًا فيه بالفعل دائمًا، بل هو الذي إذا التفت إليه وجد حاضرًا وقد يصدُّ عنه إلى غيره ولا يكون حاله حال المَجهول المُطلَق، بل يكون كالمَخزون المعرض عنه. وأما كيفية هذا فليُطلب من «علم النفس».

ونحن نُشير في حصول أجزاء الماهية مع الماهية إلى هذا النحو من الحصول، فإذا أخطر بالبال لم يَغفل الذهن عن وجوده للماهية إلا أن يُعرض عنه ولا يُخطره بالبال، وحين يعرف به الشيء فقد تصدَّى لإخطاره بالبال فلا يجوز أن يكون مجهول الوجود للماهية.

فيجب إذن — إذا كان موجودًا للماهية، وقد دلَّ بجميع المقومات العامة والخاصة على نفس الماهية — أن لا تبقى شبهة البتة وتتمثل معها الماهية المجموعة عنها في الذهن حاضر الجملة والأجزاء، ويتمثَّل ما لو أُصلح إصلاحًا ما تتمثل معه الماهية.

وأما اللوازم فليس كثير منها بين الوجود للشيء ولا بين اللزوم له، فيجوز أن تؤلف منها عدة تدل على جملة لا تكون تلك الجملة لغير الشيء وتكون خاصة له مركبة، ولكنه لا ينقل الذهن إلى الشيء فلا يكون رسمًا، وكيف يكون رسمًا وشرط الرسم أن يكون تعريفًا! وقد لا يكون أيضًا رسمًا خداجًا إذا لم يكن من شأنه أن يتم بما يضاف إليه رسمًا تامًّا، بل يكون خاصة مركبة من لوازم الشيء المجهولة ما من شأنه النظر في أن يثبت لزومه للشيء، مثل كون المثلَّث مساوي الزوايا لقائمتَين. ومن هذه اللوازم قد يُمكن أن يُجمع تعريف مركَّب يكون رسمًا بالقياس إلى إنسان دون إنسان، ولا يكون رسمًا مطلقًا، وإنما يكون رسمًا بالقياس إلى من يجمع علَّتين، إحداهما أن يُعلم بالاكتساب البرهاني كون تلك اللوازم محمولةً على ما يُعرف، والثاني أن يُعلم أنها تخصه علمًا خاطرًا بالبال، وإنما لا يكون رسمًا مطلقًا لأنه ليس يقتضي تعريفًا مطلقًا.

ولقائل أن يقول: «لقد أخللتُم بالتعريف الذي يكون على سبيل التمثيل، والتعريف الذي يكون على سبيل المُقايَسة. مثال الأول أن يقول قائل: الحيوان هو مثل الفرس والإنسان والطائر. ومثال الثاني أن يقول: إن النفس هي التي تقوم من البدن مقام الربان من السفينة.» فنقول: أما التمثيل فليس بتعريف حقيقي، بل هو كتعريف، وقد يقع فيه الغلط كثيرًا، فإن التعريف بمثل المثال الذي أورد للتمثيل ربما أوهم أن الحيوان لا يكون إلا ذا رجلَين أو أرجل، وأن عديم الرجل ليس بحيوان، وكيف لا والقائل: «إن الحيوان هو كالفرس والإنسان» قد قال قولًا مُبهَمًا حين لم يُبيِّن أنه كالفرس والإنسان في «ماذا»، فإن بيَّن أنه كالفرس والإنسان في أنه ذو جسم حساس كان في الحقيقة قد وقَع التعريف لا بالتمثيل، بل لشيء مما سلَف، وكان التمثيل نافعًا لا في تصور المعنى، بل في تسهيل سبيل تصوُّره وفي أن للمعنى والوجود ما يطابقه.

وليس من شأن المعنى المتصور أن يكون له في الوجود مثال بوجه، مثل كثير من معاني الأشكال الموردة في كتب الهندسة، وإن كان وجودها في حيِّز الإمكان، ومثل كثير من مفهومات ألفاظ لا يُمكن وجود معانيها، مثل مفهوم لفظ «الخلاء» ومفهوم لفظ «الغير المتناهي» في المقادير، فإن مفهومات هذه الألفاظ تُتصوَّر مع استحالة وجودها، ولو لم تتصوَّر لم يُمكن سلب الوجود عنها، فإن ما لا يتصوَّر معناه من المحال أن يُسلب عنه وجود ويحكم عليه بحكم سواء كان إثباتًا أو نفيًا.

وأما الوجه الثاني فهو تعريف من باب اللوازم واللواحق، فإن النسبة من لواحق الأشياء ولوازمها، والشيء قد يكون له اعتبارٌ بذاته، وقد يكون له اعتبار بحسب حاله من عارض ولازم، فيكون مثلًا باعتبار ذاته إنسانًا وباعتبار حاله أبيض وأبًا وغير ذلك. وقد يكون اعتباره بحاله اعتبارًا لا يتعداه، وقد يكون اعتبارًا يتعداه. وإذا كان اعتباره بحاله لا يتعداه كانت حاله خاصية له. فإذا أُتي بالحد الحقيقي الذي له بحسب حاله، وهو غير الحدِّ الحقيقي الذي له بحسب ذاته، كان حده الذي بحسب حاله إما رسمًا وإما قولًا من قبيل الخاصة المركَّبة بحسب ذاته، فإنه إن كان يَنتقل الذهن من تصوُّر القول الحاد لحاله إلى تصور ذاته كان القول رسمًا لذاته، وإن كان لا يَنتقل، بل يقف عليه، كان القول خاصة مركبة غير رسم. مثال هذا أن ها هنا شيئًا إذا حصل له ضربٌ من الاقتران بالبدن الحيواني صار به بدن الحيوان حيًّا، وحصل من اقتران أحدهما بالآخر مجموع هو الحيوان، وذلك له ذاتٌ هو بها أمر ما، ولأن اعتباره من جهة ذاته غير واضح لأرباب اللغة، فليس له بحسب ذاته اسمٌ عندهم، بل إنما يوقعون عليه أسماء بحسب كونه مُدبِّرًا أو محرِّكًا أو كمالًا أو غير ذلك للبدن، فيسمُّونه إما روحًا وإما نفسًا، كما يُسمُّون غيره أبًا وملكًا، ثم يكون له بحسب المعنى الذي يسمونه له نفسًا وروحًا حدٌّ حقيقيٌّ، فيقال له حينئذ أنه صورة جسم طبيعي بحال كذا أو كمال جسم طبيعي بحال كذا، فيكون هذا — بحسب حاله التي تسمى لها نفسًا — حدًّا حقيقيًّا، لكونه يكون بالقياس إلى ذاته خاصة مركبة أو رسمًا، فإن كان هذا مثل قول القائل في تعريف المربع — أعني الذي يحيط به أربعة أضلاع كيف كانت — أنه الشيء الذي يَشغله أربع ملاقيات له بخطوط مستقيمة، فينتقل الذهن من تصور هذا القول الخاصي إلى أن يتصور أنه السطح المربع، فحينئذ رسم. وإن كان هذا مثل قول القائل في تعريف السطح المتوازي الأضلاع أنه الذي يكون السطحان المُتمِّمان جنَبتي قُطريه متساويين، لم يجب أن يكون رسمًا إلا بالقياس إلى من عرف وجوده له. وربما كان حدُّ الشيء — بحسب حاله — رسمًا له بحسب حالة أخرى تخصُّه، فإنه ربما كان للشيء حال وله حال أخرى، وكلاهما يختصان به، ووجود أحدهما مع الآخر بيِّن بنفسه أو معلوم ببرهان أو بمصادقة من الحس، فإذا حد بحسب إحدى الحالين انتقل الذهن إليه بحسب الحال الأخرى. ولهذا إنه يُشبه أن تكون ذات الإنسان غير متصوَّرة بالحقيقة في نفوس كثيرٍ من الجمهور، بل إنما يُصوِّرونه بحسب هيئة عارضة له تمثَّلت من طريق الحسِّ في أوهامهم أو عقولهم، فإذا قيل: «الضحاك المنتصب القامة» انتقل الذهن في كثير منهم إلى أنه يُراد به ذلك الذي هو كذا وكذا بحسب الهيئة الحسية، ولا يبعد أن يكون للشيء بحسب الحالين حد، إن كان واحد منهما بحسب الحالة الأخرى رسمًا، وذلك إذا كان تلازمهما مُتضحًا، وتَعرُّف كل واحد منهما من جهة الأخرى مُتأتيًا.

واعلم أن الفصل والخاصة وحدهما من غير اعتبار يَنضاف إلى مفهومهما ليس بمُعرِّف حقيقي. فإنك إذا قلت «ناطق» فإنما يُفهم منه شيء له نطق، ونفس هذا المفهوم يجوز أن يكون أي شيء كان إلا أن يعلم علمًا آخر تصديقيًّا لا تصوريًّا أنه لا يجوز أن يكون هذا الشيء إلا كذا وكذا على سبيل الالتزام لا على سبيل التضمُّن إذا عرفت، فإن التعريف بالفصل لذات النوع إما غير تام تعريف وإما تعريف بقرينة على سبيل نقل الذهن من شيء إلى آخر يلزمه لا يُطابقه ولا يتضمَّنه، والتعريف بالخاصة وحدها أبعد في هذا المذهب من الفصل، فإذا قُرن بذلك أمر ما آخر، جنس أو كجنسيٍّ مخصَّص به، وقَع بالفعل حينئذ التعريف على سبيل المُطابقة، ووقع بالخاصة إن كان اجتماعها ما اجتمعَت معه على الشرط المذكور تعريف على سبيل النقل والالتزام، وإلا كان القول خاصة مركَّبة.

واعلم أنك إذا عرفتَ الشيء بالفصل فاقترنت به القرينة المذكورة، وصار القول تعريفًا، فما عرفت بالفصل وحده، بل بالفصل وشيء آخر سكتَّ عنه، فلو أنك نطقتَ بجميع ما وقَف به التعريف، فكان ذلك قولًا لا لفظًا مُفردًا، فتبين أن حق العبارة مما وقع به التعريف أن تكون قولًا. فإذن التعريف بالمحمولات يجب أن يكون قولًا، وكل تعريف مما نحن بسبيله إما بالاسم، وإما بقول هو حد، وإما بقول هو رسم.

(١٦) في الحد

الشيء الذي يقال له «الحد» إما أن يكون بحسب الاسم، وإما أن يكون بحسب الذات. والذي بحسب الاسم هو القول المفصَّل الدال على مفهوم الاسم عند مُستعمله، والذي بحسب الذات: فهو القول المفصل المعرِّف للذات بماهيته. وكل من تلفظ بلفظ فإليه تحديده إذا أجاد العبارة لما يقصد إليه من المعنى، ولا مناقشة معه البتة إلا إذا كان قد زاغ عما قصده بشيء مما سيقوله. وأما إذا ألَّف المعاني التأليف الذي ينبغي، ثم قال لمَجموعها: إنه مرادي بما أطلقته من اللفظ، فهو حدُّ ذلك اللفظ، إذا لم يكن قد أساء في التأليف مما ستسمعه، ولم يكن بحيث إذا أضفتَ إلى ما أورده زيادة معنًى كان مخصصًا لما ألفه أو غير مخصَّص فعرضت عليه ما ألفه والزيادة على أنه مفهوم اللفظ الذي حده قبله، فقال هو هو. مثال ذلك أن «الإنسان» إذا استعمله متكلِّم في كلامه، فسألته ما يَعني به فقال إنه «الحيوان المنتصب القامة، البادي البشرة، الذي له رجلان»، فأول ما له أنه قد حدَّ الإنسان بحسب استعماله لفظه، وليس لك أن تخاطبه فيه بوجه من الوجوه بالمناقشة إذ كان الحيوان بهذه الصفة وجودًا، وكان له بهذه الصفة اعتبار، وكان اعتباره بهذه الصفة غير محرَّم عليه أن يكون له اسم، وأكثر ما يكون أن تؤاخذه به أمر اللغة، وهو بعيدٌ عن المآخذ العلمية. لكنك إن زدتَ على هذا المبلغ الذي ألفه «الضاحك» فقلت: «ألستَ تعني به الحيوان المنتصب القامة الذي له رجلان البادي البشرة الضاحك؟» فقال: «أعنيه به.» أو قلت: «ألستَ تَعني به الحيوان المنتصب القامة الذي له رجلان في الطبع البادي البشرة الكاتب؟» فقال: «أعنيه به.» فقد أساء؛ لأنه ليس اعتبار مجموع هذه المحمولات ولا ضاحك منها ولا كاتب كاعتبارها مع أحدهما، وليس إذا لم يَزدْها الضاحك خصوصًا لم يزدْها معنًى. اللهمَّ إلا أن يكون هذا القائل لم يَعنِ بإيراد هذا التأليف دلالة أولية على مفهوم الاسم، كأنه يقول أريد به الشيء الذي يلحقه ويعرض له كذا لا من حيث هي لواحقه وعوارضه، بل من حيث هو ذاته التي أجهلها، فيكون هذا غير حدٍّ بحسب اسمه، ويكون ضربًا من التعريف الرسمي ناقصًا سنذكر حكمه من بعد، وكذلك إذا نقص شيء مما أورده في التأليف فبقيَ الباقي مُساويًا أو أعم.

وأما حد الشيء بحسب الذات التي له مطلقًا، أو بحسب الذات التي له على أنه بحال، فيجب في الأول منهما أن يتناول أول شيء مما يقوم بالفعل نوعًا من أنواع الأشياء، سواء كان نوعًا فوقه جنس، أو كان نوعًا باعتبار كليته في نفسه بالقياس إلى ما يعرض تحته، أو كان معنًى كُليًّا غير نوع فيدلُّ على ماهيته تلك، حتى يحصل المصور له هو ماهيته ملحوظة بنفسها مفردة عن لوازمها ولواحقها التي بعد أول تقومه، وفي الثاني أن يلحظه الذات، وتلك الحال والماهية التي لتلك الذات من تلك الحال ملحوظة بنفسها مفردة عن أحوال أخرى ولوازم أخرى، فإن ألف قولًا من لوازم وتوابع خارجة عما حددناه فربما فعل رسمًا ما، وأما حدًّا فكَلا. مثاله: إن أراد أن يحدَّ «الإنسان» بحسب وجوده، فيجب أن يُشير إلى أول ما به يتقوم هذا الشيء الذي يقع عليه اسم الإنسان، وإنما يتقوَّم أول ما يتقوم بجنسه القريب وفصله، فيجب أن يورد جنسه وفصله ضرورةً، فإذا أوردا تمت ماهيته. وإن أمكن أن يكون للشيء الواحد فصول مقومة تحت الجنس الأقرب معًا ليس أحد الفصلين يقوم أمرًا أعم، والفصل الثاني يقوِّم أمرًا أخص، فيلزمه أن يورد الفصلين أو الفصول معًا إذ كانت ذاته مجموع جميع ذلك. فإذا لم يدلَّ على شيء من أجزاء ذاته ومن مقوِّمات ذاته، كان المدلول عليه جملة من أحوال ذاته. فإن لم يفعل الحاد هذا، بل قال في حد الإنسان «إنه حيوان ضحاك.» فما دلَّ على ذاته، بل أورد من أموره ما يردُ بعد تقوم ذاته، فدل على ما ليس هو ذاته في الاعتبار، وإن كان الشيء — الذي هو ذاته — هو أيضًا هذا الشيء من طريق الوضع والحمل، وقد عرفتُ الفرق بينهما وبالحقيقة، فإن هذا قد أشار إلى معنى اعتباره غير اعتبار ذات الإنسان التي هي أول ما تتقوَّم. ولما كان ذات كل شيء واحدة، وكان ذاته — من طريق اعتبارها بحالٍ واحدة — واحدة باعتبار واحد، لم يُمكن أن يكون القول المعرف لماهية تلك الذات تعريفًا أوليًّا — وهو الحد — إلا واحدًا.

ثمَّ الأمور التي تحدُّ إما بسيطة وإما مركَّبة.

والمركَّبة إما مركبة التركيب الطبيعي الذي من الجنس والفصل، أو مركبة على أحد وجهي التركيب الذي أوردناه في بابه، أو مركبة تركيب التداخل، وهو أن تُركب معنًى ومعنى فتُجمع منهما محمولًا واحدًا، ثم تُركَّب المجموع منهما مع أحدهما تركيبًا وضعيًّا قليل الجدوى، مثل أن تركب الأنف والتقعير فتوقع عليه اسم «الأفطس» فتقول: «أنف أفطس.» أو تُسمي تقعير الأنف فطوسية ثم تقول: «أنف أفطس.» وبين الوجهَين فرق، وليس كما يظنُّ الظاهريون، فإنك إذا سمَّيتَ الأنف ذا التقعير أفطس كان الفطس لا تقعيرًا في الأنف، بل كون الأنف ذات تقعير، وبين الاعتبارَين فرق، فإن الأفطس بحسب أحد الاعتبارين أنف فيه تقعير وبحسب الاعتبار الثاني أنف ذو تقعير في الأنف،٥ وهذان الاعتباران وإن تلازما وتقارنا فهما مختلفان.

فهذه أصناف الأمور المحدودة، ويجب أن نتكلم في حدِّ واحدٍ واحد منها:

فأما الأمر البسيط فلا تطلب فيه الجنس والفصل الحقيقيَّين، ولا الشيء الذي سميناه الحد الحقيقي، فإن هذا مما لا يكون البتة، وإن ظنَّ قوم أنه يكون. بل اطلب أن تعرفه من لوازمه العامة وخواصه وتضيف بعضه إلى بعضٍ كما تُضيف الفصل إلى الجنس.

واعلم أن أكثر ما تحدُّ به هذه الأشياء ليست بحدود، وأكثر ما يجعل لها أجناسًا هي لوازم عامة غير الأجناس، وإذا أردتَ أن تعرفها باللوازم والخواص فيجب أن تكون تلك اللوازم والخواص بيِّنة الوجود في الموجودات والثبات في الثابتات، إما مطلقًا وإما بحسب من تخاطبه به. فإن من التعريف ما هو مُطلَق ومنه ما هو بحسب المخاطب، كما أن من الاحتجاج ما هو مطلق ومنه ما هو بحسب المخاطب. وأما إذا كان اللازم أو الخاصة مجهولًا فلا يفيدك التعريف به، وكيف يعرف بالمجهول؟ مثال اللازم المجهول الذي هو أعم من الشيء المساواةُ لما هو مساوي القاعدة والارتفاع للمثلَّث، فإنه كذلك لمتوازي الأضلاع. ومثال الخاصة المجهولة: كون المثلَّث مساوي الزوايا لقائمتين. فإن هذين إذا كانا مجهولين فقلت مثلًا في تعريف المثلث أنه المساوي لما هو كذا ومساوي الزوايا لكذا، لم تدلَّ على المثلث دلالة حاضرة معرفة، إلا أن يكون تعريفك بحسب من يعلم ذلك ويريد أن تفهمه معنى لفظة المثلث ومفهومها، بل يجب أن يكون المعرف به بين الوجود في نفسه والثبات لمعناه.

ثم لا يخلو: إما أن يقع به نقل إلى تفهيم الذات فيكون تصور معناه يوجب انتقال الذهن إلى تصور ذات الشيء الذي له لازم أو خاصة — وقد أشرنا إلى مثل هذا التعريف حين فصَّلنا أصناف التعريف — فيكون هذا التعريف تعريفًا يقوم في الحقيقة مقام الحد، وبالجملة يكون دلالة على معنى ذات الشيء بتوسط حالٍ من أحواله، فلا يجب أن يقصر عن الدلالة على ذاته بتوسط ألفاظ موضوعة لمقوماته؛ لأنه لا افتراق بينهما في توصيل الذهن إلى حاق الشيء. فهذا قسم من القسمين. ومن شرطه أن تكون تلك اللوازم والخواص مع بيان وجودهما وثبوتهما مطلقًا بيِّنة الوجود والثبات للشيء بيانًا غير محتاج إلى وسط.

وإما أن لا يقع به نقل إلى تفهيم الذات، وإنما يكون قصارى البيان فيه أن يعرف الشيء بما يتميَّز به ولا يختلط به غيره، وإن الشيء الذي له حال من الأحوال كذا، فلا يزيد من تعريف ذاته إلا على المعروف من نسبته، وأنه مخصوص بلوازم تلزمه، وأما خاصيته في ذاته فلا يعلم بذلك ولا يوقف عليه وتبقى مجهولة، وهي التي يَنبغي أن تعلم حتى تعلم ذاته. فهذا إن عدَّ رسمًا فيجب أن لا يعد في درجة الرسم الأول وما يجزئ، أو لو خص باسم يفارقه به وما يجزئ أن يعد الأول في عداد الحدود.

واعلم أن الصور والقوى الفعالة والمنفعلة إذا أورد القول المعرف إياها مأخوذًا فيه أفعالها والانفعالات التي تتم بها ذاتها بحيث يكون عنها ذلك، فإن القول الحق في ذلك أن ذلك القول قد يكون لها حدًّا وقد لا يكون؛ وذلك لأن لها في أنفسها اعتبارَين؛ اعتبار بنفسها وذواتها التي هي بها إما جواهر وإما كيفيات، واعتبار من جهة ما يَلزمها مما قيل، أو يصحُّ عليها مما قيل، والصحة كما قد علمت من اللوازم. وليس يُمكن أن تكون ذواتها مضافة معقولة الماهية بالقياس إلى الغير؛ لأنها إما أن تكون نفس الإضافة من حيث هي إضافة، أو نفس كون الشيء معقول الماهية بالقياس إلى الغير، أو يكون لها وجود مُفرد يلزمه أن يكون معقول الماهية بالقياس إلى الغير، أو تكون إنما يقع عليها الاسم من حيث اجتماع طبيعة معقولة بنفسها وإضافة مقرونة بها يكون مجموعها هو المراد بالاسم المطلوب شرحه بالقول.

ولو كانت الصور والقوى لا وجود لها إلا أن تكون معقولةً بالقياس إلى الغير بنحو من الأنحاء لم يجب أن تعرف جواهر وكيفيات، ولنضع أنها معدودة كذلك. وإذا كانت معدودة كذلك كان لها وجودٌ يخص، ولنضع هذا أيضًا. وكيف لا وصدور الفعل يكون لا عن مجرد إضافة، بل عن ذات لها إضافة، وكذلك صدور الانفعال، والزيادة في تحقيق هذا لصناعة أخرى.

فبقيَ أن تكون إما ذوات لها وجود خاص يلزمها إضافة، وإما ذوات فيها تركيب من الأمرَين. فإن كانت ذوات لها وجود خاص، لم يخلُ إما أن يقصد بالقول المفسَّر قصد الذات، فيكون تعريفه باللازم من الإضافة رسمًا، أو يُقصَد قصد كونها ذات ذلك اللازم، فيكون بالقياس إلى هذا المقصود حدًّا.

وكثير من القوى والصور إنما تُطلق عليها الأسماء من جهة ما يلزمها من الإضافة، فيقال: «خفة» و«ثقل» ونحو ذلك. وأما إذا كانت الصور والقوى مركبة على النحو المذكور، فالاقتصار على الأمر الإضافي من جزئيه غير معرف له تعريفًا تامًّا، على ما علمت أن الاقتصار على الفصول والخواص لا يتمُّ بها التحديد، بل ولا يتمُّ بها التعريف والترسيم.

على أن النظر في الصور والقوى نظر في البسائط، وكلامنا الآن في البسائط، فإن كان ما نقوله من دلالة الرسم التام والناقص مشتركًا للبسائط والمركَّبات، فإن المُركبات قد يدل عليها بالرسمين جميعًا. وأفضل الرسمين هو الرسم التام، وأخسُّهما الرسم الناقص، على أنه يختلف أيضًا بحسب قرب اللزوم من المفهوم والبُعد منه، فإنه ليس استعمال المميز في رسم الإنسان كاستعمال المتعجب ولا استعمال المتعجب كاستعمال الضحاك.

وإذا كان الرسم مأخوذًا من اللوازم التي هي المقوِّمات للوجود، وإن لم يكن للماهية والمفهوم، وكان من الجنس الثاني، فقد تَدخُل فيه اللوازم في الوجود من العلل والمعلولات التي هي لوازم ولواحق في الوجود، وإن لم تكن الماهية والمفهوم، وكثيرًا ما يوجد منها فيه ما هو خارج عن المفهوم أيضًا، وكثيرًا ما يُريدون ذلك. وقد وقع الفراغ مما هو حد الشيء البسيط أو المركَّب فضلًا عن رسمه المعرِّف له، مثل أخذهم توسط «الأرض» في تحديدهم لكسوف القمر، فإنهم يحدُّون كسوف القمر بأنه «خلو جِرم القمر عن الشعاع الشمسي في وقته لتوسط الأرض بينه وبينها»، وليس مفهوم كسوف القمر إلا ذلك الخُلو في وقتٍ من شأنه في مثله أن لا يخلو عنه. وأما أنه كان يَستنير عن الشمس وانقطع بتوسط الأرض فأمرٌ خارجٌ عن المفهوم أقل معرفة من المحدود نفسه، وهو سببٌ من أسبابه الخفية في وجوده التي لا يحس بها إلا العلماء. وبالحقيقة ليس من حقه أن يضطرَّ إليه في رسم الكسوف فضلًا عن حده وهم يجعلونه جزءًا من حده، ويوردونه وقد فرغوا بالحقيقة من حده، ثم يجعلون له شأنًا في مقايسته مع البرهان لا ينكشف عن طائل. وليس هذا كما يقال في الليل أنه «زمان ظلمة جو الأفق بسبب غروب الشمس.» فإن اسم الليل موضوع بإزاء تركيب الظلمة مع اعتبار غروب الشمس، فإن الجو إذا أظلم بسبب غيم شديد الارتكام أسحم أو بسبب كسوف الشمس إذا كان كسوفًا تامًّا لم يُسمَّ ليلًا إلا على سبيل استعارة ومجاز، ثم إن قال قائل: إنه ليس كذلك ولم يوضع لذلك، كان له أن يقول ذلك، ولكن لم يجب أن يورد فيه غروب الشمس البتة، بل وجب أن يورده على وجه أعم من ذلك.

ولهم من هذا القبيل حدود كثيرة؛ مثل تحديدهم الغضب بأنه «شوقٌ انفعالي إلى الانتقام يغلي منه دم القلب.» فإن غليان دم القلب كان سببًا للغضب، واسم الغضب موضوع بإزاء الشوق الانفعالي للانتقام وإن جاز أن يحتدَّ معه القلب.

ومن جملة الأمور التي يدلُّ عليها بالقول المعرَّف هي الأعدام، وليست هي بالحقيقة ذواتًا ولا أمورًا موجودة، وإلا لارتكم منها في الشيء الواحد ما لا نهاية له، ولا هي بسيطة بالحقيقة. وهذه الأعدام مثل العمى والظلمة والعجز والسكون، والنحو الذي يُتصوَّر فيها يُتصور بقياسٍ ما إلى شيء ونسبة، فإن العمى ليس إلا لنسبة مخصَّصة بالبصر فلا تُعقل إلا بتركيب؛ وذلك التركيب هو تركيب بملكة تُقابلها وتُخصِّصها، كالعمى بالبصر والسكون بالحركة والظلمة بالنور، ومقابلاتها معقولة في أنفسها.

وأما المحدودات التي التركيب في معانيها ظاهر، فمنها ما أوردناه في القسم الأول في الفصل الذي ضمَّناه أصناف التركيبات، وهي التي تتألَّف حقائقها من حقائق أجناسها وفصولها، وهذه فإنما تُحدُّ بما يدلُّ به على ذواتها، والدلالة على ذوات ما لذاته مقومات تكون من طريق الدلالة على مقوماته بشرط أن تورد بكمالها، فإنه إن خرَج منها شيء ووقع به التمييز بالذاتيات لم يقَع التعريف لحقيقة الذات، فإن حقيقة الذات هي ما هي بجميع ما تتقوَّم به، فإذا أورد بعض مقوماته فقد أورد بعض ذاته أو بعض معاني ذاته، وما ليس هو يعدُّ ذاته إلا بقرينة، فإذا دلَّ على حقيقة الذات فيدلُّ على سبيل نقل الذهن من ناقص إلى تامٍّ ومن شيء إلى لازمه الخارج عنه لا على سبيل المطابقة التي هي الدلالة باللفظ على المعنى بنفسه وذاته.

ويجب أن يكون الغرض من الحد تصوُّر ذات الشيء، فإن التمييز يتبعه. وأما من كان غرضه التمييز فقد يَناله بالرسم، وقد يناله بالحد الناقص المذكور، ولا نعيقه فيما يؤثره، ولكنا نَستحبُّ له أن يقصد القصد الأتمَّ والأفضل.

والأمور التي يدلُّ عليها بالحد المأخوذ من الأجناس والفصول هي الأمور التي فيها هذا التركيب. وأما الأمور البسيطة والأمور المركَّبة غير هذا النحو من التركيب فإنك لا تجد فيها هذا الحدَّ؛ وذلك أن البسيطة لا تجد لها دالًّا على الماهية تقتضي أجزاؤه اختلاف دلالات بمقوِّمات، بل عسى أن تجد له لفظًا مفردًا أو تجد له رسمًا ينقل الذهن إلى تصوره على بساطته. وأما الأمور المركَّبة غير هذا النحو من التركيب فقد تجد لها حدودًا، ولكنك لا تجدها مُركَّبة من أجناس وفصول؛ إما أنك تجد لها حدودًا، فلأنك تجد قولًا شارحًا لنفس مفهوم الاسم ومِن مُقوماته، وإما أنك لا تجدها مركبة من أجناس وفصول، فلأن تركيبها ليس من أجناس وفصول.

ويجب أن يُتوقَّع من الحد أن يكون دالًّا على ماهية الشيء، ومطابقًا لمفهوم اللفظ، ليس مأخوذًا من أمور لازمة ولاحقة لمفهوم اللفظ يخصه القول المجموع منها، وقد ترك ما هو مطابق لمفهوم الاسم. وما عليك — بعد أن تفعل هذا — أن لا تكون أوردت جنسًا وفصلًا فيما لا يكون له جنس وفصل، ومن الذي قد فرَض عليك ذلك؟ وأما أمثال هذه التركيبات فمثل حدنا الجسم المأخوذ مع البياض، فإنك تحتاج أن تدلَّ على حقيقة الجسم وحقيقة البياض بما تعرف به ذاتهما وتدلُّ على وجود البياض منهما للجسم، فإذا فعلت ذلك فتراك قد قصَّرت في الدلالة على حقيقة الشيء وانحرفتَ عنها إلى تعريفها بلوازمها كلها.

وأصناف التركيبات التي من هذا القبيل كثيرة، فربما يقع التركيب للشيء مع أحد عِلَله. أما «الفاعلية» مثل العطاء، فإنه اسمٌ لفائدة مقرونة بالفاعل. وأما «المادية» مثل القرحة، فإنه مثلًا اسمٌ لبياض مقرون بموضع مخصوص؛ وهو جبين الفرس. وأما «الصورية» مثلًا مثل الأفطس، فإنه اسم لأنف متصوَّر بالتقعير. وأما «الغائية» مثل الخاتم، فإنه اسم لحلقة مقرونة بما هو كمالٌ لها وغاية من التجمُّل بها في الإصبع. ولا يجب الآن أن يناقش في الأمثلة إذا انكشفت جلية الحال فيها عن خلاف ما.

وربما وقَع التركيب مع معلولاته، مثل الخالق والرازق وغير ذلك.

وقد يكون ضربٌ من التركيب بين أشياء لا هي علل بعضها لبعض ولا معلولات، وربما كانت متشابهةً كتركيب العَدد من الآحاد، وربما كانت مختلفة كتركيب البلقة من سواد وبياض. وربما كان التركيب بين أول بسائطها يقتضي استضافة تركيب آخر معنويٍّ إليها، مثل التركيب لأجزاء السرير، فإنه لا يتمُّ السرير بتركيب أجزاء الخشب ما لم يكن معها ترتيب. ومثل التركيب للأُستُقصات٦ في الكائنات، فإنه لا يتم الكائن منها بتركيب أجزاء الاستُقُصات ما لم يكن هناك معها استحالة وامتزاج، وإذا حُققت كان — مثل ما أوردناه من الترتيب والاستحالة — أحد أجزاء المركَّب في المفهوم وإن لم يكن جزءًا أولًا قائمًا في نفسه، بل كان مع توابع الأجزاء الأولى القائمة في أنفسها. وسنورد فيما يستقبلك إشارات إلى أحكام في حدود أمثال هذه المركبات.

ومن عادة الناس أن لا يفطنوا لكون مثل الترتيب والاستحالة أجزاء للمفهومات؛ إذ لا يجدونها متمايزة مُنفردة، كما من عادتهم أن لا يَفطنوا أن مثل العدميات، ومثل الإيجاب والقبول، ومثل الأُبوة النفسية والملكية، معانٍ فيها تركيب.

وهذه الأشياء التي أشرنا إلى أنها الأشياء التي منها التركيب لا يسع الإخلال بشيء منها في تحديد ما يُركَّب منها وإيراد القول المرادف لاسم كل واحد منها. ويجب استعمالها أيضًا في الرسوم التي تؤخذ فيها اللوازم الخارجة إذا تألَّف منها قولٌ مساوٍ وخصوصًا العلل الغائية، وكذلك في الزوائد التي جرى الرسم بزيادتها بعد توفيَة المفهوم مما ذكرناه، فإن العِلَل الغائية شديدة المناسبة للتعريف.

واعلم أن كل حد ورسم فهو تعريف لمجهول نوعًا ما، فيجب أن يكون بما هو أعرف من الشيء، فإن الجاري مجرى الشيء في الجهالة لا يُعرِّفه. ولذلك قد غلط القوم الذين يقولون «إن كل واحد من المضافين يعرَّف بالآخر»، ولم يعرفوا الفرق بين ما يتعرَّف بالشيء وبين ما يتعرف مع الشيء، فإن الذي يتعرف به الشيء هو أقدم تعرُّفًا من الشيء، والذي يتعرف معه ليس أقدم معرفةً منه. وكل واحد من المضافين مُتعرفٌ مع الآخر؛ إذ العلم بهما معًا ليس قبل الآخر في المعرفة حتى يُعرف به الآخر. وأعني بالمضافين الشيئين اللذَين يعقل كل واحد منهما مقيسًا إلى الآخر، مثل: «الابن» يُعرف مقيسًا ﺑ «الأب» والأب يعقل مقيسًا بالابن، وإنما أبوة هذا وابنية ذلك لأجل وضعه إزاء الآخر، بل هو نحو وضعه إزاء الآخر، لكن الآخر إذا كان مجهولًا لم ينفَع تعريف الأول به، بل احتيج إلى ضرب من الحيلة وتذكير بالسبب الجامع بينهما، فينقدح في الوقت العلم بكل واحد منهما، وبهما جميعًا — من حيث هما مضافان — انقداحًا واحدًا أو معًا، فإنه لا يجب أن يحدَّ الأب فيقال إنه «الحيوان الذي له ابن.» بل يقال إنه «الحيوان الذي يولد من مائه أو من صُنعِ كذا منه حيوان مشارك له في النوع أو الجنس، من حيث أن ذلك متولِّد منه.» ويقال في الجار أنه «ساكنُ دارٍ أحد حدوده بعينه حدُّ دار إنسان آخر من حيث هو كذلك.» فينقدح لك في الحال المقابلة والمتقابلان معًا، ويكون التعريف من أشياء هي أقدم من المعرفة من المتضائفين المجهولين لا يحتاج في تعريف شيء منها إلى استعمال المحدود أو المُتعرف.

واعلم أن الحد والرسم بحسب الاسم جارٍ مجرى ما يحد ويرسم، فإن كان الشيء الذي تستعمله معنًى لفظه موردًا على غير جهة الصواب لم يكن بُدٌّ أن يطابق به ما يورد من التفهيم. وأما حقائق الأشياء في أنفسها فتجري مجاريها من الصواب.

وتفصيل هذا أن سائلًا لو قال: «ليُحقق لي مفهوم الإنسان الإنسان.» لم يكن بُدٌّ من أن يقال له: «الحيوان الناطق الحيوان الناطق» مرتين، ولم يكن هذا قبيحًا أو محالًا بالقياس إلى السؤال وبحسب وجوب الجواب؛ لأنَّ ذلك الذي سأل عنه هو هذا الذي أجاب به، وإن كان هذا بنفسه — لا بالقياس إلى ما هو تفهيمه — محالًا أو قبيحًا أو هذيانًا. وكذلك إذا سأل عن حدِّ الأنف الأفطس أو شرح اسمه كان الجواب: «هو أنه أنف هو أنف ذو تقعير»؛ وذلك أنه أورد لفظ الأفطس مقرونًا بالأنف، والأفطس هو اسمٌ لا لكل تقعيرٍ كيف كان، بل لما كان من ذلك أنفًا، وهو اسم يقع على موضوع مقرون به حال، فلم يوجد بُدٌّ من إيراد الموضوع الذي هو الأنف في شرح مفهومه. ولم يكن هذا قبيحًا، غير أن القبيح أو الهذيان قول من يقول: «أنف أفطس» كما هو قبيح وهذَيان أن يقول: «إنسان حيوان» أو «إنسان إنسان». فإن لم يعن بالأفطس أنفًا ذا تقعير، بل ذا تقعير في الأنف، كان الذي يجب أن يُقال حينئذ أن الأنف الأفطس هو أنف ذو تقعير في الأنف، وكان أخف شناعةً من الأول، وإن لم يكن بريئًا منها براءة مطلقة. وإذا كان الأفطس هو ذو تقعير في الأنف جاز أن يُسمى الحيوان صاحب الأنف أفطس، وإذا عُني به أنفٌ ذو تقعير لم يجز أن يُسمى صاحب الأنف أفطس إلا باشتراك الاسم. والمشهور عند الناظرين في صناعة الحدود أن من الأعراض والصور ما يؤخذ الموضوع في حده ومنه ما لا يؤخذ الموضوع في حده، ويُشبِّهون الأول بالفطوسية ويُشبِّهون الآخر بالتقعير. ونحن يلزمنا أن نقول في هذا ما هو القول المُعتدل الذي لا تعصُّب فيه، فنقول:

أولًا: لا شك في أن الأشياء التي لها موضوعات اعتبار كون لها في الموضوع، وتعلم أن لنا أن نُسمِّيها من حيث هي كذلك بأسماء. ومن البيِّن الواضح أن شرح ما كان من الأسماء موضوعًا على هذا الوجه يتضمَّن الإشارة إلى الموضوع، كما أن لنا أن نُسمي الموضوعات من حيث لها أعراض وصور بأسماء، فنقول مثلًا أفطس وأبلق ويُحوِج أن نورد في شرح تلك الأسماء إشارة إلى تلك الأعراض والصور، فهذا شيء لا يَفترق فيه الحال بين الموضوعات وما يوجد لها. ولا يجب أن يكون تعلُّق الناظرين في هذا الشأن مقصورًا على مثل الفطوسية التي جُعلت اسمًا لتقعيرٍ بشرطٍ موضوعٍ، بل يجب أن تعتبر نفوس حقائق الموجودات في الموضوع هل فيها ما يدخل الموضوع في ماهياتها، وأن كليهما مشتركة في أن الموضوع يدخل في وجودها على سبيل علة أو شرط.

ثم أنت تعلَم أن الحدود الحقيقية إنما تُصنع من شرائط الماهية ومقوِّماتها، لا من شرائط الوجود ومُقوِّماته؛ ولذلك ليس يدخل الباري تعالى في حدِّ شيء وهو المفيد لوجود الأشياء. وإذا كان ذلك كذلك، فليس لقائل أن يقول: إن اللحمية مثلًا لما كانت لا توجد إلا في مادة معينة وليس تصلح لها كل مادة، ثم التربيع قد يوجد في مادة غير معينة ويصلح لها الذهب كما تصلح لها الفضة وكما يصلح لها الخشب، بل تصلح لها كل مادة، فمن الواجب أن يكون مقوم اللحمية — بما يتقوَّم به من المواد — خلاف مقوِّم التربيع. ويجب من ذلك أن يكون تحديد التربيع مستغنيًا عن الإشارة إلى المادة وتحديد اللحمية مفتقرًا إليها؛ فإن التعلق بالشيء في الوجود أمر غير التعلق بالشيء في المفهوم.

واعلم أنك لست تطلب في التحديد إلا المفهوم، وإذا كان مفهوم ذات الشيء غير مقتضي الالتفات إلى شيء آخر فتحديده كذلك، وإن كان وجوده متعلِّقًا بشيء آخر كالسواد مثلًا، تخصص ذات غير ذات الموضوع وله مفهوم بما يتخصَّص به على نحو ما يتخصَّص به. فليس بواجب من الضرورة أن يكون تفهُّمه مقتضيًا بتفهم شيء آخر إذا تُفهم من حيث حقيقته في نفسه. والقوم أنفسهم يقولون إن العرَضية من لوازم الأمور التي هي الأعراض، ليس من مقوماتها، فلا يجب إذن أن يُلتفت إليها في حدودها إن وجد لها حدود. وإذا لم يُلتفَت إليها لم يُلتفَت إلى المعروض له إلا أن يكون هناك اعتبار آخر. فتبين أن دعواهم ليس تصح من نفس ما يُثبتون به دعواهم، اللهمَّ إلا أن تكون من الأعراض أعراض تكون موضوعاتها داخلة في مفهومها، وحينئذ هذه الأعراض لا تكون بسيطة، بل يكون لها اختصاص مفهوم مخلوط بما يتعلق بالموضوع، فتكون مؤلَّفة مُتباينة ولا تطلب بالتركيب شيئًا غير هذا، أعني التركيب الذي يُستعمل في مثل هذا الموضع، ويكون مثلها مثل الفطوسية، ويُشبه أن تكون الحركة والاجتماع وما يجري مجراهما من هذا القبيل. لكنا نقول إن الأمور البسيطة ليس لها على ما علمت حدود، وإنما لها رسوم، والرسوم من اللوازم التي لا بدَّ منها تابعة كانت أو كانت متبوعة في الوجود، وإن لم تكن في الماهية وما كان كذلك. فإذا أردنا أن نُعرِّف البسائط بلوازمها ومُقوِّماتها في الوجود كان بالحريِّ أن نُعرف الأعراض والصور بموادها المتعينة. ولكن إذا كانت بينة اللزوم، فما كان من مقومات الوجود من العلل والأسباب، سواء كانت موضوعات أو غيرها، غير بينة الوجود لم يُلتفت إليها، وما كانت بينة اللزوم دالة على الشيء منزلة إليه مميِّزة له استعملناها ضرورة فاحتجْنا لذلك في شرح مفهوم كثير من الأعراض والصور إلى إيراد الموضوعات والعلل، بل لم نَستغنِ عن ذلك لأنَّا مُضطرُّون إلى تعريفهما بالمُقوِّمات لوجودها وسائر لوازمها. وما يقال لك في هذا الباب من غير هذا الوجه فلا تَلتفت إليه، فالموضوعات والأفعال الصادرة والغايات التي للأشياء تدخُل في شرح المفهوم على هذا الوجه، وكل شيء تَستعمل فيه هذه فهو بالحقيقة رسم غير حد، لكنَّ بعضه أشد مناسبة للحد من بعض.

واعلم.٧

(١٧) فصل في امتحان المحمول

نريد أن نَخُص امتحانات تَعصم الذهن عن الغلط فيما هو محمول أو غير محمول، وفيما هو ضرب من المحمولات أو ليس ذلك الضرب من جهة مراعاة ما يتعلَّق من ذلك بالتصور وبسداده أو غلطه.

فأما القوانين التي تُقتنص منها القضية بإيجاب المحمولات وبسلبها واكتساب التصديق فيها، فذلك غير ما نحن فيه الآن، فنقول:

إنَّ السهو والتقصير الذي يقع في التصور للمحمولات على وجهَين؛ منها ما يزيغ الذهن عن المحمول إلى غير المحمول، وعن المسلوب إلى غير المسلوب، ليسوء التصور، ومنها ما يقصر به عن التصور الفاصل البريء عن جهة، فيقع فيها الغلط فيما يتبع ذلك التصور.

ولنبدأ بالقسم الأول، فنقول: إنَّ الذهن يزيغ عن تصور المحمول بسبب انحرافه إلى غيره مما هو فيه بشأنٍ ويكون منه على حال لا يكاد يُميِّز بينه وبين المحمول. وليس كلامنا الآن فيما يقع باشتراك الاسم حين نظن المشارك في الاسم مشاركًا في المعنى، بل فيما هو مناسب في المعنى. فمِن ذلك أن تأخذ بدل الشيء سببه مثل أن تقول: «إن الوجع يُفرِّق الاتصال.» وإنما يُفرَّق الاتصال بسبب الوجع، وليس محمولًا البتة على الوجع، وكذلك إذا قال: «إن الشك مساوي الإنكار.» وكذلك إذا حمل الشيء على سببه الغائي أو عكسه مثل أن تقول: «إن الاستكنان هو الابتناء.» و«الاستيلاد هو النكاح.» أو تقول: «إن التوحيد هو العقل.» و«إن الملك هو العدل.» أو حمل عليه سببه المادي كمن يقول: «إن الإنسان هو لحم وعظم.» و«إن الكرسي هو عود.» أو حمل عليه سببه الصوري مثل أن تقول: «إن الإنسان تمكن من التمييز.» و«إن الروح حرارة غريزية.» ومن هذه الأبواب قولهم للطف السرقة «ذكاءً»، والذكاء هيئة القوة التي هي سبب السرقة. وكذلك قولهم للسرقة: «قدرة على الأخذ سرًّا.» وأيضًا قولهم: «إن الحلم تمكُّن واقتدار من الصبر على الغيظ.»

ومن ذلك أن تأخذ بدل الشيء معلوله، وهو عكس هذه الأبواب، ومن هذا الباب قولهم: «إن قوة الحس استحالة جسمانية.» و«إن العقل إدراك صحيح.»

ومن ذلك أن تجعل المقارن الذي لا ينفكُّ عنه الشيء — وإن لم يكن علةً ولا معلولًا — محمولًا على الشيء، كمن يقول: «إن الغيظ غمٌّ من كذا.» وربما كان المقارن سابقًا متقدِّمًا ثم يتبعه المحمول، مثل الحال في محمول من يقول: «إن الاستبصار والتصديق ظنٌّ.» أو «السيل نزلة.»٨ أو «النافض برد.» أو «العشق غم.»

ومن ذلك أن يحد الشيء بصدق مطلقًا؛ أي أنه لا يخلو من صدق فتستعمله صدقًا كيف كان. مثل أن يحد اللون مبصرًا بالقوة في الظلمة، وهذا إذا كان إطلاق الحمل بمعنى أنه غير مسلوب عن كل واحد أو لواحد من كل وجه. وأما إذا كان إطلاقه بمعنى أنه موجب لكل واحد أو لواحد من كل وجه، فلا يُلتفت إلى ما يقال من أنه قد يصدق مطلقًا ولا يصدق مقيدًا إن قيل.

ومن ذلك أن تأخذ العارض مكان المعروض على سبيل العكس، مثل أن تريد أن تحمل على العشق محبَّة مُفرطة، فتحمل عليه إفراط المحبة، وإفراط المحبة صفة للمحبة لا نفس المحبة، والعشق نفس المحبَّة.

ومن هذا الباب أن تجعل التركيب مكان المركَّب، مثل أن تقول: «الحيوان تأليف نفس وبدن.» و«اللحن تأليف نغمة متفقة بإيقاع.» والأول هو المؤلَّف من النفس والبدن لا التأليف، والثاني هو المؤلَّف من النغمة المتفقة لا التأليف.

وأما وقوع الحمل غير ملخص عند التصور تلخيصًا يعصمه من الغلط فيما يُبنى عليه، فمثل أن يكون من شرط المَحمول في حقيقته أو من كمال تحقُّقه أن يقرن به شرط وقد أُغفل، وذلك الشرط إما إضافةٌ أو حالٌّ ما بالطبع. وأما من جهة اختلاف جزءٍ وكل، أو زمان، أو مكان، أو مقارنة كيفية، أو حصول مقدَّر، أو فعل وانفعال، أو اعتبار قوة وفعل، أو اعتبار مقارنة فاعل، أو اعتبار مُقارَنة منفعل، مثال ذلك أن زيدًا هو أب لا مطلقًا ولكل شيء، ولكن لعمر. ويجب أن تراعى الإضافة إلى ما يُعادلها، فيكون أبو الابن لا أبو الصبي. وكل إنسان ذو رجلين، لكن لا مطلقًا بل بشرط اقتضاء الطبع؛ أي لو ترك وطبيعته ولم يُعارض في ابتداء الخلقة أو بعده بما يمنع موجب طباعه. والبيضاني أبيض لا مطلقًا وكيف كان، بل في ريشه. والأرض ثقيلة جدًّا، لا كل جزء منها ولكن كُلَّيتها. والشمس تُنضج الثمار والجرو يعمى، لكن في وقت بعينه أو بقدره، فإنَّ الجرو قد لا يبصر بعين ما لم تفتح، ولا يقال له أعمى ما لم يكن عدمه للإبصار في زمان في مثله يبصر. وكذلك قد يقول قوم أن نوعًا من الحجارة يَحدث عن حكِّ بعضه سحابٌ ماطر، ولكن فيما وراء النهر. والماء قد يبرد إذا لم يكن سخنًا. واليبش سم، ولكن إذا كان بقدر. والفاجر هو الذي يحبُّ اللذَّة، ولكن بإفراط. والماء قد يَحرق، ولكن إذا استحال إلى حرارة. وكذلك العسل حارٌّ، ولكن إذا انفعل من طبيعة الإنسان. وكل خمر مُسكر، ولكن بالقوة. والماء قد يجمد، ولكن عند البرد. كما أن الملح قد يذوب، ولكن في النداوة. وأيضًا فإن الشمس تحلُّ، ولكن للشمع. والشمس تعقد، ولكن للبيض. ومن هذا الباب أن تقول أن الطبيب هو الشافي، والخطيب هو المقنع، من غير أن تلحق شرط الأكثر.

وقد يتأتَّى أن تنصب امتحانات أو مقاييس وعلامات ينتبه الذهن معها إذا غلط في تصوره فيعود إلى الواجب، وهي راجعة إلى اختلافٍ يقع من الموضوع والمحمول في شيء من أمثال الشرائط المذكورة، مثل أن يكون الموضوع من شأنه أن يُقال عليه الأقل والأكثر، فيحتمل ذلك على النوع الذي يحتمل، ويكون المحمول بخلاف ذلك، فليس من شأنه البتة أن يقبل ذلك، مثل من يقول: «إن الظن جهل.» ثم الظن يحتمل ذلك والجهل لا يحتمل ذلك. أو يكون بالعكس فيكون المحمول يحتمله دائمًا والموضوع لا يَحتمله، كمن قال: «إن العلم ظن.» فإذا كان المحمول يحتمله لا مطلقًا والموضوع لا يحتمله فلا يجب من هذا شيء، فإنه ربما كان المحمول أعم، وإنما يَحتمله في بعض أنواعه أو أصنافه دون بعض، ويكون هذا الموضوع خارجًا من البعض المحتمل، أو يكون القول بالعكس، كمن قال: «إن العشق شهوة الجماع، وكلما ازداد العشق نقصت شهوة الجماع.» أو يَكونان مختلفين في شيء من الشرائط التي أوردناها لتحصيل المَحمولات، مثل حمل التذكر على التعلم، والتعلم تحصيل علم مستقبل، والتذكر إعادة علم ماضٍ، ولا مناقشة في المثال، وهذا في الزمان. ومثل من حمل الاختيار على المقدرة، والاختيار بحسب شخص، والقدرة بحسب معنًى عام، وهذا في الإضافة. ومثل من يقول: «إن الذِّكر بقاء العلم.» والذكر إذا أُضيف إلى المذكور، وبقاء العلم إنما يُضاف إلى العلم. ومثل من قال: «إن الحرارة عقرب.» والحرارة حارة والعقرب بارد، وهذا في الكيف. أو مثل من قال: «إن التراب هو الثقيل جدًّا.» والثقيل جِدًّا هو كتلة الأرض، وهذا في الكم. ومثل من قال: «إن النوم ضعف الحس.» وضعف الحس في القوة الحاسة، والنوم في مبدأ القوة الحاسة والمتحرِّكة، وهذا في اختلاف الجزء. أو مثل: «إن الرمد طَفْو.» وهذا من الحر وذلك من البرد، وهذا في اختلاف السبب الفاعلي. أو مثل من يقول: «إن الفطوسية تقعير.» وتلك في الأنف وهذا في الوسط، وهذا في اختلاف السبب القابلي. أو مثل من يقول: «إن الخاتم قيد.» وهذا للبس وذاك للحبس، وهذا في اختلاف السبب الغائي. أو مثل من يقول: «إن التاج إكليل.» وهذا في اختلاف السبب الصوري. أو مثل من يقول: «الباب خشب.» وهذا في اختلاف القوة والفعل.

ومما يليق بهذه الامتحانات أن يكون الموضوع والمحمول يَختلفان في الثبات وخلافه، مثل من يقول: «إنَّ البرقص عقد.»

ومما ينبه عن خطأ الحمل أن يكون ما لا وجود له يجعله محمولًا، مثل من يقول: «إن المكان خلاء، أو بعد مفطور غير بعد المُتمكِّن.» فيجعلون ما ليس بموجود محمولًا على الموجود.

وإذا تعدينا هذا المبلغ من الامتحان دخلنا في غير اللائق بهذا الغرض.

(١٨) فصل في امتحان العام

نتأمل أول شيء هل المدَّعى أنه عامٌّ محمول أم لا؟ ونتأمل حال ما حُمل على الشيء على أنه أعم منه، هل يُحمل حد الأخص عليه أو على ما هو أعمُّ منه؟ مثل أن تقول: «إن المُضاف نوع من المقابل من حيث هو مقابل.» ثم حد المضاف يقال على كل مقابل وينظر في موضوعات الأخص ما لم يحمل عليه الأعم، كما يعرض لمن يقول: «إن الخير يعمُّ اللذة.» ثم يوجد من اللذات ما هو رديء، والأردأ أن لا يوجد الأعم محمولًا على شيء من الأخص، مثل ما يعرض لمن يقول: «إن اللذة بعض الحركات.» ثم يتفقَّد الحركات فلا يجد شيئًا منها لذة، بل يجد اللذة غايةً ما لحركة ومطابقةً لسكون إن كان كذلك، وربما كان كل موضوع للمحمول هو مجموع للمحمول متساويًا، ولم يكن أحدهما أعم مثل من قال: «إن الحركة بعض الانتقالات.» فإنه يلزمه أن يجعل موضوعات الانتقالات أكثر، ولا يجد الأمر كذلك. ويُقارب هذه الاعتبارات ما يقال من أنه إن كان كل واحد منها يَرتفع بارتفاع الآخر، كالناطق والضحاك، أو يرتفع ما جُعل أعم بارتفاع ما جُعل أخص وبالعكس، مثل من جَعل الواجد أعمَّ من الموجود، ولا يوجد الواجد ما لم يكن الموجود.

ومما يجب أن يُراعى: هل العموم بالاسم أو بالمعنى، مثل ما يقال: «الحي الناطق» على الإنسان وعلى الملك، فإذا رجع إلى المفهوم اختلف.

(١٩) فصل في امتحان الذاتي المقوم

نتأمل هل يحتاج أن يَصير الشيء بحال آخر، غير المحمول عليه، ليس أعم منه حتى يوجد له المحمول، فإن كان كذلك لم يكن المحمول ذاتيًّا بمعنى المقوِّم، مثل الشيء إذا أردنا مثلًا أن نجعله مساوي الزوايا لقائمتين لم يُمكنا أن نغافصه بذلك، بل نطلب أن نفعل به شيئًا آخر؛ وهو أن نجعله ذا ثلاثة أضلاع. فيكون إذن كونه مساوي الزوايا لقائمتين إنما يُحمل عليه تابعًا لحمل المثلَّث عليه، فلا يكون أول ما يتقوَّم به شكلًا خاصًّا، وإذا أردنا أن نجعله مثلَّثًا لم نفتقر البتة إلى أن نلتفت إلى جعْلنا إياه مساوي الزوايا لشيء. وهذا الامتحان يظهر أجودَ إذا قدم مُقوِّم أعم، ثم أُردف بالأخص.

وكذلك لا يُمكننا أن نجعل الإنسان أو الحيوان أو الزنجي ضاحكًا إلا إذا وجدنا له مبدأ التعجُّب، وهو التمييز، وإن كان المعنى عامًّا جدًّا فاعتبره بحسب أعم الأشياء وهو الشيء، فانظر هل يحتاج الشيء مطلقًا في أن يكون بتلك الحال إلى أن تجعل له حالة أخرى قبله، وأيضًا تنظر هل يُمكن أن يتوهَّم له ضد المحمول وشخصه باقٍ، مثل أن الإنسان إن حمل عليه البقاء والموت على أنه مقوم، ثم يُمكن أن يتوهَّم أن الله يُخلِّده ويدرأ عنه الموت، وهو يبقى بعينه ذلك الشخص، فيكون إذن كونه مائتًا حينئذ غير مقوَّم، وأيضًا هل يُمكن أن تتحقَّق الشيء بماهيته وتجعل له المحمول؟ فإنه إن أمكن ذلك كان المحمول غير مُتقوِّم، مثل أن الإنسان قد يتفطَّن لحقيقته ويحتاج إلى براهين يتبين بها أن بدنه في هذه النشأة مائت لا محالة، فالمائت إذن غير مُقوَّم له. وهذا وإن أشبه الذي قبله فهو غيره؛ لأنه ربما كان المُبرهن عليه لا يجوز بعد قيام البرهان عليه، وبيان كونه ضروري اللزوم أن يرفع عنه.

ومما يُمتحن به أن يُنظر هل هذا المقوم مُقول على المتقوم به مطلقًا أو بشرط أو جهة، فإن من حق المُقوِّم أن يكون مطلقًا للذات. وأما مثل المحسوس الذي يقال على الإنسان لا من كل جهة، بل من جهة بدنه، فهو لازم من لوازم بعض مُقوِّماته.

(٢٠) في امتحان العرضي

امتحانه أن لا يوجد فيه شيء من خواص المُقوِّم، فإن وجد فليس بعرَضي.

ويُمتحن العام فيه بامتحان العام مقرونًا به امتحان العرضية.

(٢١) في امتحان الجنس

لا شك أنك يجب عليك أن تَعتبر كون الشيء محمولًا وأعمَّ مُقوِّمًا ليس من اللوازم، ثم تعتبر كونه جنسًا، فإذا بطل شيء من الاعتبارات الأُولى بطل أنه جنس، فإن لم يبطل بقي لك أن تَنظر هل يُخلُّ بمعنى مُقوِّم مشترك فيه ليس دالًّا عليه على سبيل التضمُّن، كمن جعل الحساس أو المتحرِّك بالإرادة جنسًا للإنسان وليس واحد منهما يتضمَّن الدلالة على الآخر، وإنما يدل عليه على سبيل الالتزام، فليس إذن أحدهما أَولى من الآخر في أن يكون جنسًا له. ويدخله في هذا أيضًا أن تجد شيئين ليس أحدهما جنسًا وقد جُعل جنسًا؛ وذلك لأن الآخر إن كان مُلازمًا غير متضمن، فقد كان ما ذكرناه، وإن كان متضمِّنًا أو متضمَّنًا فالمتضمن أَولى أن يكون جنسًا، فليس أحدهما ليس أَولى من الآخر بأن يكون جنسًا. وهذا مثل أن تجعل القادر أو المختار جنسًا للسارق، لا سيما إذا كان الأَولى أن تجمع بينهما، فيكون مجموعهما أدل على المعنى المشترك.

ومما يمتحن به أن تنظر هل تحته اختلاف بالفصول، فإنه إن كان اختلافٌ تحته إلا بالعوارض واللواحق اختلاف أشخاص الناس بعوارضهم، فليس المعنى المقوم جنسًا.

ومما يمتحن به أنه هل ما هو جنس مقول على ذات الشيء قول مقوم غير الجنس، بل قول الفصل لجنسه أو قول فصله نفسه، مثل الحساس والناطق على الإنسان.

ومما يُمتحن به هل يختلف الجنس والنوع في النسبة إلى الجنس الأعلى على ما يقولون إن الملكة من أنواع جنس يجعلونه المضاف ثم الشجاعة يجعلونه من أنواع الكيف، وهذا مما لا يجوز، فإن الجنس محمول على ما تحته، سواء كان نوعًا أو نوع نوع، وحملًا مقومًا، فإنه لا يجوز أن يكون مقومًا لنوعه ليسخ مقومًا لنوع نوعه، ولا يجوز أن لا يحمل الجنس الأعلى على النوع الأسفل أو يحمل على وجه غير وجه حمل الجنس الأعلى.

ومما يُمتحَن به أن ينظر هل ما وضع نوعًا للجنس هو فصل قائم لأنواع أو هو صنف لأنواع. مثال الأول أن يجعل العدد جنسًا للفردية، أو الحيوان للناطق. ومثال الثاني أن يجعل الحيوان جنسًا للذكر أو الأنثى، والذكرية من لوازم أنواع الحيوان لا من الفصول التي تطرأ على الحيوان أول طروء فتنوعه. وأقبح من هذا أن تجعل ما هو أَولى بأن يكون نوعًا جنسًا، وما هو أَولى بأن يكون جنسًا نوعًا، كمن قال: «إن الاتصال جنس الاجتماع.» وكثيرًا ما يغلط فيجعل الفصل جنسًا، كمن يجعل العشق إفراط محبة، وإنما هو محبة مُفرطة، وكذلك من يقول مثلًا: «إن الفضيلة ملكة محمودة.» والمحمود كالجنس للفضيلة.

ومن ها هنا يمكنك أن تمتحن الفصل أيضًا والنوع.

(٢٢) في امتحان الفصل

إنه قد يقع الخطأ في الحدود في استعمال الفصل، فيوضع النوع نفسه مكان الفصل، فتقول مثلًا في حد التهزُّؤ: «إنه شتمٌ مع استخفاف.» والاستخفاف ليس فصلًا لقسم الشتم، بل كالنوع له. وربما أورد فصل الجنس شيئًا أقدم من الجنس.

(٢٣) في امتحان الخاصة المطلقة

أما الخاصة المُفردة التي ليس يراد بها التعريف، بل أن تكون محمولة مُساوية غير مقوَّمة، فقد تمتحن بامتحانات؛ منها أنه يُنظر هل توجد لغير الشيء، فإن وجدت فليست بخاصة، مثل من جعل الإضاءة خاصة للنار، وهي موجودة للجِرم الحاضر.

وأيضًا يُنظر هل مقابل الخاصة خاصة المقابل، مثل أنه إن كان من خاصة الزوج أن يكون مربعه زوجًا فمِن خاصة الفرد أن لا يكون مربعه زوجًا. فأما ما يقال من أن الموضوع إذا جعل خاصة لما لذلك الموضوع لم يَجز، مثل من يجعل الإنسان خاصَّة للضاحك، أو يجعل الأرض خاصة للثقيل المُرسل، فقولٌ لا محصول له؛ فإن حمل الإنسان على الضاحك حقٌّ، وليس بجنس له ولا فصل ولا عرَض عام ولا حدٍّ ولا رسم، فانظر ماذا يجب أن يكون. وأما أن أحدهما أحق بالحمْل من الآخر، فهو في غير ما نحن بسبيله.

ومن التقصير في الخاصة أن يُستعمل في الخاصة الأغلب والأكثر، فيقال مثلًا أن من خاصة النار أنها ألطف الأجسام العنصرية، ولو لم تكن النار موجودة لكان يوجد ألطف الأجسام ولم يكن نارًا، اللهم إلا أن يُعنى ألطف الأجسام المُمكنة أن توجد عنصرًا، فيكون حينئذٍ القول صحيحًا ويكون خاصَّة من الجهة التي نتكلم فيها، وإن لم يكن خاصة من جهة التعريف المُطلَق، لا بحسب من عرف بالبرهان ذلك، وذلك عسير.

(٢٤) في امتحان يعم الخاصة المفردة المعرفة في شرح الاسم

يُنظر حتى لا يكون ما أورد على أحد الوجهين أخفى مِن المُعرف أو مثله في الخفاء، وإنما يكون أخفى من المُعرف، إما لأنه لا يُعرف إلا بالمُعرف، وإما لأنه مع كونه مستغنيًا عن المعرف به في تعريفه صعب التعريف في نفسه. مثال الأول قول من عرَّف الشمس بأنها «كوكب النهار»، ثم لا يمكن أن يُعرِّف النهار إلا بأنه زمان طلوع الشمس، وكذلك قول من يقول: «إن الحيوان هو الذي نوعه الإنسان.» ومثال الثاني قول من يعرف النار بأنها «جِرم يُشبه النفس.» وربما كان وجود الخاصة أخفى من وجود المُعرف بها مثل ما في هذا المثال أيضًا من قياس النفس إلى النار. ومثال المساوي في الخفاء المتضائفات والمتضادات وأشباه ذلك، فإنه ليس تعريف الابن بالأب أَولى من تعريف الأب بالابن، وكأنك عرفت ما يغلط به في هذا، وكذلك ليس تعريف السواد بالبياض أولى من تعريف البياض بالسواد. والأوَّلان يُعرف كل واحد منهما مع الآخر لا بالآخر ولا قبله، والثانيان يعرف كل واحد منهما من غير الآخر لا بالآخر ولا قبله. ومن الخطأ أن يكون قد عرف الشيء بنفسه وهو لا يشعر، كمَن يُعرفه باسم آخر مرادف، مثل أن يقول: «إن الإنسان حيوان بشر.» أو عرف الفرد بأنه «عدد وتر.» أو قال: «الشهوة توَقان إلى اللذيذ.»

(٢٥) في امتحان يخص شرح الاسم ويعم جميع أنواعه

فمن ذلك ما يتعلَّق بمراعاة الجودة والصفة، ومن ذلك ما يتعلق بالغلط في الواجب الضروري.

أما المتعلق بالجودة والصفة فمثل أن يكون أهمل الجنس وبخَس التعريف حقَّه على ما علمت، فإن من حق الجنس أو ما يَجري مجراه أن يُورد في الرسوم وشروح الأسماء، ثم يُتبع بما بعد ذلك من خواص وأعراض أو فصول ومُقوِّمات. وينظر هل استعمل الألفاظ ملائمةً ليس فيها استعارة أو مجاز أو لفظ فهمه أصعب من فهم اسم المشروح اسمه. وينظر أيضًا هل فيه زيادة لا يحتاج إليها لا بسبب المساواة ولا بسبب التعريف والاستظهار فيه. مثل قول القائل في تعريف البلغم بالقول أنه: «أول رطوبة مُنهضمة في المعدة.» ولا نجد للأول ها هنا فائدةً البتة. وكذلك لو قال قائل: «إن العمى هو عدم البصر بالطبع.» فإنه لا فائدة ها هنا لقوله بالطبع؛ لأن عدم القوة يكون من طبع الشيء، ووجود القوة يكون له من غيره.

ومن التفريط والتقصير أن يكون عرف الشيء الوجوديَّ بالعدم، كمن يُعرِّف القدرة بأنها «فقدان العجز»، والبصر بأنه «فقدان العمى»، وقد علمت ما في ذلك من الخطأ.

(٢٦) في امتحان الحد

إن امتحانات المحمول والمُقوِّم والخاص وشرح الاسم، كلها تُعتبر في باب الحد، وتخصه امتحانات:

فمن ذلك أن تنظر هل أجزاء الحد أمور أقدم من المحدود، وإلا فليس الحد بالحد المحْض؛ لأنَّ الحد المحض يكون بالمُقوِّمات.

ويَقرب من هذا أن يكون قد أخذ الأمور اللازمة مقام المُقوِّمات.

ومن ذلك القبيل أن تأتي بالفصل سلبًا محضًا لا يشتمل على دلالة محصلة، فإنك قد علمت أن السلوب لوازم لا مُقوِّمات، كمن يحد الخط بأنه «طول بلا عرض».

ومن ذلك أن تنظر هل وضع بدل الجنس ذاتيًّا آخر، أو بدل الفصل ذاتيًّا آخر، وهذا مما يتعلَّق بامتحان الجنس والفصل.

ومن ذلك أن تَنظر هل وضع فيه أقرب الأجناس، فإنه لا بدَّ من أن يترتب فيه الجنس الأقرب ليشتمل على جميع المُقوِّمات المشتركة، ثم يؤتى بالفصل.

ومن ذلك أن تنظر هل أورَد كل فصل قريب، إن كان للشيء فصول مُقومة معًا، مثل «الحساس» و«المتحرِّك بالإرادة»، فإنه ليس أحدهما أولى بأن يدلَّ به على النوع من الآخر.

وقد تختص بحدود الأشياء المركَّبة امتحانات، مثلًا إذا فرضنا أن العدالة مركبة من العفة والشجاعة والحكمة، فإن الزلل الذي يقع في تحديد مثله أن يقال: «إن العدالة عفة وشجاعة.» فإن ظاهر هذا هو أن العدالة عفَّة وهي أيضًا شجاعة، كما يقال: «إن الإنسان حيٌّ وناطق.» وقد يُفهم منه أن العدالة عفة، وتلك العفة هي شجاعة، أو عفة مُقارنة للشجاعة، فيكون كأن العدالة عفة بشرط أن تكون تلك العفة شجاعة، أو بشرط أن تقترن بالعفة شجاعة، فيكون كأنه قال إن العدالة عفةٌ ما، وليس كذلك، بل العفة جزءٌ من العدالة أو شرط، بل يجب أن يقال إن العدالة هيئة تتبع اجتماع العفة والشجاعة والحكمة، والعدالة مجموع منها.

وقد يقع الزلل بسببٍ بعد هذا السبب، وهو أن يذكر الجمع ويشار إليه، لكنه لا يشار إلى الهيئة الخاصة بذلك الجمع، الذي لأجل تلك الهيئة الخاصة يكون المركب هو ما هو، مثل أن يقال: «إن البيت مجموع لبن وطين وخشب» ويقتصر عليه، فإنه لا يكون قد عرَّف البيت، فإنه ليس كل مجموع من هذه الأصول بيتًا، بل ما كان مجموعًا على هيئة ورصف وترتيب. ومما يناسب ذلك أن تُذكر معية الأجزاء من غير بيان ما فيه المعية وما بالقياس إلى المعية.

ومن الزلل في ذلك أن يشار إلى التركيب فيجعل مكان المركب، فيقال مثلًا: «إن البيت تركيب من لبن وخشب وطين.» وليس البيت تركيبًا، بل المركَّب والتركيب صفة لأصول البيت.

ومن الزلل في ذلك أن يجمع ما لا يجتمع مثل قول من يحدُّ السطح بأنه «خط وعدد»، أو يكون الكل في غير أجزاء كمَن يقول: «إنَّ العدالة في الشهوة والغضب.» وليس كذلك، بل في الناطقة. ويُشبه هذا أن يكون للكل موضع واحد، وللأجزاء مواضع تفاريق، مثل من يقول: «إن الإبصار مجموع لون وإدراك.» ويقرب منه أن يكون الكل موجودًا، وإن رفعت الأجزاء بلا عكس، أو يكون المركَّب من ضدين وليس دون كل واحد منهما، ويكون أمْيَل إلى كل طرف عن كل طرف. ويقرب منه أن يكون بعض ما أورد جزءًا خارجًا عن الكل، مثل غاية أو فاعل أو غير ذلك؛ مثل أن يقال: «إن الرمي إرسال سهم مع إصابة.»

(٢٧) في تعريف الاسم والكلمة والأداة والقول

إنه قد يحتاج في انتقالنا إلى الكلام في التصديق إلى معرفة هذه الثلاثة:٩
  • فالاسم: كل لفظ مُفرد يَدلُّ على معنى من غير دلالة مبنية على الزمان الذي يُقارن ذلك المعنى من الأزمنة الثلاثة، مثل: «زيد».
  • وأما الكلمة: فهي التي تكون في كل شيء كالاسم، إلا أنه يدلُّ على الزمان المذكور. مثل قولك: «ضرب»، فإنه يدلُّ على معنًى هو «الضرب» وعلى شيئين آخرين: أحدهما نسبته إلى موضوع غير مُعين. والثاني وقوعه في زمان خارج عنه هو ماض. وأما «أمس» فليس يدلُّ على شيء وعلى ذلك الزمان الخارج، بل الشيء الذي يدلُّ عليه نفس الزمان. وأما «التقدم» فليس يدلُّ على معنًى وعلى زمان مقارن له، بل على زمان هو داخل في حقيقة نفس ذلك المعنى، فكذلك أمس والتقدُّم اسم.
  • وأما الأداة: فهي اللفظة التي لا تدلُّ وحدها على معنًى يتمثَّل، بل على نسبة وإضافة بين المعنى لا تَحصل إلا مقرونة بما أضيفت إليه. مثل: «في» و«لا». فلذلك إذا قيل: «زيد في» لم يكن نافعًا في معنى ما لم يقل: «في الدار.»
  • وأما القول: فهو كل لفظ مؤلِّف لجزئه معنًى؛ ومنه «قول تام»، ومنه «قول غير تام».
    • والقول التام: هو الذي كل جزء منه دالٌّ دلالة محصلة، مثل المؤلَّف من الأسماء وحدها أو من الأسماء والأفعال.
    • والناقص: ما هو مؤلَّف من جزأين، جزء منه غير تام الدلالة وجزء تام الدلالة، مثل المؤلَّف من أداة وشيء آخر. مثل قولك: «لا إنسان» أو «في الدار»، وقولك: «ما صح»، فإن هذه قد ألحق بالدال منها شيء ناقص الدلالة، فلم يرفعه عن درجة البساطة رفعًا كبيرًا. وكذلك إذا قلت: «زيد»، فقدمت أداة١٠ تجيء لمعنًى لا محالة مقرونة بزيد. فهذه ليست أقوالًا تامَّة، ولكنها في جملة الأقوال لا محالة.

وها هنا ألفاظ تُستعمل تارةً استعمال المفردات التامة الدلالة، وتارةً استعمال المُفردات الناقصة الدلالة. مثاله: إذا قلت «هو» أو «موجود» فقد تدلُّ به دلالة الاسم، ثم تقول «زيد هو كاتب» و«موجود كاتب» فتَستعمله تابعًا ورابطةً لو وقفتَ عليها لم يكن القول تام دلالة القول حين لم تُرد ﺑ «هو» و«الموجود» ما يراد بالاسم، بل أردت به تابعًا للفظ آخر يحتاج أن يقال مثل ما تقول: «زيد على وفي.» وكذلك تقول تارةً «زيد كان»، وتريد ﺑ «كان» وجوده في نفسه، فيكون الكلم تامًّا. وتارةً تقول «زيد كان كاتبًا» فتدخل كان على أنها تابعة ورابطة.

فقد بان أن بعض الأسماء والأفعال قد يدلُّ بها دلائل ناقصة، فإنك إذا قلتَ «كان كاتبًا» لم تدلَّ بالسكون على المعنى، بل بالكتابة، لكنَّك دللتَ على زمانٍ لشيء لم تذكره بعد. وأمثالها تُسمى كلمات زمانية.

(٢٨) القول في التصديق: في أصناف القضايا

إنَّ المعاني والألفاظ المُفردة واللائي في حكم المفردة، وهي التي يصحُّ أن يدل على مقتضاها بلفظٍ مفرد، قد يعرض لها ضروبٌ من التأليف ليس كلها موجهًا نحو التصديق أو التكذيب توجيهًا أوليًّا، بل كثير منها يوجه نحو أغراض أخرى. فإنك إذا قلت: «أعطني كتابًا» لم تجد الفحوى الأول من هذا القول يُناسب الصدق أو الكذب، وإن كان له فحوى آخر بضربٍ من دلالة الحال والانتقال من فحوى إلى فحوى مناسبة للصدق والكذب؛ لأنك قد تستشعر من هذا أنه مريد للكتاب. وكذلك إذا قال: «لعلك تأتيني» أو «ليتك تأتيني» و«هل عندك بيان لكذا؟» أو ما يجري هذا المجرى، فإن جميع ذلك خالٍ عن فحوى أول يناسب الصدق والكذب، وإن كان لا يخلو عن فحوى ثانٍ يُناسبه. فأما إذا قلت: «زيد كاتب» لم تجد له فحوى أولًا إلا ما هو صادق أو كاذب، أي لا تجده إلا والأمر مطابق للمُتصور من معناه في النفس، فتجد هناك تصُّورًا مطابقًا له الوجود في نفسه. وإنما يكون التصور صادقًا إذا كان كذلك، وإنما يَصير مبدأً للتصديق في أمثال هذه المركبات إذا كان اعتقد مع التصور هذه المطابقة.

وهذا القسم من القول والمعنى المؤلَّف يُسمى «قضية»، ويُسمى «قولًا جازمًا».

وأصنافه الأولى ثلاثة؛ لأن الأحكام التي تُناسب التصديق ثلاثة:
  • فإنه إما أن يكون الحكم فيه بنسبة مفرد — أو ما له حكم المفرد — إلى مثله بأنه هو أو ليس هو. مثل قولك: «الجسم مُحدَث أو ليس بمُحدَث.» ومن عادة قوم أن يسموا هذا «حمليًّا».

  • وإما أن يكون الحكم فيه بنسبة مؤلَّفة تأليف القضايا إلى مثلها، وقوم يُسمون جميع هذا «شرطيًّا»، لكنه قسمان؛ فإنه إما أن تكون النسبة نسبة المُتابعة واللزوم والاتصال، مثل قولك: «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.» فإنَّ قولك الشمس طالعة قضية في نفسه، وقولك فالنهار موجودٌ قضية أيضًا، وقد وصلَت إحداهما بالأخرى. ومن عادة قوم أن يُسموا هذا القبيل «شرطية متصلة» و«وضعية».

  • وإما أن تكون النسبة نسبة المُفارقة والعناد والانفصال، مثل قولك: «إما أن يكون هذا العدد زوجًا وإما أن يكون هذا العدد فردًا.» فإن قولك هذا العدد زوج، وقولك هذا العدد فرد، كلٌّ في نفسه قضية، وقد قرن بينهما مُبايَنة ومُعاندة ومحاجزة. ومن عادة قوم أن يُسمُّوا هذا القبيل «قضية شرطية منفصلة».

وكان الواجب بحسب لغة العرب أن تكون الشرطية هي المتصلة، فإنك تجد هناك شرطًا موضوعًا وجزءًا مرادفًا. لكنهم يُسمُّون المنفصلة أيضًا شرطية وكأنهم يَعنون بالشرطية ما يلحق فيه بقضية من القضايا زيادة تُحرِّفها عن أن تكون قضية وتجعلها جزء قضية. ألا ترى أنه كان قولك: «الشمس طالعة» قولًا صادقًا أو كاذبًا، فلما ألحقت به الزيادة فقلت: «إن كانت الشمس طالعة» فحُرفت القضية فصارت غير قضية حين زال عنها أن تكون صادقة أو كاذبة؟ وكذلك كان قولك: «النهار موجود» قولًا صادقًا أو كاذبًا، فلما ألحقت به الزيادة فقلت: «فالنهار موجود» فحرفت القضية فصارت غير قضية. فإن قولك: «فكان كذا» — مع الفاء إذا لم تلغ وعُني بها معنًى — لا صادق ولا كاذب. وكذلك قولك: «هذا العدد زوج»، وقولك الآخر: «هذا العدد فرد»، قد حرَّف كل واحد منهما إلحاق لفظة «إمَّا» به عن أن يكون صادقًا أو كاذبًا.

وكل واحد من هذه الأجزاء الأربعة قد تهيَّأ بما ألحق به لأن يكون جزء قضية تهيُّؤًا يُصيِّر النفس نازعة إلى الجزء الآخر، فكان من شرط كل واحد من أجزاء هذه القضايا في أن يتمَّ بها الكلام أن يُردَف بالآخر. لكن المقدم من المتصل مُقدَّم في نفسه، والتالي فيه تالٍ في نفسه لا بالوضع. ولا كذلك في المُنفصل، بل ذلك فيه بالوضع. وقد عرفت أنهما وإن كانا مؤلَّفَين من أكثر من قضيتين فقد استحالت القضيتان فيه عن أن تكون في نفسها قضية. فليس تأليفهما من قضايا هي بالفعل قضايا، بل قد استحالت فيها القضايا عن أن تكون قضايا بالفعل استحالةً صلحت بها لأن تُصير أجزاء ما يكون في نفسه قضية واحدة بالفعل. وكل متصلة قضية واحدة بالفعل. وكل منفصلة أيضًا قضية واحدة بالفعل. إلا أن تركيبها من قضايا قد استحالت بسبب التركيب عن كونها قضية، وإذا أزيل عنها التركيب بقيَت قضايا مجرَّدة. ولا كذلك أجزاء القسم الأول من أقسام القضية.

وذلك القسم الأول قد وَجد بحسب لغة العرب اسمًا يليق به، فلنسمِّ كما سمُّوا ولنُسمِّ المتصل «المَجازي»، ولنُسمِّ المُنفصل كما سمُّوا.

ونجد للحمْلي جزأين؛ أحدهما حامل واسمه المشهور «الموضوع» كقولك في مثالنا: «زيد،» والثاني «محمول» كقولك في مثالنا: «كاتب».

وتجد للمجازي جزأين؛ أحدهما شرط واسمه المشهور «مقدم» كقولك في المثال: «إن كانت الشمس طالعة.» والآخر جزاء واسمه المشهور «تالٍ» كقولك في المثال: «فالنهار موجود.»

وفي كل واحدة من هذه الأجناس إثباتٌ ونفي؛ فالإثبات يُسميه قوم «إيجابًا» والنفي «سلبًا». والإثبات في الحمْلية أن يحكم بوجود محمول لحامل مثل قولك: «زيد كاتب.» والنفي فيها أن تحكم بلا وجود محمول لحامل مثل قولك: «زيد ليس بكاتب.»

والإثبات في المتَّصلة المجازية أن تحكم باتِّباع جزاء لشرط مثل قولك: «إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.» والنفي فيها أن تحكم بلا اتِّباع جزاء لشرط مثل قولك: «ليس إن كانت الشمس طالعة فالليل موجود.»

والإثبات في المنفصلة أن تحكم بانفصال تالٍ عن مقدم، مثل قولك: «إما أن يكون هذا العدد زوجًا وإما أن يكون هذا العدد فردًا.» والنفي فيها أن تحكم بلا انفصال تالٍ عن مقدم، مثل قولك: «ليس إما أن يكون هذا العدد زوجًا وإما أن يكون مُنقسمًا بمتساويين.»

وجميع ذلك قد يكون كليًّا وقد يكون بعضيًّا وقد يكون مُهمَلًا.

والكلي في الحَملي هو أن يكون الحكم الموجب أو السالب حُكمًا على كل واحد من الموضوع الحامل، مثل قولك في الإيجاب: «كل إنسان جسم»، وفي السلب: «ليس أحد من الناس بطائر.» وفي المجازي هو أن يكون الجزاء جزاء لكلِّ فرض للشرط، مثل قولك: «كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.» وفي السلب بخلافه مثل أن تقول: «ليس البتة إذا كانت الشمس طالعة فالليل موجود.» وفي المنفصل هو أن يكون انفصال التالي في الموجب صادقًا عند كل فرض للمُقدم، مثل قولك: «دائمًا إما أن يكون هذا العدد زوجًا وإما أن يكون فردًا.» وفي السلب كاذبًا عند كل وضعٍ له، كقولك: «ليس البتة إما أن يكون هذا العدد زوجًا وإما أن يكون مُنقسمًا بمُتساويين.»

والبعضي الجزئي في الحَملي هو أن يكون الحكم إنما حكم به — إيجابًا كان أو سلبًا — على بعض ما يُوصف بالموضوع الحامل، مثل قولك في الإيجاب: «بعض الناس كاتب.» وفي السلب: «بعض الناس ليس بكاتب.» وفي المتصل أن يكون الاتِّباع محكومًا به في الإيجاب أو محكومًا بنفْيه في السلب عن بعض أوضاع المقدم، مثل قولك في الإيجاب: «قد يكون إذا كانت الشمس طالعةً فالجو مُتغيم أو فالشِّعرى طالع.» وفي السلب: «ليس كلما طلعت الشمس فالجو مُصبح.» وفي المُنفصل على قياسه أيضًا: أما الإيجاب فمثل قولك: «قد تكون الحمى إما دِقًّا وإما بلغمية لازمة.» وذلك في بعض الأحوال حين لا يَحتمل غير الوجهين، وفي السلب مثل قولك: «قد لا تكون الحمى إما دقًّا أو ربعًا.» وذلك في بعض الأحوال حين تكون نائبية وفي كل يومين مرة.

والمُهمل هو أن تذكر الحكم ولا تذكر كميته المذكورة التي بها تصير محصورة بلفظة حاصرة، وقد تُسمى «سورًا»، مثاله في الحمل: أما الموجبة فقولك: «الإنسان كاتب.» وأما السالبة فقولك: «الإنسان ليس بكاتب.»

وفي الحمليات قضية تُسمى «مخصوصة»، وهي أن يكون الموضوع أمرًا شخصيًّا واحدًا بالعدد، مثل قولك في الإيجاب: «زيد كاتب.» وفي النفي: «زيد ليس بكاتب.» ولأن الحملية أقل القضايا تركيبًا، فبالحري أن يُقدم القول فيها وتحقق أحوالها.

في تحقيق الموضوع في الحملي

إذا قلت «ب ﺟ»، فمعناه أن ما يوصف بأنه «ب» ويُفرض أنه «ب» سواء كان موجودًا أو ليس بموجود، ممكن الوجود أو مُمتنع الوجود، بعد أن يجعل موصوفًا بالفعل أنه «ب» من غير زيادة كونه دائمًا «ب» أو غير دائم، فذلك الشيء موصوف بأنه «ﺟ». وعلى قياسه في السلب.

واعلم أن الموضوع قد يكون مفردًا مثل: «الإنسان»، وقد يكون مؤلَّفًا مثل: «الحيوان الناطق المائت.» وإنما يكون كذلك إذا كانت قوته قوة المُفرد. ومن المؤلفات ما يكون جزء منه حرفًا في مثل قولك: «غير بصير» أو «لا بصير»، فإن لك أن تضع بدله لفظًا مفردًا ﮐ «الأعمى»، وكذلك لك أن تجعله محكومًا عليه بالإيجاب والسلب.

في تحقيق المحمول في الحملي

إذا قلت «ب ﺟ»، فمعناه أن كل ما يوصف ﺑ «ب» فذلك الشيء موصوف بالفعل أنه «ﺟ» من غير زيادة أنه موصوف به دائمًا أو غير دائم، أو عندما يوصف بأنه «ب» أو وقتًا آخر، معيَّنًا كان أحد الوقتَين كالكسوف للقمر أو غير معيَّن كالنفس للإنسان، فإن جميع هذا يدخل تحت قوله موصوف بأنه ﺟ؛ لأنَّ هذا أعم من كونه موصوفًا دائمًا أو غير دائم، ومن كونه موصوفًا بذلك عندما يوصف ﺑ «ب» أولًا عند ذلك فقط، وكل ما يزاد على هذا فهو أخص من هذا، وإن كان لفظ لغةٍ ما يوجب ذلك أو يوجب أنه يكون للوقت الحاضر فتكون تلك اللغة ليس فيها حمل كما يستحقه المعنى نفسه، بل أخصُّ منه. وكذلك القول في السلب.

وتكاد اللغات تقتضي في عادتها إذا قيل: «ب ﺟ»، أنه «ﺟ» عندما يوصف ﺑ «ب»، فيُسمى ما يَقتضيه المعنى نفسه «قضية مطلقة». فإن اشترط فيها في النفس ما يخرج الضرورية الحقيقية التي نذكرها منه ويعمُّ جميع ما لا يكون الحكم فيه صحيحًا ما دام الذات موجودة، بل وقتًا ما أو بشرط وحال «وجودية».

والناس لا يُفرِّقون في زماننا بين المُطلَقة والوجودية، وما يكون المفهوم منه أن «ب ﺟ» ما دام موجود الذات ضرورية، وما يكون المفهوم منه ما دام موصوفًا بأنه «ب» لازمة، فإن اشترط ذلك فيما لا يلزم ما دامت الذات موجودةً كانت مُباينة للضرورية، فلتخص باسم «اللازمة المشروطة». وبينهما فرق، فإنه فرق بين قولك: «المُنتقِل متغير ما دام موجود الذات.» أي الشيء الموصوف بأنه منتقل فإنه متغير ما دام موجود الذات، وبين قولك: «إن الشيء الموصوف بأنه مُنتقل متغير ما دام منتقلًا.» وكيف لا والأولى كاذبة والثانية صادقة! ولنُسمِّ ما يكون المفهوم منه في كونه موصوفًا ﺑ «ب» من غير دوام ذلك «طارئة»، ولنسمِّ ما يكون له وقت معين متى كان «مفروضة»، وما كان وقته غير معين «مُنتشرة»، ولنُسمِّ ما يكون المفهوم منه أنه كذلك في الوقت الحاضر «وقتية» ليَشترك جميع ما يُخالف الضروري في أنه وجودي. وكذلك فافهم في السلب.

وقد يكون المحمول أيضًا مُفردًا ويكون مؤلَّفًا، على نحو ما قيل في الموضوع.

في تحقيق القضية الحملية بأجزائها

القضية الحملية ثلاثة أجزاء بحسب المعنى؛ أحدها معنى الشيء الذي هو «الموضوع»، والآخر معنى الشيء الذي هو «المحمول»، والثالث معنى النسبة والعلاقة التي إنما تؤلف منها قضية. فإنه ليس كون الإنسان إنسانًا هو كونه موضوعًا، ولا كون الحيوان حيوانًا هو كونه محمولًا، بل ذلك لعلاقة بينهما، وربما دلَّ عليها لفظ ثالث فقيل: «الإنسان هو حيوان أو يكون حيوانًا.» أو غير ذلك وتُسمى «رابطة».

وإذا كان المحمول ما يُسميه النحويون «فعلًا» وغيرهم «كلمةً» مثل قولك: «ضرب» أو «يضرب»، فإن هذا لا يُحوج إلى إدخال رابطة؛ وذلك لأنه يتضمَّن دلالة على كونه لشيء موضوع غير معيَّن، ويقرب منه الاسم المشتق مثل: «الضارب» و«القاتل».

في تحقيق إيجاب الحملي

قد فهمت ذلك في الأمثلة المذكورة.

في تحقيق السلب الحملي

اعلم أنك تحتاج في السلب أن تُسلب العلاقة التي بين المحمول والموضوع، فلذلك إن كانت القضية ثلاثية — إذ قد ذُكر فيها الرابطة — تحتاج أن تلحق حرف السلب بالرابطة، فتقول: «زيد ليس هو بعاقل»، فإن لم تفعل هذا بل قلت: «زيد هو ليس بعاقل» دخل هو بين «زيد» وبين «ليس بعاقل» دخول رابطة الإثبات، فجعل الحكم إثبات الداخل فيه حرف النفي فأثبت اللاعاقلية على زيد، لأن «هو» للربط لا لفصل الربط، فهذا هو الذي نعرفه في هذا الموضع.

وأما هل هذا الإثبات يخالف في الفحوى لذلك السلب أو لا يخالفه ويلازمه في الصدق والكذب فهو بحث آخر.

وليس يجب إذا كانت إحدى القضيتين مخالفة للأخرى في الإثبات والنفي أن لا يكون بينهما تصادق وترافُق وتلازم، ولا التصادق والتلازم يقتضي أن يكون حكمهما في جميع الوجوه مختلفًا، فكثيرًا ما تلزم موجبة سالبة وسالبة موجبة لزومًا معاكسًا وغير معاكس.

لكنك يجب مع ذلك أن تعلم أن المُحال الوجود يَكذب عليه مثل هذا الحكم الثاني، فإن محال الوجود لا يُحكم عليه بإثباتٍ البتة، وهو وجود حكم له، إلا إذا فرض كأنه ليس بمحال الوجود، وكيف يحصل للمحال حاصل أي حاصل كان، بل إنما يصح عنه سلب كل شيء، وقد يقبل عليه مثل هذا الحكم لما يوهم ذلك من مطابقته للسلب الحق. لكن التحقيق يمنع ذلك.

وأمثال هذه القضايا التي يحكم فيها بإيجاب معنى نفْي يسمونها «معدوليات».

ويُسمى اللفظ الذي يدلُّ على خلاف المعنى الوجودي مثل «عين الإنسان»، «لفظًا غير محصَّل». وربما كان في اللغات لها مواضع استعمالات أخص مما ذكرنا، فربما قيل: «نابينا»١١ وعُني به الأعمى عادم البصر ومن شأنه أن يُبصر، فلم يقع على كل مسلوب البصر، وربما قيل خلاف ذلك اصطلاحات مخصصة بحسب الموضع لا بحسب ما يوجبه الطبع، والذي يوجبه الطبع ونفس الأمر فهو ما قلنا.

وأما إذا كانت القضية غير ثلاثية إنما هي ثنائية فقط، لم تُذكر فيها الرابطة استغناءً لأنَّ محمولها كلمة أو اسم مشتقٌّ اشتقاقًا يتضمن النسبة المذكورة على حسب اللغة أو لم تُذكر اختصارًا. فإن حرف السلب لا يُقرن إلا بالمحمول. وليس مرادنا في هذا الموضع أنك يجب في كل موضع أن تقرن حرف السلب بالرابطة أو بالمحمول، بل نقول أن النفي هو ذلك، فإذا لم يكن لهما تابع آخر قُرنت بهما، وإن كان لهما تابع قرنت بما يكون قرنه به أولى على ما سنصفه، فيكون قرنك بذلك الشيء رفعًا وسلبًا للربط وللحمل أيضًا على الوجه الذي دلَّ عليه الشيء الزائد الآخر إن قُرن بالمحمول والموضوع، فإنك ستعلم عن قريب أنه قد يدخل على هذه الأصول الثلاثة داخلٌ آخر لأغراض ومعان.

في تحقيق الكلي الموجب في الحمليات

أما الكلية الموجبة المطلقة التي هي أعم في مثل قولنا: كل «ب ﺟ»، فمعناه كل واحد مما يُفرض أنه بالفعل، من غير أن يشرط أنه دائم بالفعل أو غير دائم، موصوف بأنه «ب»، فذلك بعينه موصوفٌ بأنه «ﺟ» بالفعل من غير بيان شيء.

وأما الكلية الضرورية، فمثل قولك: بالضرورة كل «ب ﺟ»؛ أي كل واحد مما يُوصف بالفعل بأنه «ب» سواء كان يوصف دائمًا أنه «ب» أو غير دائم أنه «ب»، فهو موصوفٌ أنه ما دام ذاته موجودًا فهو «ﺟ». مثل قولك: «بالضرورة كل متحرِّك جسم.»

وأما اللازمة فهو مثل قولك: «كل ب ﺟ» بضرورة قلت أو لم تَقل، أي كل موصوف — دائمًا أو غير دائم — بأنه «ب»، فما دام موصوفًا بأنه «ب» — لا ما دام ذاته موجودًا — فإنه موصوفٌ أيضًا بأنه «ﺟ».

وأما المُوافقة فمثل قولك: «كل ب ﺟ»؛ أي عندما يكون «ب» فيكون «ﺟ»، من غير زيادة أنه يكون كذلك دائمًا ما دام «ب» أو غير دائم.

وأما المفروضة فمثل قولك: «كل قمر يَنكسف»، أو «كل كوكب يطلع.»

وأما المُنتشرة فمثل قولك: «كل إنسان يتنفَّس.»

وأما الحاضرة فمثل قولك: «كل إنسان مسلم» في الوقت الذي يكون اتَّفق ذلك، فلا إنسان كافر. ولا يَبعد أن يصدق في أمثال هذه القضايا أن يقال: «كل حيوان إنسان» لو كان في وقت من الأوقات كذلك. وشرط هذه القضية الوقتية في الإيجاب أن يكون الموضوع موجودًا. وأما الوجودية فما يعمُّ جميع ما لا ضرورية فيه حقيقةً.

في تحقيق الكلي السالب في الحمليات

اعلم أن المُطلقة من السالب الكلي ليس له في لغتنا لفظ يطابقه، وإن تمحَّلنا له لفظًا وجدناه قولنا: «كل إنسان لا يكون كذا» و«كل ب لا يوجد ﺟ»، مع أن هذا يوهمنا أنه لا يوجد «ﺟ» ما دام موصوفًا بأنه «ب». وأما «لا شيء من ب ﺟ» فهو شديد الإيهام لذلك؛ إذ كان السلب في القضايا يوهم العموم في الأشخاص والأزمان إذا كان مُنكَرًا، وليس كذلك في الإيجاب، وما يجزئ إن كان كذلك؛ إذ كان السلب من حقه أن يكون طارئًا على الإيجاب وبعده، وأن يطرأ عليه رافعًا له، ولا يرفعه ما لم يَقتضِ العموم؛ فلذلك قصد به التعميم في النيات والعادات، لكننا نعلم أن نفس السلب لا يوجد زيادة معنًى على السلب الذي يعمُّ الدائم وغير الدائم والمؤقَّت وغير المؤقت.

فأما السلب الكلي الضروري سواء جعلته قولك: «بالضرورة كل ب ليس ﺟ.» أو قلت: «لا شيء من ب ﺟ»، فمعناه كل واحد مما يوصف ﺑ «ب» كيف وصف وأي وقت وصف فإنه مسلوبٌ عنه ما دام موجودَ الذات أنه «ﺟ». ولا يوهمك أن لفظ «كل» يوجب الإيجاب، بل يوجب العموم فقط، فإن أوجب بعد ذلك فهو إيجابٌ وإن سُلب فهو سلب.

وأما اللازمة فمثل قولك: «لا شيء من ب ﺟ»، إذا لم تعن ما دام موجود الذات عنيت ما دام موصوفًا بأنه «ب» فقط.

وأما الموافقة فأن لا تَشترط في السلب المذكور عموم أوقات كونه ب، واللغة لا تطيع في إيراد المثال لهذا.

وأما الوقتية فكقولك في مثل الحال التي جعلنا منها مثال الموجبة: «ليس أحد من الناس بكافر.» وفي هذا الموضوع لا يجب أن يكون الموضوع موجودًا لا محالة، ثم يسلب عنه، فإنه إذا اتَّفق في وقت من الأوقات مثلًا أن: «لا يكون شيء من المُنكسِفات موجودًا.» فصحيح أن تسلب القمر عن المنكسف فتقول: «ليس إلى الآن شيء مما هو مُنكسِف بقمر»، من غير أن يكون ذلك عامًّا لكل وقت. وقد تصدق هذه السالبة في مثل قولك: «ولا أحد من الناس بحيوان» إذا كان وقتًا ما مثلًا لا إنسان فيه البتة، فلم يكن حينئذٍ إنسانٌ حيوانًا، وكيف يكون حيوانًا وهو غير موجود.

في البعضيتين الجزئيتين

يجب أن يعلم أن البعضيتين الموجبة والسالبة على أحكام الكليتين في كل شيء. إلا أن الحكم على جهته إنما هو في البعض فقط، وذلك لا يَمنع أن يكون الباقي كذلك أو مخالفًا له في الإيجاب والسلب وفي غير ذلك من الضرورة واللزوم والمُوافَقة والوقتية.

وتخص البعضيات أنه يكون فيها مقدمة دائمة الحكم، وليست بضرورية الحكم؛ لأنها يكون اتفق لها صحية الحكم الممكن ما دام الموضوع موجود الذات، لا سيما في السلب. وقد تكون هذه الدائمة بحسب ما دامت الذات موجودة، ولنسمِّ «الدائمة مطلقًا»، ويكون ما دام موصوفًا بأنه «ب» مثلًا، ولنُسمِّ «الدائمة المشروطة».

فيما يلحق القضايا من الزوائد

إن كل قضية فإما أن تكون ذات موضوع ومحمول فقط مهملة أو مخصوصة، وإما أن يكون هناك حصر وتَدخل اللفظة الحاصرة، مثل: «كل» أو «لا شيء»، و«بعض» أو «لا بعض».

وأيضًا إما أن تكون لها في نفسها مادة لم تصرح باللفظ الدال على ذلك، سواء كان صادقًا أو كاذبًا، وتُسمى «جهة» مثل أن تقول: «زيد يجب أن يكون كاتبًا.» أو «يُمكن» أو «يمتنع». وإذا لحقت الجهة القضية سُمَّيت «رباعية». ومن العبارة على الجهات أن يُقال «بالضرورة كذا» أو «ليس بالضرورة»، و«بالإمكان كذا» أو «ليس بالإمكان». أو يكون مطلقا بلا شرط.

وكل واحد من الضرورة واللزوم والوقتية جهة، لكنه ربما كان ترك الجهة من بعضها دليلًا على الجهة.

ومعنى قولنا «بالضرورة» أن يكون الحكم ما دام ذات الموضوع موجودًا. ومعنى «الإمكان» أن يكون الحكم غير ضروري في نفسه، لا في الوجود للموضوع فيجوز أن يوجد له، ولا في عدمه عنه فيجوز أن يعدم عنه، ثم سنُفصِّل هذا.

في تحقيق المقدمة المُطلَقة

المقدمة المُطلقة: «قد تُقال للمقدمة إذا حكم فيها بالمَحمول بإيجاب أو بسلب من غير زيادة شرط البتة.» وهي أعم من الضرورية، ومن التي ليست بضرورية وتُفارق الضرورية مفارقة ما هو عام لما هو خاص، فإن الضرورية هي التي الحكم فيها موجود مع شرط دوامه ما دامت الذات الموصوفة بالموضوع موجودة. وتُفارق الممكنة التي هي أخص بالمنطق بأنه لا بدَّ فيها من وجود إما دائمًا وإما وقتًا معينًا أو غير معين، وهذه المُمكنة يجوز أن لا يوجد لموضوعها الحكم المُمكن البتة ما دام موجودًا.

وقد يقال «مطلقة» لما لا يجب أن يكون الحكم على ما حكم به من عمومه أو خصوصه ضروريًّا ما دام ذات الموجود موضوعًا، وإن كان قد يكون في بعضه ضروريًّا. مثل قولك: «كل أسود فهو ذو لون جامع للبصر.» فمنه ما هو أسود ما دام موجود الذات، فيكون ذا لون جامع للبصر ما دام موجود الذات، ومنه ما لا يجب أن يكون أسود ما دام موجود الذات، فلا يجب أن يكون ذا لون جامع للبصر ما دام موجود الذات.

وقد يقال «مطلقة» ما يكون الحكم يجب أن لا يكون ضروريًّا في شيء من موضوعات الموضوع؛ أي ما يقال عليه الموضوع، بل يكون محمولًا عليه وقتًا فقط. مثل أن تقول: «إن كل مُنكسِف فهو فاقد للضوء المستعار.» وليس شيء منكسفًا دائمًا ما دام موجود الذات، أو مثل أن تقول: «كل مريض فهو ناقص القوة.» وهذا الوقت قد يكون وقت كون الموضوع موصوفًا بما وصف به، وقد يكون وقت ما معيَّن ككون القمر مُنكسِفًا وقتًا معينًا، وقد يكون وقتًا غير معيَّن مثل كون الإنسان مُتنفِّسًا. وأما الذي يقال في جانب المحمول بشرط ما دام المحمول محمولًا فهو كلام صحيح لا غِنى له فيما نحن فيه.

وقد يذهب قومٌ في قولهم «المطلقة» إلى الزمانية التي أشَرْنا إليها، ويجعلون وقتها زمانًا ما يُفرض، لا سيما حاضرًا، ولا يمنعون غير ذلك، لكنه قد يلزم مع وضعِهم أن يكون قولنا «كل إنسان حيوان» من حيث التصديق به ليس ضروريًّا، فإنه قد يكذب إذا كان الناس معدومين، فحينئذٍ لا يكون ولا واحد مما هو إنسان المحمول عليه أنه حيوان، وكيف يكون حيوانًا وليس موجودًا وإنسانًا، فتصير هذه القضية عندهم من القضايا المُمكنة.

في تحقيق المقدمة المُمكنة

قد يقال «مقدمة مُمكنة» إذا كان الحكم فيها غير مُمتنع، سواء كان مع ذلك ضروريًّا واجبًا أو غير ضروري ولا واجب.

ويكون «المُمكن» بحسب هذا الاعتبار تقسم الأشياء إليه وإلى مُقابله «المُمتنع» فقط، وتقسم إلى «الواجب» و«المُمكن» الآخر، ليس قسمة الاسم المشترك كما يظنُّه الذين لا يعلمون، بل قسمة معنًى جامع، وهو ما اجتمعا فيه من المباينة في المعنى للمُمتنع.

وهذه المقدمة المُمكنة تدخل فيها الضرورة والمطلقة بأصنافها والمُمكن الآخر الذي سيُخبر عنه دخول الأمور التي هي أخص معنًى في الأمر الذي هو أعم معنًى. وهذا الممكن هو الذي إذا قيل: ليس بمُمكن، وعني بالممكن المسلوب، كان معناه هو ممتنع.

وقد يقال «مقدمة ممكنة» ويُعنى بها أن الحكم فيها غير ضروري هو ولا نقيضه، أعني الضروري الذي أومأنا إليه، فيكون هذا أخص من ذلك، ويخرج منه الواجب الضروري، ويدخل فيه المطلق وما فيه ضرورة بشرط وقت أو حال وليست ضرورية مُطلقة، ويدخل فيه الممكن الذي هو أصدق من هذا حدًّا وهو الذي لا وجوب الوجود فيه أو لنقيضه الوجود المطلق والوجود بحسب شرط أو وقت فيجوز أن يخلو الموضوع عن ذلك الحكم دائمًا من غير وجوب خلوِّه دائمًا، وجواز أن يوجد لموضوعٍ ما وقتًا أو دائمًا وجودًا اتفاقيًّا، مثل: «أن يكتب زيد.»

ويقال «مُمكن» لأخص من الجميع، وهو هذا الآخر الذي لا ضرورة فيه مطلقًا ولا بشرط.

وقد يقول قوم «مُمكن» ويُعتبر حال الحكم في المستقبل بحسب أي وقت فرضت فيه الحكم على أنه في أي وقتٍ فرضت فيه لم يكن ضرورة إما مطلقة وإما بشرط.

وأما الحال ولا تبالي فيه سواء كان الشيء موجودًا أو غير موجود، وهذا أيضًا اعتبار صحيح يجوز أن يُطلَق عليه اسم «المُمكن»، لكن الأصول ما أشرنا إليه.

وقد حسب قومٌ من ضعفاء النظر أن من شرط المُمكن أن لا يكون موجودًا في الحال، فيكون قد وجب من حيث وجد في الحال، ولم يعلموا أنه إن صار وجوده واجبًا — لأنه حصل موجودًا في الحال — فيَصير لا وجوده واجبًا لأنه حصل لا موجودًا في الحال، فما بالهم يَهربون عما يُعطيه الوجوب في الوجود ولا يَهربون عما يعطيه الوجوب في اللاوجود وهو الامتناع، وليس إذا صار الشيء موجودًا فقد صار واجبًا إلا أن يؤلف فيُقال: «الموجود ما دام موجودًا فهو واجب أن يكون موجودًا.» أي بشرط ما دام موجودًا، وفرقٌ بين أن تقول أن الموجود يجوز لو لم يكن موجودًا أو ليس واجبًا إن كان موجودًا، وبين أن تزيد فتقول ما دام موجودًا، وكل ما هو مُمكن الوجود فإنه إذا وُجد كان واجبًا أن يكون ما دام موجودًا. وذلك لا يَمنع كونه ممكنًا في نفسه، على أنه أيضًا إذا كان موجودًا وجب أن يَصير واجبًا، فليس يُمكن أن يصير واجبًا أبدًا دائمًا، بل واجبًا في وقت، وذلك لا يُمانع المُمكن العام ولا المُمكن الخاص الذي ليس فيه ضرورة دائمة، بل يحتمل ضرورة مؤقَّتة ومشروطة، ولا يُمانع الممكن الذي هو أخص، فإنه يكون باعتبار نفسه ممكنًا أخص وباعتبار شرط يضاف إليه واجبًا، فيكون ممكنًا من غير الوجه الذي يكون منه واجبًا، فيكون مُمكنًا من أنه لو ترك وطباعه وطباع الموضوع لم يجب أن يوجد له البتة، وجاز أن يخلو عنه الموضوع البتة؛ إذ ليس في طباع الموضوع ما يقتضي وجوده له، ولا في طباع المحمول أن تكون ماهيته تَقتضي وجودها دائمًا للموضوع أو وقتًا ما، لكنه قد يعرض شيء من خارج يوجبه، فضلًا عن أن يوجده، ويكون وجوبه من حيث أن ذلك العارض عرَض فأوجب، وقد علمت أن من علَّق الضرورة والإمكان بحصر القضية وعلق الحصر بوقتٍ ما جاز أن يكون قولنا «كل إنسان جوهر.» ممكنًا أن يكذب، وقولنا «كل لون سواد.» مُمكنًا أن يصدق.

في التناقض

اعلم أن من حق السلب أن يرفع الإيجاب ولا يصدق معه، وأنه إذا كذب الإيجاب أن لا يكذب معه، فإن الشيء لا يَخرج من الإيجاب والسلب إذا وقفا على التقابل الحقيقي، فكان السلب إنما يَسلب الشيء من جهة ما أوجب عليه.

لكنه قد يتَّفق أن لا يقع السلب مقابلًا للإيجاب من الجهة التي وقع عليها الإيجاب، فيتَّفق حينئذٍ أن يكون الإيجاب والسلب صادقين معًا أو كاذبين معًا، وإذا وقع الإيجاب والسلب على ما ينبغي لهما من التقابل، فوجب ضرورةً إذا صدق أحدهما أن يَكذب الآخر، وإذا كذب أحدهما أن يَصدق الآخر، وبالجملة امتنع أن يَصدقا معًا أو يَكذبا معًا، فذلك هو التناقض.

فالتناقض: «هو اختلاف قضيتين بالإيجاب والسلب يلزم منه أن يكون أحدهما صادقًا والآخر كاذبًا.»

فالقضايا المخصوصة يكفي في شرط تناقضها أن تراعى أحوال الحمل والوضع، وأما غيرها فقد تراعى فيها أيضًا أحوال معانٍ داخلة عليها مثل اللفظة الحاصرة ومثل الجهة. فأول ما يجب أن يراعى فيها هو شرائط الحمل من القوة والفعل والكل والجزء والإضافة والشرط والمكان والزمان، وغير ذلك مما عدَدْناه في الفن الذي فرغنا عنه. والمُهم أن تراعى لفظة المحمول والموضوع وغير ذلك، ويحذر أن لا يكون وقوعه في القضيتين وقوع اللفظ المشترك، بل وقوع اللفظ المُتواطئ.

ووقوع اللفظ المشترك هو أن يقع اللفظ على الشيئين أو على الأشياء بمسموع واحد وتختلف مفهوماته في كل واحد، مثل «النور» على المسموع والمعقول، و«العين» على الدينار ومنبع الماء.

ووقوع اللفظ المُتواطئ هو أن يكون الوقوع بالمسموع والمفهوم معًا، مثل وقوع لفظ «الحيوان» على الإنسان والفرس.

فإذا اتفقت القضيتان في مفهوم الأجزاء التي منها تؤلَّف، ثم كان الجزء من الموضوع أو الكل ذلك بعينه، وإضافة المحمول وزمانه ومكانه وكونه بالقوة أو بالفعل واحدًا، ثم أوجب أحدهما وسلب الآخر، كان في المخصوصة تقابل الحقيقي. ووجب أن يصدق أحدهما ويَكذب الآخر. وأما إذا خالف شيء من ذلك لم يجب. مثل أن يقول أحدهما: «زيد ناسخ.» والآخر: «ليس بناسخ.» وعنى بزيد غير ما عنى الآخر أو بالناسخ غير ما عناه. أو قال الكأس الواحدة مُسكِرة، وعنى بالقوة، وقال الآخر ليس بمُسكرة، وعنى بالفعل. أو قال: فلان عبد؛ أي لله. وقال مقابله: ليس بعبد؛ أي للآدمي. أو قال أحدهما: الزنجي أسود؛ أي في بشرته. وقال الآخر: ليس بأسود؛ أي في لحمه. أو قال أحدهما: إن النبي صلى إلى بيت المقدس، وأراد في وقت. وقال الآخر: النبي لم يُصلِّ إلى بيت المقدس، وأراد وقتًا آخر. أو فعْل شيء مما يجري هذا المجرى في مكان أو شرط إطلاق أو تقييد وغير ذلك. فليس يجب أن يكون بينهما تقابل الإيجاب والسلب، وهو التناقُض بالحقيقة.

فأما إذا كان هناك لفظة حاصرة ولم يَكفِ ما أومأنا إليه، بل احتيج أن تراعى أشياء أُخر، فإنه إذا اتفقت القضيتان في كمية الحصر واختلفتا في كيفية الإيجاب والسلب جاز أن تَكذبا جميعًا وجاز أن تصدقا جميعًا.

فأما كيف تكذبان جميعًا، فذلك إذا كانتا كليتين وكانت المادة مُمكنة، مثل قولنا: «كل إنسان كاتب»، «ليس ولا واحد من الناس بكاتب.» وأما إذا كانت المادة واجبة فتكون السالبة لا محالة كاذبة، مثل ما في قولك: «كل إنسان جسم»، «ليس ولا واحد من الناس بجسم.» وإن كانت ممتنعة فتكون المثبتة لا محالة كاذبة، مثل ما في قولك: «كل إنسان حجر»، «ليس ولا واحد من الناس بحجر.»

وأما كيف يمكن أن تصدقا معًا فذلك إذا كانتا جزئيتَين وكانت المادة مُمكنة أيضًا، مثل قولنا: «بعض الناس كاتب»، «ليس كل إنسان أو ليس بعض الناس كاتبًا.»

وأما الحال في الواجبة والمُمتنعة فمثل ما قيل.

ومن شأن الناس أن يُسمُّوا الكليتين المختلفين في الإيجاب والسلب مع وجود شرائط التقابل المذكورة في المخصوصات «متضادتين»، والجزئيتين النظيرتين لهما داخلتين تحت التضاد، ثم يحسن لهم اعتبار التقسيم والتركيب أن يراعوا أقسامًا أخرى لا يُنتفع بها.

والمستبصر بما بيَّناه سريع التفطُّن للقضاء بالفصل بينهما وبين حال القضيتين المتفقتين في كيفية الإيجاب والسلب المختلفتين في الحصر، وتُسمى «مُتداخلتين». وأنت لا عذر لك في أن لا تقضي فيها بالفصل. فأما إذا صارت القضايا مُعتبرة من جهة الجهات وجب حينئذٍ أن تعتبر لها في التناقض شروطًا واعتبارات أخرى. وليس ما يظن أن هذا الذي قيل كافٍ فيما لا جهة ضرورة أو إمكان معه، بل هذا كافٍ في بعض ما يخرج عنهما.

ومن الواجب أن تنظر كيف يقع التناقض في الخالي عن الضرورة والإمكان الذي لا ضرورة فيه إيجابًا ولا سلبًا. فإن مراعاة التناقض في هذا الخالي وإن رجع إلى الشرائط المذكورة، فإن لذلك الرجوع تفصيلًا لا يُغني عنه البيان السالف المُجمَل.

ولنبدأ ولنبيِّن بالتناقض في المُطلقة العامة المذكورة أولًا.

في نقيض المطلقة العامة الأولى إذا كانت موجبة كلية

إذا قلنا كل «ب ﺟ» بالإطلاق الأعم، فليس كل ما يكون جزئيًّا سالبًا مُطلقًا يكون مناقضًا له؛ لأنه لا يُمكننا أن نراعي الزمان بينهما على ما يجب، فإنه يجوز أن يكون الكلي الموجب صادق الحمل في كل شخص زمانًا ما أو حالًا ما غير عام، وأن تكون الأزمنة شتى ومختلفة في كل واحد. فإذا أوردنا الجزئية السالبة، ودللنا به على سلب عن بعض ولم يَشتمل إلا على هذا، جاز أن يكون ذلك السلب سلب مُطلَق غير دائم أو يكون في زمان غير شتى من الأزمنة التي كان فيها الإيجاب حقًّا، سواء كان الزمان في جميع الأشخاص واحدًا أو كثيرًا مختلفًا. وإذا كان كذلك يجب أن يكذب هذا السلب إن صدق الإيجاب. ولا يُمكنك أن تَفرض الزمان واحدًا، فليست الجزئيات المتضمنة في قولك: «كل ب ﺟ» زمانها واحدًا. وربما لم يُمكنك أن تفرض الأزمنة مُتشابهة حتى تكون كلها مثلًا ربيعًا أو وقت كسوف القمر حتى تجعل السلب في الجزئي غير ذلك الواحد أو غير تلك المتشابهة، فإن أمكنَك ذلك فحينئذ تكون الجزئية المشروط فيها ذلك الزمان وذلك الحال نقيضًا مثلًا كما تقول: كل شجرة جوز، فإنها في صميم الشتاء مُعتبرة، وكذلك إن كان شرط غير الزمان، لكن هذه القضية إما أن تكون بعض القضايا المطلقة التي نحن في وصفها ولا يكون الحكم في التناقض فيها حكمًا في كل قضية مطلقة، وإما أن تكون قد عرفت وستعلم حالها من بعد، لكن غرضنا أن نعرف نقيض المقدمة المطلقة العامة غير مخصصة بشرط، فنقول:

إنه لما لم يُمكن مراعاة زمان جزئي مخصوص أو حال جزئية مخصوصة، وجب أن يكون إيرادنا النقيض مُراعًى فيه ما يشتمل على كل زمان وحال؛ وذلك بأن تجعله جزئية سالبة دائمة السلب.

ودائمة السلب في الجزئيات غير الضرورية فيها؛ وذلك أنه ليس ببعيد في الجزئيات أن يُسلب عنها ما ليس ضروري السلب سلبًا دائمًا، فإنه من الجائز أن يخلو الجزئي عن شيء مما هو مُمكن، له الإمكان الصرف، حتى يوجد ويعدم ولا يعرض له ذلك الممكن، مثل أنه يجوز أن يوجد بعض الناس، وتُسلب عنه الكتابة ما دام موجود الذات، فلا يُوجَد كاتب البتة، فيكون حقًّا أن «بعض الناس لا يكتب البتة.» ومع ذلك هذا السلب لا يكون ضروريًّا عنه. فهذه السالبة مقابلة الموجبة المطلقة بالإطلاق العام، كلما صدقت الموجبة المُطلقة كذبت هذه السالبة، وكلما كذبت الموجبة المطلقة صدقت هذه السالبة، واقتسامهما الصدق والكذب دائم.

وبئس ما فعل المغربيون حين اعتبروا — في تناقُض الضروريات والمُمكنات — الجهة، ولم يعتبروا في المُطلَقة، فإن الإطلاق أيضًا جهة من الجهات كيف أخذت المطلقة، وبكونها بتلك الجهة تخالف الضرورية والمُمكنة، وإن كان جهتها كونها خالية عن جهتي الضرورة والإمكان فلهذا الخلو حكم.

وربما قال قائل منهم: لتكن السالبة المقابلة لهذه الموجبة أن «ليس بعض ﺟ ب» في الزمان أو الحال الذي فرض فيه ذلك البعض حين قيل «كل ﺟ ب»، أو «ليس بعض ﺟ ب» عندما يكون «كل ﺟ ب»، فإن القول الأول يُحيل على الفرض وليس في الفرض زمان أو حال معلومة، والقول الثاني يُحيل على الوجود ولكنه كاذب في كل حال صدقت الموجبة أو كذبت، وفي ذلك وجهان من الحكم فاسدان؛ أحدهما أنه ليس يجب أن يكون السالب دائمًا — في التقابل الذي إيجابه كلي مُطلق — كاذبًا لا محالة، والثاني أنه إذا كذبت الموجبة فكذبت هذه السالبة اجتمع النقيضان في الكذب وهذا محال.

فتبيَّن إذن أن الموجبة الكلية المطلقة العامة تُناقضها السالبة الجزئية الدائمة، وهي ضرب مِن المُطلقة الاتفاقية.

في نقيض المُطلقة التي تلي هذه العامة إذا كانت أيضًا كلية موجبة

وهذه هي المسماة باصطلاحنا «وجودية» التي لا ضرورة حقيقية فيها إذا قلنا صادقين: «كل ب ﺟ بالوجود»؛ أي بلا ضرورة حقيقية بتة، فقد تَصدُق معه المطلقات السالبة كما علمت، لكن ويَصدق معه المُمكن وإن لم يَنعكس، وإنما تكذب معه الموجبة الضرورية وتكذب معه السالبة الضرورية، وقد تكذب معه السالبة الجزئية الدائمة التي وصفناها، فيجب أن يكون نقيضه غير خالٍ عن الاشتمال على جميع ذلك ومقولًا على جميع ذلك.

وليس يُمكن أن توجد قضية سالبة تصدق على جميع ذلك إلا أن تجعل سالبة الوجود، فيقال: «ليس دائمًا بالوجود كل ب ﺟ»؛ أي بل «كل ب ﺟ بالضرورة»، أو «بالضرورة ليس كل ب ﺟ»، أو «بعض ب يكون دائمًا ليس ﺑ «ﺟ»»، وإن لم يكن بالضرورة، ولا يمكنك أن تجد لهذه الموجبة نقيضًا غير هذه السالبة البتة، أو ما هو في قوتها، ولا لهذه السالبة وما في قوتها غير هذه الموجبة.

في نقيض المطلقة اللازمة إذا كانت كلية موجبة

نقيض هذه المطلقة هي السالبة الجزئية المشاركة للموجب في الوقت المؤقت، وهو وقت محصل لأنه الوقت أو الحال التي يكون ما هو «ب» موصوفًا بأنه ب، فإذا قال: «كل ب ﺟ»، أي ما دام موصوفًا بأنه ب، كان نقيضه: «ليس كل ب ﺟ»؛ أي ليس ما دام موصوفًا بأنه «ب» فهو «ﺟ»، بل إما أن يكون «ﺟ» وإما أن يكون وقتًا دون وقت، وقد تعين الشرط فصح التقابل.

في نقيض اللازمة المشروطة إذا كانت كلية موجبة

هذه القضية ليس تقابلها السالبة الدائمة؛ وذلك لأنها تقابل ما هو أعم منها. وقد تكذب إذا كانت الموجبة ضرورية، وإذا كان كذلك لم يكن كذبها يوجب صدق الموجبة المشروطة، فأمكن أن تكذب مقابل نقيضها التي تسلب اللزوم المشروط، ولا تمنع الضرورة ولا توجبها. واللفظة المتممة له التي تطابق «ليس كل ﺟ إنما يكون ب»، ما دام موصوفًا بأنه «ﺟ» عارضًا له «ﺟ»؛ أي بل إما دائمًا وإما لا في وقت البتة وإما في بعض أوقات كونه «ﺟ» وإما في غير وقت كونه ﺟ، بل في وقت له آخر.

ولا تظن أن قولنا «ليس دائمًا يوصف» يوجب أن يكون يوصف في غير ذلك الوقت؛ لأن قولنا دائمًا تخصيص، وسلب التخصيص ليس يوجب التعميم؛ فإنه قد يسلب التخصيص حين يُسلب التعميم.

في نقيض الطارئة من المُطلقات إذا كانت كلية موجبة

لا تناقض هذه القضية السالبة الجزئية اللازمة المشروطة، فإنه إذا قيل: «كل ب ﺟ»؛ أي في حال من أحوال كونه «ب» لم يكن نقيضه أنه «ليس كل ب ﺟ» في حال من تلك الأحوال، بل «بعض ب ليس البتة ما دام ب ﺑ «ﺟ»»؛ وذلك أنه يمكن أن يكون كذب الطارئة الموجبة لصدق اللازمة الموجبة، فيجب أن يكون النقيض ما يرفع ذلك كله، والذي يرفع ذلك كله قولك: «بعض ب له دوام سلب أو إيجاب ﺟ ما دام ب»، وهذا دوام لأي حال من الحالين كانا.

وتخالف الدائمة المقابلة للمطلقة العامة بما تعرف.

في نقيض المطلقة التي تعمُّ اللازمة والطارئة، وهي الموافقة إذا كانت كلية موجبة

قد يَسبق إلى الوهم أن نقيض هذه المقدمة المُطلَقة هي السالبة الدائمة المشروطة، وليس كذلك؛ فإن بعض ما يدخل تحت هذه الموافقة يكذب مع كذب هذه، وهي اللازمة المشروطة إذا كانت كلية موجبة، بل نقيض هذه سالبة الموافقة، وهو أن «بعض ﺟ ليس إنما يوصف بأنه ب في وقت كونه ﺟ»؛ أي «بل في كل وقت» أو «ولا في شيء من الأوقات» أو «في وقت لا يكون فيه ﺟ»، وإذا قلنا: «إنما يوصف بأنه ب في وقت كونه ﺟ» عمَّ ما يوصف في الوقت كله وما يوصف في وقت منه، فإذا قال: «ليس إنما يوصف أنه في وقت كذا»، سلب ما يعم الأمرين فقط سلبًا مقابلًا.

في نقيض الكلية الموجبة الوقتية

هذه يَسهل إيراد النقيض لها؛ لأن الوقت معين.

في نقيض السالبة الكلية المطلقة على الوجوه المذكورة

قد يُمكنك أن تستخرج شروط مناقضة السالبة الكلية في بابٍ بابٍ من أبواب من مضادتها، فنقيض قولنا: «لا شيء من ﺟ ب» بالإطلاق الأعم: «بعض ﺟ ب» دائمًا. وقد عرفت الفرق بينه وبين الضروريات. ونقيض هذا القول إذا كان وجوديًّا: «بعض ﺟ ب» بالوجود. ونقيض هذا القول إذا كان لازمًا، وكان معناه لا شيء من «ﺟ» يكون «ب» عندما يوصف بأنه ﺟ: «بعض ﺟ ب» عندما يفرض «ﺟ» إما دائمًا وإما وقتًا. ونقيض هذا القول إذا كان لازمًا مشروطًا: «بعض ﺟ إنما يكون ب»، عندما يفرض له «ﺟ» دائمًا أو وقتًا. ونقيض هذا القول إذا كان طارئًا: «بعض ﺟ له دوام سلب أو إيجاب ب» ونقيض هذا القول إذا كان بالمعنى الذي يعم الطارئ واللازم المشروط: «بعض ﺟ ب ليس إنما يسلب عنه ب في حال كونه ﺟ.»

وأما الوقتية فنقيضها الموجبة الجزئية المشاركة في الوقت.

في نقيض الموجبة المطلقة الجزئية

قد يُمكنك أن تعرف التناقض ها هنا أيضًا مما قيل لك في الموجبة الكلية، فنقيض قولنا: «بعض ﺟ ب» بالإطلاق الأعم: «ليس شيء من ﺟ ب» إذا كان المراد بهذا أنَّ كل واحد مما هو «ﺟ» لم يوجد ولا يوجد له «ب» ما دام موجود الذات من غير أن تعنى بذلك الضرورة، فإن ذلك حينئذٍ يكون نقيض الممكنة العامة لا المطلقة.

وأما إن قيل هذه القضية هل تكون صادقة حتى تكون مثلًا طبيعية غير ضرورية السلب يَعرض لها أن لا توجد لشخصٍ ما، فليس على المنطقي أن يخوض فيه، لكنه إن كان لا صدق لمثل هذا السالب ولا كذب لمثل ذلك الموجب وقد حصل الاقتسام دائمًا لكن الموجب ليس يجب فيه أن تُشترط المادة الممكنة دون الضرورية؛ لأن المطلقة عامة جدًّا، وكذلك السالبة التي تقابلها ليس بشرط فيها أن يكون دوامها دوام ضرورة أو غير ضرورة.

وأما إذا كانت هذه القضية وجودية، فنقيضها: «ليس بالوجود ولا شيء من ﺟ ب»؛ أي «بل بالضرورة إيجابًا أو سلبًا.» وليس قولنا «ليس بالوجود ولا شيء من ﺟ ب» هو قولنا «بالوجود ليس شيء من ﺟ ب»، ونعني سلبًا عن كل واحد غير ضروري، فإن هذين قد يصدقان جميعًا.

وأما إذا كانت لازمة فنقيضها ما يعم اللازمة والطارئة، فإن الحال مُتعينة، فإنه إذا قال: «بعض ﺟ ب»؛ أي ما دام موصوفًا بأنه «ﺟ»، ضرورة كان «ﺟ» أو غير ضرورة، فنقيضه أنه: «لا شيء من ﺟ لا وليس ﺑ «ب»»؛ أي عندما يوصف بأنه «ﺟ» من غير فرض دوام أو غير دوام.

وأما إذا كانت لازمة مشروطة فنقيضها: «لا شيء مما هو ﺟ إنما هو ب مع كونه ﺟ»؛ أي «بل دائمًا» أو «لا البتة» أو «في حال منه دون حال».

وأما إن كانت طارئة فنقيضها: «لا شيء مما هو ﺟ إنما هو ب في بعض أحوال كونه ﺟ»، بل إما أن «لا يكون ب البتة» أو «يكون ب بالضرورة أو لازمًا».

وأما إن كانت بحيث تعم اللازمة المشروطة والطارئة ا.ﻫ.

•••

«تنبيه»: وُجِدَ في آخر نسخة الأصل المحفوظة في المكتبة الخديوية ما نصه:
هذا مقدار ما يوجد من هذا الكتاب.
والحمد لله رب العالمين، وصلواته على نبيه محمد وآله أجمعين.
فرغ من نسخه عبد الرازق بن عبد العزيز بن إسماعيل الفارابي الصفناجي.
عُورضَ بالأصل الذي انتسخ منه بقدر الطاقة والإمكان.
ولواهب العقل الحمد بلا نهاية. ا.ﻫ.
١  يريد به «أرسطو».
٢  العلم الكلي: هو القسم الرابع من «العلم النظري» الذي تتعاطى به الموجودات، لا من حيث هي أفعالنا وأحوالنا، لنعرف أصوب وجوه وقوعها مِنَّا وصدورها عنَّا ووجودها فينا. ويبعث العلم الكلي في أمور ومعانٍ قد تخالط المادة وقد لا تخالطها، فتكون في جملة ما يخالط وفي جملة ما لا يخالط، مثل الوحدة والكثرة، الكلي والجزئي، العلة والمعلول. أما الأقسام الثلاثة الأخرى للعلم النظري، فهي: «العلم الطبيعي» و«العلم الرياضي» و«العلم الإلهي». راجع: [منطق المشرقيين - في ذكر العلوم] من هذا الكتاب.
٣  راجع آخر: [منطق المشرقيين - في اللازمات] من هذا الكتاب.
٤  وذلك أن تجمع الأنف والتقعير، فتوقع عليه اسم «الأفطس». راجع: [منطق المشرقيين - في الحد] من هذا الكتاب.
٥  يريد أن معنى «أنف» داخل في مفهوم «الأفطس»، فإذا دخل لفظ «أنف» على «الأفطس» تكرَّر معناه. راجع آخر: [منطق المشرقيين - في الحد] من هذا الكتاب.
٦  وضبطها السيد الجرجاني في التعريفات والتهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون بالطاء، هكذا: «أُسْطُقُس» و«أُسطقسات»، وقالا إنها لفظ يوناني بمعنى «الأصل»، وتُسمى العناصر الأربع التي هي الماء والأرض والهواء والنار «أسطقسات» لأنها أصول المركَّبات التي هي الحيوانات والنباتات والمعادن. ا.ﻫ.
٧  كذا وُجد في المسوَّدة هذا الموضع منقطعًا: (نسخة الأصل). وقد راجعنا في ذلك بعض الأئمة المُحقِّقين كعادتنا في مواضع الإشكال، فقال لنا: إنه قد يقع في كثير من المؤلَّفات كلمة يُريد المصنِّف أن يصلها بغيرها، ثم يترك ذلك ويُعرض عنه من غير انتباه إلى الضرب على تلك الكلمة، فيُتوهم أن في ذلك الموضع من النسخة نقصًا فرط الناسخ بإكماله، وليس الأمر كذلك. وقد وقَع مثل هذا فيما لا يُحصى من الكتب، ومنها «صحيح البخاري»، كما ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة شرحه.
٨  لعله: السُّل.
٩  هكذا في الأصل، ولعله: هذه الأربعة.
١٠  في الأصل: فقدمت كرة. ويَقرب أن تكون «كرة» مُحرَّفة عن «أداة».
١١  كلمة فارسية مركبة من «نا» النافية بمعنى «غير»، ومن «بينا» وهي مثل «بين» بمعنى «البصير»، وكلاهما معًا بمعنى «الأعمى». وتأتي مركبة في حالتي السلب والإيجاب بمعنى «الجاهل» و«العارف» على طريق المجاز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤