أينشتاين وكُلُّ ما قدمه
كلنا يعي تأثيرات الجاذبية؛ فالأشياء تسقط إلى الأرض حين نُفلتها، كما يكون صعود التلِّ جريًا أكثرَ صعوبة من هبوطه. لكن في نظر الفيزيائيين تشمل الجاذبية ما هو أكثر من التأثيرات التي نستشعرها في حياتنا اليومية. على سبيل المثال، كلما كبر حجم الأجسام محل الدراسة، زادت الجاذبية أهميةً. فالجاذبية تجعل الأرض تدور حول الشمس، وتجعل القمر يدور حول الأرض، وتتسبب في تأثيرات المد والجزْر. وعلى نطاق الأجسام ذات الصلة بعلم الفلك، تُعَدُّ قوة الجاذبية هي المحرِّك الرئيس. لذا إن أردتَ فهْم الكون إجمالًا؛ فعليك بفهم الجاذبية.
قوة الجذب الكونية
الجاذبية واحدة من القوى الأربع الأساسية في الطبيعة. وهي تمثِّل مَيلًا عامًّا لدى المادة بكل أشكالها إلى جذب كل أشكال المادة الأخرى. في الواقع، هناك أربع قوًى أساسية في الطبيعة (الجاذبية، والقوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية «القوية»، والقوة النووية «الضعيفة»). إن عمومية وانتشار قوة الجاذبية يُميِّزانها عن القوى الكهربية بين الأجسام المشحونة مثلًا. فالشحنات الكهربية يمكن أن تكون إما موجبة وإما سالبة، ورغم أنه من الممكن أن تؤدي القوى الكهربية إلى التجاذب (بين الشحنات المتباينة) أو التنافر (بين الشحنات المتشابهة)؛ فإن الجاذبية قوة جاذبة طوال الوقت. ولهذا السبب تمثل الجاذبية هذه الأهمية لعلم الكونيات.
من أوجه عدة، تعد قوة الجاذبية ضعيفة للغاية؛ فأغلب الأجسام المادية تتماسك أجزاؤها بفعل القوى الكهربية بين ذراتها، وهذه القوى أقوى أضعافًا مضاعفة من قوى الجاذبية الموجودة بين هذه الأجسام والأجسام الأخرى. لكن رغم ضعف الجاذبية فإنها هي القوة المحركة في المواقف الفلكية؛ لأن الأجرام السماوية — باستثناءات قليلة للغاية — تحتوي دائمًا على المقدار عينه من الشحنتين الموجبة والسالبة؛ ومِن ثَمَّ لا تمارس أية قوى ذات طبيعة كهربية بعضها في بعض.
- (١)
يظل الجسم على حالته الحركية، إما السكون التام أو الحركة في خط مستقيم بسرعة ثابتة، ما لم تؤثر فيه قوة تُغيِّر من هذه الحالة.
- (٢)
إذا أثرت قوة محصلة في جسم أكسبتْه تسارعًا، يتناسب مقداره تناسبًا طرديًّا مع مقدار القوة المحصلة، ويكون اتجاهه في اتجاه القوة المحصلة نفسها.
- (٣)
لكلِّ قوةِ فعلٍ قوةُ ردِّ فعلٍ، مساوية لها في المقدار ومضادة في الاتجاه.
قوانين الحركة الثلاثة هذه قوانين عامة، تنطبق بالدقة عينها تقريبًا على سلوك الكُرَات على طاولة البلياردو مثلما تنطبق على حركة الأجرام السماوية. كل ما كان نيوتن بحاجة له هو التوصل إلى كيفية وصف قوة الجاذبية. وقد أدرك نيوتن أن الجسم الذي يدور في مدار دائري، كالقمر الذي يدور حول الأرض، يبذل قوة في اتجاه مركز الحركة (تمامًا مثلما يفعل الثقل المربوط في طرف خيط حين يلفه المرء حول رأسه). ويمكن أن تسبب الجاذبية هذه الحركة بالطريقة نفسها التي تسبب بها سقوط التفاح من الأشجار إلى سطح الأرض. في كلا هذين الموقفين لا بد أن تكون الحركة متجهة نحو مركز الأرض. وقد أدرك نيوتن أن الصيغة الصحيحة من المعادلة الرياضية هي قانون «تربيع عكسي» يقضي بأن «قوة الجذب بين أي جسمين تعتمد على محصلة كُتلتَيْ هذين الجسمين وعلى مربع المسافة بينهما.»
وقد تحقق انتصار نظرية نيوتن، المبنية على قانون التربيع العكسي للجذب العام، حين تمكنت هذه النظرية من تفسير قوانين الحركة الكوكبية التي وضعها يوهانز كبلر قبل أكثر من قرن مضى وقتها. وقد كان هذا النجاح عظيمًا لدرجة أن فكرة الكون الذي يسير وفقًا لقوانين نيوتن للحركة هيمنت على التفكير العلمي لأكثر من قرنين تاليين، إلى أن ظهر أينشتاين على الساحة.
ثورة أينشتاين
وُلد ألبرت أينشتاين في مدينة أولم (في ألمانيا) في الرابع عشر من مارس ١٨٧٩، لكن سرعان ما انتقلت أسرته إلى ميونخ؛ حيث قضى سنوات دراسته. لم يكن أينشتاين في صغره تلميذًا متميزًا، وفي عام ١٨٩٤ هجر التعليم النظامي كليةً حين هاجرت أسرته إلى إيطاليا. وبعد فشله في اجتياز اختبار القبول مرة واحدة، تمكَّن أخيرًا من الالتحاق بالمعهد السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ عام ١٨٩٦. ورغم أنه أبلى بلاءً حسنًا في دراسته في زيوريخ، فإنه عجز عن الحصول على وظيفة في أي جامعة سويسرية؛ إذ كان يُعتقد أنه شخص كسول للغاية. وقد ترك الحقل الأكاديمي للعمل في مكتب لبراءات الاختراع في برن عام ١٩٠٢، وهي الوظيفة التي وفرت له راتبًا طيبًا والكثير من وقت الفراغ للتفكير في الفيزياء؛ نظرًا لأن المهام الموكلة لموظف صغير في مكتب براءات الاختراع لم تكن شاقة بالأساس.
نُشرت نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين في عام ١٩٠٥، وهي تُعَدُّ أحدَ أعظم الإنجازات العقلية في تاريخ الفكر الإنساني. وما يجعلها أكثر لفتًا للأنظار هو حقيقة أن أينشتاين كان يعمل موظفًا في مكتب براءات الاختراع وقت وضعها، وأنه كان يمارس الفيزياء كهواية، وإن كانت هواية ثقيلة. بل والأدهى أن أينشتاين نشر في العام ذاته بحثين آخرين مبدعين عن التأثير الكهروضوئي (الذي من شأنه أن يلهم لاحقًا العديد من التطورات في نظرية الكم)، وعن ظاهرة الحركة البراونية (أي اهتزاز الجسيمات المجهرية بينما تتقاذفها التصادمات الذرية). لكن السبب الرئيس وراء تميز نظرية النسبية الخاصة عن بقية أعمال أينشتاين في ذلك الوقت، بل وأعمال زملائه في عالم الفيزياء المتعارف عليها، هو أن أينشتاين تمكن من التحرر تمامًا من مفهوم الزمن بوصفه خاصية مطلقة تسير بالمعدل عينه لكل شخص ولكل شيء. فهذه الفكرة جزء لا يتجزأ من الصورة النيوتنية للعالم، وأغلبنا يعتبرها صحيحة على نحو بديهي لدرجة أنها لا تستدعي النقاش من الأساس. وقد تطلب الأمر عبقريًّا حقيقيًّا لتحطيم تلك الحواجز المفاهيمية الضخمة.
لم يكن أينشتاين أول من فكر في مفهوم النسبية. فقد عبَّر جاليليو عن المبدأ الأساسي للنسبية قبله بنحو ثلاثة قرون؛ إذ زعم أن الحركة النسبية وحدها هي التي تهم، وبذا لا يمكن أن يكون هناك وجود لما يسمى الحركة المطلقة. وقد ذهب إلى أنك لو كنت تسافر على متن سفينة ذات سرعة ثابتة على سطح بحيرة هادئة، ما من شأن أي تجربة تجريها داخل حجيرة مغلقة داخل تلك السفينة أن توحي بأنك تتحرك على الإطلاق. بطبيعة الحال لم يكن الكثير معروفًا عن الفيزياء في عصر جاليليو؛ لذا كانت نوعية التجارب التي تصوَّرها محدودة نوعًا ما.
كل ما فعلتْه نسخة أينشتاين من مبدأ النسبية هو أن حوَّلتْه إلى نص يقضي بأن كل قوانين الطبيعة يجب أن تكون متماثلة تمامًا في نظر كل الراصدين الذين يتحركون حركة نسبية. وتحديدًا، قرر أينشتاين أن هذا المبدأ يجب أن ينطبق على نظرية الكهرومغناطيسية، التي أرساها جيمس كلارك ماكسويل، والتي تصف من ضمن ما تصف القوى العاملة بين الأجسام المشحونة المذكورة سابقًا. ومن تبعات نظرية ماكسويل أن سرعة الضوء (في الفراغ) تبدو على صورة ثابت عام. ويعني تبنِّي مبدأ النسبية بجدِّيَّة أن كل الراصدين يجب أن يقيسوا القيمة عينها لسرعة الضوء، بغَضِّ النظر عن حالة حركتهم. يبدو هذا أمرًا بسيطًا، بَيْدَ أن تبعاته كانت ثورية بكل ما تحمله الكلمة من معنًى.
قرر أينشتاين أن يسأل نفسه أسئلة محددة بشأن ما سيتم رصده في أنواع معينة من التجارب تتضمن تبادلًا لإشارات الضوء. وقد عمل كثيرًا على هذا النوع من التجارب الفكرية. على سبيل المثال، تخيَّلْ أن هناك مصباحًا ضوئيًّا موضوعًا في منتصف عربة سكك حديدية تتحرك على قضيب. في كل طرف من طرفَيِ العربة هناك ساعة حائط، ونستطيع أن نرى الوقت الذي تسجله كل ساعة حين تضيئها نبضة الضوء الصادرة عن المصباح. حين تنطلق نبضة الضوء من المصباح، تصل الإشارة الضوئية إلى كلا طرفَيِ العربة في الوقت عينه، وذلك من منظور المسافرين الجالسين داخل العربة. ويُرى الوقت عينه على كل ساعة.
الآن تصور ما يحدث من منظور راصد جالس في سكون على الرصيف يشاهد القطار وهو يعبُر أمامه. تتحرك نبضة الضوء في هذا الإطار المرجعي بنفس سرعة تحركها في نظر المسافرين. لكنَّ المسافرين الموجودين في مؤخرة العربة يتحركون نحو الإشارة، بينما المسافرون الموجودون في مقدمة العربة يتحركون مبتعدين عنها. ومِن ثَمَّ يرى هذا الراصد الساعة الموجودة في مؤخرة عربة القطار قبل أن يرى الساعة الموجودة في مقدمتها. لكن حين تضيء نبضة الضوء الساعة الموجودة في المقدمة، يكون الوقت المسجَّل عليها هو الوقت عينه الذي أظهرتْه الساعة الموجودة في المؤخرة! ومن هنا لا بد أن يستنتج هذا الراصد أنَّ ثمَّة خطأً ما في الساعتين الموجودتين على القطار.
يوضح هذا المثال أن مبدأ التزامن نسبي. فوصول نبضتَيِ الضوء يكون متزامنًا داخل الإطار المرجعي الخاص بالعربة، بَيْدَ أنه يحدث في وقتين مختلفين في الإطار المرجعي الخاص بالراصد الموجود على الرصيف. ومن الأمثلة الأخرى على الظواهر النسبوية العجيبة كلٌّ من الإبطاء الزمني (بمعنى أن الساعة تبدو وكأنها تسير ببطء) وتقلُّص الأطوال (بمعنى أن المساطر المتحركة تبدو أقلَّ طولًا). كل هذه تبعات لافتراض أن سرعة الضوء يجب أن تكون ثابتة في نظر كل الراصدين. بطبيعة الحال الأمثلة المبيَّنة سابقًا غير واقعية إلى حدٍّ ما. فَلِكَي تُحدث السرعات أي تأثيرات ملحوظة، يجب أن تكون قريبة من سرعة الضوء. ومن غير المرجح أن يتم الوصول إلى مثل هذه السرعات في عربات القطار. ومع ذلك، ثمة تجارب أوضحت أن تأثيرات الإبطاء الزمني حقيقية. ومعدل تحلل الجسيمات المشعة يصير أبطأ كثيرًا حين تتحرك على سرعات عالية لأن ساعتها الداخلية تسير على نحوٍ أبطأَ.
أنتجت النسبية الخاصة كذلك أشهر معادلة في الفيزياء كلها؛ الطاقة تساوي الكتلة مضروبةً في مربع سرعة الضوء، وهي معادلة تعبِّر عن التكافؤ بين المادة والطاقة. وقد تم التحقق من صحة هذا المبدأ تجريبيًّا، وهو الذي يقف، ضمن مبادئَ أخرى، وراء الانفجارات الذَّرِّيَّة والكيميائية.
لكن رغم روعة النسبية الخاصة فإنها غير كاملة؛ نظرًا لأنها تتعامل فقط مع الأجسام المتحركة بسرعات ثابتة بعضها بالنسبة إلى بعضٍ. لكن حتى الفصل الأول من قوانين الطبيعة، الذي وضعه نيوتن، بُني حول مُسَبِّبات ونتائج السرعات التي تتغير مع مرور الزمن. وقانون نيوتن الثاني يتعلق بمعدل تغير زخم الأجسام، وهو ما يعني بلغة رجل الشارع التسارع أو العجلة. فالنسبية الخاصة منحصرة داخل نطاق ما يسمى الحركة القصورية؛ أي حركات الجسيمات التي لا تؤثِّر فيها قوًى خارجية. وهذا يعني أن النسبية الخاصة لا يمكنها أن تصف الحركة المتسارعة من أي نوع، وتحديدًا لا يمكنها أن تصف الحركة تحت تأثير الجاذبية.
مبدأ التكافؤ
كان لدى أينشتاين أفكار فَطِنَة بشأن كيفية دمج الجاذبية داخل نظرية النسبية. بادئ ذي بدء، لنتدبر نظرية نيوتن للجاذبية. وفق هذه النظرية فإن القوة الواقعة على جسيم كتلته (ك) بسبب جسيم آخر كتلته (ك١) إنما تعتمد على محصلة هاتين الكتلتين ومربع المسافة بين الجسيمين. ووفق قوانين نيوتن للحركة فإن هذا يسبب تسارعًا في الجسيم الأول بموجِب المعادلة: القوة تساوي الكتلة مضروبة في التسارع. والكتلة في هذه المعادلة تسمى الكتلة القصورية للجسيم، وهي تحدد مقاومة الجسيم للتسارع. لكن في قانون التربيع العكسي للجاذبية تقيس الكتلة استجابة الجسيم لقوة الجاذبية التي أنتجها الجسيم الآخر، ومِن ثَمَّ يطلق عليها كتلة الجاذبية السالبة. إلا أن قانون نيوتن الثالث ينص أيضًا على أنه لو بذل الجسم (أ) قوة على الجسم (ب)، فإن الجسم (ب) بدوره يبذل قوة على الجسم (أ) تكون مكافئة في المقدار ومضادة في الاتجاه. وهذا يعني أن كتلة الجسيم يجب أيضًا أن تكون كتلة الجاذبية الموجبة (إذا شئت فسَمِّها شحنة الجاذبية) التي ينتجها الجسيم. وفق نظرية نيوتن كل هذه الكتل الثلاث — الكتلة القصورية وكتلتا الجاذبية الموجبة والسالبة — متكافئة. لكن لا يبدو، ظاهريًّا، أنه يوجد سبب يفرض أن يكون الحال كذلك. ألا يمكن أن تكون تلك الكتل مختلفة؟
قرر أينشتاين أن هذا التكافؤ هو نتيجة لمبدأ أعمق أسماه «مبدأ التكافؤ». وهذا يعني — كما عبر عن الأمر بكلماته — أن «جميع المختبرات الساقطة سقوطًا حرًّا والموجودة في نفس الإطار متكافئة من حيث أداء كل التجارب الفيزيائية.» وهو يعني بهذا أنه يمكننا التغاضي عن الجاذبية بوصفها قوة مستقلة من قوى الطبيعة واعتبارها بدلًا من ذلك محض نتيجة للحركة بين الأُطُر المرجعية المتسارعة.
لرؤية الكيفية التي يتحقق بها هذا، تخيل أن هناك مصعدًا يحمل داخله مختبر فيزياء. إذا كان المصعد في حالة سكون على الطابق الأرضي، فستكشف التجارب عن وجود الجاذبية للموجودين بالمصعد. على سبيل المثال، إذا علقنا ثقلًا في زنبرك مثبت إلى سقف المصعد، فسيتسبب الثقل في استطالة الزنبرك إلى الأسفل. بعد ذلك تخيل أننا أخذنا المصعد إلى الطابق العلوي بالمبنى ثم تركناه يسقط سقوطًا حرًّا. داخل هذا المصعد الساقط سقوطًا حرًّا لن تكون هناك أية جاذبية يمكن إدراكها. لن يستطيل الزنبرك؛ لأن الثقل سيسقط بنفس معدل هبوط المصعد، رغم أن سرعة الهبوط قد تكون متغيرة. هذا هو ما سيحدث إذا أخذنا المصعد إلى الفضاء الخارجي، بعيدًا عن مجال الجاذبية لكوكب الأرض. فغياب الجاذبية سيبدو شبيهًا للغاية بحالة السقوط الحر استجابةً إلى قوة جاذبة. علاوة على ذلك، تخيل أن مصعدنا كان في الفضاء بالفعل (وبعيدًا عن مجال الجاذبية)، لكن كان هناك صاروخ مثبت إليه؛ سيتسبب تشغيل الصاروخ في جعل المصعد يتسارع. لا وجود لاتجاهات مثل «أعلى» و«أسفل» في الفضاء، لكن دعنا نفترض أن الصاروخ مثبت بحيث يتسارع المصعد في الاتجاه المعاكس للاتجاه السابق؛ أي في اتجاه سقف المصعد.
ما الذي سيحدث للزنبرك؟ الإجابة هي أن التسارع سيجعل الثقل يتحرك في الاتجاه المعاكس لاتجاه حركة المصعد، ومن ثم يستطيل الزنبرك نحو أرضية المصعد. (هذا أشبه بما يحدث حين تتسارع السيارة بغتة؛ إذ تندفع رءوس الركاب إلى الخلف بقوة.) لكن هذا مماثل تمامًا لما حدث حين كان هناك مجال جاذبية يجذب الزنبرك إلى الأسفل. إذا واصل المصعد تسارعه، فسيظل الزنبرك مفرودًا، تمامًا وكأنه ليس خاضعًا للتسارع، وإنما خاضعٌ لتأثير مجال جاذبية. كانت فكرة أينشتاين هي أن هذه المواقف لا تبدو متشابهة وحسْبُ؛ بل تستحيل التفرقة بينها من الأساس. فأي تجربة تؤدَّى في مصعد متسارع في الفضاء ستعطينا نفس النتيجة تمامًا، التي تعطينا إياها تجربة تؤدَّى في مصعد تُبذَل عليه قوة الجاذبية. ولإكمال الصورة، تخيل الآن أن هناك مصعدًا موضوعًا داخل منطقة خاضعة لقوة الجاذبية، لكن يُسمح له بالسقوط الحر في مجال الجاذبية. كل شيء داخل هذا المصعد يصير عديم الوزن، ولن يستطيل الزنبرك. وهذا مكافئ للموقف الذي يكون فيه المصعد في حالة سكون دون أن تؤثر فيه أية قوى جاذبية. ولدى الراصد الذي يسقط سقوطًا حرًّا كل الأسباب التي تدعوه لأن يعتبر نفسه في حالة حركة قصورية.
نظرية النسبية العامة
بات أينشتاين يعلم حينها كيف يصوغ نظرية النسبية العامة، بَيْدَ أنه احتاج عشر سنوات كي يُخرج النظرية في شكلها النهائي. كان ما عليه أن يجده هو مجموعة من القوانين التي يمكنها التعامل مع أية صورة من صور الحركة المتسارعة وأية صورة من تأثيرات الجاذبية. ولعمل هذا كان عليه أن يتعلم بعض الأساليب الرياضية المعقدة، على غرار التحليل الموتِّر والهندسة الريمانية، وأن يبتكر صيغة شكلية عامة حقًّا بحيث تصف كل الحالات الممكنة للحركة. وقد حقق مبتغاه، لكن من الواضح أن طريقه لم يكن سهلًا. ورغم أن أوراقه البحثية الكلاسيكية التي نشرها عام ١٩٠٥ اتسمتْ بالوضوح الفائق في الفكر وبالاقتصاد في الحسابات الرياضية، فإن أعماله اللاحقة تعج بالصعوبات الفنية. وقد ذهب البعض إلى أن أينشتاين نضج كعالِم أثناء عمله على تطوير النسبية العامة. وإذا كان هذا صحيحًا فلا بد أنها كانت عملية شاقة.
إن فهم التفاصيل الفنية لنظرية النسبية العامة مهمة شاقة بحقٍّ، فحتى على المستوى المفاهيمي من العسير استيعاب هذه النظرية. ونسبية الزمن المجسدة في النسبية الخاصة حاضرة في النسبية العامة، لكن هناك تأثيرات إضافية للإبطاء الزمني وتقلص الأطوال بسبب تأثيرات الجاذبية. ولا تقتصر المشكلات على الزمن وحده؛ ففي النسبية الخاصة يطيع المكان على الأقل مفاهيمنا التقليدية، لكن في النسبية العامة حتى هذا يتغير؛ إذ يصير المكان منحنيًا.
انحناء المكان
إن فكرة انحناء المكان أو تقوسه عَصِيَّة للغاية على الاستيعاب، لدرجة أن الفيزيائيين لا يحبون في الواقع تصور الأمر ذهنيًّا. ففَهْمنا للخصائص الهندسية لعالمنا الطبيعي مبني على ما تحقق من إنجازات على يد أجيال من الرياضيين الإغريق، ومن أبرزها نظام إقليدس الشكلي الذي يضم أشياء على غرار نظرية فيثاغورس ومفهوم أن الخطوط المتوازية لا تتقاطع وأن مجموع الزوايا الداخلية للمثلث يساوي ١٨٠ درجة، وما إلى ذلك. كل هذه القواعد جزء من صرح الهندسة الإقليدية. لكن هذه القوانين والنظريات ليست محض رياضيات مجردة. فنحن نعلم من واقع خبرتنا اليومية أنها تصف خواص العالم المادي على نحو طيب للغاية. إن قوانين إقليدس تُستخدم كل يوم من جانب المعماريين والمسَّاحين والمصممين ورسامي الخرائط؛ أي فعليًّا من جانب كل شخص ذي علاقة بخواص شكل المكان وموضع الأجسام فيه. فالهندسة علم واقعي ملموس.
ومِن ثَمَّ، يبدو من البديهي أن هذه الخواص المكانية التي تشرَّبناها منذ الصغر ينبغي أن تنطبق على ما يتجاوز نطاق مبانينا والأراضي التي نمسحها. فمن المفترض أن تنطبق على الكون إجمالًا. ولا بد أن قوانين إقليدس جزء لا يتجزأ من نسيج العالم نفسه. أم الأمرُ خلاف ذلك؟ لكن رغم أن قوانين إقليدس تتَّسم بالأناقة الرياضية والإقناع المنطقي، فإنها ليست المجموعة الوحيدة من القواعد التي يمكن أن تشيِّد نظامًا هندسيًّا. وقد أدرك رياضيون من القرن التاسع عشر، على غرار جاوس وريمان، أن قوانين إقليدس تمثل فقط حالة خاصة من الهندسة يكون فيها سطح المكان منبسطًا. ومن الممكن تشييد أنظمة أخرى يتم فيها خرق هذه القوانين.
فكِّر، على سبيل المثال، في مثلث مرسوم على ورقة منبسطة. تنطبق نظريات إقليدس على هذه الحالة، وبذا يجب أن يساوي مجموع الزوايا الداخلية للمثلث ١٨٠ درجة (أي ما يعادل مجموع زاويتين قائمتين). لكن فكِّر الآن فيما سيحدث إذا رسمتَ مثلثًا على سطح كرة. فمن الممكن أن ترسم مثلثًا على سطح كرة يكون به ثلاث زوايا قائمة. على سبيل المثال، ارسُم نقطة عند «القطب الشمالي» ونقطتين عند «خط الاستواء» يفصلهما مساحة تعادل ربع محيط الكرة. هذه النقاط الثلاث تشكِّل مثلثًا ذا ثلاث زوايا قائمة يخالف الهندسة الإقليدية.
هذا النوع من التفكير يصلح على نحو طيب بالنسبة إلى الهندسة ثنائية الأبعاد، لكن عالمنا له ثلاثة أبعاد مكانية. وتخيُّلُ مكانٍ منحَنٍ ثلاثي الأبعاد أمرٌ أكثر صعوبة بكثير. لكن على أي حال من الخطأ على الأرجح التفكير في «المكان» من الأساس. فعلى أي حال، لا يمكننا قياس المكان. بل ما يمكننا قياسه هو المسافات بين الأجسام الواقعة داخل المكان باستخدام المساطر أو، على نحو أكثر واقعية في السياق الفلكي، أشعة الضوء. إن التفكير في المكان بوصفه قطعة ورق منبسطة أو منحنية يشجعنا على التفكير فيه بوصفه شيئًا ملموسًا في حد ذاته، بدلًا من كونه الموضع الذي توجد فيه كل الأشياء الملموسة. وقد حاول أينشتاين دائمًا أن يتجنب التعامل مع كيانات على غرار «المكان» يكون توصيفها كَفِئَة في الوجود غير واضح. وقد كان يفضل أن يفكر بدلًا من ذلك فيما يمكن أن يتوقع الراصد قياسه في أي تجربة بعينها.
احتذاءً بهذا المنظور، يمكننا أن نسأل أنفسنا عن المسار الذي ستتخذه أشعة الضوء وفقًا لنظرية النسبية العامة. في الهندسة الإقليدية ينتقل الضوء في خطوط مستقيمة. وبإمكاننا أن نعتبر انتقالَ الضوء في خطوط مستقيمة يعني بالأساس أن المكان منبسط. في النسبية الخاصة، ينتقل الضوء في خطوط مستقيمة؛ لذا يكون المكان منبسطًا وفق هذه النظرة للعالم. لكن تذكَّرْ أن النسبية العامة تنطبق على الحركة المتسارعة، أو الحركة في وجود تأثيرات جاذبية. فما الذي سيحدث للضوء في هذه الحالة؟
دعونا نَعُدْ إلى التجربة الفكرية التي تتضمن المصعد. وبدلًا من وجود زنبرك معلق في طرفه ثقل، يكون المصعد الآن مزودًا بأداة تطلق شعاعًا من الليزر ينطلق من أحد جوانبه إلى الجانب المقابل له. المصعد موجود في أعماق الفضاء، بعيدًا عن أي جاذبية. إذا كان المصعد ساكنًا، أو يتحرك بسرعة ثابتة، فإن شعاع الضوء المنطلق سيرتطم بالنقطة المقابلة تمامًا للأداة التي أطلقت شعاع الليزر. هذا هو التنبؤ الذي تخرج به النسبية الخاصة. لكن تخيل الآن أن المصعد مثبَّت إليه صاروخ وأن تشغيل الصاروخ سيدفع المصعد إلى التسارع إلى الأعلى. الراصد الساكن الموجود خارج المصعد سيرى هذا المصعد وهو يتسارع في الحركة، لكن إذا رأى شعاع الليزر من الخارج فسيظل في نظره مستقيمًا بالمثل. على الجانب الآخر، سيلاحظ الفيزيائي الموجود داخل المصعد شيئًا غريبًا. ففي خلال الفترة الوجيزة التي استغرقها الشعاع في الانتقال من أحد الجانبين إلى الجانب الآخر ستكون حالة الحركة الخاصة بالمصعد قد تغيرت. فقد تسارع المصعد، وبذا صار يتحرك عند نهاية رحلة شعاع الضوء بسرعة أكبر مما كان الحال عند بداية هذه الرحلة. وهذا يعني أن النقطة التي سيرتطم بها شعاع الليزر في الحائط ستكون في موضع أكثر انخفاضًا بقليل من النقطة التي انطلق منها الشعاع على الجانب الآخر. فمن منظور الراصد الموجود داخل المصعد، تسبب التسارع في «إحناء» شعاع الضوء إلى أسفل.
الآن تذكر حالة الزنبرك ومبدأ التكافؤ. حين لا يوجد تسارع، وإنما يوجد بدلًا منه مجال جاذبية يكون الموقف متشابهًا للغاية من منظور المصعد. تدبَّر الآن حالة مصعد موجود على سطح الأرض. يحدث لشعاع الضوء الأمر عينه تقريبًا الذي حدث في حالة المصعد المتسارع؛ إذ ينحني الضوء إلى أسفل. ومن هذا نخْلُص إلى أن الجاذبية تحني الضوء. وإذا لم تكن مسارات الضوء مستقيمة، بل منحنية، فهذا يعني أن المكان ليس منبسطًا بل منحنيًا.
من أسباب صعوبة استيعاب عقولنا لفكرة المكان المنحني أننا لا نلحظ هذا الأمر في حياتنا اليومية. وهذا يرجع إلى أن الجاذبية تكون ضعيفة في الظروف الشائعة المعتادة. وحتى على نطاق المجموعة الشمسية، تكون الجاذبية ضعيفة لدرجة أن تأثير الانحناء الذي تتسبب فيه لا يُذكَر، وينتقل الضوء في خطوط مقاربة للغاية للخطوط المستقيمة لدرجة أننا لا نلحظ الفارق. تُعَدُّ قوانين نيوتن بمنزلة تقريبات مفيدة للغاية لما يحدث، إلا أن هناك حالات علينا أن نُعِدَّ أنفسنا فيها للتعامل مع الجاذبية القوية ومع كل ما يستتبعه هذا الأمر.
الثقوب السوداء والكون
أحد أمثلة المواقف التي تنهار عندها جاذبية نيوتن هو حين يتركز مقدار كبير للغاية من المادة في منطقة صغيرة للغاية من المكان. وحين يحدث هذا يكون تأثير الجاذبية قويًّا للغاية، ويكون المكان منحنيًا للغاية، لدرجة أن الضوء نفسه لا ينثني وحسب بل يُحبَس. ويطلق على جسم كهذا اسم «الثقب الأسود».
ترجع فكرة احتمال وجود الثقوب السوداء في الطبيعة إلى جون ميتشل، القس الإنجليزي، الذي طرحها عام ١٧٨٣، كما ناقشها أيضًا لابلاس. إلا أن هذه الأجسام عادةً ما ترتبط بنظرية النسبية العامة لأينشتاين. في الواقع، كان أحد أوائل الحلول الرياضية لمعادلات أينشتاين يصف هذه الأجسام. فقد تم التوصل إلى حل «شفارتزشيلد» عام ١٩١٦، بعد عام واحد فقط من نشر نظرية أينشتاين، وذلك على يد كارل شفارتزشيلد، الذي تُوُفِّي بعد وقت قصير على الجبهة الشرقية في الحرب العالمية الأولى. يتوافق الحل مع التوزيع المتناظر كرويًّا للمادة، وكان مقصودًا به في الأساس أن يشكِّل أساسًا لنموذج رياضي لأحد النجوم. لكن سريعًا ما أُدرك أن حل شفارتزشيلد يقضي بوجود نصف قطر حرج (يسمى الآن «نصف قطر شفارتزشيلد») لأي جسم مهما كانت كتلته. وإذا وقع جسم ضخم بالكامل داخل نصف قطر شفارتزشيلد الخاص به، فعندئذٍ لا يستطيع أي ضوء أن يُفلت من سطح هذا الجسم. بالنسبة لكتلة الأرض، يبلغ نصف القطر الحرج سنتيمترًا واحدًا فقط، بينما يبلغ في حالة الشمس ثلاثة كيلومترات. وكي يصل الجسم إلى مرحلة الثقب الأسود لا بد أن تنضغط مادته حتى مستويات كثافة استثنائية.
منذ العمل الرائد لشفارتزشيلد أُجريتْ دراسات عدة على الثقوب السوداء. ورغم أنه لا يوجد حتى الآن دليل دامغ غير قابل للدحض على وجود الثقوب السوداء في الطبيعة، فإن هناك عددًا كبيرًا من الأدلة الظرفية التي تقترح أن هذه الثقوب تقبع في قلب العديد من البِنى الفلكية. ويُعتقد أن مجال الجاذبية الشديد المحيط بثقب أسود كتلته أكبر من كتلة الشمس بمائة مليون مرة هو المحرِّك الذي يوجه السطوع الهائل لأنواع بعينها من المجرات. وتشير الدراسات الحديثة التي أُجريتْ على حركة النجوم قرب مراكز المجرات إلى وجود تركيزات قوية للغاية من المادة عادةً ما ترتبط بثقوب سوداء ذات كتل تُقارِب هذا الرقم. وثمة اعتقاد قوي باحتمال وجود ثقب أسود في قلب كل مجرة. وقد تتكون ثقوب سوداء ذات كتل أصغر كثيرًا في نهاية حياة النجم، حين تنضب مصادر طاقته وينهار على نفسه.
ثمة اهتمام كبير في وقتنا الحاضر بموضوع الثقوب السوداء، لكنها ليست ذات أهمية محورية في تطور علم الكونيات؛ لذا لن أناقشها بمزيد من التفصيل في هذا الكتاب. وبدلًا من ذلك سأناقش في الفصل التالي الدور الذي لعبتْه نظرية أينشتاين في فهمنا لسلوك الكون ككلٍّ.