المبادئ الأولى
نشر أينشتاين نظرية النسبية العامة في عام ١٩١٥. وبعد ذلك على الفور تقريبًا سعى إلى استغلال هذا الإطار النظري الجديد في تفسير السلوك الواسع النطاق للكون بأسره. بَيْدَ أن قلة المعلومات المتاحة له بشأن ما كان يحاول تفسيره صعَّبَت عليه تحقيق مبتغاه. ما هو شكل الكون بالفعل؟ كانت معرفة أينشتاين بعلم الفلك هزيلة، لكنه كان بحاجة لمعرفة إجابات بعض الأسئلة الجوهرية قبل أن يواصل مسعاه. كان يعلم أن الفكر المجرد وحده لن يخبره عما ينبغي أن يكون عليه شكل الكون أو سلوكه؛ فلا بد من أن يسترشد بالمشاهدات والتخمينات.
البساطة والتناظر
ما من شك في أن النسبية العامة توفر إطارَ عمل مفاهيميًّا أنيقًا، وهو ما حاولتُ شرحه باستخدام التجارب الفكرية والصور. لكن الحقيقة القاسية هي أنها تتضمن بعضًا من أصعب المعادلات الرياضية التي جرى تطبيقها على أحد توصيفات الطبيعة. وللحصول على فكرة عن مدى تعقيدها، من المفيد مقارنة نظرية أينشتاين بالنهج النيوتني الأقدم.
في نظرية نيوتن للحركة يوجد بالأساس معادلة رياضية واحدة تحتاج إلى حل، وهي: القوة تساوي الكتلة مضروبة في التسارع، وهي تربط القوة المبذولة على جسمٍ ما بتسارع ذلك الجسم. الأمر يبدو بسيطًا بما يكفي، لكن في الواقع العملي قد يكون وصف الجاذبية باستخدام هذا النهج أمرًا معقدًا لدرجة محيرة. السبب وراء ذلك هو أن كل جزء من المادة في الكون يبذل قوة جاذبية على كل جزء آخر. ومن الأيسر نسبيًّا تطبيق هذه الفكرة على حركة جسمين متفاعلين، كالشمس والأرض، لكن إذا بدأتَ في إضافة المزيد من الأجسام فستصير الأمور أكثر صعوبة بكثير. في الواقع، رغم أنه يوجد حل رياضي دقيق لنظرية نيوتن فيما يخص جسمين يدور أحدهما حول الآخر، فإنه لا يوجد حل عام معروف لأي موقف أكثر تعقيدًا من هذا، حتى إن تضمن ثلاثة أجسام وحسب. وتطبيق نظرية نيوتن على منظومات تضم مجموعات ضخمة من الأجسام التي يبذل بعضها قوة جاذبية على بعضٍ؛ أمرٌ صعب للغاية ويتطلب عادةً استخدام حاسبات قوية لفهم ما يحدث. الاستثناء الوحيد هو حين تتضمن المنظومة بعض التناظر المبسِّط، كما في حالة الكرة، أو تملك عناصر موزعة بانتظام في أرجاء المكان.
إن نظرية نيوتن صعبة التطبيق في المواقف الواقعية، أما نظرية أينشتاين فهي كابوس حقيقي. بادئ ذي بدء، بدلًا من المعادلة الوحيدة الموجودة في نظرية نيوتن، يوجد ما لا يقل عن عشر معادلات في نظرية أينشتاين يجب أن يتم حلها كلها على نحو متزامن. وكل معادلة منفصلة أكثر تعقيدًا بكثير من قانون التربيع العكسي البسيط لنيوتن. وبسبب التكافؤ بين المادة والطاقة الذي تمنحه لنا المعادلة: «الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء»، فجميع صور الطاقة تبذل قوة جاذبية. إن مجال الجاذبية الذي ينتجه أي جسم هو في حد ذاته نوع من الطاقة، ومِن ثَمَّ فهو أيضًا له قوة جاذبية. وهذه المعضلة الشبيهة بمعضلة «من جاء أولًا، البيضة أم الدجاجة؟» يسميها الفيزيائيون «اللاخطية»، وهي تؤدي عادةً إلى تعقيد رياضي خارج عن السيطرة حين يتعلق الأمر بحل المعادلات. هذا هو حال النسبية العامة. فالحلول الرياضية الدقيقة لمعادلات أينشتاين قليلة للغاية وتتخللها فجوات كبيرة. وحتى في حالة التناظر الخاص تطرح النظرية تحديات خطيرة أمام الرياضيين والحاسبات على حد سواء.
كان أينشتاين يعلم أن معادلاته صعبة الحل، وأنه لن يستطيع إحراز تقدم كبير ما لم يفترض أن الكون يتسم بنوع من التناظر أو الاتساق المبسِّط. ففي عام ١٩١٥ كان نزْر يسير نسبيًّا معروفًا بشأن الكيفية التي تتوزع بها محتويات الكون، وكان العديد من الفلكيين يشعرون أن مجرة درب التبانة ما هي إلا «جزيرة كونية وحيدة»، فيما رأى آخرون أنها مجرد واحدة من العديد من الأجرام المتناثرة على نحو متناسق في أرجاء الفضاء. وقد راقت الفكرة الأخيرة لأينشتاين بشكل أكبر. فمجرة درب التبانة تجميعة دميمة من الغازات والغبار والنجوم، وكل هذا سيصعُب للغاية وصفه على نحو ملائم لو أنه يمثل الكون بأسره. أما الخيار الثاني فكان أفضل من حيث إنه يسمح بوجود توصيف مقبول بدرجة ما، فيه تمثِّل مجرة درب التبانة وغيرها من المجرات الأخرى تفاصيلَ دقيقة في توزيع متَّسق متجانس إجمالًا للمادة. أيضًا كان لدى أينشتاين أسباب فلسفية تجعله يفضل الاتساق الواسع النطاق، وهي نابعة من فكرة يطلق عليها مبدأ ماخ. فإذا كان الكون متماثلًا في مواضعه كافةً، فسيكون بمقدوره إرساء نظريته الكونية على أساس راسخ عن طريق السماح لتوزيع المادة بأن يحدد إطارًا مرجعيًّا خاصًّا من شأنه أن يساعده في التعامل مع تأثيرات الجاذبية.
وهكذا، مستعينًا بأدلة رصدية قليلة للغاية، قرر أينشتاين أن يبسِّط الكون الذي وصفه عن طريق جعْله متجانسًا (أي متماثلًا في كل مكان)، على الأقل على مقياس أكبر كثيرًا من التكتلات المرصودة (أي المجرات). كما افترض أيضًا أن الكون متوحِّد الخواص (أي يبدو بالشكل نفسه من أي اتجاه). وهذان الافتراضان المتلازمان معًا يشكلان «المبدأ الكوني».
المبدأ الكوني
إن افتراضَيِ التجانس وتوحد الخواص مرتبطٌ كلٌّ منهما بالآخر، بَيْدَ أنهما غير متكافئينِ. فتوحُّد الخواص لا يعني بالضرورة التجانس، إلا إذا وضعنا افتراضًا إضافيًّا يتمثل في ألَّا يكون الراصد في موضع خاص. فمن شأن المرء أن يرصد توحد الخواص في أي توزيع كروي للمادة، لكن هذا يحدث فقط حين يكون في المنتصف تمامًا. إن السجادة الدائرية المرسوم عليها أشكال هي عبارة عن سلسلة من الحلقات متحدة المركز، ستبدو متوحدة الخواص في نظر الراصد الواقف في منتصف هذه الأشكال. ويطلق على المبدأ القائل إننا لا نعيش في موضع ذي أهمية خاصة في الكون اسمُ «المبدأ الكوبرنيكي»، وهي التسمية التي توحي بالدَّيْن الذي يدين به علم الكونيات الحديث للتاريخ. وتوحُّد الخواص المرصود، بالإضافة إلى المبدأ الكوبرنيكي، يفضيان بنا إلى المبدأ الكوني. من الواضح أن مجرة درب التبانة لا تتسم بتوحد الخواص، وهو ما يعلمه كل مَن يدور بناظريه في سماء الليل. فهي تشغل شريطًا منفصلًا يمتد عبر السماء، وإذا كان الكون يتكون فقط من مجرة درب التبانة فلن يتسق مع المبدأ الكوني.
رغم ما تتسم به التسمية «المبدأ الكوني» من فخامة، فعلينا ألَّا ننخدع في أصل هذه التسمية. ففي أحيان كثيرة تُستحدث المبادئ من أجل السماح بحدوث بعض التقدم حين لا يكون لدينا بيانات يمكن الاعتماد عليها، وليس علم الكونيات باستثناء. ومن المعروف الآن أن هذا التخمين اتضحتْ صحتُه بالأساس. ففي عشرينيات القرن العشرين تأكد تمامًا أن السُّدُم واقعة خارج مجرة درب التبانة، ويبدو أن الدراسات الرصدية الأحدث للتوزيع الواسع النطاق للمجرات وإشعاع الخلفية الميكروني الكوني (الذي سنتناوله بالنقاش في الفصل السابع) تشير إلى أن الكون يتسم بالتجانس على النطاقات الكبرى مثلما تتطلب هذه الفكرة. ولم يتوصل علماء الفيزياء الفلكية إلى تفسير منطقي مقنع للسبب الذي يجعل الكون يتسم بهذا التناظر الخاص إلا في وقت قريب للغاية. وقد أُطلق على الأصل الغامض لهذا التجانس والاتساق اسم «مشكلة الأفق»، وهي واحدة من القضايا التي تناولتْها فكرة التضخم الكوني التي سنناقشها في الفصل الثامن.
خطأ أينشتاين الفادح
متسلحًا بالمبدأ الكوني، تمكن أينشتاين من بناء نماذج رياضية متسقة ذاتيًّا للكون. لكن على الفور واجهتْه مشكلة عويصة؛ إذ كان من التبعات التي يستحيل تجنبها لنظريته أن يكون الزمكان ديناميكيًّا بالضرورة، وذلك في أي حل لمعادلاته يتم فيه استخدام المبدأ الكوني. وهذا يعني أن من المستحيل عليه أن ينشئ نموذجًا يكون فيه الكون ساكنًا وغير متغير مع مرور الزمن. فقد حتَّمت نظريته أن يكون الكون إما آخذًا في التمدد وإما آخذًا في الانكماش، رغم أنها لم تحدِّد أي الإمكانيتين هي الواقع بالفعل. لم يكن أينشتاين يملك معرفة كبيرة بعلم الفلك؛ لذا سأل بعض الخبراء عن حركة النجوم البعيدة. لكن من المحتمل أنه وجَّه الأسئلة الخطأ؛ لأنه حصل على إجابات تفيد بأنه في المتوسط لم تكن النجوم تقترب من الشمس أو تبتعد عنها. وهذا صحيح فقط في حدود مجرتنا، لكننا نعلم الآن أن هذا ليس الحال فيما يخص المجرات الأخرى.
كان أينشتاين مقتنعًا بأن الكون يجب أن يكون ساكنًا لدرجة أنه عاد مرة أخرى إلى معادلاته لتصحيحها. وقد أدرك أن بإمكانه الاحتفاظ بشكلها الأساسي، لكن مع إضافة تعديل بسيط من شأنه أن يعادل مَيل هذه النماذج الكونية إلى التمدد أو الانكماش مع مرور الزمن. وقد أُطلق على التعديل الذي أدخله اسم «الثابت الكوني». وهذا المصطلح الجديد في النظرية يمثل تعديلًا لسلوك الجاذبية على النطاقات الكبيرة للغاية. فالثابت الكوني يسمح للمكان نفسه بأن يميل للتمدد أو الانكماش، ومن الممكن ضبطه داخل النظرية بحيث يعادل تمامًا التمدد أو الانكماش الذي لولاه لتحتم على الكون أن يتسم به.
راضيًا عن هذا الحل مؤقتًا، مضى أينشتاين إلى بناء نموذج كوني ساكن، ونشره عام ١٩١٧. بعدها بعدة سنوات، نشر هابل عام ١٩٢٩ النتائج التي أدَّتْ إلى قبول فكرة أن الكون لم يكُنْ ساكنًا على الإطلاق، بل كان آخذًا في التمدد. ومِن ثَمَّ ليس لنموذج أينشتاين الآن أية أهمية إلا من منظور الاهتمام التاريخي وحسب. فدون الحاجة إلى منع التمدد الكوني، لم يكن هناك ما يدعو أينشتاين إلى استحداث الثابت الكوني. وفي سنواته الأخيرة أشار أينشتاين إلى هذا الحدث بوصفه أفدح خطأ ارتكبه في مسيرته العلمية. وعادةً ما يُعتقد أن هذا التعليق مقصود به الثابت الكوني ذاته، لكن الخطأ الحقيقي كان فشله في التنبؤ بتمدد الكون.
رغم أنه حتى وقت قريب كان أغلب علماء الكونيات يتجاهلون الثابت الكوني في نماذجهم، فإنه لم يذهب طيَّ النسيان في حقيقة الأمر. فقد ظل موجودًا يرمقنا من طرف خفي. وفي وقتنا الحالي، كما سنرى في فصول لاحقة، عاد الثابت الكوني من جديد ليلعب دورًا محوريًّا. إلا أنني سأنحِّيه جانبًا في الجزء المتبقي من حديثي في هذا الفصل.
نماذج فريدمان
لم يكن أينشتاين العالِم الوحيد الذي تحوَّل إلى علم الكونيات في السنوات التي أعقبت مباشرة نشر نظرية النسبية العامة في عام ١٩١٥. ومن العلماء الآخرين الذين فعلوا الشيء نفسه فيزيائي روسي مغمور يُدعى ألكسندر فريدمان. لم يكن أينشتاين هو مَن طوَّر النماذج الرياضية للكون المتمدد، بل فريدمان، وهذه النماذج تمثل أساس علم كونيات الانفجار العظيم الحديث. وتتسم إنجازاته في هذا النطاق بأنها مذهلة؛ بسبب أنه أجرى حساباته في ظروف عسيرة للغاية إبَّان حصار بتروجراد. وقد تُوفي فريدمان عام ١٩٢٥ قبل أن تحظى أعماله (التي نُشرت عام ١٩٢٢) بأي تقدير دولي. وفي وقت لاحق صفَّى ستالين المعهد الذي كان يعمل به فريدمان، ثم بعد ذلك ببعض الوقت توصل القس البلجيكي جورج لومتر إلى النتائج عينها على نحو مستقل، ومن خلال لومتر تم استكشاف هذه الأفكار والتوسع فيها في أوروبا الغربية.
أبسط نماذج فريدمان هي تلك العائلة الخاصة من حلول معادلات أينشتاين التي جرى التوصل إليها على أساس افتراض صحة المبدأ الكوني، وافتراض أنه لا وجود للثابت الكوني. يلعب المبدأ الكوني دورًا كبيرًا في هذه النماذج. ففي نظرية النسبية ليس الزمن والمكان مطلقينِ. والتوصيف الرياضي لهذين الوجهين للأحداث (أي «متى» يقع الحدث و«أين»؟) يتضمن «زمكانًا» معقدًا رباعي الأبعاد، وهو الأمر الذي يصعب تصوره ذهنيًّا. وإجمالًا، لا تمنحنا نظرية أينشتاين سبيلًا يسيرَ الفهمِ نحو فصل الزمن عن المكان. فبمقدور الراصدين المختلفين أن يختلفوا فيما بينهم بشأن الوقت المنقضي بين حدثين، اعتمادًا على حركتهما وعلى مجالات الجاذبية التي يستشعرانها. لكن إذا صح المبدأ الكوني فسيكون هناك سبيل خاص للتفكير في الزمن يجعل كل هذا أسهل كثيرًا في الفهم. فإذا كان الكون يتمتع بالكثافة عينها في كل مكان (وهو الأمر الحتمي إذا كان الكون متجانسًا) إذن فكثافة المادة نفسها تُعَدُّ بمنزلة ساعة زمنية من نوع ما. وإذا تمدد الكون، تزداد المسافة بين الجسيمات، ومِن ثَمَّ تنخفض كثافة المادة. ومع مرور المزيد من الوقت، يزداد انخفاض كثافة المادة. وبالمثل، ترتبط الكثافة المرتفعة بالزمن المبكر. ويستطيع الراصدون في أي مكان في الكون ضبط ساعاتهم وفق الكثافة المحلية للمادة بحيث تكون كل هذه الساعات متزامنة على نحو مثالي، وبذا يمكن تحقيق تزامن مثالي. ويطلق على المقياس الزمني الناتج عادةً اسم «الزمن الكوني الحقيقي».
ولأن الكثافة واحدة في كل مكان بالكون، ولأن كثافة المادة و/أو الطاقة هي التي تحدد انحناء الفضاء من خلال معادلات أينشتاين؛ فإن المبدأ الكوني يبسط كذلك الطريقة التي يمكن أن ينحني بها المكان استجابةً للجاذبية. فالمكان يمكن أن يكون منحنيًا، بَيْدَ أنه يجب أن يكون منحنيًا بالصورة نفسها في كل نقطة من نقاطه. وفي واقع الأمر هناك ثلاث طرق فقط يمكن أن يحدث بها هذا.
الطريقة البديهية للحصول على الانحناء ذاته في كل النقاط هي ألا يكون هناك أي انحناء في كل النقاط، وهذا يطلق عليه «الكون المنبسط». في الكون المنبسط ينتقل الضوء في خطوط مستقيمة، وتنطبق كل قوانين الهندسة الإقليدية مثلما يحدث في العالم «الطبيعي». لكن إذا لم يكُن المكان منحنيًا؛ فما الذي حدث للجاذبية؟ فهناك مادة في الكون المنبسط، لماذا إذن لا تتسبب في تقوُّس المكان؟ الإجابة هي أن كتلة الكون تسبب تقوس المكان بالفعل، لكن هذا تتم معادلته على نحو تام بواسطة الطاقة المُحتواة داخل عملية تمدد الكون؛ فالمادة والطاقة تتآمران من أجل إلغاء تأثيرات جاذبية كلٍّ منهما على الأخرى. وعلى أية حال، حتى إذا كان المكان منبسطًا، فالزمكان لا يزال منحنيًا.
إن سلوك المكان في هذه النماذج يعكس الطريقة التي تتطور بها مع الوقت. فالكون المغلق كون محدود، كما أن له عُمرًا محدودًا. فإذا كان الكونُ يتمدد في أي وقت وهو كون مغلق، فستبطئ وتيرة التمدد في المستقبل، وفي النهاية سيتوقف الكون عن التمدد وينهار على نفسه. أمَّا نموذجَا الكون المنبسط والكون المفتوح فسيتمددان إلى الأبد. فالجاذبية تقاوم تمدد الكون على الدوام في نماذج فريدمان، بَيْدَ أنها لا تربح معركتها إلا في حالة الكون المغلق.
تُعَدُّ نماذج فريدمان الأساسَ الذي يقوم عليه جزء كبير من نظرية الانفجار العظيم الحديثة، لكنها أيضًا تحتوي على مفتاح أكبر نقاط ضعفها. فإذا استخدمنا هذه الحسابات من أجل عكس تمدد الكون وأرجعنا عقارب الساعة إلى الوراء انطلاقًا من حالة الكون الحالية، فسنجد أن الكون يصير أكثر كثافة كلما عدنا بالزمن إلى الوراء. وإذا حاولنا العودة أكثر وأكثر فستتداعى الحسابات الرياضية عند «نقطة تفرد».
الطبيعة المتفردة للجاذبية
في الرياضيات، نقطة التفرد هي خاصية متطرفة تصير فيها القيمة العددية لكمية محددة قيمة لا نهائية خلال مسار عملية الحساب. كمثال مبسط، تَدَبَّرْ حساب القوة النيوتنية الناشئة بسبب الجاذبية التي يمارسها جسم ضخم على جسيم آخر. هذه القوة تتناسب عكسيًّا مع مربع المسافة بين الجسمين، بحيث إذا حاولنا حساب القوة بين جسمين تبلغ المسافة التي تفصل بينهما صفرًا، فستكون النتيجة لا نهائية. ليست نقاط التفرد دومًا علامة على وجود مشكلات رياضية خطيرة؛ فأحيانًا تحدث بسبب اختيار خاطئ للإحداثيات. على سبيل المثال، يحدث أمر عجيب مشابِه لنقطة التفرد في الخرائط التقليدية الموجودة في الأطلس. فهذه الخرائط تبدو معقولة تمامًا إلى أن تبدأ في النظر بالقرب من القطبين. ففي الإسقاط الاستوائي التقليدي، لا يظهر القطب الشمالي كنقطة كما ينبغي أن يكون، بل تمتد النقطة كخط مستقيم على امتداد الجزء العلوي من الخريطة. لكن إذا سافرتَ إلى القطب الشمالي فلن ترى بالتأكيد أي شيء كارثي هناك. فنقطة التفرد التي تسبب هذه النقطة الظاهرة على الخريطة تبدو كمثال على نقاط التفرد الإحداثية، ومن الممكن تغيير شكلها باستخدام نوع مختلف من الإسقاط. ولن يحدث شيء عجيب لك إذا حاولتَ عبور مثل هذا النوع من نقاط التفرد.
إن النظرية مبنية على الفصل بين مفهومَيْ مجال الجاذبية والمادة. ورغم أن هذا يُعَدُّ تقريبًا صحيحًا في مجالات الجاذبية الضعيفة، فإنه قد يكون غير ملائم عند الكثافات العالية للغاية للمادة. ومِن ثَمَّ لا يمكننا افتراض صحة المعادلات عند الكثافات العالية للغاية للمادة، ومن الممكن لنظريةٍ موحدة ألَّا تحتوي على مثل نقاط التفرد هذه.
إن النسبية العامة تبذل قصارى جهدها كي تُخفِيَ نقاط التفرد عنا، كما لو أنها تعتذر عن التنبؤ بها في المقام الأول. فثقب شفارتزشيلد الأسود يكون محاطًا بأفق حدث يحمي الراصدين الخارجيين فعليًّا من نقطة التفرد نفسها. ويبدو من المرجح أن كل نقاط التفرد في النسبية العامة محمية بهذه الطريقة، أما «نقاط التفرد المكشوفة» فيُعتقد أنه ليس لها وجود مادي حقيقي.
في ستينيات القرن العشرين لفتتْ أبحاث روجر بنروز عن الخصائص الرياضية للثقوب السوداء انتباهَ ستيفن هوكينج، الذي واتتْه فكرة محاولة تطبيقها في موضع آخر. كان بنروز قد تدبر ما سوف يحدث في المستقبل حين ينهار جسمٌ ما تحت وطأة جاذبيته، لكن هوكينج كان مهتمًّا بمعرفةِ هل من الممكن تطبيق هذه الأفكار على مشكلة فهمنا لِمَا حدث في الماضي لمنظومة نعرف الآن أنها آخذة في التمدد؛ أي الكون! تواصل هوكينج مع بنروز بشأن هذا الأمر وعَمِلا معًا على مشكلة التفرد الكوني، كما باتت تُعرف الآن. وقد بيَّنَا معًا أن نماذج الكون المتمدد تتنبأ بوجود نقطة تفرُّد في بداية الكون، كانت فيها درجة الحرارة والكثافة لا نهائيتين. وسواء أكان الكون مفتوحًا أم مغلقًا أم منبسطًا، ثمة حدٌّ أساسي لفهمنا. ففي البدء كانت اللانهائية.
أغلب علماء الكونيات يفسرون نقطة تفرد الانفجار العظيم بالطريقة عينها التي يفسرون بها نقطة تفرد الثقب الأسود التي ناقشناها سابقًا؛ بمعنى أن معادلات أينشتاين تنهار عند نقطةٍ ما في الكون المبكر؛ بسبب الظروف الفيزيائية المتطرفة التي كانت موجودة وقتها. وإذا صح هذا الافتراض فإن أملنا الوحيد لفهم المراحل المبكرة من تمدد الكون سيكون التوصل إلى نظرية أفضل. ولأننا لا نملك مثل هذه النظرية إلى الآن، تظل نظرية الانفجار العظيم غير كاملة. وتحديدًا، ما دمنا بحاجة لأن نعرف ميزانية الطاقة الإجمالية للكون كي نعرف أكان كونًا مفتوحًا أم مغلقًا، فلن نستطيع من خلال النظريات وحدها تحديد أيٌّ من هذين البديلين هو التوصيف «الصحيح». وهذه المَثْلبة هي السبب الذي يجعل من الملائم لنا أن نقول «نموذج» الانفجار العظيم، لا «نظرية» الانفجار العظيم. فمشكلة عدم معرفتنا بشأن الظروف الأولية للكون هي السبب الذي جعل علماء الكونيات عاجزين إلى الآن عن الإجابة عن بعض الأسئلة الأساسية؛ مثل مسألة هل كونُنا سيتمدد إلى الأبد أم لا.