الكون المتمدد
ركَّزتُ إلى الآن على الطريقة التي أدَّتْ بها التطورات في الفيزياء النظرية — وخاصة النسبية العامة — إلى تطورات كبيرة في النظرية الكونية في عشرينيات القرن العشرين. بَيْدَ أن هذه الأفكار الجديدة لم تحظَ بالقبول إلا حين مكَّنَت المشاهداتُ المُحسَّنة علماءَ الفلك من أن يبدءوا في وضع تقديرات يُعتمَد عليها بشأن حركة المجرات والمسافات التي تفصلنا عنها. وفي هذا الفصل سأناقش هذه المشاهدات، والكيفية التي توافقتْ بها مع إطار العمل النظري.
قانون هابل
نشر هابل الاكتشاف الخاص بذلك القانون الشهير عام ١٩٢٩، الذي نتج عن دراسة خطوط الطيف الخاصة بعينة من المجرات. ويستحق الفلكي الأمريكي فيستو سليفر أيضًا أن يُنسب إليه جزء كبير من الفضل في هذا الاكتشاف. فمنذ وقت مبكر يرجع إلى عام ١٩١٤ حصل سليفر على خطوط الطيف الخاصة بمجموعة من السُّدُم (وهو الاسم الذي كان يطلق وقتها على المجرات) التي أظهرت أيضًا هذه العلاقة، رغم أن تقديرات المسافة الخاصة بها كانت تقريبية. لكن لسوء الحظ فإن النتائج المبكرة التي توصَّل إليها سليفر، وعرضها في الاجتماع السابع عشر للجمعية الفلكية الأمريكية في عام ١٩١٤، لم تُنشر قط، ولم يُقدِّر التاريخُ الإسهامَ الذي قدَّمه سليفر حقَّ التقدير قطُّ.
كيف إذن توصل هابل إلى قانونه؟ يسمى الأسلوب الذي استخدمه هابل باسم «التحليل الطيفي». فالضوء القادم من أي مجرة بعيدة يحتوي على مزيج من الألوان، أنتجتْها كل النجوم الموجودة داخل هذه المجرة. ويقوم منظار التحليل الطيفي، أو المطياف، بفصل الضوء إلى الدرجات اللونية المكوِّنة له بحيث يمكن تحليل مزيج الألوان الخاص به على نحو منفصل. ومن السبل البسيطة للوصول إلى هذه النتيجة استخدام الموشور؛ فباستخدام الموشور يمكن فصل الضوء الأبيض العادي إلى طيف يمثِّل ألوان قوس قُزح. لكن بالإضافة إلى امتلاكها ألوانًا مختلفة، تحتوي الأطياف الفلكية أيضًا على سمات محددة تسمى خطوط الانبعاث. وهذه الخطوط تُنتَج في الغاز الذي يحتويه أي جِرم بواسطة تنقُّل الإلكترونات بين مستويات الطاقة المختلفة. وهذه التنقلات تحدث عند أطوال موجية محددة اعتمادًا على التركيب الكيميائي للمصدر، وهذه الأطوال الموجية يمكن قياسها بدقة في التجارب المُجرَاة في المختبرات. تمكَّن قانون هابل من تحديد خطوط الانبعاث في العديد من المجرات. لكن عند مقارنة موضعها في الطيف المَقيس بالموضع الذي ينبغي أن تكون الخطوط موجودة فيه، وُجِد أنها عادة ما تكون في المكان الخطأ. في الواقع، كانت الخطوط في كل الأحيان تقريبًا مُزاحة ناحية الطرف الأحمر للطيف، نحو الأطوال الموجية الأطول. وقد فسر هابل هذا بأنه ناتج عن إزاحة دوبلر.
إزاحة دوبلر
أحدثَ تقديم تأثير دوبلر إلى عالَم الفيزياء جَلَبة شديدة في أربعينيات القرن التاسع عشر. في الواقع حدثت هذه الجلبة حرفيًّا؛ لأن أُولى التجارب التي أُجريتْ لبيان هذا التأثير تضمنت عددًا من عازفي البوق يتحرك بهم قطار بخاري. كان تطبيق المبدأ في ذلك الوقت على خصائص موجات الصوت حين تكون هناك حركة نسبية بين مصدر الصوت وبين المتلقي. كلنا يألف هذا التأثير من واقع خبرات حياتنا اليومية؛ فبوق سيارة الشرطة الآخذة في الاقتراب له طبقة صوت أعلى من ذلك الخاص بالسيارة الآخذة في الابتعاد. وأسهل طريقة لفهم هذا التأثير هي تذكُّر أن طبقة الصوت تعتمد على الطول الموجي الخاص بالموجات التي تتألف منها. وطبقة الصوت العالية، أو الحادة، تعني أن الموجات الصوتية قصيرة. فإذا كان مصدر الصوت يتحرك بسرعة تُقارِب سرعة الصوت، فسيميل إلى أن يلحق بالموجات التي يطلقها من الأمام؛ مِن ثَمَّ يقلل الطول الموجي الظاهري لها. وبالمثل، يميل مصدر الصوت إلى الابتعاد عن الموجات التي يطلقها من الخلف، مُزيدًا الفجوة بين الموجات ومِن ثَمَّ يقلل طبقة الصوت الظاهرية الخاصة بها.
في سياق الفلك، ينطبق تأثير دوبلر على الضوء. في المعتاد يكون التأثير طفيفًا للغاية، لكنه يصير قابلًا للإدراك إذا كانت سرعة المصدر تقترب بدرجة كبيرة من سرعة الضوء. (يكون تأثير دوبلر في حالة الصوت طفيفًا ما لم تكن سرعة السيارة كبيرة بدرجةٍ ما، ويكون المقياس ذو الصلة في هذه الحالة هو سرعة الصوت.) ومِن ثَمَّ فإن مصدر الضوء المتحرك يميل إلى أن ينتج الضوء بأطوال موجية أقصر إذا كان آخذًا في الاقتراب من الراصد، وبأطوال موجية أطول إذا كان آخذًا في الابتعاد، وفي هاتين الحالتين يُزاح الضوء إما نحو الجزء الأزرق أو الجزء الأحمر من الطيف، على الترتيب. بعبارة أخرى، توجد إزاحة زرقاء (في حالة مصدر الضوء الآخذ في الاقتراب) أو إزاحة حمراء (في حالة مصدر الضوء الآخذ في الابتعاد).
لكن إذا كان المصدر يبعث ضوءًا أبيض، فلن يصير المرء قادرًا على رؤية أية إزاحة من أي نوع. فإذا فرضنا أن كل خط انزاح انزياحًا أحمر في طوله الموجي بالمقدار (س)، فعندئذٍ سيُرى الضوء المنبعث بالطول الموجي (ص) على أن له طولًا موجيًّا مقداره (ص + س). لكن المقدار عينه من الضوء سيظل يُرى بالطول الموجي الأصلي (س)؛ وذلك لأن الضوء الذي انبعث بالأساس بالطول الموجي (ص − س) سيُزاح إلى هذا الموضع كي يملأ الفجوة. ومِن ثَمَّ سيظل الضوء الأبيض يُرى بوصفه ضوءًا أبيض، بِغَضِّ النظر عن إزاحة دوبلر. ولرؤية هذا التأثير، على المرء أن ينظر إلى خطوط الانبعاث، التي توجد عند ترددات منفصلة بحيث لا يمكن أن يحدث مثل هذا التعويض. فالمجموعة الكاملة من الخطوط ستُزاح نحو هذا الاتجاه أو ذاك في الطيف، لكن الخطوط المنفردة ستحافظ على المسافات النسبية بينها؛ ومِن ثَمَّ يكون من اليسير تحديد مقدار انزياحها نسبةً إلى مصدر الضوء الساكن في المختبر.
قاس هابل انزياحًا أحمر كبيرًا في حالة المجرات الأبعد في عينة المجرات التي عمل عليها مقارنة بالمجرات القريبة. وقد افترض أن ما يراه هو تأثير دوبلر؛ لذا حوَّل انزياح خطوط الطيف إلى مقياس للسرعة. وحين وضع «سرعة التراجع الظاهرية» هذه في مخطط بياني في مقابل المسافة، حصل على علاقته الخطية الشهيرة. ورغم أن قانون هابل يُنظر له الآن بوصفه يمثِّل تمدد الكون، فإن هابل نفسه لم يخرج بهذا التفسير من النتائج. فقد كان لومتر هو أول منظِّر على الأرجح يفسر قانون هابل بحيث يعني تمدد الكون بأسره. إن ورقة لومتر البحثية التي نشرها عام ١٩٢٧، واستبَقَ فيها ورقة هابل الكلاسيكية المنشورة عام ١٩٢٩، لم تخلِّف سوى القليل من الاهتمام؛ لأنها كانت مكتوبة بالفرنسية ومنشورة في دورية بلجيكية مغمورة. ولم تُنشر ورقة لومتر «بالإنجليزية» إلا عام ١٩٣١ بفضل الفلكي البريطاني آرثر ستانلي إدنجتون، وذلك في دورية «التقارير الشهرية للجمعية الفلكية الملكية» الأكثر تأثيرًا. ويُعَدُّ ارتباط قانون هابل بالتمدد الكوني أحد الأعمدة الداعمة الأساسية لنظرية الانفجار العظيم؛ لذا يستحق لومتر هو الآخر أن يُنسَب إليه الفضل العظيم لقيامه بهذه الخطوة المهمة.
تفسير قانون هابل
إن حقيقة أن المجرات المرصودة آخذة في التحرك مبتعدة عنا توحي بأننا لا بد أن نكون في مركز التمدد. فهل يُخرق هذا المبدأ الكوبرنيكي ويضعنا في موضع خاص من الكون؟ الإجابة هي: لا. فأي راصد آخر سيرى أيضًا أن كل شيء يتحرك مبتعدًا عنه. وفي الواقع، من منظور عملية التمدد، كل النقاط في الكون متكافئة. علاوة على ذلك، من الممكن أن يُثبَت رياضيًّا أن قانون هابل «يجب» أن ينطبق في كونٍ متمدد متجانس متوحِّد الخواص؛ أيْ كون يصح فيه المبدأ الكوني. فهذا هو السبيل الوحيد كي يتمدد مثل هذا الكون.
قد يفيد أن نتصور الموقف عن طريق اختزال الأبعاد الثلاثة للمكان إلى سطح بالُون ثنائي الأبعاد (في هذه الحالة سيكون الكون مغلقًا، لكن الهندسة لا تهمنا تحديدًا في هذا المثال التوضيحي). إذا رسمتَ نقاطًا على سطح البالون ثم نفخته، فمن منظور كل نقطة سيبدو أن كل النقاط الأخرى تبتعد عنها كما لو أن هذه النقطة بعينها هي مركز التمدد. لكن ثمة مشكلة تعتري هذا التشبيه، وهي أن المرء يكون واعيًا إلى أن السطح الثنائي الأبعاد منطمر داخل الأبعاد الثلاثة لمكاننا المألوف. ومِن ثَمَّ يرى المرء أن المركز الحقيقي للتمدد هو مركز المكان الواقع داخل البالون، وهذا غير دقيق. علينا التفكير في البالون بوصفه الكونَ كله. فهو ليس منطمرًا داخل مكان آخر، ولا وجود لذلك المركز الكوني. فكل نقطة على سطح البالون هي المركز. وهذه الصعوبة عادة ما تختلط أيضًا في ذهن المرء بالسؤال الخاص بالموضع الذي حدث فيه الانفجار العظيم: ألسنا نتحرك مبتعدين عن موضع الانفجار الأصلي؟ أين كان مكان هذا الانفجار؟ والإجابة هي أن الانفجار حدث في كل مكان، وكلُّ شيء يتحرك مبتعدًا عنه. لكن في البداية، في نقطة التفرد الخاصة بالانفجار العظيم، كل مكان وكل شيء كان في الموضع ذاته.
قد يُقلِق هذا بعضَكم؛ لأنكم بالتأكيد سمعتم أن من المستحيل لأي جسم أن يتحرك بسرعة تزيد على سرعة الضوء. ففي كون فريدمان، كلما كان الجِرم أبعد؛ كانت سرعته التي يبتعد بها عن الراصد أكبر. ومن الممكن أن تزيد سرعة الجِرم عن سرعة الضوء بأي مقدار يروق لك. لكن هذا لا يخالف أي مبدأ للنسبية؛ لأن الراصد لا يمكنه رؤية هذا الجِرم؛ فهو مُنزاح انزياحًا أحمر بدرجة لا نهائية.
أيضًا هناك مشكلة كامنة فيما نعنيه بمصطلح «المسافة»، وكيفية قياسها. في المعتاد لا يستطيع الفلكيون قياس المسافة الفاصلة بيننا وبين أحد الأجرام قياسًا مباشرًا. فليس بوسعهم أن يمدوا مسطرة نحو مجرة بعيدة، ولا يستطيعون عادةً استخدام أسلوب التثليث كما يفعل المسَّاحون؛ لأن المسافات المَعْنِية تكون كبيرة للغاية. بدلًا من ذلك عليهم إجراء قياساتهم باستخدام الضوء المنبعث من الجِرم محل الدراسة. وبما أن الضوء ينتقل بسرعة محددة، وبما أن الكون يتمدد — كما بِتْنا نعرف بفضل هابل — فالأجرام الآن ليست في نفس المواضع التي كانت فيها عندما انبعث الضوء منها. ومن ثم فالفلكيون مجبَرون على استخدام قياسات غير مباشرة للمسافة، وعلى محاولة تصحيح ما تسبب فيه تمدد الكون من تغيير من أجل تحديد الموضع الذي يكون الجرم فيه بالضبط.
كما تذكُر فإن الضوء ينتقل بسرعة محددة. فالضوء الذي يصلنا الآن من مصدر بعيد لا بد أنه انبعث من هذا المصدر منذ وقت محدد في الماضي. وفي وقت انبعاث الضوء كان الكون أصغر عمرًا مما هو عليه الآن، وبما أن الكون آخِذ في التمدد فلا بد أنه كان أصغر حجمًا أيضًا. وإذا كان الكون قد تمدد بمُعاملٍ ما بين انبعاث الضوء ورصده بواسطة التليسكوب، فستستطيل موجات الضوء المنبعثة بالمُعامل عينه مع انتقالها عبر الفضاء. على سبيل المثال، إذا تمدد الكون بمُعامل قدره ثلاثة فسيتضاعف الطول الموجي ثلاثة أضعاف. هذا يعني زيادة قدرها ٢٠٠ بالمائة، ومن ثم يُرصَد المصدر على أن له إزاحة حمراء مقدارها ٢. وإذا كان مُعامل التمدد يبلغ ١٠ بالمائة وحسب (أي معامل قدره ١٫١) فسيكون مقدار الإزاحة الحمراء ٠٫١، وهكذا دواليك. فالإزاحة الحمراء تحدث نتيجة تمدد الزمكان الذي سببه التمدد الكوني.
هذا التفسير على سهولته راوغ الفيزيائيين لسنوات عدة. ففي عام ١٩١٧ نشر فيليم دي سيتَر نموذجًا كونيًّا توصل فيه إلى أن أشعة الضوء ستُزاح انزياحًا أحمر. ولأنه استخدم إحداثيات غريبة كي يعبر فيها عن نتائجه فإنه لم يدرك أن نموذجه كان يمثِّل كونًا متمددًا، وبدلًا من ذلك سعى إلى تفسير ما توصل إليه بوصفه نوعًا من تأثيرات الجاذبية العجيبة. ولسنوات عدة كان هناك قدر كبير من الحَيرة بشأن طبيعة «تأثير دي سيتر»، لكن من المعروف الآن أنه بسيط للغاية.
لكن على أكبر النطاقات قاطبة، لا توجد قوًى قوية بما يكفي بحيث تقاوم الميل العام للكون إلى التمدد مع مرور الزمن. ومِن ثَمَّ فإنه إجمالًا، وبتجاهل كل مواضع الاضطراب المحلية هذه، تندفع أجزاء المادة كلها مبتعدة بعضها عن بعض بسرعة يصفها قانون هابل.
البحث عن ثابت هابل
هَب أنك في حجرة مظلمة موضوع فيها مصباح ضوئي على مسافة غير معروفة منك. كيف يمكنك تحديد المسافة الفاصلة بينك وبينه؟ من الطرق التي يمكنك أن تحاول بها عمل ذلك استخدام نوع من عمليات التثليث. فبإمكانك أن تستخدم أداة مَسْحيَّة، كالمِزواة، وتتحرك في أرجاء الحجرة، وتقيس الزوايا إلى المصباح من مواضع مختلفة، ثم باستخدام حساب المثلثات تقوم بحساب المسافة. ثمة طريق بديل يتمثل في قياس المسافة باستخدام خواص الضوء المنبعث من المصباح. هَب أنك تعلم أن المصباح طاقته ١٠٠ واط، مثلًا. وهَب أيضًا أنك مزوَّد بمقياس للضوء. من خلال قياس مقدار الضوء الذي تتلقاه باستخدام مقياس الضوء، وتذكُّر أن شدة الضوء تنخفض بالتناسب مع مربع المسافة، ستتمكن من استنتاج المسافة بينك وبين المصباح. لكن إذا لم تكن تعلم مقدَّمًا طاقة المصباح، فلن تُجْدِيَ هذه الطريقة. من ناحية أخرى، إذا كان هناك مصباحان متطابقان في الحجرة، طاقتهما مجهولة لكنْ معروفٌ أن طاقتيهما متطابقتان، فسيكون بإمكانك معرفة المسافات النسبية بينهما بسهولة بالغة. على سبيل المثال، إذا أنتج أحد المصباحين قراءةً ما على مقياس الضوء تَقِل بمقدار أربع مرات عن القراءة التي أنتجها المصباح الثاني، فعندئذٍ من المؤكد أن يكون المصباح الأول على مسافة تبلغ ضعف المسافة إلى المصباح الثاني. لكنك لا تزال غير قادر على أن تعرف بشكل مطلق المسافةَ التي تفصل بينك وبين أيٍّ من المصباحين.
وبوضع هذه الأفكار في سياق فلكي تتضح لنا المشكلات التي تكتنف عملية تحديد نطاق المسافات الخاص بالكون. فعملية التثليث صعبة؛ لأنه ليس من الممكن أن تتحرك كثيرًا نسبة إلى المسافات المراد قياسها، باستثناء مواقف محددة (انظر التالي). وقياس المسافات المطلقة باستخدام النجوم أو غيرها من مصادر الضوء أمر صعب أيضًا ما لم تجِدْ سبيلًا لمعرفة سطوعها الحقيقي (أي مقدار الطاقة الخارج منها). فالنجم الخافت القريب سيبدو مماثلًا لنجم ساطع بعيد؛ نظرًا لأن النجوم، بصفة عامة، لا تستطيع التليسكوبات حتى أقواها تَبيُّنَ مكوناتها الداخلية. لكن إذا علمنا أن نجمين (أو أي مصدرين للضوء) متماثلان، فعندئذٍ لا يكون قياس المسافة بينهما أمرًا صعبًا. وتشكِّل عملية مُعَايرة هذه القياسات النسبية للمسافات المهمةَ الأساسيةَ للدراسات المَعْنِية بنطاقات المسافة الخاصة بالمجرات البعيدة.
لوضع هذه الصعوبات في نصابها الصحيح، علينا أن نتذكر أنه حتى عشرينيات القرن العشرين لم يكن هناك إلا فهم تقريبي وحسب لنطاق حجم الكون. وقبل اكتشاف هابل أن السُّدُم الحلزونية (كما كانت تسمَّى وقتها) كانت تقع خارج مجرة درب التبانة، كان ثمة إجماع على أن الكون كان صغيرًا جدًّا في الواقع. وهذه السدم، المعروف الآن أنها مجرات حلزونية مثل مجرتنا، كان يُنظر إليها بوصفها تمثِّل المراحل المبكرة لتكوُّن البِنَى الشبيهة بمجموعتنا الشمسية. وحين أعلن هابل عن القانون الذي يحمل اسمه، كانت قيمة ثابت هابل التي حصل عليها تبلغ نحو ٥٠٠ كيلومتر في الثانية لكل ميجا فرسخ فلكي (وهي الوحدات المعتادة التي يقاس بها ثابت هابل). وهذا يبلغ نحو ثمانية أضعاف التقديرات الحالية. لقد أخطأ هابل في تحديد نوعية أحد النجوم التي استخدمها كمؤشر للمسافة (انظر التالي)، وحين تم تصحيح خطئه في خمسينيات القرن العشرين على يد فالتر بادي، انخفضت القيمة إلى حوالي ٢٥٠ وحدة من الوحدات عينها. وفي عام ١٩٥٨ أجرى سانديج مزيدًا من التنقيح لهذه القيمة بحيث وصلت إلى ما بين ٥٠ و١٠٠، ولا تزال التقديرات الرصدية الحالية تقع في هذا النطاق.
تستعين القياسات الحديثة لثابت هابل بمجموعة متنوعة من مؤشرات المسافة، وكل مؤشر منها يتقدم بنا خطوة على تدريج المسافات، بداية بالتقديرات المحلية للمسافات إلى النجوم الموجودة داخل مجرة درب التبانة، وانتهاءً بأبعد المجرات والعناقيد المجرِّية. إلا أن الفكرة الأساسية تظل مماثِلة لتلك الفكرة التي كان هابل وسانديج من روَّادِها الأوائل.
أولًا: نستخدم قياسات المسافات الحركية المحلية من أجل إرساء المقياس الخاص بمجرة درب التبانة. لا تعتمد الطرق الحركية على معرفة السطوع المطلق لمصدر الضوء، وهي شبيهة بفكرة التثليث المذكورة سابقًا. بدايةً، من الممكن قياس المسافات إلى النجوم القريبة نسبيًّا باستخدام «التزيُّح المثلثي» للنجم؛ أي التغير في موضع النجم في السماء على مدار عام بسبب حركة الأرض في الفضاء. وقد نشأتْ وحدة المسافات الفلكية التي يستخدمها الفلكيون — الفرسخ الفلكي — من هذه الطريقة؛ فالنجم الذي يبعد فرسخًا فلكيًّا واحدًا يُنتج تزيُّحًا قدْره ثانية قوسية واحدة حين تتحرك الأرض من أحد جانبي الشمس إلى الجانب الآخر، والفرسخ الفلكي الواحد يساوي نحو ثلاث سنوات ضوئية. وقد تمكَّن القمر الصناعي المهم المختص بقياس حركة ومواضع النجوم (هيبارخوس) من الحصول على قياسات التزيُّح الخاصة بآلاف النجوم في مجرتنا.
ثمة طبقة أخرى مهمة من مؤشرات المسافة، وهي تلك التي تحتوي على النجوم المتغيرة، وأهم هذه النجوم المتغيرة هي «المتغيرات القيفاوية»؛ إذ إن تغير درجة سطوع هذه النجوم يمنحنا أدلة بشأن سطوعها الحقيقي. والنجوم القيفاوية الكلاسيكية هي نجوم متغيرة ساطعة معروف عنها أنها تُظهِر علاقة وثيقة بين فترة تغيرها وبين سطوعها المطلق. ومِن ثَمَّ يمكننا قياس فترة تغيُّر أي نجم قيفاوي بعيد من تقدير قيمة سطوعه المطلق، وبالتالي مسافته. وهذه النجوم ساطعة للغاية، لدرجة أنه يمكن رؤيتها في مجرات أخرى غير مجرتنا وهي تمد نطاق المسافات حتى نحو ٤ ميجا فرسخ فلكي (أي ٤ ملايين فرسخ فلكي). وكانت الأخطاء في حساب نطاق المسافات الخاص بالنجوم القيفاوية، الناتجة عن امتصاص الضوء في الفضاء بين النجمي، وعن الدوران المجري، وعن الخلط بين النجوم القيفاوية ونوعٍ آخر من النجوم المتغيرة يسمى «شبيه متغير العذراء السادس»؛ مسئولةً عن خروج هابل بتلك القيمة الأصلية الكبيرة لثابت هابل. وتمكننا المؤشرات النجمية الأخرى من بسط سلَّم المسافات النجمية وصولًا إلى ١٠ ميجا فرسخ فلكي. وإجمالًا، يُطلق على هذه السبل اسم «مؤشرات المسافة من الدرجة الأولى».
تتضمن «مؤشرات المسافة من الدرجة الثانية» منطقة الهيدروجين الثنائي (وهي سحب كبيرة من الهيدروجين المؤيَّن تحيط بنجوم شديدة السخونة) والعناقيد الكروية (وهي عناقيد تضم من النجوم ما يتراوح بين مائة ألف وعشرة ملايين نجم). تتسم منطقة الهيدروجين الثنائي بأن لها قُطرًا محددًا، فيما تتسم العناقيد الكروية بأن لها سطوعًا مطلقًا، لا يملك إلا مقدارًا ضئيلًا من التشتت حول متوسط هذه الأجرام. وباستخدام مثل هذه المؤشرات النسبية، التي تتم معايرتها باستخدام مؤشرات المسافة من الدرجة الأولى، يمكننا بسط سلم المسافات النجمية حتى نحو ١٠٠ ميجا فرسخ فلكي. أما «مؤشرات المسافة من الدرجة الثالثة» فتتضمن أشد المجرات العنقودية والمستعرات العظمى سطوعًا. فعناقيد المجرات يمكن أن يحتوي الواحد منها على نحو ألف مجرة، ونجد أن أشد المجرات البيضاوية سطوعًا في أي عنقود مجرِّي غنيٍّ، لها إجمالي سطوع معياري ثابت بدرجة كبيرة، وهو ما يرجع على الأرجح إلى أن هذه المجرات من المعروف أنها تشكلت بطريقة خاصة عن طريق التهام غيرها من المجرات الأخرى. وباستخدام أشد المجرات سطوعًا يمكننا الوصول إلى مسافات قدرها مئات ملايين الفراسخ الفلكية. أما المستعرات العظمى فهي نجوم منفجرة، تنتج سطوعًا مساويًا تقريبًا لسطوع مجرة بأكملها. ومن ثم يمكن رؤية هذه النجوم بسهولة في المجرات البعيدة. وقد تم أيضًا استكشاف العديد من قياسات المسافات غير المباشرة الأخرى، على غرار علاقات الارتباط بين الخصائص الحقيقية المتعددة للمجرات.
يبدو إذن أنه لا يوجد نقص في الوسائل التي نقيس بها ثابت هابل. لماذا إذن لا تزال قيمة ثابت هابل غير معروفة بدقة؟ إحدى المشكلات هي أن أي خطأ بسيط في أي درجة من درجات سلَّم المسافات النجمية يؤثر بالمثل في المستويات العلوية من السلم بطريقة تراكمية. وعلى كل مستوًى يوجد أيضًا العديد من التعديلات التي يجب عملها؛ كتأثير الدوران المجرِّي في مجرة درب التبانة، والتغيرات في فتحة التليسكوب، وامتصاص الضوء والتعتيم في مجرة درب التبانة، والتحيزات الرصدية بشتى أنواعها. وفي ظل ذلك العدد الكبير من التعديلات غير المؤكدة، قد لا يكون من قبيل المفاجأة أن نكون عاجزين إلى الآن عن تحديد قيمة ثابت هابل بأي قدر من الدقة. لقد أحاط الجدل بمقياس المسافات منذ أيام هابل، لكن يبدو أن نهاية هذا الجدل قد اقتربت؛ وذلك بفضل أحدث التطورات التكنولوجية. وعلى وجه التحديد، يستطيع تليسكوب هابل الفضائي تصوير النجوم، وبالأخص المتغيرات القيفاوية، مباشرة في مجراتها داخل عنقود العذراء المجرِّي، وهي مقدِرة تتخطى مصادر عدم اليقين الرئيسة عند معايرة الدرجات التقليدية في سلم المسافات النجمية. ومن المتوقع لبرنامج تليسكوب هابل الفضائي الأساسي المعنيِّ بنطاق المسافات أن يصوِّب قيمة ثابت هابل حتى دقةٍ قدرُها نحو ١٠ بالمائة. لم يكتمل هذا البرنامج بعدُ، لكن أحدث التقديرات لثابت هابل تستقر حاليًّا عند نطاق يتراوح من ٦٠ إلى ٧٠ كيلومترًا في الثانية لكل ميجا فرسخ فلكي.
عمر الكون
إذا كان تمدد الكون يسير بمعدل ثابت، فسيكون من اليسير للغاية الربط بين ثابت هابل وبين عمر الكون. إن جميع المجرات يبتعد بعضُها عن بعض في وقتنا الحالي، لكن لا بد أنها كانت في البداية في الموضع ذاته. وكل ما نحتاج إلى عمله هو حساب ذلك الوقت الذي كانت فيه في الموضع ذاته؛ ومن ثم يكون عمر الكون هو الزمن المنقضي منذ وقوع هذا الحدث. إنها عملية حسابية بسيطة، وهي تخبرنا بأن عمر الكون ما هو إلا معكوس ثابت هابل. وفي ضوء التقديرات الحالية لثابت هابل، فإن عمر الكون يبلغ نحو ١٥ مليار عام.
لكن هذه العملية الحسابية لن تكون صحيحة تمامًا إلا في كون خاوٍ تمامًا لا يحتوي على أية مادة تتسبب في تباطؤ معدل تمدده. في نماذج فريدمان، يتباطأ التمدد بمقدار يعتمد على كمِّ المادة التي يحويها الكون. ونحن لا نعلم تحديدًا مقدار التباطؤ الذي يجب وضعه في الاعتبار، لكن من الواضح أن عمر الكون سيكون أقل من القيمة التي حسبناها للتو. وإذا كان التسارع يتباطأ، فلا بد أنه كان أسرع وتيرة في الماضي؛ لذا لا بد أن الكون استغرق وقتًا أقل في الوصول إلى حالته الحالية. لكن تأثير التباطؤ ليس كبيرًا للغاية. ومن المفترض أن يبلغ عمر الكون المنبسط نحو ١٠ مليارات عام.
ثمة وسيلة مستقلة لتحديد عمر الكون تتمثل في تحديد عمر الأجرام التي يحويها. ومن البديهي — ما دام الانفجار العظيم يمثل منشأ المادة كلها بالإضافة إلى الزمكان ذاته — ألَّا يكون هناك شيء «داخل» الكون أكبر عمرًا من الكون ذاته. بَيْدَ أن تحديد عمر الأجرام السماوية ليس بالأمر السهل. فبإمكاننا تحديد عمر الصخور الأرضية باستخدام التحلل الإشعاعي للنظائر طويلة العمر، كاليورانيوم-٢٣٥ الذي تقدر فترة عمر النصف الخاصة به بمليارات الأعوام. هذه الطريقة مفهومة جيدًا، وتشبه استخدام الكربون المُشع في تحديد العمر في مجال علم الآثار، لكن مع وجود اختلاف واحد يتمثل في أن النطاق الزمني الأكبرَ كثيرًا المطلوبَ لتطبيق هذه الطريقة في علم الكونيات يستلزم استخدام عناصر أطول عمرًا بكثير من الكربون-١٤. لكن موطن قصور هذه الطريقة يتمثل في أنها يمكن أن تُستخدم فقط في تحديد عمر الأجرام داخل المجموعة الشمسية فقط. فالصخور القمرية والنيزكية أقدم من المواد الأرضية، لكنها ربما تكونت في وقت حديث للغاية من تاريخ الكون؛ لذا فهي ليست مفيدة على النطاق الفلكي.
أكثر وسائل قياس عمر الكون فعالية هي وسائل غير مباشرة. وأقوى محددات عمر الكون تأتي من دراسة العناقيد النجمية الكروية؛ فالنجوم في هذه العناقيد يُعتقد أنها تكونت كلها في الوقت عينه، وحقيقة أنها بصفة عامة من النجوم ذات الكتلة المنخفضة للغاية توحي بأن أعمارها كبيرة إلى حدٍّ بعيد. ولأنها تكونت كلها في الوقت عينه، فمن الممكن استخدام مجموعة من هذه النجوم لحساب الكيفية التي تطورت بها. وهذا سوف يعطينا حدًّا أدنى لعمر الكون؛ لأنه لا بد من أن نضع في الحسبان مرور بعض الوقت بعد الانفجار العظيم كي تتكون العناقيد من الأساس. وتقترح الدراسات الحديثة أن هذه المنظومات تبلغ من العمر نحو ١٤ مليار عام، لكن هذا الرقم صار محل خلاف في السنوات الأخيرة.
يمكننا أن نرى أن هذا التقدير يطرح مشكلات فورية أمام نموذج الكون المنبسط. فنجوم العناقيد الكروية أكبر عمرًا من أن تتوافق مع النطاق العمري القصير الذي يقترحه هذا النموذج للكون. وقد دعمت هذه الحجة الزعم بأننا نعيش في واقع الأمر في كون مفتوح. وحديثًا، وعلى نحو يغيِّر من منظورنا جذريًّا، باتت أعمار النجوم القديمة تبدو وكأنها تتوافق على نحو أنِيق مع الأدلة الأخرى التي تقترح أن الكون ربما كان يتسارع في تمدده بدلًا من أن يتباطأ. وسأناقش هذا بمزيد من التفاصيل في الفصل السادس.