هل الكون محدود أم غير محدود؟ هل سينتهي الانفجار العظيم بانسحاق عظيم؟ هل المكان
منحنٍ
حقًّا؟ كم مقدار المادة الموجودة في الكون؟ وما الشكل الذي تتخذه هذه المادة؟ من المؤكد
أن
المرء يتمنى أن تمدنا الدراسة الناجحة للكون بإجابة أسئلة أساسية كهذه. وهذه الإجابة
تعتمد
على نحو جوهري على رقم يُعرف باسم أوميجا ورمزه . لطالما عانى العلماء من مشكلة صعوبة قياس باستخدام المشاهدات الكونية من حولنا، ولم يحققوا في هذا إلا نجاحًا
محدودًا. والتقدم الكبير الحادث الآن في تطوير وتطبيق التكنولوجيات الجديدة يقترح إمكانية
تحديد قيمة بدقة في غضون السنوات القليلة القادمة. لكن الأمر ليس بهذه البساطة؛ إذ
إن أحدث المشاهدات توحي بأن قيمة قد لا تحمل في نهاية المطاف كل الأجوبة. إلا أن قضية ليست مبنية بالكامل على المشاهدات؛ لأن القيمة الدقيقة التي تمتلكها هذه
الكمية تحمل أدلة مهمة بشأن المراحل المبكرة للغاية من الانفجار العظيم، وبشأن بنية الكون
على النطاق الواسع للغاية. لماذا إذن بهذه الأهمية، ولماذا يصعب تحديد قيمتها إلى هذه الدرجة؟
البحث عن أوميجا
لفهم دور في علم الكونيات، من المهم أولًا أن نتذكر الكيفية التي رَبطتْ بها
نظرية النسبية لأينشتاين بين الخواص الهندسية للزمكان (على غرار الانحناء والتمدد) وبين
الخصائص الفيزيائية للمادة (على غرار الكثافة وحالة الحركة). وكما شرحتُ في الفصل
الثالث فإن تطبيق هذه النظرية في علم الكونيات يوضحه على نحو مبسط استحداث «المبدأ
الكوني». وفي نهاية المطاف، فإن تطور الكون بأسره محكوم بمعادلة واحدة بسيطة، تُعرف
الآن باسم معادلة فريدمان.
يمكن التفكير في معادلة فريدمان بوصفها تعبيرًا عن قانون حفظ الطاقة على مستوى الكون
ككلٍّ. والطاقة لها العديد من الصور المختلفة في الطبيعة، لكنه في سياقنا هذا ثمة نوعان
فقط من الطاقة هما المَعْنِيَّان. يحمل الجسم المتحرك، كالرصاصة مثلًا، نوعًا من الطاقة
يسمى «طاقة الحركة»، وهي تعتمد على كتلته وسرعته. من الجلي أنه بما أن الكون آخِذ في
التمدد، فإن كل المجرات آخذة في التباعد بعضها عن بعضٍ؛ ومن ثم يحتوي الكون مقدارًا
كبيرًا من طاقة الحركة. الصورة الأخرى من الطاقة هي «طاقة الوضع»، وهي أصعب قليلًا في
فهمها. فكلما تحرك جسم ما وتفاعل عن طريق نوع ما من القوة، كان بإمكانه أن يكتسب طاقة
الوضع أو يفقدها. على سبيل المثال، تخيل أن هناك ثقلًا معلقًا بطرف قطعة خيط متدلية.
يصنع هذا بندولًا بسيطًا. إذا رفعت الثقل، فإنه سيكتسب طاقة وضع؛ لأنك بهذا تقاوم
الجاذبية كي ترفعه. وإذا أطلقتَ الثقل فسيبدأ البندول في التأرجح. عندئذٍ سيكتسب الثقل
طاقة حركة، ومع سقوطه سيفقد طاقة الوضع التي يمتلكها. تنتقل الطاقة بين النوعين في هذه
العملية، لكن الطاقة الإجمالية تظل محفوظة. وسيتأرجح الثقل نحو النقطة السفلية من قوسه؛
حيث لا يمتلك أي طاقة وضع، لكنه سيظل يتحرك. وفي الواقع سيرسم الثقل دائرة كاملة، بحيث
يعود في النهاية إلى النقطة العليا من قوسه، التي عندها يتوقف (لحظيًّا) قبل أن يبدأ
دورة جديدة من التأرجح. وفي النقطة العليا، لا يملك الثقل طاقة حركة، بل يملك طاقة وضع
تكون في أقصى درجاتها. وأيًّا كان موضع الثقل، تظل طاقة المنظومة كلها ثابتة. وهذا هو
قانون حفظ الطاقة.
في السياق الكوني، تعتمد طاقة الحركة — على نحو بالغ — على معدل التمدد؛ أي على ثابت
هابل. وتعتمد طاقة الوضع على كثافة الكون؛ أي على مقدار المادة الموجود في كل وحدة حجم
للكون. لكن للأسف هذه الكمية غير معروفة بدقة إطلاقًا؛ بل هي في الواقع مشكوك فيها أكثر
من ثابت هابل. لكن إذا عرفنا متوسط كثافة المادة وقيمة ثابت هابل، فسيمكننا حساب طاقة
الكون الإجمالية. ويجب أن تكون هذه الطاقة ثابتة مع مرور الزمن، بما يتوافق مع قانون
حفظ الطاقة (أو في هذا السياق، معادلة فريدمان).
وبتنحية الصعوبات الفنية الناجمة عن تدخل النسبية العامة جانبًا، يمكننا الآن أن
نناقش تطور الكون على نحو إجمالي مستخدمين أمثلة مألوفة مأخوذة من فيزياء المرحلة
الثانوية. على سبيل المثال، تدبَّر مشكلة إطلاق مركبة من الأرض إلى الفضاء. في هذه
الحالة تكون الكتلة المسئولة عن طاقة الوضع الجذبية للمركبة هي كوكب الأرض. وتتحدد طاقة
الحركة الخاصة بالمركبة بواسطة قوة الصاروخ المستخدم. فإذا زودنا المركبة بصاروخ متواضع
وحسب، بحيث لا يتحرك بسرعة كبيرة عند الإطلاق، فستكون طاقة الحركة صغيرة، وقد لا تكفي
لجعل الصاروخ يُفلِت من جاذبية الأرض. وبهذا يرتفع الصاروخ قليلًا ثم يهبط مجددًا. من
منظور الطاقة، ما حدث هو أن الصاروخ استنفد طاقة الحركة التي يملكها، والتي استُهلكتْ
بثمن باهظ عند الإطلاق، ثم دفع الثمن على صورة طاقة وضع كبيرة تتناسب مع ارتفاعه
المتزايد. وإذا استخدمنا صاروخًا أكبر، فسيعلو إلى ارتفاع أكبر قبل أن يهوي مجددًا إلى
الأرض. وفي النهاية سنعثر على صاروخ كبير بما يكفي بحيث يمد المركبة بالطاقة الكافية؛
كي تفلت تمامًا من قبضة مجال الجاذبية الأرضية. وعادةً ما يُطلق على سرعة الإطلاق
الحرجة في هذه الحالة اسم «سرعة الإفلات»؛ وإذا زادت سرعة الصاروخ عن سرعة الإفلات
فسيواصل حركته إلى الأبد، وإذا قلَّتْ عنها فسيهوي إلى الأرض.
في السياق الفلكي الصورة مشابهة، لكن الكمية الحرجة ليست سرعة الصاروخ (المشابهة
لثابت هابل، ومن ثم تكون معروفة، على الأقل من حيث المبدأ)، وإنما كتلة كوكب الأرض (أو
في حالة الكون ككلٍّ، كثافة المادة). ومن ثم يكون من المفيد للغاية التفكير في الكثافة
الحرجة للمادة، عوضًا عن السرعة الحرجة. فإذا تجاوزت الكثافة الفعلية للمادة الكثافة
الحرجة، فسينهار الكون في نهاية المطاف على ذاته؛ إذ ستكون طاقة الجاذبية الخاصة به
كافية لأن تبطئ التمدد ثم توقفه، وفي النهاية تعكس مساره إلى أن ينهار الكون على نفسه.
وإذا كانت الكثافة أقل من القيمة الحرجة، فسيواصل الكون تمدده إلى الأبد. يتضح أن
الكثافة الحرجة صغيرة للغاية، وهي أيضًا تعتمد على ثابت هابل، لكن في نطاق ذرة هيدروجين
واحدة لكل متر مكعب. وأغلب الفيزيائيين التجريبيين سيَعُدُّون المادة التي لها مثل هذا
المقدار المنخفض من الكثافة مثالًا جيدًا للغاية على الفراغ!
الآن، على الأقل، يمكننا تقديم القيمة أوميجا ؛ فهي ببساطة نسبة الكثافة الفعلية للمادة في الكون إلى القيمة الحرجة
التي تمثل الحدَّ الفاصل بين التمدد السرمدي والانهيار الحتمي. تمثل القيمة الحد الفاصل، وإذا كانت فهذا يعني تمدد الكون بلا نهاية، أما القيمة فتشير إلى انهيار الكون على ذاته في انسحاق عظيم. وبغضِّ النظر عن
القيمة الدقيقة لأوميجا، فإن تأثير المادة دائمًا هو إبطاء تمدد الكون، ومن ثم تتنبأ
هذه النماذج دائمًا بإبطاء تمدد الكون، لكن سيأتي المزيد عن هذا لاحقًا.
شكل ٦-١: نماذج فريدمان. بالإضافة إلى امتلاكها خيارات عديدة بشأن المكان
المنحني، تستطيع نماذج فريدمان أيضًا أن تسير على نحو مختلف مع تطورها
عبر الزمن. إذا كانت قيمة أكبر من واحد فسيتوقف التمدد في نهاية المطاف وينهار
الكون على نفسه. أما إذا كانت أقل من واحد، فسيتمدد الكون إلى الأبد.
وبين هاتين القيمتين يوجد نموذج الكون المنبسط الذي تكون فيه قيمة مضبوطة تمامًا بحيث تساوي واحدًا صحيحًا.
لكن الاستمرارية طويلة المدى للتمدد الكوني ليست هي القضية الوحيدة التي يعتمد حلها
على قيمة ؛ فهذه الحجج المبنية على أفكار الطاقة البسيطة الناتجة عن فيزياء
نيوتن ليست القصةَ كلها. ففي نظرية النسبية العامة لأينشتاين، يحدد إجمالي
الطاقة-الكثافة الانحناءَ العام للمكان، كما أوضحتُ في الفصل الثالث. ينتج المكان ذو
الانحناء السالب في النماذج التي تقل فيها قيمة عن واحد، ويُوصف أي نموذج ذي انحناء سالب بأنه نموذج لكون مفتوح.
بينما يظهر النموذج ذو الانحناء الموجب (الكون المغلق) إذا زادت قيمة عن الواحد. وفيما بين الاثنين، يوجد النموذج الكلاسيكي الوسيط الذي
فيه تساوي قيمة الواحد الصحيح تمامًا، ولهذا النموذج هندسة منبسطة تنطبق فيها قوانين
إقليدس. كم سنشعر بالراحة لو اكتشفنا أن الكون اختار أبسط هذه الخيارات!
إن الكمية تحدد كلًّا من هندسة المكان على المستويات الكونية، والمصير النهائي
للكون كذلك، بَيْدَ أنه من المهم أن نشدد على أن قيمة لا يتنبأ بها نموذج الانفجار العظيم على الإطلاق. قد تبدو النظرية
التي تفشل في الإجابة عن الأسئلة الأساسية التي تدور حول وكأنها نظرية عديمة القيمة إلى حدٍّ بعيد، لكن هذا النقد في الواقع
ليس منصفًا. فكما أوضحتُ من قبل فإن الانفجار العظيم «نموذج»، وليس نظرية كاملة. وبوصفه
نموذجًا فهو يتسم بالاتساق رياضيًّا أو عند مقارنته بالمشاهدات، بَيْدَ أنه ليس تامًّا.
وفي هذا السياق يعني هذا أن متغير «حر» شأنها شأن ثابت هابل. بتعبير آخر: المعادلات الرياضية
الخاصة بنظرية الانفجار العظيم تصف تطور الكون، لكن من أجل أن نحسب مثالًا محددًا نحتاج
إلى توفير مجموعة من الظروف المبدئية كي تكون نقطة انطلاق لنا. وبما أن الأسس الرياضية
التي ينبني عليها النموذج تنهار عند بدايات الكون المبكرة، فليس لدينا وسيلة لتثبيت
الظروف المبدئية على نحو نظري. إن نظرية فريدمان محددة بدرجة جيدة، بغض النظر عن قيم
أوميجا وثابت هابل، وكل ما في الأمر أن
كوننا تصادف أنه بُني وفق توليفة عددية معينة من هذه الكميات. ومن ثم فإن كل ما يسعنا
فعله هو استخدام البيانات الرصدية للخروج باستنتاجات بشأن المتغيرات الكونية؛ إذ إن هذه
المتغيرات يستحيل، على الأقل في ضوء المعارف الحالية وداخل الإطار القياسي للانفجار
العظيم، أن تُستنتَج عن طريق التفكير المنطقي وحده. وعلى الجانب الآخر، ثمة فرصة
لاستخدام المشاهدات الكونية الحالية؛ كي نعرف أحوال الكون في مراحله المبكرة
للغاية.
البحث عن رقمين
أُدرِكتْ أهمية تحديد المتغيرات الكونية في وقت مبكر من تاريخ علم الكونيات. وفي
الواقع، كتب الفلكي البارز آلان سانديج (الذي أجرى دراساته البحثية العليا تحت إشراف
هابل) ذات مرة ورقة بحثية بعنوان «علم الكونيات: البحث عن رقمين». وبعدها بعقدين، ما
زلنا نجهل قيمة هذين الرقمين، ولفهم السبب وراء ذلك علينا أن نفهم الأنواع المختلفة
للمشاهدات التي يمكنها أن تعرِّفنا بقيمة ، ونوعية النتائج التي أنتجتها. فهناك أنواع مختلفة من المشاهدات، لكن
من الممكن تجميعها في أربع فئات رئيسة.
أولًا: هناك الاختبارات الكلاسيكية المَعْنِية بدراسة الكون. وفكرة هذه الاختبارات
هي
استخدام المشاهدات الخاصة بكل جِرم بعيد؛ من أجل قياس انحناء المكان، أو المعدل الذي
يتباطأ به تمدُّد الكون. وأبسط هذه الاختبارات يتضمن مقارنة أعمار الأجرام السماوية
(وخاصة النجوم الموجودة في منظومات العناقيد الكروية) بالعمر الذي تتنبأ به النظرية
الكونية. ناقشتُ هذا الأمر في الفصل الرابع؛ لأنه إذا لم يكن تمدد الكون آخذًا في
التباطؤ؛ فإن العمر المُتنبَّأ به يعتمد بدرجة وثيقة على ثابت هابل أكثر مما يعتمد على
قيمة ، وعلى أي حال فإن أعمار النجوم القديمة ليست معروفة بأي درجة كبيرة
من الثقة؛ لذا لا يفيد هذا الاختبار كثيرًا في تحديد قيمة في الوقت الحاضر. تتضمن الاختبارات الكلاسيكية الأخرى خصائص المصادر
البعيدة للغاية؛ كي نتحقق على نحو مباشر من معدل التباطؤ أو الهندسة المكانية للكون.
بعض هذه الأساليب كان هابل هو رائدها، بينما نقَّحها سانديج ببراعة. بَيْدَ أنها لم تكن
محل تفضيل في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته؛ لأنه في ذلك الوقت لم يكن معروفًا أن
الكون إجمالًا يتمدد وحسب، بل إن الأجرام الموجودة داخله آخذة في التطور بسرعة. وبما
أنه على المرء أن يستكشف مسافات بعيدة للغاية من أجل قياس التأثيرات الهندسية الطفيفة
للغاية لانحناء المكان، فإنه في واقع الأمر ينظر لا محالة إلى الأجرام السماوية كما
كانت حين غادرها الضوء في رحلته نحونا. ومن الممكن أن يكون هذا الوقت كبيرًا للغاية؛
يصل في المعتاد إلى أكثرَ مِن ثمانين بالمائة من عمر الكون في المشاهدات الكونية. فلا
يوجد ما يضمن أن يكون سطوع الأجرام البعيدة المستخدمة أو أحجامها لهما الخصائص عينها
التي للنجوم القريبة؛ وذلك بسبب إمكانية أن تكون هذه الخصائص قد تغيرت مع مرور الزمن.
في واقع الأمر، تُستخدم الاختبارات الكونية الكلاسيكية في الوقت الحاضر بالأساس بهدف
دراسة تطور الخصائص، لا اختبارِ المناحي الرئيسة لعلم الكونيات. ومع ذلك ثمة استثناء
حديث مهم؛ إذ أسفر استخدام انفجارات المستعرات العظمى (السوبرنوفا) بوصفها مصادر ضوئية
قياسية عن نتائج رائعة تقترح فيما يبدو أن الكون لا يتباطأ في التمدد على الإطلاق.
وسأتحدث بمزيد من التفصيل عن هذا الأمر في نهاية هذا الفصل.
بعد ذلك هناك الحجج المبنية على نظرية
التخليق النووي. وكما أوضحتُ في الفصل الخامس؛ يُعَدُّ الاتفاق بين الوفرة المرصودة
للعناصر من جهة، وبين التنبؤات الخاصة بحسابات الاندماج النووي في المراحل المبكرة من
عمر الكون من جهة أخرى؛ أحدَ ركائز الأدلة الأساسية الداعمة لنظرية الانفجار العظيم.
بَيْدَ أن هذا الاتفاق لا يسري إلا إذا كانت كثافة المادة قليلة للغاية؛ أي لا تزيد عن
نسبة مئوية ضئيلة من الكتلة الحرجة المطلوبة كي يكون المكان منبسطًا. كان هذا معروفًا
لسنوات عدة، ومن الوهلة الأولى يبدو أنه يقدم إجابة بسيطة للغاية لكل الأسئلة التي
طرحْتُها. ومع ذلك، هناك شرط بسيط مقيِّد؛ إذ إن حدَّ «النسبة المئوية الضئيلة» ينطبق
فقط على المادة التي يمكنها المشاركة في التفاعلات النووية. فربما كان الكون مليئًا
بخلفية من الجسيمات الخاملة العاجزة عن التأثير في عملية تخليق العناصر الخفيفة. يسمى
نوع المادة الذي يشارك في التفاعلات النووية باسم المادة «الباريونية»، وهو يتألف من
جسيمين أساسيين؛ البروتونات والنيوترونات. وقد اقترح فيزيائيو الجسيمات أنه ربما أُنتجت
أنواع أخرى غير باريونية من المادة داخل الأتون المتَّقِد للكون المبكر. وعلى الأقل
بعضٌ من هذه الجسيمات ربما ظل باقيًا إلى الآن، وربما يؤلف ولو جزءًا من المادة
المظلمة. ومن ثم ربما يتضمن بعضٌ من المادة المكونة للكون نوعًا ما من الجسيمات العجيبة
غير الباريونية. وقد لا تكون المادة العادية — التي نتكون منها — أكثر من لطخة صغيرة
على ثوب المادة الكونية الشاسعة التي لم تتحدد طبيعتها بعد. وهذا يضيف بُعدًا آخر إلى
المبدأ الكوبرنيكي؛ فنحن لم نعد في مركز الكون وحسب، بل إننا حتى لا نتكون من المادة
عينها التي يتكون منها السواد الأعظم من الكون.
الفئة الثالثة من الأدلة مبنية على حجج فيزيائية فلكية. والفارق بين هذه الحجج وبين
القياسات الكونية في جوهرها، التي ناقشناها سابقًا، هو أنها تنظر إلى الأجرام المنفردة
بدلًا من خصائص المكان الفاصل بينها. ففي الواقع، نحن نحاول هنا أن نحدد كثافة الكون
عن
طريق وزن العناصر المكونة له واحدًا تلو الآخر. على سبيل المثال، يمكننا أن نحاول
استخدام آليات الحركة الداخلية للمجرات من أجل حساب كتلتها، وذلك بافتراض أن الجاذبية
تحافظ على دوران القرص المجرِّيِّ بالطريقة عينها تقريبًا التي تهيمن بها جاذبية الشمس
على حركة كوكب الأرض حول الشمس. فمن الممكن حساب كتلة الشمس من واقع سرعة كوكب الأرض
في
مداره، ومن الممكن إجراء عملية حسابية مشابهة من أجل المجرات؛ إذ إن السرعات المدارية
للنجوم داخل المجرات تتحدد بواسطة الكتلة الإجمالية للمجرة التي تمارِس على النجوم قوة
جذب. ومن الممكن بسط المبدأ عينه ليشمل العناقيد المجرية، بل والمنظومات الأكبر حجمًا
من هذا. وتشير هذه العمليات البحثية على نحو مقنع للغاية إلى احتواء المجرات على مادة
أكثر بكثير من تلك التي نراها بأعيننا على صورة نجوم كشمسنا. وهذه هي المادة المظلمة
الشهيرة التي لا يمكننا أن نراها، وإنما يمكننا الاستدلال على وجودها من واقع تأثيرها
الجذبي.
شكل ٦-٢: عنقود الهلبة المجرِّي. هذا مثال للعناقيد المجرية الثرية. وباستثناء
النجوم المنفردة (كتلك الواقعة في يمين الصورة) فإن جميع الأجرام في
هذه الصورة هي جميعها مجرات يحتويها عنقود مجري عملاق. العناقيد
المجرية الضخمة كهذا نادرة نسبيًّا، لكنها تحتوي على مقدار ضخم للغاية
من الكتلة، تصل إلى ١٠٠ مليون مليون مرة قدر كتلة الشمس.
شكل ٦-٣: عنقود الهلبة المجرِّي بالأشعة السينية. بالإضافة إلى المئات العديدة
من المجرات التي تظهر في الصورة السابقة، تحتوي العناقيد المجرية
كعنقود الهلبة على غاز حار للغاية يمكن تبيُّنه من خلال الإشعاع السيني
الذي يطلقه. هذه الصورة التُقطتْ بواسطة القمر الصناعي «روسات».
شكل ٦-٤: عدسة الجاذبية. يمكن قياس أوزان العناقيد الثرية عن طريق رصد
التشوهات التي تصيب الضوء الصادر من المجرات الموجودة في الخلفية بينما
يمر عبر العنقود المجري. في هذا المثال الجميل للعنقود المجري
«أبيل ٢٢١٨» نرى الضوء القادم من الخلفية، وقد تركز في نمط معقَّد من
الأقواس بينما يعمل العنقود المجري كعدسة عملاقة. هذه الملامح تكشف عن
مقدار الكتلة الذي يحتويه العنقود المجري.
العناقيد المجرِّية الثرية — تلك المنظومات البالغ قطرها أكثر من مليون سنة ضوئية،
وتتكون من تجميعات هائلة من المجرات — تحتوي أيضًا قدرًا من المادة أكبرَ مما يُعزى إلى
المجرات المنفردة الموجودة داخلها. إن مقدار المادة المحدد غير واضح، لكن ثمة أدلة قوية
للغاية على أنه يوجد ما يكفي من المادة داخل المنظومات العنقودية الغنية بما يقترح أن
قيمة أوميجا تصل إلى ٠٫١، بل وربما تزيد عن ٠٫٣. بل وتوحي أدلة غير حاسمة آتية من آليات
حركة البِنَى الأكبر — العناقيد المجرية الفائقة التي يصل حجمها إلى عشرات ملايين
السنوات الضوئية — بأن المزيد من المادة المظلمة يكمن في الفضاء الواقع بين العناقيد
المجرية. هذه الحجج القائمة على آليات الحركة اختُبرت هي الأخرى حديثًا، وتأكَّدت من
واقع مشاهدات مستقلة لتأثير عدسة الجاذبية الذي تتسبب فيه العناقيد المجرية، ومن واقع
قياسات خصائص الغاز الحار للغاية المُطلِق للأشعة السينية التي يتخللها. ومن المثير
للاهتمام أن نسبة المادة الباريونية داخل العناقيد المجرية مقارنةً بكتلتها الإجمالية
تبدو أكبر بكثير من القيمة العامة التي تسمح بها عملية التخليق النووي لو أن هناك كثافة
حرجة للمادة إجمالًا. تعني هذه الظاهرة المسماة «الكارثة الباريونية» أنه إما أن
الكثافة الإجمالية للمادة أقل كثيرًا من القيمة الحرجة أو أن ثمة عملية مجهولة ما ربما
أدت إلى تركيز المادة الباريونية في عناقيد.
أخيرًا، لدينا خيوط قائمة على محاولات فهم أصل البنية الكونية؛ أي الكيفية التي صار
بها الكون على ما هو عليه من تكتُّل وعدم انتظام في ظل الاتساق والتجانس العام اللذين
يفرضهما المبدأ الكوني. في الفصل التالي سأناقش بمزيد من التفصيل الفكرة الكامنة وراء
الكيفية التي يُعتَقَد أن هذا حدث بها في نموذج الانفجار العظيم. في رأيي، المبادئ
الأساسية مفهومة على نحو طيب نسبيًّا، أما التفاصيل فهي معقدة للغاية وعُرضة لكل أنواع
عدم اليقين والتحيز. ولقد صِيغَتْ نماذجُ، ويمكن أن تُصاغ نماذج أخرى، يبدو أنها تتلاءم
مع كل البيانات المتاحة، وفيها تقترب قيمة للغاية من الواحد الصحيح. لكن صِيغَت نماذج أخرى تحمل فيها قيمة تقل كثيرًا عن هذا الرقم. وقد يبدو هذا أمرًا محبطًا، لكن من
المرجح أن ييسر هذا النوع من الدراسات الطريق نحو التحديد الناجح لقيمة . وإذا أمكن عمل المزيد من القياسات التفصيلية للملامح الظاهرة على
إشعاع الخلفية الميكروني، فستخبرنا خصائص هذه الملامح على الفور بما يجب أن تكون عليه
كثافة المادة. وكمكافأة إضافية، سوف تحدد أيضًا ثابت هابل، متجاوِزة كل العمل المُمِل
الخاص بسُلم المسافات الكوني. ونأمُل فقط أن تتمكن الأقمار الصناعية المخطط لها أن تقوم
بذلك — وهي «مسبار قياس تباين الأشعة الكونية» و«مرصد بلانك الفضائي» — من الانطلاق
بنجاح في السنوات القليلة القادمة. وقد بيَّنتْ تجارب المناطيد الحديثة أن هذا يبدو
أمرًا قابلًا للتحقيق، وسأناقشه بالتفصيل في الفصل السابع.
يمكننا تلخيص حالة الأدلة بأن نقترح أن الأغلبية العظمى من علماء الكونيات يتقبلون
على الأرجح أن قيمة لا يمكن أن تقل عن ٠٫٢، وحتى هذه القيمة الضئيلة تتطلب أن تكون أغلب
المادة الموجودة في الكون مادةً مظلمة. وهذا يعني أيضًا أن بعض المادة على الأقل يجب
أن
يكون في صورة بروتونات ونيوترونات (باريونات)، يكمن فيها السواد الأعظم من كتلة المادة
المألوفة لدينا في خبرتنا اليومية. بعبارة أخرى، لا بد من وجود مادة مظلمة غير
باريونية. أغلب علماء الكونيات يرون أن قيمة تبلغ ٠٫٣، وهو ما يبدو متسقًا مع معظم الأدلة الرصدية. وقد زعم البعض
أن الأدلة تؤيد أن قيمة الكثافة تقترب من القيمة الحرجة؛ ومن ثم من الممكن أن تكون قيمة
مقاربة للغاية من الواحد الصحيح. ويرجع هذا في جزء منه إلى تراكم
الأدلة الفلكية المؤيدة لوجود المادة المظلمة، ويرجع أيضًا إلى أن الإدراك النظري بأن
المادة غير الباريونية ربما أُنتجت في الطاقات العالية للغاية للانفجار العظيم.
الحبل الكوني المشدود
إن الجدل الكبير نسبيًّا حول قيمة يتسبب فيه جزئيًّا حالات الخلاف الناجمة عن صعوبة تقييم مدى موثوقية
ودقة الأدلة الرصدية (المتعارضة أحيانًا). وأقوى الحجج المؤيدة لأن تكون ﻟ قيمة عالية (أي تقارب الواحد الصحيح) مبنية على حجج نظرية، لا
رصديةٍ. وقد يميل المرء إلى رفض مثل هذه الحجج بوصفها محض تحيزات، بَيْدَ أنها تضرب
بجذورها في ذلك اللغز العميق الكامن في نظرية الانفجار العظيم، ذلك اللغز الذي يأخذه
علماء الكونيات على محمل الجِدِّ الشديد.
ولفهم طبيعة هذا اللغز، تخيل أنك تقف خارج حجرة مغلقة بإحكام. إن محتويات الحجرة
محجوبة عنك، خلا نافذة صغيرة. يقال لك إنك تستطيع فتح النافذة في أي وقت تشاء، لكن لمرة
واحدة فقط، ولفترة وجيزة من الوقت. ويقال لك إن الحجرة خالية، عدا حبل مشدود معلق في
منتصفها على ارتفاع نحو مترين عن الأرض، ورجل بدأ في وقت غير محدد من الماضي السير على
الحبل المشدود. أنت تعلم أيضًا أنه إذا وقع الرجل، فإنه سيظل على الأرض إلى أن تفتح
النافذة. وإذا لم يقع، فسيواصل السير على الحبل المشدود إلى أن تراه.
ما الذي تتوقع رؤيته عندما تفتح النافذة؟ إنَّ توقُّعَكَ أن تجد الرجل على الحبل أو
على الأرض يعتمد على معلومات ليست بحوزتك. فإذا كان هذا الرجل لاعب سيرك، فسيكون قادرًا
على المشي جيئة وذهابًا على الحبل لساعات دون أن يسقط. من ناحية أخرى، إذا لم يكن الرجل
متخصصًا في هذا المجال (شأنه في ذلك شأن أغلبنا) فلن يطول وقت بقائه على الحبل. ومع ذلك
ثمة شيء بديهي؛ وهو أنه إذا وقع الرجل، فسيستغرق وقتًا وجيزًا للغاية في السقوط من
الحبل إلى الأرض. ومن ثم ستندهش للغاية إذا اختلستَ النظر من النافذة وتصادف أنك رأيتَه
وهو يقع من الحبل إلى الأرض. فمن المنطقي، على أساس ما نعرفه من معلومات عن الموقف، أن
نتوقع أن يكون الرجل إما على الحبل أو على الأرض حين ننظر، لكن إذا نظرتَ ووجدته في
منتصف السقوط، فستخلص إلى أن ثمة ما يريب في الأمر.
قد لا يبدو هذا المثال وثيق الصلة بقيمة ، لكن وجه الشبه سيصير واضحًا حين ندرك أن ليست لها قيمة ثابتة مع مرور الزمن. ففي نماذج فريدمان القياسية،
تتطور ، وهذا يحدث بطريقة غريبة للغاية. ففي أوقات قريبة غير محددة من
الانفجار العظيم، تُوصَف هذه النماذج كلها بواسطة قيمة قريبة اعتباطيًّا من الواحد الصحيح. بتعبير آخر، إذا نظرت إلى الشكل
(٦-١) فستجد أنه بغض النظر عن شكل المنحنيات الثلاثة في
الأوقات اللاحقة، فإنها جميعًا تقترب أكثر وأكثر بعضها من بعض قرب البداية، وتحديدًا
تقترب كلها من خط «الكون المنبسط». ومع مرور الوقت، فإن النماذج التي فيها قيمة تزيد قليلًا عن الواحد الصحيح في المراحل المبكرة تكتسب قيمًا أكبر
وأكبر ﻟ ، بحيث تزيد القيم كثيرًا عن الواحد الصحيح حين تنهار مجددًا على
نفسها. والأكوان التي تبدأ بقيم ﻟ أقل من الواحد الصحيح تتمدد في نهاية المطاف أسرع بكثير عن النموذج
المنبسط، ثم تكون لها قيم تقترب للغاية من الصفر. في الحالة الأخيرة، وهي الأقرب من واقعنا في
ضوء المؤشرات العديدة التي تقضي بأن قيمة تقل عن الواحد الصحيح، فإن الانتقال من قيمة مقاربة للواحد الصحيح إلى قيمة مقاربة للصفر يكون انتقالًا سريعًا للغاية.
الآن يمكننا أن نرى المشكلة. فإذا كانت قيمة تبلغ، مثلًا ٠٫٣، إذن فهي كانت في المراحل المبكرة للغاية من تاريخ
الكون تقترب كثيرًا من الواحد الصحيح، لكنها أقل من تلك القيمة بمقدار ضئيل. في الواقع،
هو مقدار ضئيل للغاية حقًّا. فعند زمن بلانك على سبيل المثال (أي بعد
١٠−٤٣ ثانية من الانفجار العظيم) كان لا بد أن يكون
الفارق بين قيمة وبين الواحد الصحيح فارقًا ضئيلًا يقع عند العلامة العشرية الستين.
ومع مرور الوقت، اقتربت ببطء من حالة الكثافة الحرجة، ولم تبدأ في التحرك بسرعة إلا في
الماضي القريب. وفي المستقبل القريب للغاية ستقترب بشدة من الصفر. لكن في الوقت الحالي،
يبدو الأمر وكأننا لمحنا الرجل الذي يمشي على الحبل وهو في منتصف السقوط تمامًا. وأقل
ما يوصف به هذا الأمر هو أنه يبدو باعثًا على الدهشة.
صارت هذه المفارقة تُعرف باسم «مشكلة الانبساط الكوني»، وهي نابعة من عدم اكتمال
نظرية الانفجار العظيم القياسية. وقد تسبب كِبَر حجم المشكلة في جعل العديد من العلماء
يقتنعون بأنها تحتاج إلى حلٍّ كبير. وبدا أن السبيل الوحيد لحل هذه المعضلة هو أن يكون
كوننا بالفعل مؤدِّيَ سيركٍ محترفًا، وهذا إذا تمادينا في التشبيه إلى حد المبالغة. من
الجلي أن قيمة ليست قريبة من الصفر؛ لأن لدينا أدلة قوية على أن حدها الأدنى لا يقل
عن ٢٠ بالمائة. وهذا يستبعد خيار الرجل الواقع على الأرض. ومن ثم لا بد أن تكون قيمة
مقارِبة بشدة للواحد الصحيح، وأن شيئًا ما حدث في الأزمنة الأولى
بحيث جرى اختيار هذه القيمة على نحو دقيق للغاية.
التضخم والانبساط
يُزعَم أن الحدث الذي تسبب في هذا هو التضخم الكوني، وهو فرضيةٌ أولُ مَن طرحها آلان
جوث عام ١٩٨١ بشأن المراحل المبكرة للغاية من نموذج الانفجار العظيم. ويتضمن التضخم
تغيرًا عجيبًا في خصائص المادة عند الطاقات العالية للغاية يُعرف باسم «التحول
الطوري».
قابلنا بالفعل مثالًا على التحول الطوري؛ إذ يحدث أحد التحولات الطورية في النموذج
القياسي بعد مرور جزء على المليون من الثانية على الانفجار العظيم، وهو مرتبط
بالتفاعلات بين الكواركات. فعند درجات الحرارة المنخفضة، تظل الكواركات حبيسة
الهادرونات، بينما عند درجات الحرارة العالية تكوِّن الكواركات بلازما
الكواركات-الجلوونات. وفيما بين الحالتين تحدث عملية تحول طوري. وفي العديد من النظريات
الموحدة، من الممكن أن يكون هناك العديد من التحولات الطورية على درجات حرارة أعلى من
ذلك، وكلها تمثِّل تغيرات في شكل وخصائص المادة والطاقة في الكون. وفي ظل ظروف معينة،
يمكن أن يكون التحول الطوري مصحوبًا بظهور الطاقة في الفضاء الخاوي، وهذه الطاقة تسمى
«طاقة الفراغ». وإذا حدث هذا، يبدأ الكون في التمدد بسرعة أكبر بكثير من تمدده وفق
نماذج فريدمان. وهذا هو التضخم الكوني.
كان للتضخم تأثير عظيم في النظرية
الكونية على مر العشرين عامًا الماضية. وفي هذا السياق، أهم شيء بشأنه هو أن مرحلة
التمدد الجامح — التي تكون قصيرة الأمد — تقلب في واقع الأمر الكيفية التي من شأن أن تتغير بها في ظروف مغايرة مع مرور الزمن؛ رأسًا على عقب. فحين
يبدأ التضخم، تُدفَع قيمة بقوة نحو الواحد الصحيح، بدلًا من أن تبتعد عنه كما يحدث في الحالات
الموصوفة أعلاه. فالتضخم يكون أشبه بحبال التأمين التي تعيد الشخص الذي يمشي على الحبل
إليه كلما بدا أنه سيسقط. ومن الطرق اليسيرة لفهم كيفية حدوث هذا الأمر الاستعانة
بالارتباط الذي أرسيتُه بالفعل بين قيمة وبين انحناء المكان. تذكَّرْ أن المكان المنبسط يتوافق مع الكتلة
الحرجة، ومن ثم يتوافق مع قيمة التي تساوي الواحد الصحيح. وإذا اختلفت قيمة عن هذه القيمة السحرية فعندئذٍ قد يكون المكان منحنيًا. وإذا أخذ
المرء بالونًا شديد الانحناء ونفخه حتى يصل إلى حجم هائل — لِنَقُلْ مثلًا حجم كوكب
الأرض — عندها سيبدو سطحه وكأنه منبسط. في علم كونيات التضخم، يبدأ البالون وعَرْضُه
لا
يتجاوز كسرًا بسيطًا من السنتيمتر، وينتهي به الحال وهو أكبر من الكون القابل للرصد.
وإذا صحت نظرية التضخم، فحريٌّ بنا أن نتوقع أننا نعيش في كون منبسط للغاية بالفعل. من
ناحية أخرى، حتى إذا تبيَّن أن قيمة تقترب للغاية من الواحد الصحيح، فلن يُثبِت هذا بالضرورة أن التضخم
وقع بالفعل. فلربما أدَّتْ آلية أخرى — قد تكون ذات صلة بظواهر الجاذبية الكمية — إلى
تعليم كوننا كيف يمشي على الحبل المشدود.
هذه الأفكار النظرية مهمة للغاية، بَيْدَ أنها لا تستطيع وحدها حسم القضية. ففي نهاية
المطاف، وسواء أحب المنظِّرون هذا أم لم يحبوه، علينا تقبُّل حقيقة أن علم الكونيات صار
علمًا تجريبيًّا قائمًا على المشاهدات. فربما نملك أسبابًا نظرية تجعلنا نشك في أن قيمة
ينبغي أن تكون قريبة للغاية من الواحد الصحيح، لكن المشاهدات الفعلية
هي صاحبة الكلمة العليا في نهاية المطاف.
المفاجأة
السؤال الذي يُطِلُّ برأسه من بين كل هذا هو: إذا كانت قيمة ، كما يبدو مبدئيًّا، أقل بكثير من الواحد الصحيح، فهل علينا إذن
التخلي عن فكرة التضخم الكوني؟ والجواب هو: «ليس بالضرورة.» فعلى سبيل المثال هناك بعض
نماذج للتضخم بُنيت بحيث تنتج كونًا مفتوحًا سالب الانحناء، وإن كان الكثير من علماء
الكونيات لا يحبون هذه النماذج، وتبدو في نظرهم مصطنعة. ما هو أهم من ذلك أن ثمة مؤشرات
الآن على أن الارتباط بين وبين هندسة المكان قد يكون أقل صراحة مما اعتُقد مسبقًا. فبعد سنوات
عدة من التخبط والارتباك، بدأت الاختبارات الكونية الكلاسيكية التي ذكرتُها من قبل في
العودة مجددًا على نحو قوي. وقد عكف فريقان دوليان من الفلكيين على دراسة خصائص نوع
محدد من النجوم المتفجرة؛ المستعرات العظمى من النوع (١أ).
يمثل انفجار المستعر الأعظم نهاية درامية لحياة أي نجم ضخم. والمستعرات العظمى من
بين
أكثر الظواهر المعروفة في علم الفلك إثارة للذهول. فانفجار المستعر الأعظم أشد سطوعًا
من الشمس بمليار مرة، ويمكن أن يفوق سطوع مجرة بأكملها لأسابيع عديدة. وقد رُصدت
المُستَعِرات العظمى على مر التاريخ المدَوَّن، وقد أدى مستعر أعظم رُصِد وسُجِّل عام
١٠٥٤ إلى نشوء سديم السرطان، وهو سحابة من الغبار والحطام يقع داخلها نجم يدور حول نفسه
في سرعة شديدة، يُسمى نجمًا نابضًا. وقد رصد عالم الفلك الدانماركي العظيم تيكو براهي
مستعرًا أعظم عام ١٥٧٢، وآخِر حدث مماثل شوهد في مجرتنا يرجع تاريخه إلى عام ١٦٠٤،
وعُرف وقتها بنجم كبلر. ورغم أن المعدل المعتاد لحدوث هذه الانفجارات في مجرة درب
التبانة يبدو أنه نحوُ انفجارٍ واحد أو انفجارين في القرن أو نحو ذلك، وهذا استنادًا
إلى السجلات التاريخية، فإنه لم يُرصد أي انفجار على مدار نحو ٤٠٠ عام. لكن في عام ١٩٨٧
انفجر مستعر أعظم بالفعل، في سحابة ماجلان الكبرى، وكان من الممكن رؤيته بالعين
المجردة.
هناك نوعان مختلفان من المستعرات العظمى، يسمَّيَان النوع ١ والنوع ٢. وتكشف قياسات
التحليل الطيفي عن وجود الهيدروجين في المستعرات العظمى من النوع ٢، لكن هذا العنصر غير
موجود في المستعرات العظمى من النوع ١. ويُعتقد أن المستعرات العظمى من النوع ٢ نشأت
مباشرة من انفجارات النجوم الضخمة التي تنهار قلوبها على نفسها بحيث تصير أشبه بأثر
ميت، بينما تُلفَظ طبقاتها الخارجية في الفضاء. والمرحلة الأخيرة لهذا الانفجار
تُخَلِّف إما نجمًا نيوترونيًّا وإما ثقبًا أسود. قد تَنْتج المستعرات العظمى من النوع
٢ من انهيار نجوم ذات كتل مختلفة، ومن ثم يوجد تفاوت كبير في خصائصها من نجم لآخر.
تنقسم المستعرات العظمى من النوع ١ إلى الأنواع (١أ) و(١ب) و(١ج)، اعتمادًا على تفاصيل
شكلها وطيفها. والمستعرات العظمى من النوع (١أ) تثير الاهتمام على نحو خاص؛ إذ إن لها
ذروة سطوع واحدة؛ بسبب أنه يُعتقد أنها ناتجة عن نفس نوع الانفجار. والنموذج المعتاد
لهذه الأحداث يتمثل في مراكمة قزم أبيض للكتلة عن طريق اكتسابها من نجم آخر ملازم له.
وحين تتجاوز كتلة القزم الأبيض حدًّا حرجًا للكتلة يُسمى «كتلة شاندراسيخار» (حوالي ١٫٤
مرة قدر كتلة الشمس)، تنفجر أجزاؤه الخارجية، بينما تنهار أجزاؤه الداخلية على نفسها.
وبما أن الكتلة الداخلة في الانفجار تكون مقاربة على الدوام للكتلة الحرجة، فَيُتوقَّع
أن ينتج عن هذه الأجرام دائمًا تحرير القدر عينه من الطاقة. وانتظام خصائص المستعرات
العظمى من النوع (١أ) يعني أنها واعدة للغاية من حيث إمكانية استخدامها في اختبار
انحناء الزمكان وتباطؤ معدل تمدد الكون.
مكَّنت التقنيات الجديدة علماء الفلك من البحث عن (والعثور على) المستعرات العظمى
من
النوع (١أ) في مجرات بإزاحة حمراء تقارب الواحد الصحيح. (تذكَّر أن هذا يعني أن الكون
تمدد بمعامل قدره اثنان خلال الوقت الذي قطعه الضوء من المستعر الأعظم إلينا.) ويمكن
لمقارنة السطوع المرصود للمستعرات العظمى البعيدة بتلك القريبة أن تُمِدَّنا بتخمين
تقريبي لمقدار بُعدها عنا. وهذا بدوره من شأنه أن يُخبرنا بالمعدل الذي كان الكون
يتباطأ به خلال الزمن الذي استغرقه الضوء في الوصول إلينا. المشكلة أن هذه المستعرات
العظمى أشد خفوتًا مما ينبغي لها أن تكون عليه لو أن تمدُّد الكون آخِذٌ في التباطؤ.
فالكون لا يتباطأ حقًّا في تمدده، وإنما يتسارع.
هذه المشاهدات تقلب التوصيف القياسي لعلم الكونيات الذي تجسده معادلات فريدمان رأسًا
على عقب. فمن المفترض بكل هذه النماذج أن يكون فيها الكون متباطئًا. وحتى نماذج فريدمان
التي تكون فيها قيمة منخفضة، والتي يكون فيها التباطؤ طفيفًا للغاية بسبب كثافتها
المنخفضة؛ ليس من المفترض بها أن تتسارع. والنماذج ذات الكثافة الحرجة التي يفضلها
التضخم فيما يبدو ينبغي لها أن تمر بتباطؤ شديد. فما الخطأ الذي وقع؟
أم تُراها أعجوبة أينشتاين الكبرى؟
لا تزال مشاهدات المستعرات العظمى التي تحدثتُ عنها محل خلاف، لكن يبدو أنها تشير
بالتأكيد إلى أن ثمة حاجة إلى تغيير جذري في النظرية الكونية. من ناحية أخرى، هناك علاج
جاهز لتلك المشكلة يرجع إلى وقت أينشتاين نفسه. في الفصل الثالث ذكرتُ كيف غيَّر
أينشتاين نظريته الأصلية للجاذبية عن طريق استحداث ثابت كوني. وكانت الأسباب التي دعتْه
لهذا الفعل — الذي نَدِم عليه فيما بعد — هي أنه أراد صياغة نظرية يمكنها وصف كون ساكن
(أي غير متمدد). وقد غيَّر ثابِتُه الكوني قانونَ الجاذبية بحيث يمنع المكان من التمدد
أو الانكماش على السواء. وفي السياق الحديث، من الممكن استحداث الثابت الكوني بحيث يصير
قانون الجاذبية طاردًا على النطاقات الكبيرة. وإذا حدث هذا، فإن نزعة قوة الجذب
التثاقلية للمادة إلى إبطاء الكون ستتغلب عليها قوة طرد كونية تجعل الكون يتسارع في
تمدده.
بطبيعة الحال يتطلب هذا الحل أن يتقبل المرء فكرة أن الثابت الكوني لم يكن فكرة سيئة
في المقام الأول. لكن النظريات الحديثة تمنحنا أيضًا فهمًا جديدًا للكيفية التي يمكن
أن
يحدث بها هذا. في نظرية أينشتاين الأصلية، ظهر الثابت الكوني في المعادلات الرياضية؛
كي
يصف الجاذبية وانحناء الزمكان. وقد كان في حقيقة الأمر تعديلًا لقانون الجاذبية. لكن
كان بإمكان أينشتاين بالمثل أن يكتب هذا الحد على الجانب الآخر من معادلاته، في جزء
النظرية الذي يصف المادة. وعلى الجانب الآخر من معادلات أينشتاين، يظهر الثابت الكوني
الشهير بوصفه حدًّا يصف كثافة الطاقة في الفراغ. قد تبدو فكرة الفراغ الذي يتمتع بطاقةٍ
فكرةً عجيبةً، لكننا تناولناها بالفعل في موضع سابق من هذا الفصل. وهذه الطاقة هي
المطلوبة تحديدًا من أجل التسبب في التضخم.
في النُّسَخ المبكرة من نظرية التضخم الكوني، تختفي طاقة الفراغ التي حررها التحول
الطوري البدائي بعد انقضاء فترة التمدد المفرط العابرة. لكن ربما ظل قدرٌ ضئيل من هذه
الطاقة باقيًا إلى الآن، وهذه هي الطاقة التي جعلتْ قوة الجاذبية قوة طرد بدلًا من أن
تكون قوة جذب. إن الفكرة التي تقضي بأن طاقة الفراغ هذه قد تكون هي المسبِّبةَ للتسارع
تمكِّننا أيضًا من التوفيق بين نظرية التضخم والأدلة، على أن قيمة ربما تكون أقل كثيرًا من القيمة التي كانت ستمتلكها لو كان المكان
منبسطًا. فبينما تعمل طاقة الفراغ على نحو معاكس؛ من حيث إنها تجعل الجاذبية قوة طاردة
بدلًا من أن تكون قوة جاذبة، فإنها على الأقل تحني المكان بالطريقة عينها التي تحنيه
بها المادة العادية. وإذا كان الكون به كلٌّ من المادة وطاقة الفراغ فعندئذٍ يمكن أن
يكون المكان منبسطًا دون وجود للتباطؤ الذي يفرضه أي نموذج اعتيادي من نماذج
فريدمان.
ما زلنا لا نعرف يقينًا هل الكون يتسارع في تمدده أم لا، أو هل ثمة وجود لطاقة الفراغ
أم ليس لها وجود، أو نعلم حتى القيمة الدقيقة ﻟ . بَيْدَ أن هذه الأفكار أثارتْ نشاطًا كبيرًا على مدار السنوات
القليلة الماضية في الجانبين النظري والتجريبي. وهناك جيل جديد من القياسات الآتية في
الطريق التي يمكنها — إذا نجحتْ — أن تجيب عن كل هذه الأسئلة. وسأناقش هذه القياسات في
الفصل التالي.