البِنَى الكونية
المجرات هي الوحدات البنائية الأساسية للكون. بَيْدَ أنها ليست أكبر البِنَى التي يمكن رؤيتها. فالمجرات لا تميل إلى الوجود على نحو منعزل، وإنما تحب التجمع معًا، شأنها في هذا شأن البشر. والمصطلح المستخدم لوصف الطريقة التي تتوزع بها المجرات عبر المسافات الكونية هو «البنية واسعة النطاق». ويعد أصل هذه البنية أحد أكثر موضوعات علم الكونيات احتدامًا، لكن قبل أن نفسر السبب وراء ذلك، من الضروري أولًا أن نصف الماهية الفعلية لهذه البنية.
أنماط في الفضاء
يتحدد توزيع المادة على النطاقات الواسعة عادةً بواسطة عمليات المسح الطيفي التي تستخدم قانون هابل في تقدير المسافات إلى المجرات من خلال إزاحتها الحمراء. وقد كان وجود البنية معروفًا لسنوات عديدة قبل أن تصير عمليات المسح بواسطة الإزاحة الحمراء قابلةً للتطبيق. وتوزيع المجرات على السماء يتسم بعدم التناسق الشديد، وهو ما يمكن رؤيته في أول مسح منهجي كبير لمواضع المجرات، والذي نتج عنه «خرائط ليك». لكن رغم ما تتسم به هذه الخريطة من إبهار دون شك، فلا يسع المرءَ أن يكون متأكدًا مما إذا كانت البِنَى التي يراها بها بِنًى حقيقية مادية أم أنها محض تأثيرات إسقاط عشوائية. فعلى أي حال، كلنا يعرف كوكبات النجوم، بيد أن هذه الكوكبات ليست ارتباطات مادية. والنجوم الموجودة بها تقع على مسافات مختلفة من الشمس. ولهذا السبب، صارت الأداة الأساسية لعلم وصف الكون هي الإزاحة الحمراء.
ثمة مثال شهير على هذا النهج، وهو المسح الذي أجراه مركز هارفرد سميثسونيان للفيزياء الفلكية، والذي نَشر أُولى نتائجه عام ١٩٨٦. كان هذا مسحًا للإزاحة الحمراء لعدد ١٠٦١ مجرة موجودة في شريط ضيق من السماء في مسح بالومار الأصلي للسماء، المنشور عام ١٩٦١. وقد تم التوسع في هذا المسح ليشمل المزيد من الشرائط على يد الفريق عينه. وحتى عام ١٩٩٠ كانت عمليات مسح الإزاحة الحمراء بطيئة ومُجْهدة؛ لأنه كان من الضروري توجيه التليسكوب صَوْبَ كل مجرة في المرة الواحدة، ثم أخْذ القياسات الطيفية الخاصة بها، وحساب الإزاحة، ثم الانتقال نحو المجرة التالية. وكان الحصول على عدة آلاف من الإزاحات الحمراء يستغرق شهورًا من وقت التليسكوب، وهو الوقت الذي كان ينتشر على مدار سنوات عدة؛ بسبب توزيع وقت التليسكوب على عمليات الرصد المختلفة. وفي وقت قريب نسبيًّا مكَّن اختراع أجهزة الرصد المتعددة الألياف في تليسكوبات الحقول المفتوحة علماءَ الفلك من التقاط ما يصل إلى ٤٠٠ طيف في التوجيه الواحد للتليسكوب. ومن بين أحدث أجيال عمليات مسح الإزاحة الحمراء تلك المسماةُ عمليةَ مسح «حقل الدرجتين»، التي تديرها كلٌّ من المملكة المتحدة وأستراليا باستخدام التليسكوب الأنجلو-أسترالي. وسوف ترسم عملية المسح هذه في نهاية المطاف خريطة لمواضع نحو ٢٥٠ ألف مجرة.
يُكمِّل هذه البنى مناطقُ شاسعة من الفضاء الخاوي تقريبًا، والعديد من هذه المناطق يبدو كرويَّ الشكل تقريبًا. وهذه «الفراغات» تحتوي عددًا من المجرات أقلَّ بكثير من المعتاد، وقد لا تحتوي أيةَ مجراتٍ على الإطلاق. وقد رُصدت فراغاتٌ في عمليات مسح الإزاحة الحمراء الواسعة النطاق لها كثافة تقل عن ١٠ بالمائة من متوسط الكثافة على نطاق يصل إلى ٢٠٠ مليون سنة ضوئية. وليس وجود هذه الفراغات الكبيرة بالأمر المفاجئ، في ضوء وجود العناقيد المجرية والعناقيد المجرية الفائقة على نطاقات كبيرة للغاية؛ وذلك لأنه من الضروري أن توجد مناطق ذات كثافة أقل من المتوسط كي توجد مناطق أخرى ذات كثافة أكبر من المتوسط.
إن الانطباع الذي يحصل المرء عليه عند النظر إلى خرائط البنى الواسعة النطاق هو أنه توجد «شبكة» كونية شاسعة؛ شبكة معقدة من السلاسل والألواح المتفاعلة. لكن من أين جاء كل هذا التعقيد؟ إن نموذج الانفجار العظيم مبني على افتراض مفاده أن الكون متَّسق ومتجانس؛ أي إنه يتوافق مع المبدأ الكوني. ولحسن الحظ يبدو أن البِنى تختفي بالفعل في النطاقات الأكبر من نطاق تلك الشبكة الكونية. وقد تأكد هذا أيضًا من واقع المشاهدات الخاصة بإشعاع الخلفية الميكروني الكوني، الذي يأتينا من الكون المبكر بعد أن انتقل عبر خمسة عشر مليار سنة ضوئية. إن الخلفية الكونية تبدو متجانسة على نحوٍ شبه تام في السماء، وهو ما يتفق مع المبدأ الكوني. لكنها متجانسة على نحو «شبه» تام، لا على نحو تام.
تكوُّن البِنى
عام ١٩٩٢ نشر القمر الصناعي المسمى «مستكشف الخلفية الكونية» لاقطاته الحساسة بهدف رصد ورسم أي تفاوتات في درجة حرارة الخلفية الكونية في السماء. فمنذ اكتشاف الخلفية الكونية عام ١٩٦٥ وهي تبدو متوحدة الخواص في السماء. ولاحقًا، اكتُشف أن ثمة تفاوتًا واسع النطاق في درجة الحرارة عبر السماء يبلغ نحو جزء واحد في الألف. يُعرف هذا الآن بأنه من تأثير دوبلر، الذي تسبب فيه دوران الأرض حول نفسها عبر المجال الإشعاعي المتخلف عن الانفجار العظيم؛ إذ تبدو السماء أكثر دفئًا بقليل في الاتجاه الذي نتحرك صوبه، فيما تبدو أبرد قليلًا في الاتجاه الذي نبتعد عنه. لكن إذا نحَّيْنا هذا التفاوت «ثنائي القطب» (كما يطلق عليه) جانبًا، يبدو الإشعاع وكأنه يأتي على نحو متساوٍ من كل الاتجاهات. لكن لوقت طويل والمنظِّرون يتشككون في وجود بنية في الخلفية الميكرونية، على صورة أنماط متذبذبة من البقع الحارة والباردة. وقد عثر «مستكشف الخلفية الكونية» على هذه الأنماط، وأبرزت الصحف حول العالم اكتشافه هذا.
لماذا إذن لا تتسم الخلفية الميكرونية بالتجانس؟ إجابة هذا السؤال مرتبطة على نحو وثيق بأصل البنية الواسعة النطاق، وشأن المواضع الأخرى في علم الكونيات، تقدم الجاذبية ذلك الرابط.
تُقدِّم نماذج فريدمان أفكارًا ثاقبة مهمة بشأن الكيفية التي تتغير بها الخصائص الكبيرة الخاصة بالكون؛ تتغير مع الزمن. بَيْدَ أن هذه النماذج غير واقعية؛ لأنها تصف عالمًا مثاليًّا متجانسًا تمامًا وخاليًا من أي خلل. والكون إن بدأ على هذا النحو فسيظل مثاليًّا إلى الأبد. لكن في الواقع الفعلي، هناك مواضع من الخلل. فبعض المناطق قد تكون أكثر كثافة قليلًا من المتوسط، وبعضها أقل كثافة. كيف سيكون سلوك هذا الكون الذي يشوبه قدرٌ من التفاوت في الكثافة؟ الإجابة مختلفة على نحو جذري عن الحالة المثالية. فأي جزء من الكون أشد كثافة من المتوسط سيكون له تأثير جذبي أقوى من المتوسط على ما يحيط به؛ ومن ثم سيميل إلى امتصاص المادة داخله، مستنزفًا بذلك المنطقة المحيطة به. وخلال هذه العملية سيصير أشد كثافة نسبة إلى المتوسط، ومن ثم يمارس قوة جذب أكبر. ويكون الأثر المترتب على ذلك حدوث نمو منفلت لتكتلات المادة يسمى «عدم الاستقرار الجذبي». وفي النهاية تتكون كتل مترابطة بقوة وتبدأ في التجمع على صورة خيوط وألواح تشبه تلك التي نراها في خرائط البنية الكونية. وكل ما هو مطلوب في البداية من أجل إطلاق هذه العملية هو تفاوتات طفيفة للغاية في الكثافة، وستعمل الجاذبية كمضخِّم قوي محوِّلة التموجات الأولية الطفيفة إلى تفاوتات ضخمة في الكثافة. وبإمكاننا تخطيط الناتج النهائي لهذه العملية باستخدام عمليات المسح التي تُجرَى على المجرات، بينما نرى المُدخل الأوَّلي لها في خريطة «مستكشف الخلفية الكونية». بل إن لدينا كذلك نظرية جيدة تفسر الكيفية التي انطبعت بها التفاوتات الأولية في الكثافة، وكيف أنتج التضخم الكوني التفاوتات الكمية.
إن الصورة العامة الأساسية للكيفية التي تكونت بها المادة معروفة منذ سنوات عديدة، لكن من العسير تحويل هذه الصورة العامة إلى حسابات تنبُّئِية تفصيلية؛ وذلك بسبب السلوك المعقد للجاذبية. ذكرتُ في الفصل الثالث أن قوانين نيوتن للجاذبية من الصعب حلُّها من دون التناظر المبسِّط. وفي المراحل المتأخرة من عدم الاستقرار الجذبي، لا وجود لمثل هذا التبسيط. فكل شيء في الكون يمارس قوى الجذب على كل شيء آخر، ومن الضروري متابعة كل هذه القوى المؤثرة في كل شيء وفي كل مكان. والمسائل الحسابية الداخلة في هذه العملية من المستحيل فعليًّا حلها بالورقة والقلم.
لكن خلال ثمانينيات القرن العشرين، ظهرت أجهزة الكمبيوتر الضخمة على الساحة، وشهد هذا المجال تقدمًا متسارعًا. وقد صار من الواضح أن بمقدور الجاذبية تكوين البنى الكونية، لكن كي تؤدي المهمة بفَعَالِيَة لا بد من وجود قدر كبير للغاية من الكتلة في الكون. ولأن فرضيات التخليق النووي البدائي لا تسمح إلا بوجود قدر صغير نسبيًّا من المادة «العادية»، افترض المنظِّرون أن الكون تهيمن عليه مادة مظلمة عجيبة لا تشارك في التفاعلات النووية. وقد أظهرت المحاكاة الحاسوبية أن أفضل صورة تكون عليها هذه المادة هي المادة المظلمة «الباردة». فإذا كانت المادة المظلمة «حارة»، فستتحرك عندئذٍ بسرعة كبيرة تمنع تكوُّن كتل من المادة بالحجم المناسب.
وفي النهاية، بعد سنوات عديدة من وقت المحاكاة الحاسوبية، ظهرت صورة تنشأ فيها البنية الكونية بطريقة تدريجية تراكمية. أولًا: تتكون كتل صغيرة من المادة. وهذه الوحدات البنائية تتجمع بعد ذلك مكوِّنةً وحداتٍ أكبرَ، وهي بدورها تتجمع بعضُها مع بعضٍ مكونة وحدات أكبر، وهكذا دَوَالَيْك. وفي النهاية تتكون أجرام في حجم المجرات. ينهار الغاز (المكون من مادة باريونية) على نفسه، وتتكون النجوم، وتكون لدينا مجرات. وتواصل المجرات نموها الهرمي في البنية عن طريق التجمع في سلاسل وألواح. وفي هذه الصورة، تتطور البنية بسرعة كبيرة مع مرور الزمن (أو على نحو مكافئ، مع الإزاحة الحمراء).
حققت فكرة المادة المظلمة الباردة نجاحًا كبيرًا، لكن هذا النهج أبعد ما يكون عن الاكتمال. فلا يزال من غير المعروف مقدار المادة المظلمة الموجود في الكون، أو الشكل الذي تتخذه هذه المادة. تظل أيضًا مشكلة الكيفية التفصيلية التي تكونت بها المجرات دون حل؛ وذلك بسبب العمليات الهيدروديناميكية والإشعاعية الداخلة في حركة الغاز وتكوُّن النجوم. لكن في الوقت الحالي لم يَعُدْ هذا المجال مقصورًا على النظريات والمحاكاة الحاسوبية؛ إذ تُمَكِّننا الإنجازات المتحققة حاليًّا في التكنولوجيا الرصدية، على غرار تليسكوب هابل الفضائي، من أن نرى المجرات على إزاحات حمراء عالية، ومن ثم ندرس بدقةٍ الكيفية التي تغيرت بها خصائصها وتوزيعاتها في الفضاء مع مرور الوقت. ومع الجيل القادم من عمليات مسح الإزاحة الحمراء الضخمة سيكون لدينا معلومات شديدة التفصيل بشأن النمط الذي تسير عليه تلك المجرات في الفضاء. وهذا أيضًا يمدنا بخيوط عن مقدار المادة المظلمة الموجودة بالكون، والكيفية التي تكونت بها المجرات تحديدًا. بَيْدَ أن الحل النهائي لهذه المشكلة ليس من المرجح أن يأتي من المشاهدات الخاصة بالنواتج النهائية لعملية عدم الاستقرار الجذبي، وإنما من تلك المتعلقة ببداياتها.
صوت الخلق
مثَّل «مستكشف الخلفية الكونية» تقدمًا كبيرًا في دراسة تكوُّن البنية الكونية، بَيْدَ أنه من نواحٍ عدة تُعَدُّ هذه التجربة محدودة للغاية. وأبرز مواطن قصور مستكشف الخلفية الكونية هو أنه يفتقد القدرة على سَبْر أغوار البنية التفصيلية للتموجات في الخلفية الكونية. وفي الواقع كانت الدقة الزاويَّة لمستكشف الخلفية الكونية لا تتجاوز عشر درجات فحسب، وهو مقدار بسيط للغاية بالمعايير الفلكية. وعلى سبيل المقارنة، يبلغ عرض القمر وهو بدر حوالي نصف درجة عرضًا. ويأمل علماء الكونيات أن يجدوا في البنية الدقيقة للخلفية الميكرونية إجابات للعديد من الأسئلة الحاضرة بقوة.
أُنتجت التموجات في الكون المبكر بواسطة نوع من الموجات الصوتية. فحين كان الكون حارًّا للغاية، تصل درجة حرارته إلى عدة آلاف درجة، كان يعج بالموجات الصوتية الآخذة في التحرك جيئة وذهابًا. وسطح الشمس له درجة حرارة مشابهة، وهو يهتز بطريقة مماثلة. وبسبب الدقة المنخفضة لمستكشف الخلفية الكونية فإنه استطاع رصد تلك التموجات التي لها طول موجي طويل وحسب. وهذه التموجات تمثل موجات صوتية ذات درجة منخفضة للغاية؛ النغمة الخفيضة لعملية الخلق. والمعلومات التي تحويها هذه الموجات مهمة، لكنها ليست تفصيلية؛ فصوتها رتيب نسبيًّا.
على الجانب الآخر، من المفترض أن يُنتج الكون أيضًا صوتًا ذا درجة أعلى، وهذا أمر أكثر إثارة للاهتمام بكثير. فموجات الصوت تنتقل بسرعة محددة. وفي الهواء، على سبيل المثال، تكون هذه السرعة نحو ٣٠٠ متر في الثانية. في الوقت المبكر من عمر الكون، كانت سرعة الصوت أكبر بكثير؛ بحيث كانت تقارِب سرعة الضوء. وبحلول الوقت الذي أُنتجت فيه الخلفية الميكرونية كان عمر الكون حوالي ٣٠٠ ألف عام. وخلال الوقت المنحصر بين ذلك الوقت وبين الانفجار العظيم، الذي يُفترض أن موجات الصوت استُثيرت فيه في المقام الأول، لم يكن بوسع تلك الموجات الانتقال إلا لحوالي ٣٠٠ ألف سنة ضوئية. والذبذبات التي لها هذا الطول الموجي تنتج «نغمة» مميزة، تشبه النغمة الأساسية لأي آلة موسيقية. ومن ثم ليس من قبيل المصادفة أن تكون العناقيد المجرية الفائقة بهذا الحجم؛ إذ إنها نتجت عن هذا اللحن الكوني المجلجِل.
ينبغي أن يكشف الطول الموجي المميز للكون المبكر عن نفسه في صورة أنماط من البقع الحارة والباردة على الخلفية الميكرونية في السماء، لكن لأن الطول الموجي قصير إلى حدٍّ بعيد، فإنه يظهر على نطاق أدق كثيرًا من ذلك الذي يستشعره مستكشف الخلفية الكونية. في الواقع، يصل الحجم الزاويُّ للبقع التي ينتجها إلى حوالي درجة واحدة. ومن ثم، منذ إطلاق مستكشف الخلفية الكونية وهناك سباق دائر؛ من أجل تطوير المعَدَّات القادرة على رصد النغمة الأساسية للكون، فضلًا عن النغمات الأعلى المتوافقة معها. ومن خلال تحليل دقيق لصوت عملية الخلق، من المأمول أن يُجاب عن العديد من الأسئلة الكبرى التي تواجه علم الكونيات الحديث. فطيف الصوت يحتوي معلومات بشأن مقدار المادة الموجودة في الكون، وهل هناك ثابت كوني أم لا، ومقدار ثابت هابل، وهل المكان منحنٍ، بل وربما هل حدث التضخم أم لا.
ثمة تجربتان كبيرتان، هما «مسبار قياس تباين الأشعة الكونية» المُزمَع إطلاقه عام ٢٠٠١ تحت إشراف ناسا، و«مرصد بلانك الفضائي» تحت إشراف وكالة الفضاء الأوروبية المزمع إطلاقه في غضون سنوات قليلة، من شأنهما أن يرسما خرائط تفصيلية لأنماط التموجات على السماء بدقة عالية جدًّا. وإذا صح تأويل هذه البِنى، فمن المفترض أن يكون لدينا إجابات محددة في وقت قريب للغاية. والجميع ينتظر هذه النتائج بفارغ الصبر.
في الوقت الحالي، ثمة إشارات قوية للغاية بشأن الكيفية التي ستئول إليها الأمور. فقد حلَّلتْ تجربتان مهمتان تم إجراؤهما من على المناطيد — هما «بوميرانج» و«ماكسيما» — أجزاءً صغيرة من السماء بدقة تقل بقدر طفيف عن دقة «مسبار قياس تباين الأشعة الكونية» و«مرصد بلانك الفضائي». لم تقدم هاتان التجربتان بعدُ إجابات حاسمة، لكنهما تشيران إلى أن هندسة المكان منبسطة. والحجة التي يقوم عليها هذا الافتراض بسيطة. فنحن نعلم الطول الموجي المميِّز للأصوات التي أنتجت الملامح المقيسة، ونعلم المسافة التي رُصدت عليها هذه الموجات (حوالي ١٥ مليار سنة ضوئية)، ومن ثم يمكننا حساب الزاوية التي من المفترض أن تحتلها في السماء لو كان الكون منبسطًا. فإذا كان الكون مفتوحًا فستكون الزاوية أقل مما هو الحال في الكون المنبسط، وإذا كان مغلقًا فستكون الزاوية أكبر. والنتائج تشير ببساطة إلى أن الكون منبسط. وإلى جانب التسارع الذي تحدثتُ عنه في الفصل السابق، تمنحنا هذه القياسات دليلًا قويًّا على وجود ثابت كوني. والطريقة الوحيدة كي يكون لدينا كون منبسط ومتسارعٌ أيضًا في تمدده هي أن توجد بالكون طاقة فراغ.
ويبدو أن الصورة الآخذة في الظهور من واقع دراسات البنية الكونية تتفق مع الخيوط الأخرى التي ناقشتها، لكننا ما زلنا لا نعرف الكيفية التي تمكَّن بها الكون من أن يصير على النحو الذي هو عليه. وستعتمد إجابة هذا اللغز الأعمق على فهمنا الأعمق لطبيعة المادة والمكان والزمن. وسأناقش هذه الأمور في الفصل التالي.