في الهواء الطلق (١)
على شاطئ البحر جلست اليوم وحدي. واتجهت هذه المرة إلى التفكير فيما في البحر من الأحياء، كم من الملايين يولد في الساعة وكم من الملايين يموت، وكم مما تعجز عنه الأرقام حيي فيه ثم فني فيه؟
وانتقل ذهني إلى الإنسان، كان شأنه في البر شأن الحياة في البحر، فمنذ كان قبل التاريخ وبعد التاريخ، وملايين الملايين تحيا ثم تفنى.
وهذه الحرب أرخصت الحياة فكل يوم تحصد مئات الألوف حصدًا، في البر وفي البحر من فعل الطائرات، ومن فعل الغواصات، ومن فعل سائر المدمرات.
ما الأرض بالنسبة لهذا العالم؟ وما حياة الإنسان كله بجانب هذه الحيوات كلها؟ وما حياتي أنا بجانب حياة الناس كلهم في الماضي والحاضر والمستقبل؟
ومع هذا فحياتي أهم شيء في الوجود في نظري وفي أعماق شعوري، وكذلك حياة كل إنسان أهم ما في الوجود في نظره وفي أعماق شعوره.
على هذه النظرة بُنيَ العالم الإنساني. ولو تغيرت هذه النظرة لتغير الكون، فالفضيلة والرذيلة، والإصلاح والإفساد، والنظم الاجتماعية والسياسية على اختلاف أنواعها، والأديان وقضاياها، والإقتصاد ومسائله، كلها تعالج بشتى الأشكال ما ركب في غرائزي من أني أهم ما في الوجود.
مهما حقّر العالم من شأن حياة الفرد فأثبت الفلكي أن الأرض ليست إلا هنة في العالم، وأثبت عالم الحياة أن الإنسان ليس إلا حيوانًا حقيرًا نشأ وارتقى، والكيميائي أن جسم الإنسان يجري عليه كل ما يجري على مواد العالم، فسيظل الفرد هو الفرد، يرى ويشعر، ويسير في جميع شئونه على أنه أهم شيء في الوجود.
هل من مصلحة العالم أن يغير الفرد نظرته هذه فيرى أنه شيء كسائر الأشياء وإنسان كسائر الناس، وليس مركزًا للدائرة، ولكنه نقطة على محيطها؟ سؤال سخيف! لأنه سواء كان الجواب إيجابًا أو سلبًا فسيظل الإنسان هو الإنسان يرى أنه أهم شيء في الوجود.
قد يعالج الفرد نفسه بعض الوقت، وقد يروض نفسه حينًا على أن يرى نفسه كسائر النفوس وليس أهم من غيره في شيء، ولكن سرعان ما ينسى العلاج وينسى ما راض نفسه عليه ويعود سيرته الأولى.
ولكل إنسان دنيا خاصة، لا تساويها دنيا الآخرين؛ فدنياه أبوه وأمه وزوجته وأولاده وأقاربه وما يبعثون من ألم وسرور، وعمله الذي يقوم به وما يسبب من مشاكل، وماله وما يصل به من دخل وخرج، وأصدقاؤه وأعداؤه ونحو ذلك؛ هذه هي دنياه الصغرى التي تهمه في المنزلة الأولى، وعليها تقوم مسرّاته وأحزانه. فإذا ارتقى الإنسان بعض الشيء كان له دنيا أخرى تتسع بمقدار رقيّه، بما يشغله من أحداث العالم وما يتصل بوطنيته وبدينه وثقافته ونحو ذلك؛ وهذه الدنيا الواسعة تتصل اتصالًا وثيقًا بدنياه الصغرى، فهو يرى حوادث الدنيا الكبرى من خلال دنياه الصغرى.
إذا حدثت حادثة في الصين فقلما تثير فيَّ اهتمامًا؛ لأنها لا تتصل بدنياي الصغرى، فإذا هي حدثت في شارعي كنت لها أكثر اهتمامًا، فإن هي حدثت لصديقي أو عدوي تضاعف اهتمامي، فإن هي حدثت في بيتي كانت في الصميم من نفسي، واقرأ أعمدة الوفيات في الجرائد والأخبار المحلية وغير المحلية فتوقع كلها على نفسي نغمات مختلفة، علوًا وانخفاضًا وغلظًا ورِقّة، فكلما كان الخبر يمس نفسي الصغرى علت النغمة وعظم الأثر، ولذلك كانت الجريدة الناجحة هي التي تثير انفعال أكبر عدد ممكن، لأنها تغذي النفوس المختلفة والدُنى المختلفة، دنيا التاجر ودنيا السياسي ودنيا العالم إلخ.
وما يؤثر فيَّ كثيرًا يؤثر في آخر قليلًا ولا يؤثر في ثالث مطلقًا، وما يؤثر فيَّ اليوم كثيرًا كان يؤثر فيَّ أمس قليلًا، وسوف لا يؤثر في غدًا مطلقًا؛ لأنه كان يمس دنياي ثم سوف لا يمسها، كان فيها ثم خرج من حسابها.
وقيمة أعمالي في نظري غير قيمتها في نظرك، لأنها منبعثة عن دنياي لا دنياك، ومؤثرة في دنياي أكثر مما هي مؤثرة في دنياك، وما يغضبني غير ما يغضبك، وما يسرني غير ما يسرك، نوعًا وكيفًا؛ لأن رأيي ومشاعري وشخصيتي ودنياي غير ذلك كله عندك، وأنا أعرف بالباعث لي على أعمالي أكثر مما تعرف.
وأنا وأنت وهو وهي نختلف في حكمنا على الأشياء ونتفق بمقدار ما بيننا من فروق وموافقات، في البواعث والرأي والمشاعر، وبعبارة أخرى بمقدار ما بيننا من فروق وموافقات، في البواعث والرأي والمشاعر، وبعبارة أخرى بمقدار ما تتشابه دنيانا أو تتخالف، فعند أغلب الناس وجوه شبه تنتج اتحاد رأي، ووجوه خلاف تنتج اختلاف رأي، ولا يمكن أن تجد اثنين قد اتحدت دنياهما.
في دنياي وفي دنيا كل إنسان متاعب كثيرة مختلفة الألوان، بعضها حقيقي وأكثرها وهمي، نحب أن تكون دنيانا الصغرى أحسن الدنى، وليس ذلك في الإمكان، فلو كانت دنياي أحسن الدنى لكانت دنياك بالطبيعة أقل منها شأنًا، وهذا لا يرضيك، وتظن أن الله لك وحدك، ترجوه أن يمنحك أحسن الطيبات، ويدفع عنك كل الشرور، مع أن الله للجميع ولأرضك ولسمائك ولكل العوالم، وما أنت وعالمك والنظرة إلى العوالم قد تستلزم محوك من الوجود؟ نريد أن تكون دنيانا كما نحب أن نصنعها، وهذا علة كثير من المتاعب، ولكن كيف يمكننا أن نصنع دنيانا وليس فينا قدرة الخلق، ودنيانا مرتبطة كل الارتباط بدنيا غيرنا ومتأثرة بها وفاعلة ومنفعلة معها؟
إن كثيرًا من المتاعب ليس سببها المتاعب نفسها، ولكن علتها النفس التي تنظر إلى الأشياء على أنها متاعب، ولا يمكن تغييرها حتى تغير نفسك، ولكن كيف ذلك ونحن المتاعب؟ إننا في دنيانا كالعصفور في القفص ندور فيه ونحن نحن والقفص القفص.
كثير منا يظن أنه فوق القدر وهو لا محالة تحت القدر، وما كان ميلادنا ولا دنيانا الصغرى ولا الكبرى باختيارنا، ولكن تفتحت أعيننا فوجدنا كذلك أنفسنا وكذلك دنيانا.
ولعل العلاج الوحيد للتغلب على هذه المتاعب الوهمية معرفة الإنسان نفسه ودنياه، فهو إن عرفها بعيوبها ومزاياها أمكنه تسييرها في الطريق الذي يناسبها، يواجه مواضع الضعف على أنها مواضع ضعف ومواضع القوة على أنها مواضع قوة، وقد يستطيع أن يسلك بمواضع الضعف مسلكًا يضيع سوء نتائجها.
لقد اضطرت طائرة إلى النزول في الصحراء براكبيها الثلاثة في قليل من الطعام وقليل من الماء؛ فأما أحدهم فأخذ يفكر في دنياه من زوجة وأولاد وفيما ينتظره من موت، وكلما قل الزاد والماء تضاعف قلقه، وأخيرًا مات. والثاني فكر في نفسه وحرمانها من لذائذها وفي قلة الطعام والشراب وشظف ما فيه من عيش، وتزايد الأمر به حتى جن، وأما الثالث فشغل نفسه بكتابة مذكرات عن حالتهم النفسية، وأخذ يحللها ويشرحها ويسلي نفسه بتدوين خطراته وملاحظاته، فنجا من الموت والجنون حتى ساق له القدر من أنقذه.
أكثر الناس يعمون عن نقط ضعفهم كما يعمى الطيار عن موضع الضعف في الطائرة، فيطير بها ويسقط، فإن هو عرف عيبها فإما ألا يطير وإما أن يتدارك العيب وإما أن يطير في حدود عيبه.
فلأواجه مواطن ضعفي وأخطائي كما هي، ولأعترف بها في صراحة بيني وبين نفسي، ثم لأرسم الطريق الذي يناسبها، ولأطمئن إلى ذلك، فلكل إنسان مواطن ضعفه. وليس من الضروري أن تكون مواطن الضعف علامة الرجل الضعيف، بل في كل قوي أيضًا مواطن ضعف، فإن أمكنك معرفة أسبابها وإزالتها فبها ونعمت، وإلا فارضَ بما كان واستعمله خير استعمال.
لقد حدثت في حياتك أحداث في عهد الصبا والبلوغ والشباب كان لها أثر كبير في تكوين نفسك كما هي الآن، فإن تعسر عليك تغييرها فأحسِن استخدامها.
ولا تأس على مواطن ضعفك، فالكهرباء قد تكون قوية فتحرق. ولو كانت أضعف لأدت الغرض، وقد تنفع الحصاة حيث لا ينفع الحجر، وقد ينفع الجدول ما لا ينفع البحر.
وهنا رفعت رأسي فرأيت غروب الشمس في البحر ومنظره الجليل الرائع، فتركت ما كنت فيه وفنيت في هذا الجلال الرائع.