في الأدب العربي (٢)
كان عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق رجلًا من رجالات الدولة الأموية، عُرف بالقوة والعظمة والفصاحة والسخاء، وولي المدينة ليزيد ابن معاوية.
فلما ضعفت الدولة بعد معاوية بن يزيد بن معاوية وكان الأمر يخرج من البيت الأموي، كان عمرو الأشدق هذا أجدّ الناس في تولية خاله مروان، وأحسنهم معاونة ومكاتفة له، واجتهادًا في صلاح أمره وإفساد أمر ابن الزبير، قاتل مع مروان يوم مرج راهط، ولما وجه ابن الزبير أخاه مصعبًا للاستيلاء على فلسطين وجه مروان عمرًا هذا على رأس جيش فهزم مصعبًا وجيشه ورده إلى المدينة.
وكان عمرو قويًّا بسخائه وبذله الأموال الكثيرة على أعوانه، فأحبه جنده وأطاعوه وعملوا بإشارته حتى كان قوة لا يستهان بها.
فهو عزيز في نسبه، عزيز في جنده، عظيم في نفسه، قوي في رأيه.
شعر مروان بذلك كله فمناه بالخلافة من بعده استدعاء لطاعته واحتياجًا لنصيحته.
فلما استمكن الأمر لمروان ودانت له الأقطار ونظر إلى ابنيه عبد الملك وعبد العزيز فأعجباه، عز عليه أن يخرج الملك عنهما، فنسي عنده لعمرو، وعهد بالملك من بعده لعبد الملك ثم من بعده لعبد العزيز.
وقيل له مرة: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إني أبي أوصى إليَّ ولم يوص بي.
مات مروان ونفذت البيعة فتولى عبد الملك بن مروان.
وثارت الفتن على عبد الملك. فمصعب في العراق وعبد الله بن الزبير في مكة، وسائر الأقطار في فتنة، والدولة محتاجة إلى الأنصار أمثال عمرو بن سعيد، فتقدم عمرو إلى عبد الملك وقال: إنك لتعلم ما قدمت لأبيك من معونة، وما قمت بشأنه وما حاربت معه وما وعدني أن يجعل لي الأمر بعده؟ فرد عليه عبد الملك في جفاء وأنكر عليه مطلبه.
فانتهز عمرو خروج عبد الملك إلى العراق وخرج إلى دمشق، واستولى عليها وأعلن الخلافة لنفسه، وأجابه أهل دمشق، وبايعوه، وحصّن المدينة واستعد للقتال، فلما بلغ ذلك عبد الملك أهمه الأمر أكثر مما أهمه مصعب وعبد الله ابنا الزبير، وقفل إلى دمشق فوجدها مغلقة الأبواب مستعدة للقتال، فخاف عبد الملك أن يضيع قوته في قتال عمرو فراسله ومنّاه، وضمن له أن يوليه بيت المال، ويجعل له ولاية الأمر من بعده مقدمًا على أخيه عبد العزيز، فأبى عمرو إلا أن تكون هذه الشروط كلها مكتوبة، فكتب له عهدًا ووثّقه ووقّعه. فقبل عمرو وفتح له دمشق فدخلها عبد الملك ونزل دار الخلافة. وكان عمرو يركب إليه فيكرمه عبد الملك حتى سكن إليه.
وكانت أخت عمرو زوجة للوليد بن عبد الملك فخرجت حاسرة تقول:
•••
سقت هذا الحديث لأدل على درة من درر الأدب العربي؛ ذلك أن عبد الملك استشار أصحابه فيما فعل، فأما المنافقون وهم كثيرون فأطروا عمله، ولكنه «سأل رجلًا كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق عليه الأمر»، فقال له: ما ترى ما كان من فعلي بعمرو بن سعيد؟
ليت كلام هذا الناصح الأمين يصل إلى مسامع كبار الساسة ممن يقطعون العهود على الحريات الأربع وميثاق الأطلنطي وضمان مصير الأمم الصغيرة لتحكم نفسها وتدير أمرها ثم ينسون عهدهم، ويخلفون وعدهم.
لقد أصبح عبد الملك بعد هذه الفعلة لا يوثق له بعهد، ولا يُطمأن له في قول، مهما وثّقه وأكّده بالأيمان. وهذا مصير كل ناكث. ورحم الله الناصح إذ يقول: «ليس بحي من وقف موقفًا لا يُوثق منه بعهد ولا عقد» ورحم الله أخت عمرو إذ تقول: