أخلاق السادة
من الأخلاق التي لفتت أنظار العرب فأكثروا فيها كلامهم وصاغوا منها أدبهم «خلق السيادة» وهو معنى غامض، صعب التعريف والتحديد، يختلف كثيرًا باختلاف البيئة، وباختلاف الحياة الاجتماعية، وباختلاف الصبغة التي تغلب على الشخص والجماعة من حب للمجد، وزهد فيه، ونحو ذلك.
فإذا نحن استعرضنا أركان السيادة في الأدب الجاهلي وجدناها الكرم والشجاعة، فيقول عامر بن الطفيل:
وخلاصة رأيه في السودد أنه يذود عن قبيلته ويحميها أن ينالها شر ويبذل نفسه في الدفاع عنها، فليست السيادة في نظره مجرد الشجاعة، ولكنها الشجاعة في سبيل القبيلة.
وقالت ابنة حاتم الطائي تصف أباها: «إن أبي سيد قومه، كان يفك العاني ويحمي الذمار، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ولم يطلب إليه أحد حاجة فردَّه» فجعلت سيادته في الشجاعة والكرم.
ونقرأ المفاخرات بين السادة في الجاهلية فنراها يدور أكثرها حول المباهاة بالكرم والشجاعة.
وظلت هاتان الصفتان هما دعامتي السيادة في الإسلام وإن لوَّنها بعضهم ببعض. الألوان الأخرى التكميلية، فيُروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: «السيد: الجواد حين يُسأل، الحليم حين يُستجهل، البار بمن يعاشر»، وقيل لقيس بن عاصم: بم سدتَ قومك؟ فقال: «ببذل القرى، وترك المرا، ونصرة المولى» فأضيف إلى الكرم والشجاعة ترك المراء، وبعبارة أخرى الترفع عن الصغائر.
وعدَّ في العصر الأموي من أسود الناس الأحنف بن قيس وسلم بن قتيبة ومحمد ابن القاسم؛ فأما الأحنف فأساس سيادته الشجاعة والكرم والحلم، وقد رشّحه زياد بن أبيه ليتولَّى ثغر الهند فلم يرض معاوية بذلك، وحفظ عليه عدم انضمامه إلى جيش عائشة، ومناصرته لعلي بن أبي طالب، فقال فيه زياد: «إن الأحنف بلغ من الشرف والسودد ما لا تنفعه الولاية ولا يضره العزل».
وعدَّ من أهم أسباب سيادة سلم بن قتيبة جرأته وشجاعته، فقال بعضهم: «كنا نعرف سلم بأنه كان يركب وحده ويرجع في خمسين» أي خمسين أسيرًا.
ومحمد بن القاسم فتح السند والهند وقاد الجيوش وهو ابن سبع عشرة سنة فقال فيه الشاعر:
وأحيانًا كانوا يلحظون في «السيد» لين الجانب وسعة صدره للناس في أن يعيبوه وينقدوه. قال رجل من العرب: «نحن لا نسوِّد إلا من يوطئنا رحله (يريد يخدمنا في حوائجنا) ويفرِّشنا عِرضه (يريد أنه لا يضيق بنقدنا له وعيبنا عليه) ويملكنا ما له» وكما قال المقنع الكندي:
وأحيانًا يلحظون في السيادة بعد النظر وقوة الفكر وسداد الرأي، وهذا ما لحظوه أيضًا في سيادة الأحنف، فقد كان من أسباب مجده الرأي يصيب والنظر يصدق، وقال الكميت:
وقد لحظوا أيضًا أن السادة لا يسودون جميعًا بخصلة واحدة؛ فقد يسود أحدهم بصفة ويسود آخر بغيرها، تبعًا للشخص والظروف التي حوله، فقالوا مثلًا: «ساد الأحنف بحلمه، وساد مالك بن مسمع بحب العشيرة له، وساد قتيبة بن مسلم بدهائه، وساد المهلب بن أبي صفرة بهذه الخلال كلها».
وفي بعض الأوساط عد أكبر ركن للسيادة اصطناع الرجال، وهو ضرب من الكرم، وهو أن يستجلب رضا الناس ببذل العطاء لهم وقضاء حوائجهم، فيكونون أتباعه يجتمعون حوله ويصدرون عن رأيه، وفشا هذا في العصر العباسي وخاصة عند البرامكة، فقد كانت سيادتهم في إسداء البر للناس وتكوين الأشياء والأتباع «رووا أن يحيى بن خالد البرمكي دعا ابنه إبراهيم يومًا، وكان يُسمَّى دينار بن برمك لجماله وحسنه ودعا بمؤدبه وبمن كان ضمَّ إليه من كتّابه وأصحابه فسألهم: ما حال ابني؟ قالوا: قد بلغ من الأدب كذا ونظر كذا وكذا (من العلوم) قال: ليس عن هذا سألت. قالوا: قد اتخذنا له من الضياع كذا وغلته كذا. قال: ولا عن هذا سألت إنما سألت عن (سيادته) وبُعد همته، وهل اتخذتم له في أعناق الرجال مِننًا وحببتموه إلى الناس! قالوا: لا. قال: فبئس العشراء أنتم والأصحاب. هو والله أحوج منه إلى ما قلتم. ثم أمر بحمل خمس مئة ألف درهم إليه، ففُرِّقت على قوم لا يُدرى من هم.
ونظر المأمون يومًا إلى ابنه العباس وأخيه المعتصم فرأى ابنه العباس يتخذ المصانع ويبني الضياع والمعتصم يمتلك الرجال، فقال في المعتصم:
فساد المعتصم وضاع العباس.
ووُجد في الإسلام من غلبت عليه النزعة الدينية وأمعن في فهم قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ فربط هذا بالسيادة وجعل السيادة في التقوى. قال ابن الكلبي: قال لي خالد القسري: ما تعدون السودد؟ قال: «أما في الجاهلية فالرياسة (يريد الرياسة على القبيلة) وأما في الإسلام فالولاية (يريد ولاية أمور المسلمين بالخلافة أو ولاية مدينة أو إقليم)، وخير من ذا وذلك التقوى».