الزعامة والزعماء
عوّدتنا الطبيعة أن ترينا في كل مجموعة من المجموعات من يحتل مكان الصدارة منها، ويتميز بصفات خاصة عن سائر أفرادها.
حتى في النبات، نجد في كل مجموعة نبتة رائعة تلفت الأنظار إليها بسمو في نموها، أو بإزهارها زهرة تميزت بالجمال، وفي البستان سرعان ما نرى شجرة فاقت أقرانها بجمال استوائها، أو علوها وتفوقها، أو بكثرة أثمارها، أو حلاوة ثمرتها، والكل يزرع في أرض واحدة ويسقى بماء واحد.
وهذا في عالم الحيوان أظهر، فكل خلية نحل لها ملكة تأمر فتطاع، وتدعو فتجاب:
وفي كل قطيع شاة متميزة، وفي كل عش دجاج ديك متفوق.
فإذا أتيت إلى الإنسان فالأمر فيه أبْين. في كل مجتمع رئيس، بدوًا كانوا أو حضرًا، أطفالًا أو كبارًا، رجالًا أو نساء، تجمع الطلبة في الفصل فيكون لهم في الذكاء أول، وتجمعهم في الألعاب الرياضية فيكون بينهم في ألعابهم ماهر، وتجري بينهم سباقًا في أي ضرب فيكون منهم الفائز، وفي البدو شيخ القبيلة، وفي الحضر الأمير، وفي الديانة الشيخ والقسيس، وفي الحكم المدير والوزير، وفي شئون الاجتماع المصلح، وفي السياسة رئيس الحزب.
•••
وإذا كان هناك تفوق ورياسة فذلك يستلزم سلطة وسيطرة من جانب، وخضوعًا وطاعة من جانب.
قف وقفة في خظيرة الدجاج تر السيادة والخضوع بين الديكة بعضها وبعض والدجاج بعضه وبعض، والديكة والدجاج معًا، عند التقاط الحب، وحسو الماء واختيار المكان الصالح للنوم، وهكذا.
وانظر إلى الأسرة يسودها الرجل، واستعرض ضروب السيطرة وضروب الخضوع، وانظرها تسودها المرأة، واسمع للأمر والنهي والذلة والاستسلام، وهكذا. فمتى كانت سيطرة هنا كان خضوع هناك وقد تتعاور السلطة والذلة على الشخص الواحد، فقد يكون الرجل مسيطرًا بماله وشبابه، ثم ينقلب خاضعًا لفقره وشيخوخته، وقد تتسيطر المرأة لجمالها، ثم تزول السيطرة بزواله.
•••
ومخايل السيطرة والسيادة كثيرًا ما تظهر في الأطفال منذ نشأتهم، كالذي روى أن رجلًا نظر إلى معاوية وهو غلام صغير فقال: إني أرى هذا الغلام سيسود قومه. فقالت أمه هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه.
وقد تكون هذه عن وراثة يرثها، كالبذرة الطيبة تختار لتثمر ثمرًا طيبًا، وتأتي البيئة فتنمي هذه الوراثة وتغذيها، وقد تسوء فتضعفها أو تفنيها؛ فمنزلة الطفل في الأسرة لها أثر كبير في تقوية خلق السيادة أو إضعافه، فقد يكون الطفل أول ولد لأبويه ثم يرزقان بطفل آخر فيحولان عطفهما وتدليلهما إليه، فيثور الأول ويجتهد أن يلفت النظر إليه بعنفه وقوته وسطوته، فينشأ عنده حب السيطرة، ثم تساعده الظروف الأخرى خارج البيت كمهارته في اللعب أو أوليّته في فصله، أو نحو ذلك، فيعده كل ذلك إلى السيطرة في الحياة، وقد يقسو الأب أو المعلم على الناشئ، فيدفعه ذلك إلى مقابلة القسوة بالقسوة، فيتولد عنده حب السيطرة، وقد تزيد قسوة الأب أو المعلم فتميت نفس الناشئ وتذله، وهكذا. مئات ومئات مما يجري في الحياة من كتاب يقرؤه، ودين يتدين به، وأصدقاء يعاشرهم، وعمل يتولاه، وروايات يقرؤها، وشعر يحفظه … إلخ، كلها تؤثر في مصيره من السيطرة أو الخضوع.
والزعيم يتفاعل مع بيئته فتكونه ويكونها، وتغذيه ويغذيها، وبعض الناس قد مُنح من القوة ما يمكنه من الزعامة حيثما حل وأين رميت به، كالذي يصفه المتنبي:
•••
وليست كل سيطرة زعامة، فهناك سيطرة بحكم المنصب كالمأمور في مركزه أو المدير في مديريته أو الوزير في وزارته أو القائد في جيشه، فهذه كلها لا تخوّل لصاحبها أن يُسمى زعيمًا.
وهناك سيطرة بسبب الملكية، كسيطرة مالك الأرض على فلاحيه، أو صاحب المصنع على عماله.
وهناك سيطرة بسبب نظام الطبقات كسيطرة ذوي البيوتات الكبيرة على ذوي البيوت الصغيرة، وسيطرة الباشا على من هم أقل منه مرتبة، أو الموظف في الدرجة الأولى على من في الدرجة الثامنة، أو نحو ذلك؛ فهذه كلها ليست زعامة، إنما ركن الزعامة هو خضوع الجم الغفير من الناس بإرداتهم واختيارهم لمزايا خاصة يرونها في الزعيم.
•••
والصفات التي تستوجب الزعامة تختلف باختلاف نوع الزعامة؛ فهناك زعامة سياسية وزعامة علمية وزعامة دينية وزعامة حربية إلخ، كما أنها تختلف باختلاف الجماعات وتصورهم للمثل الأعلى للحياة. فلما كان عند العرب مثلًا المثل الأعلى عماده الشجاعة والكرم كانت الزعامة عمادها هاتان الخصلتان. وقد قال عمر: «السيد هو الجواد حين يُسأل، الحليم حين يُستجهل، البار بمن يعاشر» فجعل السيادة في الكرم والحلم والعطف، وعدّوا سلم بن قتيبة سيدًا «لأنه كان يركب وحده ويرجع في خمسين» فجعلوا السيادة في الشجاعة، كما جعلوا من شروط السيادة صفات سلبية كالترفع عن الصغائر فقالوا: «لا سودد مع انتقام» إلخ. واليوم يُعدّ من أهم صفات الزعيم الذكاء وسعة العقل والثقة بالنفس والرحمة بالناس والعطف عليهم والقدرة على ابتكار الخطط وحب العدل والفصاحة في القول مع القدرة على الدعاية، هذا إلى الصبر على الشدائد واحتمال المكروه، فلا زعامة من غير عناء كما يقول الشاعر:
ويختلف الزعماء في تفوقهم في هذه الصفات أو بعضها ونسبة تفوقهم فيها، وقد يفقدون بعضها ويعتاضون عنها بتميزهم في بعضها الآخر.
ثم إن هذه الصفات قد يتصف بها الزعيم حقًا ويتخلق بها صدقًا، وقد يتصنعها رياء، فلا تنطلي إلا على رأي عام لم ينضج، وشعب لم يكتمل.
•••
كذلك الزعماء أشكال وألوان: فهناك الزعيم الضاغظ المتحكم الذي يضطر الجمهور أن يؤمن به وأن يتوجه كما يوجهه، ويسد عليه منافذ تفكيره ومنافس مشاعره، ثم يدفعه دفعًا إلى ما يريد هو، مثل هتلر وموسوليني وبعض مؤسسي المذاهب الدينية، وهناك الزعيم الذي يمثل عواطف الجماعة ومشاعرها، فيكون للجماعة آمال ومشاعر فيها شيء من الغموض وشيء من الميوعة، فيأتي هو ويوضحها ويمثلها ويبلورها، ويكون لسانها القوي في التعبير عنها وقلبها الحار الذي ينبض بأمانيها، ويكون هذا سر زعامته، يستطيع أن ينطق بما يشعرون ولا ينطقون، ويحدد الأغراض التي لا يحددون، ويقودهم إلى تحقيق ما يؤمل ويؤملون.
ومن ناحية أخرى هناك الزعيم الثائر والزعيم المعتدل؛ فالزعيم الثائر لا يرعى التقاليد والأوضاع ويدعو إلى الوصول لهدفه بعنف وقوة، لا ينظر إلى الماضي ولا إلى الحاضر، ولكن يُسحَر بالصورة التي يرسمها للمستقبل والزعيم المعتدل يرعى الأوضاع والتقاليد ويدعو إلى التقدم البطئ، ويربط الماضي بالحاضر والحاضر بالمستقبل، ويرى أن الطفرة محال، وخير الإصلاح ما استطاعه الشعب،، وخير السير ما كان إلى الأمام في أناة، ولذلك يرمي الثاني الأول بالتهور، ويرمي الأول الثاني بضعف العزيمة والجمود.
ومن ناحية الموضوع نرى أن هناك زعيمًا دينيًّا زعيمًا سياسيًّا وزعيمًا اقتصاديًّا وزعيمًا علميًّا، وهكذا.
وهم على اختلاف أنواعهم وألوانهم تحتاج إليهم الأمة حاجة الجيوش إلى قوادها، والسفينة إلى ربانها، والزعامة من كل نوع ليست لعب أطفال ولا اعتماد على ثرثرة كلام، ولا على ضخامة مال إنها قيادة أمة، تعتمد على فلسفة وعلم وفن واستعداد خاص ومران طويل.
تتطلب الزعامة قيادة الجماهير، وهو عمل من أشق الأمور وأصعبها؛ لأن الجماهير عادة تخضع للعواطف والإنفعالات الوقتية أكثر من خضوعها للعقل والتفكير الهادئ المتزن، ولذلك قد تتحول من عاطفة الرحمة إلى القسوة العنيفة في لحظة، وهذا هو السر في أن الزعيم الثائر الهائج المشبوب العاطفة أنجح في قيادتهم من الزعيم الهادئ المفكر.
ومن ثم كانت العلاقة بين الزعيم وأتباعه من أدق العلاقات وأكثرها تعرضًا للخطر. فالزعيم دائمًا في الميزان، كل كلمة منه وكل فعل يصدر عنه وكل كلمة أو فعل من مؤيديه أو معارضيه تؤثر في ميزانه بالرجحان أو عدمه.
ولشخصية الزعيم أثر كبير في هذه العلاقة؛ فلكل زعيم صورة تنعكس في خيال أتباعه وتؤثر فيهم، وكثيرًا ما يضيف الأتباع إلى هذه الصورة خيالات وأوهامًا من عندهم يخلعونها على الزعيم وقد يعتقدها هو أيضًا في نفسه، ومن ثم كان التفاعل بين الزعيم وأتباعه تفاعلًا قويًّا.
والنظر إلى الزعيم يختلف باختلاف حالة الأتباع العقلية والخلقية والاجتماعية، والجماعة الضعيفة العقلية قد تُزعِّم المهرج الثرثار، وقد تُزعِّم الهائج الشديد الإنفعال أو كثير الملق لهم من غير اعتبار جدي آخر. وقد تخطئ الجماعات حتى الراقية منها فتمنح من نال ثقتها في ناحية من النواحي ثقتها في النواحي الأخرى، فقد ينبغ الزعيم في السياسة فيُمنح الثقة في الاقتصاد أو العكس وقد ينبغ في الإصلاح الديني فيمنح الثقة في السياسة وهكذا. وقد تكون الأمة في حالة ثوران واضطراب فتكون العلاقة بين الزعيم والأتباع علاقة مضطربة كذلك، كما في زعماء الثورة الفرنسية، كانوا يرفعونهم فوق الأعناق ثم ينفضون أيديهم منهم فيسقطون ثم يدوسونهم بالأقدام.
•••
والمثل الأعلى للزعيم السياسي يختلف باختلاف العصور والبيئات، وهو في هذا العصر في الأمم الديمقراطية يتكون من عناصر أربعة لا بد من توافرها جميعًا ليكون الزعيم زعيمًا حقًا. وهي: الأمانة والشجاعة والذكاء والتعاطف مع الناس.
فأما الأمانة فلسنا نعني بها ألا يسرق ولا يخون ولا يرتشي، فهذه أمور تُطلب من كل فرد في الأمة مهما حقر شأنه، تطلب من الموظف الصغير والتاجر الصغير وكناس الشارع والفلاح الفقير. وإنما تُطلب من الزعيم الأمانة بمعنى أدق وأرقى، وهو أن يكون جادًا صادقًا مخلصًا في فكره وقوله وعمله، فهو ليس أمينًا إذا أخفى الحقائق عن أمته أو راءى وتظاهر بما ليس فيه، كما أنه ليس أمينًا إذا أغمض عينه عن خيانة يرتكبها المقربون إليه أو راعى أسرته أ وحزبه على حساب أمته، الأمانة في الزعيم السياسي ألا يسمح لعقله أن تسكن فيه فكرة إلا إذا اعتقد أنها حق، ولا يجري على لسانه قول إلا الحق، ولا يصدر منه عمل إلا إذا آمن بنفعه، فإن لم يتوافر فيه هذا العنصر فهو زعيم مزيف غير أمين.
أما الشجاعة فلا بد له منها في كثير من الواقف، فقد يُضلَّل الشعب بشتى الأضاليل، فيحتاج الزعيم أن يجاهر بما يعتقد ولو أغضب أتباعه، ولو أغضب الرأي العام، لأنه ليس تابعًا للرأي العام، بل هو قائده ومرشده، يخاصمه أحيانًا إذا رأى الخطأ في اتجاهه، وقد يخاصم الحكومة في تشريعها الضار أو في تصرفها السيء، فيحتاج إلى الشجاعة ليهاجمها ويثور عليها. ليس الزعيم الحق هو الذي يعيش على التملق للجماهير وكسب إعجابهم بالحق أو الباطل، والكلام بما يسرهم ويرضيهم. إنما الزعيم الحق من له من الشجاعة الأدبية ما يمكنه من أن يسمعهم الكلام المر إذا اقتضى الحال، ويخالفهم إن رآهم على ضلال، ويقومهم إن اعوجوا، ويدعوهم إلى الصراط المستقيم إن انحرفوا، ولو عرّضه ذلك لفقد زعامته وتشويه سمعته.
ثم لا بد للزعيم من ذكاء ممتاز يدرك به الحقائق ولو بعد إدراكها، وهو في عصرنا هذا عنصر أساسي أكثر مما كان قبل، لأن الحياة الاجتماعية تعقدت وظروف الأمة تعمل فيها عوامل مختلفة خفية وظاهرة، والمنافع والمضار على أشد ما يكون من الاشتباك، وليست أية أمة بمعزل عن العالم، فهي نقطة من محيطه تتأثر بما يجري فيه، وليست العوامل الداخلية بأقل تعقدًا من العوامل الخارجية كل هذا يتطلب ممن تصدر للزعامة أن يكون له من الذكاء ما يدرك به هذه الشئون المعقدة إدراكًا صحيحًا ليبني عليه حسن تصرفه.
ثم إن علماء النفس اليوم يقسمون الذكاء أقسامًا وينوعونه أنواعًا. فهناك الذكاء في فهم النظريات والمسائل المجردة كذكاء الفلاسفة والجامعيين. وهناك الذكاء العملي، والزعيم السياسي أحوج إلى هذا النوع الأخير، وهو إدراك العلاقات الواقعية للمسائل والأشخاص، وهو ذكاء مكتسب من التجارب أكثر مما يُستفاد من دراسة النظريات وعمق التفكير، هو ذكاء كالذي يكسبه المهندس من كثرة ممارسته، والطبيب بعد دراسته من طول مزاولته. فالزعيم السياسي في حاجة قصوى إلى ذكاء عملي يفهم به عقلية الناس الذين يعاملهم ويتزعمهم ويعمل لهم وكيف يُساسون ووسائل إقناعهم وتوجيههم ومواطن القوة والضعف فيهم، فإن لم يدرك ذلك واكتفى بالنظريات وفهمها فشل فشل المحامي الذي يقتصر على دروس المدرسة، أو الاقتصادي الذي فهم النظريات ولم ينزل السوق.
وأخيرًا لا بد من عنصر «العطف» أو بعبارة أخرى شعور الزعيم بأواصر الأخوة بينه وبين من يتزعمهم، ولا يكون ذلك مجرد قول يقوله أو يتملق الجمهور به. إنما هو شعور صادق يتغلغل في نفسه ويفيض على أقواله وأعماله، يشعر بعذاب الناس وآلامهم وآمالهم كما يشعرون بل أكثر مما يشعرون، ثم يحمله صدق هذا الشعور على أن يسير بهم إلى الغرض الذي ينشد وينشدون، لا أن يستخدمهم في تحقيق مصالحه الشخصية، وأغراضه الذاتية بهذا العطف يستحلي العذاب في خدمة الأمة، ويهزأ بالمتاعب في سبيل تحقيق الغرض، وبدونه يكون أنانيًّا جافًا إن خدع الناس حينًا فلا بد أن ينكشف عاجلًا أو آجلًا إذا ملأ الزعيم هذا الشعور استساغ التضحية واستعذبها، وإلا كان شرهًا في كسب الخير لنفسه من وجوهه المختلفة.
•••
وما أحوجنا في الشرق اليوم إلى زعماء من هذا القبيل تجمعت فيهم هذه العناصر، فيأخذون بيده في نهضته وينيرون السبيل أمامه، ويهدونه إلى الحق وإلى صراط مستقيم.