في الهواء الطلق (٣)
وأخذنا القطار إلى المعادي ونزلنا نخترق الصحراء وفي الجو برودة، وفي الشمس دفء، وفي
الحديث متاع.
جرى الحديث تباعًا، من ازدحام القطار، إلى ويلات السلم بعد ويلات الحرب، إلى موقف
الشرق
والغرب، إلى ما كان من آمال في صلاح العالم بعد الحرب قد تبخرت، إلى العالم وتطوره، وهل
هو
في تقدم مستمر، أو في شقاء مستمر. وأخيرًا حميَ رأس صديقنا فاندفع في الكلام يشرح لنا
رأيه
في تطور المجتمع البشري قال: لقد كنت بالأمس أقرأ كتابًا أمريكيًّا يشرح أن المجتمعات
تجري
في سيرها على قانون طبيعي لا يتخلف، وتمر بأدوار كما يمر الفرد، من طفولة إلى شباب إلى
كهولة، وأن معرفة هذه القوانين أصبحت يسيرة بعد أن صارت الجمعيات البشرية على وجه الأرض
في
متناول البحث والدرس، وبعد أن تقدمت البحوث في المقارنات، فتخصصت طائفة من العلماء لبحث
القانون المقارن، ونظام الحكومة المقارن إلخ، كل هذا كشف أحوال الناس في شتى نواحيهم،
وجعلهم كتابًا مفتوحًا يستطيع منه العالم أن يعرف كيف تطور العالم في شتى نواحيه.
وخلاصة الرأي أن المجتمعات البشرية كما دل عليه البحث مرت في ثلاثة أدوار؛ ففي الدور
الأول كانت حياة الناس تسيّرها الغرائز والتكوين البيولوجي، ثم أسلمه هذا إلى الدور الثاني،
وفيه لا يخضع الإنسان للغريزة وحدها بل حسب الهوى والأوهام، وحيثما اتفق، وكما توحي إليه
الظروف الحاضرة، ويخبط في ذلك خبط عشواء، ثم يأتي الدور الثالث وفيه يتقيد سيره بالنظام
والمنهج حسب العقل، مستفيدًا من تجارب الماضي.
أ
:
هذا كلام غامض.
ب
:
لا أرى فيه غموضًا، فلأوضحه بالأمثلة، فمثلًا علاقة الرجل بالمرأة في الدور الأول
كانت علاقة لا تخضع لشيء إلا للغريزة الجنسية والتكوين البيولوجي، وموقف المرأة في
هذا موقف الرجل، ولم يكن هناك رباط زوجية محكم، ولا نظام أسرة وثيق؛ ثم خضعت هذه
العلاقة في الدور الثاني للهوى وتغلب الرجل على المرأة وبعثت الغيرة والهوى على
اختصاص المرأة بالرجل، وكان الزواج وتربية الأولاد والأمور المالية والاجتماعية
تسير في الأسرة حيثما اتفق، ثم جاء الدور الثالث فخضعت الأسرة لحكم العقل والتجارب،
فاقتصر الرجل على زواج امرأة واحدة لمصلحة الأسرة، ومنحت المرأة من الحقوق ما للرجل
يحكم إنسانيتهما، ووضع نظام الأسرة على أساس مصلحة الأطفال، ورُبي الأبناء والبنات
حسب قوانين العقل والتجارب، وهكذا.
وكذلك الشأن في الأمور الإقتصادية: كان الناس يعيشون جماعات، ويحصلون ما يأكلون
وما يلبسون بالغريزة، ويقتسمون ما يحصلون، ولا تجد بينهم غنيًا وفقيرًا؛ لأن الأمر
ليس إلا إشباع لغرائز، ثم يأتي الدور الثاني فيتداخل الهوى والشهوة وتحدث
المصادفات. وحينئذ يكون الغني والفقر والتخمة والحرمان، ويستسلمون لذلك، ويعتقدون
أنه من القدر، لا مجال للعقل والتفكير والضبط فيه، ثم يأتي الدور الثالث فيتدخل
العقل وتنظم الأمور المالية، كفرض الضرائب على الأغنياء لمصلحة الفقراء، وكتوفير
الحاجات الضرورية وضمانتها لعامة الشعب، وهكذا مما يقلل الفروق بين الطبقات؛ وعلى
الجملة فهم يؤمنون أن الغنى والفقر من صنع الإنسان، وأن التنظيم العقلي قادر على
رفع البؤس والحد من الترف.
وكذلك الأمر في الشئون السياسية.
جـ
:
ألم تشعروا بالتعب؟ فالمشي طال، والدم جرى في عروقنا، والجو ارتفعت حرارته،
وشعرنا بالجوع.
أ
:
إن هذا الحديث أنسانا التعب والجوع.
جـ
:
بل هذا الحديث زادنا تعبًا وجوعًا، ففي كل مرة أعزم على ألا أخرج معكم لثقل
حديثكم وقلة ذوقكم، وفي كل مرة أنصحكم أن تنسجموا مع الجو، فتتحدثوا حديثًا مرحًا
خفيفًا يناسب هذا الصفاء ورقة الهواء، ولكن الشاعر يقول:
وتلمّسنا مكانًا ظليلًا فلم نجده إلا تحت صخرة في هضبة، فجلسنا وأخرجنا لفائفنا
وأخذنا نأكل في نهم.
أ
:
أكمل حديثك يا سيدي.
جـ
:
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ب
:
أقول وكذلك الشأن في السياسة؛ فالبدائيون لا سياسة عندهم إلا الخضوع للغرائز في
مجتمعهم، ثم يأتي دور الهوى والشهوة والتخبط، فيظهر الحاكم المستبد وطبقة الأشراف
وذوو الحسب والنسب المستبدون، فيكون الرق والعبودية، وتحكم القوي في الضعيف والغني
في الفقير، والزعامة الطاغية يقابلها الاستسلام الخانع وهكذا، ثم يأتي دور العقل
فيتحرر الناس من هذه العبودية، وتتأسس العلاقة بين الحاكم والمحكوم على الحرية
والإخاء والحق والواجب، ويكون لكل رأيه ولكل عقيدته ولكل حريته في حدود
المعقول.
جـ
:
اسمحوا لي أن أنام على حديثكم قليلًا.
ب
:
وحتى الأمر في الأخلاق والحياة العقلية على هذا النمط، فالأخلاق في حياة الأوائل
أخلاق الغرائز، ولا يعاب شيء يروي الغرائز، ثم تكون الأخلاق المؤسسة على نظام
الطبقات والاستبداد، والعزة في جانب والذل في جانب، والأخلاق التي يتحكم فيها العرف
والتقاليد، ثم يأتي دور الأخلاق التي تتحرر من الطبقات ومن العبودية ومن التقاليد،
والتي تُؤسَس على مصالح الكافة حسبما يهدي العقل في ضوء التجارب، والعلم عند
البدائيين لا شيء إلا ما تهدي إليه الغريزة، ثم التقاليد والأوضاع والمأثور
والعقائد المتحجرة والأنماط المرعية، وفي آخر هذا الدور يأتي الشك يتبعه العلم
المؤسس على التجربة والعقل، والاتفاق على ما قام عليه البرهان، لا على ما توورِث من
الآباء.
والمثل الأعلى للأولين حياة تستجاب فيها الغرائز وتطاع فيها تقاليد القبيلة، وعند
المتوسطين احترام نظام الطبقات والإيمان بالمأثور من غير برهان، وعند الأخيرين خلق
أساسه العلم، وعلم أساسه التجربة والبرهان، والعظيم المبجل في الدور الأول القوي
الغرائز، وفي الدور الثاني القديس والولي، وفي الدور الثالث العالم والمصلح.
أ
:
أكل هذا قرأته في الكتاب؟
ب
:
بل أخذت الفكرة واسترسلت في تطبيقها.
أ
:
ما رأيك في الشرق وعلى أي درجة من السلم يقف؟
ب
:
أظنه يرفع رجله اليمني إلى الدرجة الثالثة ولما تزل رجله اليسرى على
الثانية.
جـ
(وصحا جـ على القول الأخير فقال)
:
ألا تزالون تهذون؟ مرحى بالدور الثالث دور العلم والتجربة العملية، الذي توج
بالقنبلة الذرية، أما سمعتم قول الشاعر:
جفنه علم الغزل
ومن العلم ما قتل؟
هأ، هأ، هأ
ب
:
أعدك أن ننظم رحلة في الأسبوع القادم يكون الحديث فيها كله ضحكًا.