المجمع اللغوي١
وقد أعجبني تعريف كاتب إنجليزي للمجمع إذ يقول: «المجمع هو جمعية أو هيئة متعاونة منسجمة. غرضها تهذيب الأدب والعلم والفن وترقيتها. مجتمعة أو مقسمة إلى شعب، يدعوها إلى عملها العشق الخالص لغرضها من غير أن يشوبه شائبة من ربح مادي».
وأحسن ما أعجبني في هذا التعريف «عشق الغرض» فهو حقيقة روح المجمع، بل روح كل جمعية. إن وجد العشق تحقق الغرض، وهو يتحقق بمقدار ما فيها من عشق، فإن لم يكن فشكل جمعية لا حقيقة جمعية.
ولم يكن هذا العشق بعيدًا عنا نحن الشرقيين؛ فقد قامت منا أفراد بما تقوم به المجامع، ونجحوا لتوافر هذا العشق عندهم، فالأزهري اللغوي صاحب التهذيب الذي ضرب في الصحراء يأخذ اللغة من أهلها ويقع في الأسر ويتحمل صنوف العذاب من أجل غرضه لا شك عاشق، وابن منظور الذي عكف على كتابة عشرين مجلدًا بعد تحرير كل مادة وكل كلمة من غير أي نظرة إلى ربح هو كذلك عاشق، وأمثالهما كثير، وكنت أقرأ أخيرًا للكندي فصلًا في شروط الفيلسوف فجعل من أهم شروطه «عشق الحقيقة».
•••
ويذكر المؤرخون أن أول مجمع بهذا المعنى إنما كان في مصر، شهدته الإسكندرية في أول القرن الثالث قبل الميلاد على يد بطليموس الأول، والتقى فيه جهابذة العلم من اليونان والشرقيين يرقون ما وصل إليه العلم في أيامهم، وكان ذلك نواة لمدرسة الإسكندرية ومكتبة الإسكندرية. ولو أنا ورثنا هذا المجمع من هذا التاريخ وطورناه مع الزمن لكان لنا الآن خير مجمع وخير لغة وخير علم، ولكن أعاصير السياسة قطعت حبل ما بيننا وبينه فورثته أوربا أولًا، ثم أخيرًا جدًّا نقلناه من أوروبا إلينا.
وليس من غرضي أن أعرض هنا صورة لتاريخ هذه المجامع الأوربية وتطورتها، ولكني أريد أن أعرض عرضًا سريعًا لبعض ما قامت به بعض المجامع من أعمال، وأقتصر على الناحية اللغوية والأدبية تاركًا ما عملته المجامع العلمية والفنية لأربابها.
فمثلًا كان المجمع الفرنسي في أيامه الأولى يجري على سنة اجتماعية يومًا كل أسبوع، وفي كل اجتماع له يقرأ أحد أعضائه موضوعًا لغويًّا أو أدبيًّا أعدَّه. فإذا أتم قراءته نقده الحاضرون وأبدوا رأيهم فيه، فكان هذا نواة لأعمال المجمع، وتطور هذا إلى إعداد بحوث لغوية وأدبية دورية يلقيها كل عضو مرة، ثم تبع هذا أن كانوا ينقدون التآليف الأدبية العظيمة التي نالت حظوة عند الجمهور، كما فعلوا في تآليف «كورني». ولكن كان من تقاليدهم ألا ينقدوا إلا إذا طلب منهم المؤلف ذلك، ثم توجت أعمال المجمع بعمل معجم واسع كبير للغة الفرنسية.
فلما أعيد تكوينه من جديد في آخر القرن الثامن عشر كان مما دخل عليه من تحسين نمو ماليته بما قدم إليه من هبات يصرفها في تشجيع الإنتاج الأدبي.
ومهما وُجه إليه من نقد في اختيار أعضائه، أو في جموده ورجعيته، أو قلة إنتاجه، أو نحو ذلك فإنه يعد المحكمة العليا للأدب، الحارس للغة من التبذل.
وحددت ألمانيا وإيطاليا الغرض من مجامعها بتنقية اللغة وتصفيتها وترقيتها، وكذلك حددت إسبانيا غرضها، وعمل مجمعها على اختيار الألفاظ والأساليب المهذبة التي يستعملها خاصة الأدباء، واستبعاد الألفاظ والأساليب الحوشية وتدوين ذلك في معجم.
•••
كان عمل مجمعنا المصري أشق وأصعب وأعقد من المجامع الأوربية، لأنه تأخر في التاريخ كثيرًا، ولم ينشأ إلا حديثًا. على حين أن المجامع الأخرى لها ثلاثة قرون أو أكثر، ولأن الصلة بيننا وبين آخر مجهود في اللغة عمله الفيروزابادي وابن منظور قد انقطعت ولم تتقدم أي خطوة، وفتحنا أعيننا فوجدنا أنفسنا أمام مدنية حديثة تزخر بالآلات والمخترعات والمصطلحات في كل علم وفن، وكل لغة حية يجب أن تتكمل بها كلها، ولاقينا في ذلك أكثر مما لاقى العرب في العصر العباسي حين واجهوا المدنية الفارسية والرومانية، فالمدنية الحديثة أغنى وأوسع، وأجدادنا قابلوا المدنيتين الفارسية والرومانية وهم فاتحون يشعرون بالعزة، والعزة تدعو إلى الجرأة، ونحن نقابل المدنية الحديثة بشيء من مركب النقص، وهو يدعو إلى الانكماش والخوف، وأجدادنا كانوا يشعرون أن اللغة ملكهم، ونحن نشعر أنا ملك للغة، فيبطؤ سيرنا ويقل إنتاجنا. ثم إن اللغة العربية بطبيعتها صعبة شاقة في قواعدها، في إعرابها، في كثرة مترادفاتها، في سعتها سعة تامة فيما تتطلبه معيشة الجزيرة العربية وفيما لحقها من المدنية العباسية، ضيقة أمام المدنية الحديثة ومصطلحاتها.
فمجمعنا لا بد أن يواجه هذه المشاكل كلها ويجد لها حلولًا، مجمعنا له غايات عظمى ومطالب خطيرة، أمامه أن يضع معجمًا وافيًا بحاجات العصر ومطالب العصر على أسلوب يستسيغه العصر — وأمامه عمل معجم تاريخي مطول، وأمامه أن يكون محكمة عليا للإنتاج الأدبي في العالم العربي، يقف على كل ما يصدر في كل عام من شعر ونثر وبحوث أدبية، ويقول فيه كلمته. وأمامه أن يكون حارسًا على اللغة ليشرف على ما يُكتب في الجرائد، وما يُستعمل من ألفاظ وأساليب، ويجيز ما يرى إجازته ويرفض ما يرى رفضه. وأمامه أن يرحم الطلبة في المدارس فييسر لهم سبل تعلم اللغة العربية وآدابها، وينقد البرامج ويضع وسائل الإصلاح. وأمامه أن يستحث الحكومة والأغنياء على التبرع بالمال لتشجيع الأدباء على الإنتاج أمامه كل ذلك وتسألونني: كيف يحقق المجمع ذلك؟! فأقول بكلمة واحدة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان، هي العشق.
•••
إن عمر مجمعنا هذا الآن نحو أربعة عشر عامًا، فقد صدر المرسوم بإنشائه في ١٣ ديسمبر سنة ١٩٣٢، وعُيِّن أعضاؤه لأول مرة في ٦ أكتوبر سنة ١٩٣٣، وحُدّد الغرض منه في المرسوم بالمحافظة على سلامة اللغة العربية وجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر، وذلك بأن يحدد في معاجم أو تفاسير خاصة أو بغير ذلك من الطرق ما ينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب، وأن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثًا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وتغير مدلولاتها وأن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية، وأن يبحث كل ما له شأن في تقدم اللغة العربية.
ومن ذلك الحين بدأ يعمل المجمع، فكان أعضاؤه يتداولون البحوث التي تمس إليها الحاجة، فيبحث عضو في الاشتقاق ومداه ومتى يكون قياسيًّا ومتي يكون سماعيًّا، ويبحث آخر في تعريب الأساليب، وثالث في تعريب الألفاظ وطرقه والألفاظ المولدة وموقف المجمع منها، وهكذا. ويتناقش الأعضاء ويتخذون في ذلك قرارًا.
وقد بدءوا في تقسيم الأعضاء إلى لجان؛ فلجنة للرياضيات ولجنة للعلوم الطبيعية والكيمياوية، ولجنة للعلوم الاجتماعية والفلسفية إلخ. وكانت كل لجنة تجتمع وتتناقش في المصطلحات الخاصة وتعرض ما تقرّه على المجمع ليرى رأيه فيها، وبذلك أقرّ المجمع ألوف الكلمات في المصطلحات العلمية المختلفة، وفي بعض دوارات المجمع بحث في تيسير قواعد النحو وتيسير الكتابة العربية. وعنى المجمع بإنشاء مجلة سنوية ينشر فيها بحوثه وقراراته وسائر أعماله، كما كان ينشر مجموعة بمحاضر جلساته، ولكنها مع الأسف، وقفت في سني الحرب، ثم أخذ المجمع يعمل على إصدارها من جديد.
والمجمع الآن يرجو أن يبدأ قريبًا في الشروع في أهم أعماله، وهو وضع معجم تاريخي مطول تُذكر فيه الكلمة ومن أي لغة أُخذت وفي أي معنى استُعملت في العصر الجاهلي، ثم ما دخل على هذا المعنى من تطور إلى عصرنا الحاضر؛ وهذا ولا شك عمل ضخم، ولكن أدواته متوافرة عندنا بأكثر مما كانت متوافرة أيام الفيروزابادي وابن منظور، بفضل تقدم العلم باللغات الشرقية القديمة من سريانية وعبرية وهيروغليفية وفهلوية وحبشية وسبئية إلخ. فما كان يحدسه الأقدمون من اللغويين حدسًا أصبح اليوم علمًا. ثم إن الأصول العربية من كتب لغة وأدب وتاريخ وما إلى ذلك مما يمكن الرجوع إليه في وضع هذا المعجم أصبحت أقرب منالًا، لتقدم الطبع وسهولة الاتصال. ومع هذا وذاك فالعمل شاق صعب لا يمكن التغلب عليه إلا بالجهد الطويل وبالدواء الذي وصفته من قبل وهو العشق. وما علينا إلا البدء والاستمرار، وعلى خلفنا أن يكمل بدءنا.
ثم هو يطمح أيضًا أن يحقق مثله في أن يكوِّن محكمة عليا للغة والأدب، فتشرف لجانه على النتاج الأدبي في العالم العربي من نظم ونثر وتأليف، فيتوّج منها ما يستحق التتويج، ويعلن تقدير ما يستحق التقدير، ويكافئ بالمال ما يرى المكافأة عليه، ويشرف على المجلات والجرائد والكتب، ويعلن قراراته فيما يستجد من ألفاظ وأساليب، فيقرّ الصواب ويصحح الخطأ فيشعر الجمهور بإشرافه.
لقد وُجهت إلى المجمع نقود كثيرة مثل أن نتاجه قليل، أو أنه يختار ألفاظًا لم يستسغها الجمهور وقد أضاف إلى الحقائق الواقعة خيالات مختلفة للتشنيع ونحو ذلك، ولم يكن مجمعنا المصري وحده هو الذي وُجه إليه هذا النقد وأمثاله، بل قلما خلا مجمع في العالم من مثل هذا؛ وسبب ذلك على الأغلب أن طبيعة المجمع دائمًا طبيعة محافظة لا ترضي نزعة المجددين والثائرين، ولأن طبيعة العلماء دائمًا تميل إلى التدقيق والبطء، وتفضل النتاج الصحيح القليل على النتاج الكثير في غير نضج. والجمهور عادة يرى النتائج ولا يرى المقدمات، ويقدر ما يظهر على المرسح فقط ولا يقدر ما عمل وراء الستار، ولا يرى من الساعة إلا عقاربها. ثم إن مجمعنا لم يتصل بالجمهور الاتصال الكافي الذي يقنعه بضرورة وجوده مع أن نتاجه ليس بالقليل. وأخيرًا من مشاكلنا أن ليس لنا استقلال مالي يشعرنا بالحرية في العمل، فإذا أردنا طبع مجلتنا فلسنا أحرارًا، وإذا أردنا مكافأة على عمل نراه في صالح المجمع فلسنا أحرارًا، وهذه عقدة العقد في كل عمل حكومي. وقد بُني النظام من قديم على فقدان الثقة وتركيز الإذن بالتصرف، فعاق هذا كل تقدم. وعندي أننا لو خسرنا مليونًا من الجنيهات كل عام وكسبنا ثقة بعضنا ببعض وحرية تصرفنا لكان ما خسرناه قليلًا وما ربحناه كثيرًا.