الجدل العقيم
في الناس قوم لا ينفع فيهم الجدل والمناقشة، فمن الحمق أن نضيع وقتنا وجهدنا في جدلهم ومناقشتهم.
إن الجدل الناجح، والمناقشة التي تؤدي إلى نتيجة معناها أن هناك شيئًا من الأساس متفقًا عليه، ومن المبادئ مسلمًا به، فإذا لم يكن ثم أساس ولا مبادئ، فالجدل ضرب من العبث.
إذا كان خصمك يريد الغلبة بالحق وبالباطل، وأداته في ذلك طول اللسان وقوة الحنجرة، فما معنى مناقشته! إنك في مناقشته تحتكم إلى المنطق، وهو لا يؤمن بمنطق، وتحتكم إلى وقائع، وهو يكذبها، وإن صدقها فسّرها تفسيرًا يخدم غرضه ويوفي بغايته، وإن سلكت مسلكًا سلك غيره عنادًا، فكيف تناقشه، ولم تناقشه؟ كيف تلتقيان إذا كان يريد الغلبة وتريد الحق، ويسلك مسلك التهويش، وتسلك طريق المنطق، وتلتزم أنت صحة الوقائع، ولا يلتزم هو شيئًا ففيم الجدل؟
وإذا كان خصمك قد وضع نصب عينيه في جدله أن يصل إلى منفعته الشخصية، ووضعت نصب عينيك أن تصل إلى الحق حيث كان، فكيف تلتقيان؟
ثم هناك من يتحجر عقله على عقائد اعتقدها، أو مبادئ اعتنقها، فكيف تليّنه بعد هذا التحجر؟ أو تكسبه المرونة بعد هذا التصلب؟ إنما ينفع الجدل قومًا يبرهنون فيعتقدون، لا قومًا يعتقدون ثم يبرهنون.
لقد كره الإسلام الإمعان في الجدل، وذمّ قومًا فقال «بل هم قوم خصمون» وقال رسول الله: «ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل»، فلم هذا الإسراف في المخاصمة والإمعان في المجادلة؟
إن شئت فانظر إلى ما يُكتب في الجرائد والمجلات، كيف يتجادلون ويمعنون في الجدل! حتى ليصدق عليهم أنهم «قوم خصمون»، لا يقفون عند منطق، ولا يقنعون ببرهان، وكل ما فعل خصمهم السياسي فهو ضلال، وهو باطل، وهو أسود، وكل ما فعل حزبهم فهو حق، وهو صواب، وهو أبيض، حتى لو فعل خصمهم ما طلبوا منه أن يفعل لجرحوه في فعله، ورموه بسوء القصد من عمله.
وفرق كبير بين النقد يخضع للمنطق واللبرهان، وبين اللجاجة في الجدل بالتهويش والسباب والتشهير والإمعان في الخصومة.
ذلك أن الأمر ليس أمر مسألة تُدرّس، وبرهان يُقام، ووجهة نظر تُعرض أو تُنقد، ولو كان هذا لسهل التفاهم، إنما الأمر أمر حزب يسقط، وحزب يحكم. وكل هذا الجدل الظاهر ليس إلا حربًا يخدم الغرض الباطن، فكيف يكون التفاهم؟
إن الجدل للوصول إلى الحق لا يخرج الإخوان عن الصفاء؟ ولا يمس صداقة الأصدقاء، بل يكون الجدل أفعل في توكيد الصداقة، وتثبيت العلاقة، لأن كلًا عاون الآخر. أما الجدل للغرض، فيفسد العلاقة، ويقلب الصداقة عداوة، لأنه ليس إلا وسيلة للانتقام، وشفاء الغليل.
ثم استعرض الجدل في المجالس كيف تتشعب الآراء ويطول الجدل. ويكثر الاستطراد، وكثيرًا ما ينتهي ذلك كله إلى غير نتيجة. حتى المجالس الخاصة التي قُصد منها إلى الاسترواح، ولذة الاستماع للحديث، وعرض كلٌّ أحسن ما رأى وما قرأ وما سمع، سرعان ما تنقلب إلى معركة حامية تفقد بهجتها ولذتها وتنقلب إلى جدل بغيض.
ما السر في هذه الفوضى كلها! وهذا الجدل الطويل كله؟ سره في قلة العقل فأقل الناس عقلًا أكثرهم كلامًا، ومن لم يحاسب نفسه على ما يقول قال ما يشتهي.
وسره في عدم ضبط النفس، فالنفس إذا لم يكن لها ضابط من عقل وحكمة شردت وذهبت كل مذهب.
وسره في الرأي العام الذي لا يحتقر الجَدِل الخصم، بل هو يطري طول لسانه وكثرة لجاجته وشدة إمعانه.
وسره في عدم تقويم الزمان، فلا بأس عند الناس أن تضيع الساعات في كلام فارغ، وجدل تافه، فهم يتفكهون بهذا كما يتفكهون بلعب النرد والشطرنج.
وسره في تشتت العقلية، فالتفاهم إنما يكون حين تتقارب العقلية، ولكنك تنظر فترى أميين بجانب متعلمين، وهؤلاء المتعلمون لا وحدة بينهم؛ تعليم أزهري ومدني وأجنبي، ومن تثقف ثقافة فرنسية، وأخرى إنجليزية، وثالثة ألمانية. من غير أن يكون لهذا كله دعامة متحدة من ثقافة قومية، ثم الفروق التي تنتجها معيشة الطبقات في العقلية؛ فعقلية الطبقة الارستقراطية غير طبيعة الطبقة الديمقراطية؛ وهكذا تمزقت عقلية الأمة كل ممزق، فلم يعد لها وحدة في العقلية، ولا وحدة في المزاج.
فإن كنت عاقلًا فوفر على نفسك الجدل فيما لا طائل تحته، واقتصد من وقتك وثوران نفسك، فإن من أهم الأسباب في خلق الأرض واسعة والسماء فسيحة أن نهرب حيث نشاء من الجدل العقيم.