أبو سليمان المنطقي كما يصوره أبو حيان التوحيدي
محمد بن ظاهر بن بهرام السجستاني.
فارسي الأصل، عربي المربى.
كان أنبغ فيلسوف في بغداد في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري.
لم يكن أقل شأنًا من ابن سينا وابن رشد وربما فاقهما في بعض النواحي، ولكن الوجاهة والشهرة حظ لم يرزقهما أبو سليمان، فقلّ من يعرفه أو يترجم له أو يوفيه حقه، ولولا ما وقع في أيدينا من نبذ هنا وهناك من كلام أبي حيان التوحيدي ما عرفناه.
لقد كان في بغداد في عصره نخبة من الفلاسفة والحكماء من مسلم ونصراني ويهودي أمثال ابن زرعة وابن الخمار وابن السمح والقومسي ومسكويه ونظيف ويحيى بن عدي وعيسى بن علي وأبي حيان التوحيدي وغيرهم.
ولكن كان أبو سليمان واسطة عقدهم وجامع شملهم ومقصدهم في حل المشكلات وقائل الكلمة الأخيرة فيما يجري بينهم من مناظرات، وكان كما يصفه أبو حيان «أدقهم نظرًا، وأقعرهم غوصًا، وأصفاهم فكرًا، وأظفرهم بالدرر، واوقفهم على الغرر، مع تقطع في العبارة ولكنه ناشئة من العجمة، وقلة نظر في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز».
وهذا تحليل دقيق من أبي حيان لشخصية أبي سليمان. فهو قوي الفكر ألكن العبارة، وهو يعتمد على قوة عقله أكثر مما يعتمد على النقل من المؤلفات، وهو واثق بصدق رأيه أكثر مما يثق بما يقول غيره، وهو قوي الشخصية يجعل رأيه حكما في كل ما يعرض عليه، وهو بخيل بعلمه لا يذكر بعضه إلا للخاصة إذا دعت الدواعي.
ولعل في هذا بعض ما يفسر خموله، فضنّه بعلمه جعله لا يخرج من المؤلفات ما ينشر ذكره ويعلّي شأنه ويخلد اسمه، يضاف إلى هذا أن الله الذي وهبه بسطة في العلم والعقل حرمه الجمال، فهو أعور العين مصاب بالبرص مشوه الخلق يقول فيه الشاعر:
منعه هذا العور وهذا البرص من أن يغشى مجالس العظماء والأمراء والحكام، وفي ذلك العصر كان هذا الاتصال سبب الرزق للعلماء، ولم يكن الأمر كما هو في عهد ديمقراطية اليوم حيث يستطيع العالم أن يجد رزقه من الشعب بوسائل مختلفة، بل كان العالم إن لم يتصل بخليفة أو أمير يمنحه أو يصله بوظيفة يستدر منها رزقه في وقف من الأوقاف ساءت حياته وأصابه الضنك إن لم يكن له مال موروث.
والفلسفة على الخصوص محتاجة إلى عون الأمراء، بل وحمايتهم، لأنها ليست مستساغة للعامة وأشباههم، بل هي مكروهة منهم.
فكان أبو سليمان فقيرًا معتزلًا بالإكراه، لا يجد قوْته ولا أجر مسكنه إلا بمشقة.
كان عضد الدولة يمنحه المنحة الفينة بعد الفينة، فلما مات عضد الدولة شق عليه موته. فمنحه الوزيران سعدان مئة دينار مرة، فتهلل لها، ووعده بأن يواصل منحه، ولكن الوزير قُتل؛ فهذه المعيشة المنعزلة الفقيرة كان لها أثر كبير في خموله. كان بيته مع فقره مجمع فلاسفة بغداد، ومجلسه مملوءًا بالبحث وتبادل الآراء في المشاكل التي تثار مع اختلاف ألوانها وموضوعاتها، وكتب أبي حيان كالإمتاع والمؤانسة، والمقابسات، والصداقة والصديق تشغل جزءًا كبيرًا منها محاضر لهذه الجلسات وتدوين مختلف وجهات النظر وما كان لأبي سليمان المنطقي فيها من قول فصل.
ونحن نستعرض بعض آرائه الدالة على عمق نظره وسعة أفقه.
لقد كان من أهم ما يثار في تلك الأيام مسألة لا تزال تثار إلى اليوم، وهي موقف الناس من الوحي ومن العقل، فأساس الأديان أن الله تعالى شاء أن يتصل بخلقه عن طريق رسله، فأوحي إليهم بتعاليم الدين علمًا منه بقصور العقل الإنساني وضيق مجاله، فإن استطاع العقل إدراك المادة وقوانينها فلن يستطيع إدراك ما وراء ذلك من عالم الغيب، وهذا هو ما بيّنه الأنبياء بما يُوحى إليهم؛ وعلى هذا الأساس شُرعت العبادات وشُرح عالم الغيب، فهي قد جاءت لا عن طريق إعمال العقل وترتيب المقدمات والنتائج كما يفعل العقل في بحثه العلمي، ولكن عن طريق أن الرسول أُوحي إليه من الله بهذه التعاليم فآمن بها، وبلّغها للناس، فهل تُعرض هذه التعاليم الدينية على العقل ليبحثها بطريقته الفلسفية والمنطقية؟
هذا سؤال عالجه قديمًا الفلاسفة كما يعالجه اليوم الفلاسفة ورجال الدين.
وكان في أيام أبي سليمان هذا أربع نزعات في هذا الموضوع. منهم من حكّم العقل في الدين فعرض كل مسائل الدين على العقل، فما قبله العقل من الدين قبله وما لم يقبله رفضه. وكان من أكبر دعاة هذا المذهب زيد بن رفاعة المقدسي، وقد كان آية في الذكاء وحسن البيان وسعة الاطلاع، فكان يقول: الشريعة طب المرضى، والفلسفة طب الأصحاء، والأنبياء يطبون للمرضى حتى لا يتزايد مرضهم وحتى يزول المرض بالعافية فقط، فأما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض أصلًا، ويرى أن الشريعة للعامة، والفلسفة للخاصة، وأن أدلة الدين ظنية وأدلة الفلسفة يقينية إلخ ما قال.
ونزعة أخرى عكس هذه تمامًا، وهي تحكيم الدين في العقل أو الفلسفة، وعرض نظريات الفلسفة على الدين فما وافق منها الدين قبل وإلا رفض، ويمثل هذه النزعة المحدثون والفقهاء.
ونزعة ثالثة آمنت بالفلسفة وأرادت أن تؤمن بالدين ففسرت الدين تفسيرًا فلسفيًّا، وبعبارة أخرى حوّلت الدين إلى عقل، وما لم يمكن تفسيره من الدين بالفلسفة أوَّلته، أي أنها جعلت الدين والفلسفة وحدة خاضعة لتفسير العقل؛ وهذا ما كان يحاوله الفلاسفة الإسلاميون أمثال الكندي والفارابي، وأخيرًا في هذا العصر الذي نتحدث عنه «إخوان الصفاء» فمزجوا الوحي بالتشبع بالفلسفة اليونانية، وحاولوا أن يكوّنوا منها وحدة، فإذا صادفتهم صعوبة من أنواع من الوحي لا يمكن تفسيرها بالعقل كبعض أشكال العبادات سبحوا في الخيال وأمعنوا في الرمز حتى يلائموا بينها وبين الفلسفة.
طلع أبو سليمان المنطقي برأي في هذا جديد، ولم يعجبه ما فعل إخوان الصفاء وقال فيهم: «إنهم تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحلموا وما وردوا، وغنّوا وما أطربوا، ونسجوا فهلهلوا، ومشّطوا ففلفلوا، ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يُستطاع، ظنوا أنهم يمكنهم أن يدسوا الفلسفة في الشريعة وأن يضموا الشريعة للفلسفة … وقد توفر على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحدّ أنيابًا وأحضر أسبابًا، وأعظم أقدارًا. فلم يتم لهم ما أرادوا، ولا بلغوا منه ما أملوا، وحصلوا على لوثات قبيحة ولطخات فاضحة وعواقب مخزية، وأوزار مثقلة».
وقد أبان السبب في هذه الطريقة بأن منهج الدين يخالف تمامًا منهج الفلسفة، فأساس الدين الوحي وهو الأخذ عن الله بواسطة السفراء بينه وبين خلقه، وبرهانه الآيات وظهور المعجزت، وهو يشتمل على ما يوجبه العقل تارة ويجوّزه تارة، وفيه ما لا سبيل إلى إقامة البرهان على ثبوته أو نفيه. وإنما يقبل بالتسليم من غير لم وكيف ولو وليت، ومعنى هذه التعاليم الورع والتقوى، ووسيلتها العبادة وطلب الزُلفى.
أما الفلسفة فأساسها العقل ووسيلته المنطق ودرس المقدمات وربط المقدمات بالنتائج وعدم قبول شيء إلا أن يقوم البرهان المنطقي عليه، وفي الدين ما لا يمكن قبوله إلا بالتسليم، لأنه لا يمكن إقامة البرهان عليه بالنفي أو الإثبات.
فكيف إذن يسوغ لإخوان الصفاء أن ينصبوا من تلقاء أنفسهم دعوة تجمع حقائق الفلسفة وحقائق الدين في نطاق واحد؟
وإذن، فما الحل؟
يكاد أبو سليمان يرى أن للدين مجالًا وحدودًا وللفلسفة مجالًا وحدودًا؛ فالدين لم يأت لشرح النظريات العلمية وإنما أتى لشرح العلاقات بين العبد وربه، والفلسفة أتت لتفسير الكون وقوانينه الطبيعية، ولم تأت لتفسير الأمور الغيبية، فلنتبع الدين في مجاله وحدوده، ولنتبع الفلسفة في مجالها وحدودها، وهو في حدود الدين لا ينظر إلى الفلسفة، وهو في حدود الفلسفة لا ينظر إلى الدين. يقول: والعاقل «يتحلى بهما مفترقين في مكانين، على حالين مختلفين، ويكون بالدين متقربًا إلى الله على ما أوضحه له صاحب الشريعة عن الله تعالى، ويكون بالحكمة متصفحًا لقدرة الله في هذا العالم الجامع للزينة الباهرة لكل عين، المحيرة لكل عقل، ولا يهدم أحدهما بالآخر، أعني لا يجحد ما ألقى إليه صاحب الشريعة مجملًا ومفصلًا، ولا يغفل عما استخزن الله هذا الخلق العظيم على ما ظهر بقدرته … ولا يعترض على ما يبعد في عقله ورأيه من الشريعة بأحكام الفلسفة، فإن الفلسفة مأخوذة من العقل المقصور على الغاية، والديانة مأخوذة من الوحي الوارد من العلم بالقدرة. ولعمري إن هذا صعب، ولكنه جماع الكلام وأخذ المستطاع وغاية ما عرض له الإنسان المؤيد باللطائف».
ويقول: «إن الفلسفة حق، لكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حق، ولكنها ليست من الفلسفة في شيء، وصاحب الشريعة مبعوث، وصاحب الفلسفة مبعوث إليه، وأحدهما مخصوص بالوحي والآخر مخصوص بوحيه، والأول مكفي، والثاني كادح».
وهذا في نظري رأي دقيق معتدل يستحق كل تقدير وإعجاب. وقد سقنا هذا مثلًا لعمق تفكيره في أعوص المسائل ودقة نظره واستقلال رأيه.
وعلى هذا الأساس كره علم الكلام والمتكلمين، لأنهم حاولوا أن يبرهنوا على قضايا الدين بالمنطق، فقال: ولمصلحة عامة نُهي عن المراء والجدل في الدين على عادة المتكلمين الذين يزعمون أنهم ينصرون الدين وهم في غاية العداوة للإسلام والمسلمين، وأبعد الناس من الطمأنينة واليقين؛ ذلك لأن الدين في نظره كما يقول مبني على القبول والتسليم، فمتى آمن المرء بنبي سلّم بما جاء به من غير لم وكيف إلا بقدر ما يؤكد أصله ويشد أزره، وينفي عارض السوء عنه؛ لأن ما زاد على هذا يوهن الأصل بالشك، ويقدح في الفرع بالتهمة.
وحكى حكايات تسخف المتكلمين وتبين سوء جدلهم، وأن كثيرًا منهم حار ووقع في القول بتكافؤ الأدلة، وهو ضرب من الشك.
•••
وكثيرًا ما كانت تثار في مجلس أبي سليمان ببغداد المسائل النفسية، إما نفسية بحتة أو نفسية تطبيقية على الأفراد أو نفسية اجتماعية، فمن النوع الأول أبحاثه الكثيرة في النفس، وهو يرى أن الإنسان جسم ونفس، وهما عنصران متباينان، فالجسم له أبعاد ثلاثة والنفس لا أبعاد لها، وهي جوهر بسيط لا يتجزأ، ولا يُدرك بحاسة من الحواس الخمس، ولا يقبل التغير والاستحالة من شيء إلى شيء، ولا يعتريه فتور ولا ملال، وهي تخالف الجسم في قبولها للصور المختلفة من جنس واحد في وقت واحد؛ فالجسم إذا كان على شكل مثلث استحال أن يكون مربعًا أو مدورًا إلا إذا زال شكل التثليث، وليست كذلك النفس، فهي تقبل الصور المتعددة على التمام والنظام من غير محو وإثبات؛ ولهذا يزداد الإنسان بصيرة كلما نظر وبحث وارتأى وكشف، وقد صحبت النفس البدن عند مسقط النطفة، وما زالت تربيه وتغذيه، وتحييه وتسويه حتى بلغ ما نرى. والإنسان بهما إنسان وليس بأحدهما، ونصيب الإنسان من النفس أكثر من نصيبه من البدن.
والإنسان يريد أن يعرف النفس، وهو لا يعرف النفس إلا بالنفس، وهو محجوب عن نفسه بنفسه، وكل من كانت نفسه أصفى، ونظره أعلى، كان من الشك أنجى، وإلى اليقين أقرب، والنفس قوة إلهية بسيطة، ولبساطتها كان خلودها؛ لأن الفساد إنما يدب إلى الجسم من تركيبه، والبدن إنما يبلى ويفسد ويبطل ويموت لأن النفس فارقته، والنفس لا يفارقها شيء ليعتريها الموت؛ وهكذا يفيض في هذا. وقد أرسل إليه مرة الوزير ابن سعدان أسئلة مع ابي حيان في النفس وطبيعتها ودليل بقائها، وهل تعلّم هذا العالم بعد مفارقتها الجسم إلى آخره. فكتب إليه في الإجابة رسالة لطيفة مختصرة. ويقول أبو حيان إن أبا سليمان كان إذا تكلم في النفس أفاض وأتى بالعجب. وفي الحق أن أبا حيان ملأ كتبه بأحاديث أبي سليمان عن النفس.
وهو يطبق معارفه في النفس على سلوك الأفراد والأمم. أطلعه مرة أبو حيان على صحيفة في تعريف الأخلاق وتحديدها، نقلها عن عيسى بن زرعة، فنظر فيها أبو سليمان وقال: «إن تحديد الأخلاق لا يصح إلا بضرب من التجوز والتسمح، وذلك أنها متلابسة تلابسًا، ومتداخلة تداخلًا، والشيء لا يتميز عن غيره إلا ببينونة واقعة تظهر للحس اللطيف أو تتضح للعقل الشريف، ألا ترى أن التواضع مشوب بالضعة، وعلو الهمة بالكبر، وعزة النفس بالعجب، والحلم ببعض الضعف؟ هذا بالقول ربما سهل وانقاد، ولكن بالعقل ربما عز واعتاض، والأخلاق والخلق مختلطة.
ثم قال: «وهذا أيضًا يختلف بحسب المزاج والمزاج، والإنسان والإنسان، وإنك لو رمت تحويل البخيل من العرب إلى الجود كان أسهل عليك من تحويل البخيل من الروم إلى الجود، والطمع في جبان الترك أن يتحول شجاعًا أقوى من الطمع في جبان الكرد أن يكون بطلًا».
يريد أن مزاج العرب أقرب إلى الجود فسهلت الدعوة إليه، ومزاج الترك أقرب إلى الشجاعة فسهلت الدعوة إليه، وليس كذلك مزاج الروم في الجود إلخ.
قال: ومع هذا فوصف الأخلاق بالحدود، وإن كان على ما بيّنا نافع جدًّا.
ثم لأبي سليمان في السياسة العملية نظرات صائبة أحكي منها مثلًا أو مثلين: لقد كان ابن سعدان الوزير البويهي يتأفف من كلام الناس في السياسة ومحاولتهم تعرف كل صغيرة وكبيرة يفعلها الوزراء والأمراء حتى ليودون أن يعرفوا ما يجري في بيوتهم، وما في دخائل أنفسهم، وقد ضاق الوزير ذرعًا بذلك، وود أن يؤدبهم بالضرب والتنكيل حتى لا يخوضوا في مثل هذا الحديث وأن يتوجهوا فقط إلى معايشهم ووسائل تحصيلهم.
وقد شكا الوزير ذلك إلى أبي حيان، فنقل له أبو حيان من كلام أبي سليمان في ذلك قولًا رائعًا، ونظرًا صائبًا وفصلًا لم تبل جدته، ولم تغيره الأيام على اختلاف تقلب السياسة، فهو جديد اليوم كما كان جديدًا في أيامه.
ليس ينبغي لمن كان الله جعله سائس الناس عامتهم وخاصتهم أن يضجر مما يبلغه عنهم أو عن أحد منهم لأسباب كثيرة: منها أن عقله فوق عقولهم، وحلمه أفضل من حلومهم، وصبره أتمّ من صبرهم، ومنها أنهم إنما جُعلوا تحت قدرته نيطوا بتدبيره، ليقوم بحق الله فيهم ويكون عماد حاله معهم الرفق بهم والقيام بمصالحهم، ومنها أن العلاقة بين السلطان وبين الرعية قوية، وهي أوشج من الرحم التي تكون بين الوالد والولد، والملك والد كبير، كما أن الوالد ملك صغير، وما يجب على الوالد في سياسة ولده من الرفق به، والحنو عليه، واجتلاب المنفعة له أكثر مما يجب على الولد في طاعة والده … ومما يزيد هذا المعنى كشفًا أن الملك لا يكون إلا بالرعية، كما أن الرعية لا تكون رعية إلا بالملك … وبسبب هذه العلاقة المحكمة لهجت العامة بتعرف حال سائسها، والناظر في أمورها حتى تكون على بيان من رفاهة عيشها، وطيب حياتها، ودرور مواردها، بالأمن الفاشي بينها والعدل الفائض عليها والخير المجلوب إليها، وهذا أمر جار على نظام الطبيعة، ومندوب إليه في أحكام الشريعة، ولو قالت الرعية لسلطانها: لم لا نخوض في حديثك ولا نبحث عن غيب أمرك. ولم لا نسأل عن دينك ونحلتك وعادتك وسيرتك، ولم لا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك، ومصالحنا متعلقة بك، وخيراتنا متوقعة من جهتك، ورفاهيتنا حاصلة بحسن نظرك وجميل اعتقادك، ما كان جواب سلطانها وسائسها؟ أما كان عليه أن يعلم أن الرعية مصيبة في دعواها؟
ولو قالت الرعية: لم لا نبحث عن أمرك، وقد ملكت نواصينا وصادرتنا على أموالنا وقاسمتنا مواريثنا، وإن طرقنا مخوفة، وخراجنا مضاعف، ومعاملتنا سيئة، وجندينا متغطرس وشرطينا متعجرف، ومساجدنا خربة، ووقوفها منتهبة ومارستاناتنا خاوية، وأعداؤنا مستكلبة ماذا يكون الجواب؟
وعلى هذا يمضي في بيان حقوق الرعية على الراعي في حرية تامة. وجرأة مستفيضة. وقد أعجبني من أبى حيان شجاعته في نقل هذا القول للوزير ابن سعدان فأصلح رأيه وألجم لسانه.
ومثل آخر من نظرته الصائبة في السياسة: أن أبا سليمان حكى أن كسرى أنوشروان لما تقلد مملكته عكف على الصبوح والغبوق، فكتب إليه وزيره رقعة يقول فيها: إن في إدمان الملك ضررًا على الرعية، والوجه تخفيف ذلك والنظر في أمر المملكة. فوقع كسرى على ظهر الرقعة بالفارسية ما ترجمته: إذا كانت سبلنا آمنة وسيرتنا عادلة، والدنيا باستقامتنا عامرة، وعمالنا بالحق عاملة، فلم نمنع فرحة عاجلة؟
وعلّق أبو سليمان على هذا فقال: «أخطأ كسرى من وجوه: أحدها أن الإدمان إفراط، والإفراط مذموم. والثاني أنه جهل أن أمن السبل وعدل السيرة وعمارة الدنيا والعمل بالحق متى لم يوكل بها الطرف الساهر، ولم تحط بالعناية التامة ولم تحفظ بالاهتمام الجالب لدوام النظام، دبّ إليها النقص، والنقص باب للانتفاض مزعزع للدعامة. والثالث أن الزمان أعز من أن يُبذل في الأكل والشرب والتلذذ والتمتع، فإن في تكميل النفس الناطقة باكتساب الرشد لها، وابتعاد الغي عنها، ما يستوعب أضعاف العمر، فكيف إذا كان العمر قصيرًا، وكان ما يدعو إليه الهوى كبيرًا. والرابع أنه ذهب عليه أن الخاصة والعامة إذا وقفت على استهتاره باللذات وانهماكه في طلب الشهوات، ازدرته واستهانت به، وحدثت عنه بأخلاق الخنازير وعادات الحمير، واستهانة الخاصة والعامة بالناظر في أمرها، والقيم بشأنها، متى تكررت على القلوب تطرقت إلى اللسان وانتشرت في المحافل، والتفت بها بعضهم إلى بعض وهذه مكسرة للهيبة، وقلة الهيبة رافعة للحشمة، وارتفاع الحشمة باعث على الوثبة والوثبة غير مأمونة من الهلكة، وما خلا الملك من طامع راصد قط».
وله في تحليل شخصية عضد الدولة السياسية وأحوال الناس في زمانه واضطرب أمرهم بعده ما يدل على دقة نظر. وهو يرى أن لا بد من الأخذ بقواعد السياسة بجانب الدين، ولا بد من اطلاع السائس على كتب السياسة التي كتبها الحكماء وعرفانها والعمل بها والزيادة عليها حسب مقتضيات الأحوال؛ وقد كتب هو نفسه رسالة لطيفة في السياسة أهداها إلى قابوس ملك جرجان.
وقد حكى أبو حيان عنه أن أبا سليمان كان إذا تكلم في مثل هذه الموضوعات عجبوا منه وعوذوه وسألوه أن يؤلف لهم فيها.
ولأبي سليمان كلمات رائعة في الحكمة على نحو ما روى لأفلاطون وبقراط وأمثالهما من حكماء اليونان.
وكان دقيق الحكم، له الطبع العلمي المنصف الذي لا يهرف بما لا يعرف.
قيل له يومًا: هل هناك بلاغة أحسن من بلاغة العرب؟ فقال: «هذا لا يبين لنا إلا بأن نتكلم بجميع اللغات على مهارة وحذق ثم نضع القسطاس على واحدة واحدة منها حتى نأتي على آخرها وأقصاها، ثم نحكم حكمًا بريئًا من الهوى والتقليد والعصبية والمين، وهذا ما لا يطمع فيه إلا ذو عاهة».
قال له أبو حيان يومًا: كيف أصبحت؟ فقال: «أصبحت مالك الظاهر مملوك الباطن … إن حزنت حزنت طباعًا، وإن فرحت فرحت خداعًا، إن أنا خالطت ذممت الناس، وإن اعتزلت اجتلب الوسواس، إن بحثت دهشت، وإن قدرت استوحشت، بهذا مسائي وصباحي، وعليه غدوي ورواحي، وا شوقاه إلى وطء ذاك البساط! وا كرباه من عقد هذا الرباط! يا لها سعادة لو وجدت بالجد والتشمير، وزهد من أجلها في النقير والقطمير!»
وكان أبو حيان وغيره يأتونه بالصفحة من كلام الصوفية أو من الفلسفة اليونانية فيستحسنها ثم يملي عليهم من عنده خيرًا منها.
كان له طبيعة يفلسف بها كل شيء مر على سمعه أو تحت نظره؛ فما يسمع بحادث، أو يعرض عارض، أو ترد خاطرة حتى تفيض فلسفته ويغمر بها سامعيه.
وكان مع هذا له مجالس أنس يروّح فيها عن نفسه. كان مشغوفًا بسماع الغناء من فتى موصلي نابغ، فيطرب من غنائه أشد الطرب وكان يخرج بعض أيام الربيع إلى البساتين ومعهم مغن، فهل ينسى فلسفته حتى في هذه الأوقات؟ كلا. كان يثير مثل هذه الأسئلة: لم كان المغني إذا تابعه أحد في غنائه وسانده يكون غناؤه ألذ وأطيب، وأحلى وأعذب؟ ويغنيه مرة غلام جميل الصوت تنقصه الصنعة، فيثير مسألة: لم تحتاج الطبيعة هنا إلى الصناعة؟ وهكذا يفلسف كل شيء حتى لو قال له أحد: «السلام عليكم»، لفلسفها كما فلسف سؤال أبي حيان له: كيف أصبحت؟
وليست فلسفته بالبساطة التي عرضتها. فكثيرًا ما يعمق حتى يدقّ فهمه، ويسمو حتى لا يدرك، ويرمز حتى لا يبين.
وهذه المسائل التفصيلية كلها ترجع في فلسفته إلى أصول كلية خلصت له، وصحت عنده واعتنقها، وولد منها كل هذه الفروع.
ما هذه الأصول؟ ومن أي مدرسة كان أبو سليمان من مذاهب الفلسفة الإسلامية؟ وهل كان أرسططاليسيًّا أو أفلاطونيًّا؟ وإلى أي حد كان مقلدًا للفلسفة اليونانية؟ وإلى أي حد كان أصيلًا؟ هذه مسائل تحتاج إلى بحث أدق ونظر أعمق.
أيًّا ما كان فقد كان أبو سليمان شخصية ممتازة لم تنل حقها من التقدير، لقد تركت دويًا كبيرًا في محيطه وفي زمنه، وكان بيته مقصد العلماء ليلًا ونهارًا؛ هذا أبو حيان يقرأ عليه كتاب النفس لأرسطو، وهذا يعرض ما غمض عليه من أقوال الفلاسفة فيشرحها، وهكذا كان مجلسه متعة النفس وغذاء العقل، وأقواله تُنقل إلى الخاصة، ويتجادل فيها العلماء في مجالسهم، ويتخاصم فيها في سوق الوراقين، وتحدث حركة علمية جليلة، ولكن لا تلبث أن تخبوا وقلّ من التفت إليها وحرص على دراستها، كما فعلوا بكتب ابن رشد وابن سينا وأمثالهما، والدنيا حظ والوجاهة حظ.
وهو مع الأسف لم يخلف لنا كتابًا أو كتبًا تعرض كل فلسفته مبوبة مرتبة، ولكن نبذ من هنا ومن هناك حكاها عنه أبو حيان.
ومع هذا، فلعلي بهذه الكلمة القصيرة أكون قد نفضت عنه بعض الغبار الذي عفى عليه، ولعلها تثير من يكشف النقاب عن وجهه.