الجرائم العقلية
بالأمس قرأت في إحدى الصحف أن دجالًا قُدّم للمحاكمة بتهمة التغرير بالعقول، وهُجم على بيته فرؤي فيه أنواع من ملابس الشعوذة أشكالًا وألوانًا، وأُحصيت ثروته فبلغت مئة ألف جنيه، ثم حكمت المحكمة ببراءته لأن القانون لا ينطبق على أعماله.
هذه جريمة عقلية.
ومنذ أيام حدثني عبد العزيز باشا فهمي أن رجلًا من أسرة مشهورة في الشرقية سمّاها لي مات جدهم من زمن وكان لصًا فتاكًا، ودُفن في مقبرة معروفة، فعمد أحد خدمهم إلى هذه المقبرة وشيّدها وجعلها على شكل ضريح، ولوّن حيطانها بألوان أضرحة الأولياء، وأشاع في الناس أن ساكن الضريح وليّ من أولياء الله له كرامات واضحة، فكم شفى من مرض وفرج من كربة، وجعل له «حضرة» تقام كل أسبوع و«مولدًا» يقام كل عام. وطلب من «الأوقاف» أن تعيّنه شيخًا للضريح ففعلت، فكان هذا مصدر ربح كبير استطاع به أن يشتري خمسين فدانًا من أطيان أسرة صاحب الضريح.
هذه أيضًا جريمة عقلية.
وفي الأضرحة المشهورة كالسيد البدوي والسيدة زينب وسيدنا الحسين صندوق نذور يضع فيه الزوار نذورهم، ويبلغ معدل صندوق السيدة زينب نحو ثمان مئة جنيه كل شهر.
هذه أيضًا جريمة عقلية.
من أين هذا المال وإلى أين؟
من فقير لا يجد قوته وقوت أسرته، ومن سيدة مسكينة اقتصدته من غذاء أبنائها وبناتها وملابسهم، ومن فلاح فقير باع بقرته وفاء بنذره وظل بعدها بلا بقرة.
هذا «من أين» وأما «إلى أين» فإلى دجال يستهوي عقول المغفلين بشعوذته وبأثوابه البيض والحمر وببخوره الجاوي. ثم هو يعيش بعدُ عيشه الترف والنعيم والبذخ — وإلى جيوب من لا يستحقون من موظفي المساجد الذين يتقاضون المرتبات على ما يعملون.
•••
أعني بالجرائم العقلية كل عمل يُرتكب ضد العقل، وكل سلوك ضد الصدق وضد الحق.
- (١)
فمن ذلك تغرير العقول وتضليلها، كوضع البرامج الضارة بعقول الناشئين في المدارس، وكبرامج الإذاعة وروايات السينما والتمثيل التي تحيي الشهوة وتميت العقل، وكأعمال الزعماء السياسيين الذين يغررون بالعقول، أو يحجرون على حرية القول وحرية التفكير، ومثل الدجالين بالطب الروحاني والاتصال بالجن والعفاريت يستحضرونهم ويسخرونهم.
- (٢)
ومن ذلك أيضًا ما نرى كل حين من أشخاص يقررون أن الشيء حق، ولكن عملهم عمل من يعتقد أنه باطل، أو يقررون أن الشيء باطل، ولكن يعملون عمل من يعتقد أنه حق، كالذي يعلي من شأن الصدق ويكذب، أو من شأن النزاهة ويرتشي، أو يشيد بالعدل ويسعى في نيل درجة أو وظيفة من طريق غير شريف.
- (٣)
ومن ذلك وضع العقبات في سبيل الرقي العقلي، كالحجْر على إبداء الرأي والحجر على الصحف وتقصير الحكومات في سبيل تثقيف الشعب إما بقلّة عدد المدارس أو فرض نفقات كثيرة على التعليم، وكالحجر على البنات ألا يتعلمن ما يتعلم الذكور وهكذا.
- (٤)
ومن ذلك جناية الإنسان على نفسه من ناحية عقله بشرب الخمور وبقلّة تغذية عقله بالقراءات النافعة، ومثل تكوين الإنسان آراءه على غير أساس واستسلامه للخرافات والأوهام تغزو عقله، وبيع عقله لغيره يتصرف فيه تصرف الملاك وهكذا.
•••
والدنيا حولنا مملوءة بهذه الجرائم العقلية تعبث بالعقول وتسمم الأفكار.
انظر إلى الجرائد والمجلات كيف تتنازعها الدعايات المختلفة في الأخبار الخارجية، وكل أمة تسوق الأخبار حسب هواها ومصالحها لا حسب حقائقها، واعتبر بما يجري هذه الأيام في عرض القضية الواحدة، تعرضها روسيا بشكل وإنجلترا بشكل وأمريكا بشكل، فأين الحق؟ لست أدري. وهكذا الشأن في مشاكل العالم، ليس يتحرى عارضها حقًا وصدقًا، ولكنه يتحرى أملًا ومصلحة وفي الأمور الداخلية كل حزب يصور المسائل حسبما يهوى حزبه لا حسب الصدق ولا الحق. وتقرأ الجرائد المختلفة فتصرخ من أعماق نفسك: يا لضيعة الحق!
وانظر إلى ترجمة الحياة في حفلات التكريم والتأبين وفي كتب التراجم والتاريخ كيف يضيع الحق بين دعوة الدعاة وملق المتملقين وخصومة المتعادين وتعصب المتحزبين.
وانظر إلى الإعلانات عن السلع وعن الكتب وعن المستحضرات الطبية وعن الروايات التمثيلية كيف يُلعب فيها بالعقل؛ فكل دواء يشفي من كل مرض، وكل كتاب كنز ثمين، وكل رواية فتح جديد، وكل سلعة ليس لها نظير، وهكذا.
من أكبر ما يُؤسف له أن الجرائم العقلية لم تقدر خطورتها القدر اللائق بها؛ فهذا الدجال الذي سرق مئة ألف جنيه من الفقراء والبائسين، وفوق ذلك ضلل عقولهم لم يجد القضاة نصًا في القانون يعاقبونه بمقتضاه، ولكنهم يجدون نصوصًا كثيرة لفقير سرق رغيفًا من غني، إن القوانين عنيت مع الأسف — بالماديات دون المعاني مع أن جريمة المعاني أشد خطرًا وأنفث سمًّا.
والأمم الجاهلة لا تحس خطر الجرائم العقلية، بل لا تحسها إطلاقًا، بل هي تمنح المجرمين العقليين كثيرًا من الاحترام، إن شئت فانظر ماذا يلقي هذا الدجال من توقير واحترام، أو انظر كم من آلاف الناس يهوون تقبيلًا لأيدي سارقي النذور، وكيف يُبجَّل بعض الزعماء السياسيين الذين يضللون العقول أو يحجرون على التفكير.
ومن أهم الفروق بين أمة منحطة وأمة راقية كثرة الجرائم العقلية في الأولى وقلتها في الثانية. ومن أهم علامة الأمة الراقية سيرها على مقتضى العقل في تربية أبنائها وفي فلاحتها وصناعتها وكل مرافق الحياة فيها.
وأهم ما يجب أن يعنى به المصلحون خلق «الضمير العقلي» في الأمة وإشاعته وتقوية سلطانه، وأعني بالضمير العقلي تنبه الشعور باستهجان كل ما يُرتكب ضد العقل واحتقار فاعله كما يحتقر السارق والقاتل، والشعور بالاستحسان ممن يأتي بالفضائل العقلية، كالدعوة إلى محاربة التخريف والتدجيل ونحوهما.
إن أكثرنا إلى اليوم حتى خاصتنا، يقفون من الجرائم العقلية موقف عدم الاكتراث، وهذا هو في نفسه جريمة عقلية.
لست أدري لماذا نتحمس لحماية عرضنا ولا نتحمس لحماية عقلنا، وكلاهما يجب أن يكون عزيزًا علينا!