في الهواء الطلق (٤)
وفّينا بوعدنا وخرجنا هذا اليوم إلى القناطر الخيرية. هذا هو الربيع، هو موسم الحياة،
ومحفل الجمال، ومعرض الألوان، تختال فيه الرياض بما لبست من ثياب ناضرة زاهية، وتترنح
فيه
الأغصان بما طربت من أغاني الطيور الصادحة، يروق العين بأزهاره البديعة وألوانه الجميلة،
تجلى فيه الطبيعة كما تجلى العروس، فتختال وتتبرج، وتتعطر وتتأرج، وترفل في حللها وحليها
بين مخطط وملون، ومدبج ومنمنم، ويروق السمع بأغاريد طيوره، وشجي بلابله، ويروق الشم بجمال
عبيره، وعطر نسيمه، وهو فوق ذلك يروق النفس بكل ما فيه، فكل شيء فيه جميل، فهو حقًّا
شباب
الزمان ونموذج الجنان، وخلاصة العام، وصوفة الأيام، لوددت أن هذا الجمال كله تجمع في
فم
فقبلته، أو في كوب فشربته، أو في جسم فاحتضنته، فإن لم يكن، فوددت أن تذوب نفسي فيه فتسري
في ماء أزهاره، أو تفنى في غناء أطياره.
•••
ركبنا باخرة نيلية تشق عباب الماء، وعلى الجانبين المزارع المنبسطة، والأشجار الباسقة،
والنخيل يفرع الجو إلى السماء، ويتعمم بأغصان يداعبها الهواء، والنسيم عليل يميل إلى
البرودة، ننتقل إلى الشمس فندفأ، ثم إلى الظل فنبرد، ونظل ننعم بدفء من برد، وببرد من
دفء.
جـ
:
هات وعدك أيها السيد (ب) فقد وعدتنا أن يكون حديثك كله اليوم ضحكًا.
ب
:
نعم وعدتك هذا، ولكن.
جـ
:
إني أكره «لكن» هذه.
ب
:
لك الحق أن تكرهها، ولكن.
جـ
:
قلت إني أكره «لكن».
ب
:
بالأمس ذكرت ما وعدت وقدرت تبعتي، فعكفت على مجموعة عندي من نوادر جحا، ثم عكفت
على مجموعة من مجلة إنجليزية، وأخرى فرنسية فكاهية، أجمع لك منها نوادر مضحكة، ثم
وجدتني أغرق في بحث عميق، في الفرق بين الفكاهة الشرقية والفكاهة الغربية، ومقدار
استخدام الذكاء في النوعين، ومقدار اللعب بالألفاظ في إحداهما واللعب بالذكاء في
الأخرى، والأدب المكشوف في ناحية والمستور في ناحية، وظللت أبحث حتى أنساني هذا
البحث النوادر نفسها إلا أن تكون شاهدًا، ثم رأيتني أمد يدي إلى كتب في علم النفس
تبحث في الضحك وأسبابه. فوجدت العلماء يثيرون سؤالين: لم نضحك؟ وما وظيفة الضحك؟
وخرجت من هذه القراءات بنتائج قيمة.
«فسبنسر» بحث في أسباب الضحك من ناحية فقال: إن الضحك قد ينشأ من لذة حادة كضحك
السكران، وقد ينشأ من ألم حاد كضحك المصاب بالهستريا، وقد ينشأ من منظر فكِه.
ووظيفة الضحك إفراغ شحنة التعب العقلي بواسطة عضلات الوجه والصدر، وهو ينفس عن
التعب العقلي كما تنفس أعمال القسوة عن الغضب، وكما ينفس البكاء عن الحزن.
وجاء «برجسون» فعالج الضحك من وجهة أخرى فبدأ حديثه بقوله: إذا داس رجل قشرة موز
فزلقت رجله فلماذا نضحك؟ إنما نضحك؛ لأن الرجل مثل دور الجماد في خضوعه لقانون
الجاذبية، ولم يحتفظ بمركزه من حيث هو إنسان، فالضحك عقوبة للسلوك السيء، أو
الأعمال الآلية السخيفة، وأخذ «برجسون» من هذا المثال البسيط يطبق نظريته هذه على
كل الأعمال المضحكة، حتى الحركات البهلوانية وإشارات الخطباء السمجين، والملح
والنوادر.
أ
:
يخيل إليّ أن «برجسون» مبالغ في نظريته وتعميمها، وجعل سبب الضحك كله «عقوبة على
عمل آلي سخيف»، فهناك الماجنون والمضحكون لا يرون أن ضحك الجمهور عقوبة لهم، بل هم
يُسرّون لضحكه، ويجب أن نقرر أن هناك ضحك عقوبة، وضحك استحسان، ولماذ نضحك ممن زلقت
رجله فتمدد على الأرض، ويصيبنا الرعب لا الضحك إذا انزلقت رجله من قمة جبل
فتردى؟
ب
:
لقد أدرك «برجسون» هذا فاشترط فيما يثير الضحك ألا يكون مما يثير انفعالًا قويًّا
كهذه الحالة.
وعلى كل حال فأنا أعرف ما قرأت وقد يكون فيه بعض النقد. واستمر يقول: وجاء
«مكدوجل» فبحث في نظرية الضحك فقال إن للضحك وظيفتين وظيفة نفسية ووظيفة فسيولوجية،
فمن الناحية النفسية هو يقف مجرى الفكر وتسلسله ويريحه من جهده، ومن الناحية
الفسيولوجية يزيد في جريان الدم وسريانه إلى الرأس والمخ بتنشيطه للدورة الدموية،
ويتبع ذلك ما نرى من أثر الفرح والسرور، أما ما يسبب ضحكنا فهو الأضرار الخفية التي
تنزل بغيرنا فتثير عطفنا عليه، عطفًا ممزوجًا بشيء من الألم، فيأتي الضحك ليقطع
تسلسل هذا الفكر الذي بدأ يتألم، فنحن لم نضحك؛ لأننا سررنا، بل إننا سررنا؛ لأننا
ضحكنا.
أ
:
لعلي أستخلص من هذه النظرية أن الضحك أتى لينفّس عن ألم صغير وليبعد استمراره،
وهذا صحيح في بعض الحالات حتى في الألم الصغير يلحقنا نحن، ولكنه لا يصح أن يكون
سببًا عامًا، فبعض الألم الصغير يضحك وبعضه لا يضحك، فانزلاق الرجل قد يضحك، ووخزة
بإبرة قد لا تضحك، على أن كثيرًا مما يضحك ليس مما يسبب ألمًا لا صغيرًا ولا
كبيرًا.
ب
:
قلت: إني أعرض ولست أنقد، وجاء باحثون آخرون فعرضوا أيضًا لمشكلة الضحك فالأستاذ
«جريجوري» عني ببيان أن الضحك أنواع: فضحك انتصار، وضحك ازدراء، وضحك إعجاب إلخ،
وكلها تنتج تنفيسًا عن النفس، ومهما كان فإن الباحثين لم يستطيعوا إلى الآن أن
يجدوا قانونًا واحدًا لكل أنواع الضحك.
أ
:
يخيل إلي أن سبب خطئهم راجع إلى أنهم يريدون أن يرجعوا كل الأسباب إلى سبب واحد.
وأنواع الضحك مختلفة جدًا، فيصح أن تكون أسبابها مختلفة كذلك؛ فمثلهم كمثل من يحاول
أن يرجع أسباب المرض المختلفة إلى سبب واحد مع أنه قد يكون سببه القلب وقد يكون
سببه الأسنان.
ب
:
هذا صحيح، وبعد أن فرغت من تصفح كتب علم النفس أمضيت ساعات في كتب علم الاجتماع،
فرأيت بعضهم أيضًا يبحث في الضحك من الوجهة الاجتماعية، وبدءوا حديثهم من نقطة أن
الإنسان لا يضحك إن كان وحده غالبًا مهما كانت النكتة التي استحضرها في ذهنه مثيرة
للضحك العميق. إنما يُستثار الضحك العميق في جماعة من الأصدقاء أو المعارف؛ ولهذا
الضحك وظيفة هي توثيق الروابط بين الجماعات وهناك فرق بين أن نضحك من الشخص وأن
نضحك على الشخص؛ فإذا ضحكنا من ممثل أو ماجن أو متندر فإننا نحاول ضمه إلى المجتمع
ونوثق معه روابطنا، وإذا ضحكنا على شخص ضحك ازدراء وتحقير لأخطاء ارتكبها أو لقلة
ذوق منه أو غفلة فإنما نشعر بارتباطنا ضده، ونعلن بضحكنا عليه أن بيننا صلة مشتركة،
وهي أننا لا نقع في مثل ما وقع فيه، وقد عرف البلغاء ما يوثقه الضحك من الترابط،
فجرت عادة الخطيب أن ينثر في ثنايا حديثه ما يضحك ليوثق الصلة بينه وبين سامعيه،
فيستغلّهم في قبول موضوع خطابته، وكذلك يفعل الكاتب الروائي وغيره. ثم لاحظوا في
المجتمع الضاحك أنه لا بد لضحكهم من أن يكون بينهم قدر مشترك من الذوق والعاطفة
والثقافة؛ ولهذا قد يغرق قوم في الضحك من نكتة، على حين أنها لا تستخرج من قوم
آخرين ولا التبسم، بل قد تدعو إلى الاشمئزاز والنفور، كما أن الأفراد والجماعات
والبلدان يختلفون في «حس الضحك». فمنهم من فقد هذا الحس فلا يضحك مما يضحك منه،
ومنهم من نما عنده هذا الحس حتى ليضحك مما لا يضحك، وعلى الجملة فالضحك يخدم
المجتمع من نواح كثيرة: من ناحية تفريحه وإدخار السرور عليه، ومن ناحية توثيق
الروابط بين جماعاته، ومن ناحية تخويف من يخرج على تقاليده — وعاداته وأخلاقه —
بالضحك عليه ضحك سخرية واستهزاء، وهكذا.
وكنا بهذا قد وصلنا إلى القناطر.
جـ
:
ما شاء الله، ما شاء الله! أهذا كل محصولك من الضحك؟ والله إن نكتة واحدة باردة
خير مما قلت كله، وليس في كل ما ذكرت شيء له قيمة إلا إذا أخذته على أنه نكتة سمجة،
ولكن يا أخي صدقني أن لك موهبة لا تُجارى، وهي أنك تستطيع بقدرة قادر أن تقلب كل
سرور إلى غم، وفي باطن نفسك «مستودع» من السواد كلما رأيت شيئًا جميلًا أو منظرًا
سارًا أخرجت من هذا السواد ولطخت به هذا المنظر فانقلب أسود حالكًا، بعد أن كان
أبيض ناصعًا أو أحمر زاهيًا؛ فليبارك الله لكل في موهبتك، وليزدك بركة حتى تملأ
عيشتك سوادًا. وإلا فقل لي: كيف استطعت أن تحول نوادر جحا ونوادر المجلات المضحكة
في الإنجليزية والفرنسية إلى هذه السخائم؛ أما أنا فلو أعطيتني كل كتب علم نفسك
واجتماعك العابسة لقلبتها نكتًا مشرقة.
ب
:
أقر لك بعجزي في هذا الباب، وسأترك لك الميدان من الآن إلى أن تعود في إضحاكنا
بحديثك ومِلحك، ولكن اسمح لي بشيء واحد، وهو أن أطبق على كل مِلحة من مِلحك نظرية
«سبنسر» و«مكدوجل» و«جريجوري» لأتعرف صدقها من كذبها.
جـ
:
أبيحك هذا بشرط واحد، وهو ألا تحدثنا بما يدور في خلدك.